يستكشف المقال مصدر المخاوف العميقة للحديث في إسرائيل عن تعاظم الخطر الإيراني ـ الإسلامي، وهل هي فعلاً تعكس تهديداً حقيقياً، وما هي عناصر هذا الخطر والمظاهر التي يتخذها، وما هو تأثيره في الرؤية الإسرائيلية الاستراتيجية، وفي موقف إسرائيل من التسوية السياسية.
كثر مؤخراً في إسرائيل الحديث عن تعاظم الخطر الإيراني - الإسلامي حتى بات شبحاً يثير المخاوف العميقة ويترك أثره في السياسة الإسرائيلية في مجالات كثيرة، وفي مقدمها المجال الاستراتيجي. فما هو مصدر هذه المخاوف؟ وهل هي فعلاً تعكس تهديداً حقيقياً، مكشوفاً كان أو مستتراً، مباشراً كان أو غير مباشر؟ وما هي عناصر هذا الخطر والمظاهر الملموسة التي يتخذها، وما هو تأثيره في الرؤية الإسرائيلية الاستراتيجية، وفي موقف إسرائيل من المسيرة السلمية؟
عناصر الخطر الإيراني
لا شك في أن المساعي الإيرانية لاقتناء القدرة النووية، سواء من خلال تصنيعها محلياً أو من خلال شراء عناصرها من الخارج، تعتبر من الناحية الموضوعية على الأقل انتزاعاً للاحتكار الإسرائيلي للطاقة النووية في منطقة الشرق الأوسط ولهذا، فإن أي حديث عن التسلح النووي لإيران سيشكل تهديداً لهذا الاحتكار، إنْ لم يكن تحدياً جديداً لإسرائيل في المنطقة.
ومع ذلك، فليس هذا هو مصدر الخطر؛ ذلك بأن إسرائيل عاشت لفترة طويلة الإحساس بتقارب جيوسياسي مع إيران حتى بعد سقوط لشاه. وبات من الأمور المعروفة المساعدات التي قدمتها إسرائيل لإيران في إبان الحرب العراقية - الإيرانية، وذلك باعتبار أنها تصرف اهتمام قوة عربية مهمة عن مجال الصراع العربي - الإسرائيلي.
ولا تزال ذيول هذا الإحساس قائمة، ويسميه البعض حلم بن - غوريون، نسبة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلي الأول الذي عول كثيراً على التقارب مع إيران كعنصر استراتيجي من عناصر التوازن الذي تحتاج إسرائيل إليه لمواجهة التهديد العربي. غير أنه إذا اجتمع كلٌ من عنصر التراخي الواضح في الخطر العربي والتصاعد اللفظي للعداء الإيراني المعلن لإسرائيل مع التعاظم المتسارع لقوة إيران التقليدية وغير التقليدية، فإنه يبدو من الطبيعي إلاَّ يسارع هذا الحلم إلى التلاشي فحسب، بل أن يتجلى أيضاً التهديد الإيراني كـ "أكبر خطر وجودي تواجهه إسرائيل."(1)
وهكذا، فإن مصدر التهديد الإيراني لا يعود في حقيقة الأمر إلى التسلح النووي والتسلح غير النووي الإيرانيين الراهنين في حد ذاتهما، بل يعود إلى اجتماعه بعناصر أُخرى مهمة تتعلق بطبيعة النظام السائد في إيران، وبالواقع الجيوسياسي القائم في المنطقة.
ويقبع في أساس التهديد الإيراني، من وجهة النظر الإسرائيلية، "قاعدة أيديولوجية متينة من التعصب الديني السلفي"، تجد الكثير من مصادر القوة لتعبِّر عن نفسها من خلالها. فهناك قدرة إيران المالية العالية بوصفها عاملاً اقتصادياً قوياً ناشئاً عن الاحتياطي النفطي الضخم، وهو أمر يتيح لإيران أإمكان توظيف مصادر مالية ضخمة لبناء قوة عسكرية جبارة، ولتمويل مشاريعها السياسية والعسكرية في المنطقة وفي العالم. ويضاف إلى ذلك الاحتياطي البشري الهائل، والقدرة العظيمة على مواجهة الضغوط، ناهيك بالموقع الجغرافي الحساس على بوابات الخليج العربي النفطي وفي وسطه محيط من الدول والجموع السكانية الإسلامية التي أُضيف إليها خمس دول إسلامية الأصل، وُلدت في إثر تفكك الاتحاد السوفياتي.(2)
وتعد القاعدة الأيديولوجية للنظام الإيراني، الذي يتخذ من الإسلام عقيدة كفاحية لمواجهة أنواع "الكفار" كافة، الأساس المتين لمخاوف إسرائيل في المدى البعيد. بيد أن الخطر الإيراني السلفي لا يقتصر، من وجهة النظر المذكورة، على الاحتمال النظري في أن تغري القوة النووية زعيماً إيرانياً يرغب في "المجد الأبدي" بالقضاء على إسرائيل مرة واحدة وإلى الأبد بـ"ضربة مفاجئة نووية" أو بـ "الضغط على زر واحد"،(3) وإنما يتخذ أيضاً مظاهر ملموسة آنية ومباشرة. فالإيرانيون هم مزودو حزب الله في لبنان الأساسيون بالمال والسلاح، كما أن رجال الحرس الثوري الإيراني يقومون بتدريب رجال حزب الله في لبنان أو يرسلونهم لتلقي تدريبات قتالية في إيران.(4) وتقوم إيران بتمويل الحركات السلفية في المنطقة، مثل حماس والجهاد الإسلامي والإخوان المسلمين في مصر والأردن، ومنظمات مشابهة في تونس والجزائر وتركيا، وبعض الحركات الثورية الفلسطينية كالجبهة الشعبية - القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل والجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة.(5)
وتزعم تقارير منسوبة إلى أجهزة الاستخبارات الغربية أن الإيرانيين بلغوا أوج عملهم في بناء "شبكات إرهابية منتشرة على مستوى عالمي لتوسيع النفوذ الإيراني في دول الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، وحيثما توجد تجمعات إسرائيلية."(6)
يحتل الدعم الإيراني للنظام العسكري - الإسلامي في السودان مكانة مهمة في السياسة الإيرانية، بحسب ادعاء المحللين السياسيين الإسرائيليين. إذ يدعي يوسف ملمان، مثلاً، أن دائرة حركات التحرير الإسلامية، بإدارة علي وزا موايير، عقدت اجتماعاً سرياً اتفق فيه على الانتقال إلى "الإرهاب الشامل" بعمل سوداني وتمويل إيراني، وضرب الشركات الاقتصادية العربية التي تقيم علاقات مع "الكفرة". ويضيف أن في السودان ألفي مسلم متعصب من 17 دولة يتدربون على العمليات الإرهابية بتوجيه إيراني، وأن إيران صرفت سنة 1991 وحدها 12 مليون دولار لتمويل نشاطات مركز التدريب هذا.(7)
وتركز المصادر الإسرائيلية مؤخراً على التوثيق المتزايد لعلاقة إيران بالنظام في السودان، فيدعي شموئيل سيغف، أيضاً على سبيل المثال، أن إيران افتتحت في السودان مدارس لتعليم الشريعة الشيعية في المدن السودانية بميزانية إيرانية قدرها 14 مليون دولار، وأنها تعمل بموجب خطة بعيدة المدى للسيطرة على السلَّم البيروقراطي في السودان تأسيساً لها كدولة شريعة على غرار إيران، الأمر الذي يضمن ثبات التصدير العسكري الإيراني إلى السودان وتصدير الفكر الديني إليه حتى يصبح موقعاً عسكرياً وأيديولوجياً يكون بمثابة رأس الجسر للنشاطات الإيرانية غير الشرعية في دول شمال إفريقيا ومصر.(8)
ويتخذ التهديد الإيراني، في المرآة الإسرائيلية، بُعداً مهماً في ضوء الوضع الخطر الذي تعيشه الجمهوريات الإسلامية الخمس التي برزت جراء تفجر الاتحاد السوفياتي، وهي أُوزبكستان وطاجكستان وكيرخيزية وتركمانستان وأذربيجان. وتقف إيران في مقدم المتنافسين بشأن النفوذ في هذه الجمهوريات، ذلك النفوذ الذي يحتل مكانة مهمة في ضوء حقيقة أن هذه الجمهوريات تختزن منسوباً مهماً من القدرات السوفياتية الأُم؛ ففي كازاخستان وحدها يوجد 10 بالمئة من الأسلحة السوفياتية. وتتمثل المساعي الإيرانية في هذه الجمهوريات، بحسب ادعاءات إسرائيلية، في محاول مبادلة المال للاستثمار بعناصر إنتاج السلاح النووي. وكجزء من سياسة الغرب لتحييد هذه الجمهوريات، تستثمر الولايات المتحدة فيها 4 مليارات دولار. أما إسرائيل، فقد شرعت في استثمار قدره 800 مليون دولار في كازاخستان وحدها. وليس واضحاً ما إذا كان لهذا الاستثمار غرض سياسي، إضافة إلى الغرض الاقتصادي، يصب في مواجهة الخطر الإيراني. لكن نُقل عن موظف كبير في وزارة الخارجية الإسرائيلية قوله: بالنسبة إلى كازاخستان، فإن الغاية تبرر الوسيلة. والغاية هي الحيلولة دون سقوط كازاخستان وبقية جمهوريات آسيا الوسطى في يد الأصولية الإسلامية. ولهذا فإن إسرائيل مستعدة لأن تمد يدها لهذه الدولة حتى لو لم تكن ديمقراطية.(9)
تغييرات مهمة في الرؤية الاستراتيجية
تفيد الأنباء أن الجيش الإسرائيلي يجري مؤخراً تغييرات بنيوية تهدف إلى تحقيق متابعة حثيثة وتركيز لجهود أكبر في جمع المعلومات المتعلقة بما يجري في دول كإيران والعراق. وقد جاءت هذه الجهود في ضوء التغييرات الاستراتيجية في الشرق الأوسط منذ حرب الخليج، وتعاظم التهديد غير التقليدي، وخطر السلفية الإسلامية، في حين أن الجهود الاستخبارية تركزت حتى الآن على دول المواجهة القريبةن وعلى القضية الفلسطينية.(10)
وبعد تغيير بؤرة التركيز الاستخباري مؤشراً على الإزاحة التي طرأت على بؤرة الخطر نفسه، كما يعكس التغيير الذي طرأ على المفهوم الاستراتيجي للأمن الإسرائيلي ليأخذ في الاعتبار خصائص بؤرة الخطر الجديدة، وتكييف عناصر القوة الذاتية والمستجدات الجيوسياسية مع هذه الخصائص.
وتتمثل دواعي التغيير في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي أولاً في أن إيران قد برزت خطراً وجوديا جديداً، بحكم تعاظمها العسكري - التقليدي وغير التقليدي، وبحكم عدائها المعلن لإسرائيل ووجودها؛ وثانياً في أن جيوش الدول المجاورة لإسرائيل باتت، بحكم التطورات السياسية والعسكرية عقب حرب الخليج، "أقل خطراً من دولة بعيدة تطمح إلى الهيمنة على المنطقة بقوة الذرة والإرهاب والسلفية الإسلامية." وثالثاً، لأن النظرية العسكرية القديمة لإسرائيل، والتي تقضي بنقل الحرب بسرعة إلى أرض العدو وحسمها براً، لم تعد تصلح حيال إيران.(11)
وقد عدَّد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال إيهود براك، مداميك الأمن الإسرائيلي بأنها: القوة التقليدية للجيش الإسرائيلي؛ والردع غير التقليدي - "الموجود في وعي العرب"؛ والعلاقات الخاصة بالولايات المتحدة.(12)
أما التهديد الإيراني، فإنه يُلزِم الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية بإدخال تعديلات مهمة تتعلق بنقل مركز الثقل في إطار هذه المداميك، وإضافة مداميك أُخرى مثل: الردع بالسلاح الذري والصواريخ بعيدة المدى، والتركيز على التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة والدول المجاورة. ذلك بأن التسويات السلمية ومراقبة التسلح مع هذه الدول تضيف أبعاداً جديدة لنظرية الأمن الإسرائيلية، حيث يفتح التهديد الإيراني آفاقاً جديدة للتعاون الأمني بين إسرائيل وجاراتها العربيات. كما أن هذا التهديد، ونظراً إلى البعد الجغرافي لإيران، يستوجب تعديل النظرية الأمنية في المستقبل بحيث يكون هدف الجيش في الحرب لا احتلال المناطق وتحقيق النصر في البر، وإنما التركيز على تدمير القوات من بُعد.(13)
ويتسم عنصر الردع الإسرائيلي النووي بالنسبة إلى إيران بإشكال عال، ذلك بأن الردع في المجال النووي يكمن في القدرة على التغلغل في وعي الخصم، بحيث يكون هذا الخصم متأكداً من أنه سيكون الخاسر في أية مواجهة يضطر خصمه فيها إلى استخدام هذا السلاح، أو أنه على الأقل سيكون خاسراً بالقدر ذاته إذا ما بادر هو إلى المواجهة. ويفترض هذا المنطق أن يكون الخصم إما مجرداً من القدرة النووية، كالدول العربية، وإما متسماً بالاتزان الاستراتيجي كالاتحاد السوفياتي السابق في مواجهة الغرب، فلا يقدم على أية مغامرة نووية للاعتبارات العقلانية في إمكان الخسارة المتبادلة. أما في حالة إيران، فإن الكثيرين من الإسرائيليين يشكُّون في توفر عنصر الاتزان هذا. إذ ليس مؤكداً بالنسبة إلى إسرائيل أن تتصرف إيران، في حال حصولها على القدرة النووية، بـ "المسؤولية والحذر" اللذين تتسم الدول النووية العظمى بهما.(14) كما أن النظام الإيراني يعمل ضمن هذه الرؤية وفقاً لـِ "منطق غريب جداً وأعمى وبالتالي يصعب توقعه."(15)
ويختلف آخرون مع هذه الرؤية، إذ يرون إيران خطراً متوقعاً جداً؛ "ففي إيران نظام سلفي ذو أساس شعبي قوي للغاية وجاذبية جمة في نظر الجماهير والمتعصبين المتدينين في الخارج. كما أن إيران مصرة على إثارة الاضطرابات السلفية في كل مكان تستطيع فيه ذلك، ولديها مصادر وفيرة وذخر من الكوادر المجربة، وهي تستخدمها في إقامة قوات تقليدية كبيرة، وفي تطوير أسلحة الإبادة الجماعية والوسائل لإطلاقها."(16)
ويعقد البعض مقارنات ومقايسات بين التهديد الإيراني والتهديد العراقي، فيرى هذا البعض أن الأول أشد خطورة للاعتبارات التالية:
- وجود قاعدة أيديولوجية للتهديد الإيراني تقوم على أساس التعصب الديني المتطرف.
- سعة مدى المصالح الاستراتيجية الإيرانية بسبب الطابع الأيديولوجي الذي يجعل العالم كله لا العالم الإسلامي وحده مجالاً لطموحها.
- صعوبة كبح هذا التهديد نظراً إلى الموقع الجغرافي الذي تحتله إيران، إذ يصعب إلحاق الهزيمة العسكرية به.
- عدم فعالية الضغوط السياسية والاقتصادية على إيران.
- وهذه إضافة إلى أن إيران لن تكرر أخطاء العراق.(17)
ومع ذلك، فهناك من يعتقد أن الخطر الإيراني ليس داهماً وإنما بعيد المدى.(18) ويعدد العقيد في الاحتياط يونتان لارنر العوائق الأساسية التي تمنع هذا الخطر من تجسيد نفسه على الأرض، أهمها:
- المسافة الواسعة التي تفصل بين إيران وإسرائيل، والتي تبلغ ألف كيلومتر.
- عدم توفر الأسلحة القادرة حالياً على تهديد إسرائيل بصورة مباشرة؛ فلا يمكن للطائرات الإيرانية اجتياز أجواء دول عربية كالعراق وسوريا والأردن والسعودية.
- الحاجة إلى الحصول على موافقة إحدى دول المواجهة، كسوريا مثلاً، لنقل قوات إلى هذه الدولة، وهو أمر غير مضمون؛ ذلك بأن سوريا تخشى، على الرغم من تحالفها الوثيق مع إيران، وجود قوات إيرانية كبيرة على أراضيها لمقاتلة إسرائيل.(19)
وهكذا، فإن الخطر الإيراني قد يتجلى في حال تمكُّن إيران من التغلب على صعوبات المسافة البعيدة عن إسرائيل.
ويشير لارنر إلى نقاط الضعف التي يمكن الاستفادة منها لمواجهة هذا الخطر:
- اعتماد إيران في تسليحها على المصادر الغربية التي يمكن العمل على الحد منها.
- وضع إيران الاقتصادي المتردي الذي يمكن استغلاله.
- الاهتمام الممكن باستقرار الأنظمة السائدة في المنطقة، والعمل على كبح قدرة إيران على استغلال التطورات في دول المنطقة لزيادة نفوذها فيها.
- العمل بحكمة حتى لا يُدفع أي فصيل إسلامي معارض إلى أذرع إيران.(20)
نظرة جديدة إلى الواقع الجيوسياسي
يُعتبر الخطر الإيراني في الرؤية الإسرائيلية مدخلاً مهماً من مداخل تعزيز العلاقات أو انفراجها مع الدول العربية المعتدلة، كمصر والسعودية ودول الخليج، وذلك على أساس أن التهديد الإيراني السلفي يهددها هي الأُخرى. وتلاحظ إسرائيل التغيير الذي طرأ على الفكر الاستراتيجي لمصر، وربما للدول العربية بأسرها، غذ أن هذا الفكر بات يعتبر أن الخطر المركزي الذي تواجهه المنطقة العربية لم يعد إسرائيل، بل إيران.(21)
ويؤثر الخطر الإيراني، من وجهة النظر الإسرائيلية، تأثيراً شديداً في الموقف الإسرائيلي من العراق، على الرغم من تجربة الصواريخ السابقة في إبان حرب الخليج. فقد نقل عن جهاز الأمن الإسرائيلي تقديره أن بقاء الرئيس صدام حسين في السلطة يخدم المصالح الإسرائيلية، فهو "الوحيد الذي يمكنه أن يحافظ على سلامة العراق ويشكل حاجزاً إزاء الخطر الإيراني المتصاعد."(22)
وكتب المعلق السياسي أهارون بارنيع يقول إنه "يجب علينا أن نتخلص من مآسي الماضي، وأن نفهم أن الخطر الأكبر لا يكمن في صدام حسين وإنما في جاره... فالخطر الحقيقي يكمن في إيران."(23)
تأثير متناقض في المسيرة السلمية
مع أنه يبدو واضحاً من السلوك الإيراني العداء المستحكم لإسرائيل والرفض القاطع لأية تسوية سلمية معها، وهذا ما ينعكس في عمليات حزب الله في لبنان وفي معارضة جميع التيارات الإسلامية المحلية للمسيرة السلمية الراهنة، إلا إن الخطر الإيراني على إسرائيل يتخذ في تأثيره في هذه المسيرة منحى معاكساً على نحو ظاهر. فقد باتت الدعوة إلى إبداء نوع من التجلد إزاء عمليات حزب الله، الرامية إلى تسخين الأجواء منعاً لمتابعة المفاوضات أو عرقلة لها، أمراً مقبولاً في إسرائيل.(24)
فإسرائيل، التي باتت تعي بصورة متزايدة أهمية الخطر الإيراني حالياً وفي المدى البعيد على حد سواء، لن تستطيع ألاَّ تكترث بالمسيرة السلمية التي من شأنها أن تضمن لها استتباباً سياسياً طويلاً في محيطها المباشر، ولن تستطيع أن تضع على الرف احتمالات أن تتشكل ضدها، بمبادرة إيرانية أو بدعم إيراني، جبهة شرقية خطرة بصورة جدية. فالدافع الأول الذي يجعل إسرائيل تستعد لخوض مسيرة سلمية، وهي تعرف أنها مطالبة بدفع ثمن فيها، هو سحب الفتيل من برميل البارود الذي ينفخ الإيرانيون فيه من حميتهم الدينية والسياسية.
وقد كتب المحلل زئيف شيف يقول إن "التعاون بين سوريا وإيران قد تجاوز مجرد السير المشترك ضد العراق، وأصبح يشمل الصواريخ الذرية."(25) وهذا يعني أن جدية الخطر الإيراني تتضاعف بما لا يقاس عندما يتوفر له مجال إقليمي مع إسرائيل عبر سوريا. أما في حال الاتفاق السلمي مع سوريا، فإن إيران تبقى خطراً بعيداً مقصوراً على المناوشة، ولا تستطيع أن تهزم إسرائيل أو أن تعرض وجودها للخطر. أما خطر القنابل النووية الإيرانية، فهذه حكاية أُخرى بالتأكيد.
ومع أن التحالف الإيراني - السوري، الذي يتفرع من سياسة سوريا للتسلح على الرغم من السير في الخطوات السلمية، يثير في إسرائيل الشكوك في صدق النيات السورية،(26) فإن له تأثيراً واضحاً في اتجاه تليين موقف إسرائيل من التسوية مع سوريان لشعور إسرائيل بالضرورة الملحة لنزع سوريا من هذا التحالف من أجل مصلحة الخط العربي المعتدل الذي تمثله مصر والسعودية. وبالتالي، فإن من المشكوك فيه أن يكون هذا التحالف "عقبة أمام تقدم سوريا على طريق السلام" كما يقول المستشرف يوسي أولمرت.(27)
إحساس مَرَضي بالخطر
يتضح مما سبق أن الخطر الإيراني - الإسلامي على إسرائيل ليس داهماً على الإطلاق، وأنه لن يتجسد في المدى البعيد إذا لم يجد معابر إقليمية وسياسية تجعله في تماس مع إسرائيل. ومع ذلك، فإنه يثير في إسرائيل مخاوف عميقة، شعورية في الغالب؛ فالعقل في إسرائيل يعرف قيود هذا الخطر كما يعرف أنه بعيد، أما القلب فيقول إنه "قنبلة موقوتة لا يمكن للمرء أن ينام بهدوء بالقرب منها"، وإن "الزناد قد يتوفر في صورة زعيم متعصب، مهدي جديد، يضرم نار الحرب أنه يرى أن الغرب هش ومتهالك، وبالتالي طريدة سهلة."(28)
أيار/ مايو 1993
المصادر:
(1) بنيامين نتنياهو، "الخطر الأكبر"، "يديعوت أحرونوت"، 19/2/1993.
(2) أفرايم كام، "جمعية مقاومة التهديد الإيراني"، "معاريف"، 11/2/1993.
(3) نتنياهو، مصدر سبق ذكره.
(4) يوآف كسبي، "سلاح إيراني ومسؤولية سورية"، "عال همشمار"، 15/1/1993.
(5) يوسف ملمان، "روح الخميني في منهاتن"، "هآرتس"، 8/3/1993.
(6) المصدر نفسه.
(7) شموئيل سيغف، "الرأس في طهران والأذرع في الخرطوم"، "دافار"، 10/3/1993.
(8) غاي بيخور، "هكذا يصدرون الثورة"، "هآرتس"، 10/1/1993.
(9) يرياح طَل، "منافسة حرة بشأن النفوذ"، "هآرتس"، 15/1/1993.
(10) "حداشوت"، 18/4/1993.
(11) ألوف بن، "عدو جديد في المنطقة"، "هآرتس"، 4/3/1993,
(12) المصدر نفسه.
(13) المصدر نفسه.
(14) نتنياهو، مصدر سبق ذكره.
(15) يوآش تسيدون، "نظام جديد حقيقي"، "معاريف"، 22/2/1993.
(16) نداف سفران، "الخيار التركي"، "معاريف"، 5/3/1993.
(17) كام، مصدر سبق ذكره.
(18) تصريحات لرئيس الأركان إيهود براك، "دافار"، 26/3/1993.
(19) يونتان لارنر، "الخطر الإيراني الراهن"، "دافار"، 26/3/1993.
(20) المصدر نفسه.
(21) غاي بيخور، "خطر مشترك"، "هآرتس"، 16/3/1993.
(22) يوآف كسبي، "في ظل الخطر الإيراني"، "عال همشمار"، 19/1/1993.
(23) أهارون بارنيع، "صدّام ليس المشكلة"، "حداشوت"، 25/1/1993.
(24) يوآف كسبي، "العنوان الواضح الوحيد"، "عال همشمار"، 1/3/1993.
(25) زئيف شيف، "ازدواجية الأسد"، "هآرتس"، 2/3/1993.
(26) أوري نير، "تطلعات أعلى من اللازم"، "هآرتس"، 15/3/1993.
(27) يوسي أولمرت، "ما فات الأوان لتصحيح الخطأ الأميركي"، "يديعوت أحرونوت"، 10/1/1993.
(28) شموئيل شنيتسر، "إمبراطورية الله"، "معاريف"، 30/4/1993.