يتفحص المقال عدداً من الخيارات، التي يمكن أن تكون بديلة من صيغة مدريد، في ظل غياب الرضى الفلسطيني عن هذه الصيغة، ويقوم مدى مساهمة هذه البدائل في دعم الأهداف الفلسطينية الراهنة. ومن بين هذه الخيارات: الكفاح المسلح كبديل استراتيجي؛ احتمال التدخل الخارجي؛ بدائل أخرى (مثل: العمل على التبديل التراكمي في صيغة مدريد، الانسحاب من المفاوضات وتصعيد الانتفاضة...).
منذ اليوم الذي عُقد مؤتمر مدريد فيه، سادت قناعة لدى الكثير من الدوائر الفلسطينية، سواء داخل الأراضي المحتلة أو في الشتات، وبين صفوف منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها، وبين مؤيدي العملية السلمية أو معارضيها، بأن القواعد التي تأسست عليها المفاوضات الجارية غير مرضية، ومجحفة بالحق الفلسطيني بصورة عامة. ويمكن القول إن أكثرية التيارات الفلسطينية كانت، ولا تزال تلتقي عند ضرورة مراجعة هذه القواعد، أو تعديلها بشكل أو بآخر.
غير أن غياب الرضى الفلسطيني عن صيغة مدريد بقي، إلى حد بعيد، رهينة مقولة إنه ليس من بدائل عملية من المسيرة السلمية الجارية؛ وهي مقولة لم تفلح "المعارضة" الفلسطينية في دحضها دحضاً مقنعاً حتى الآن. لكنْ إذا كان للتحفظ الفلسطيني حيال قواعد مدريد أن يؤثر في تطوير الموقف الفلسطيني العام، فلا بد من التحقق مما يتوفر من خيارات ذات صدقية، بديلة من صيغة مدريد، وتقويم مدى مساهمة هذه البدائل في دعم الأهداف الوطنية التي يسعى الفلسطينيون لها في المرحلة الراهنة.
الكفاح المسلح كبديل استراتيجي
هناك دعوة، لدى بعض الأوساط "المعارضة"، إلى التخلي عن المسيرة السلمية وتنشيط خيار "الكفاح المسلح"، وذلك في سياق إعادة تثوير الحركة الوطنية الفلسطينية و"العودة بها إلى أصولها". لكن الحقيقة أن محدوديات هذا الخيار كانت قد بدأت تتكشف منذ أعوام قبل مؤتمر مدريد، وذلك لأسباب كثيرة: فالقاعدة الإقليمية الآمنة ـ أو شبه الآمنة ـ اللازمة للعمل المسلح أصبحت مفقودة منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان سنة 1982، كما أن المؤسسة العسكرية الفلسطينية في الخارج أصبحت عملياً منزوعة السلاح منذ ذلك الحين. أما القدرة الفلسطينية على خوض غمار الكفاح المسلح على نطاق واسع، داخل الأراضي المحتلة، فكانت ولا تزال خاضعة لميزان القوى الراجح رجحاناً حاداً إلى مصلحة الطرف الآخر، على الرغم من عمليات المقاومة المسلحة بين الحين والآخر. وعلى صعيد أعم، فإن الخيار العسكري العربي بات مقيداً إلى حد كبير، وإنْ كان هذا لا يعني أن الجانب العربي قد أسقط جميع خياراته الدفاعية/ الرادعة بصورة نهائية. لكن التحولات في موازين القوى الدولية، وفي البيئة المحيطة بالصراع العربي - الإسرائيلي، قد أضعفت إمكان استخدام القوة العسكرية أداةً نشيطةً لتحقيق الأهداف السياسية، وتركت الخيار العسكري العربي محدود المردود قياساً بتكلفته السياسية والعسكرية المتوقعة. وليس هنالك ما يلوح في الأفق ليشير إلى أن الأوضاع العالمية والإقليمية، أو القدرات العربية الذاتية، ستتبدل تبدلاً أساسياً في الأمدين القريب والوسيط، أو أن الهوة التكنولوجية القائمة مع إسرائيل ستضيق في المستقبل قياساً بالوضع الحالي، أو الماضي القريب. كذلك فإن الأوضاع في المنطقة لم تعد مؤاتية لإعادة تبنّي الكفاح المسلح من طرف واحد، من قِبل الجانب الفلسطيني؛ فالأجواء العربية والدولية التي ساهمت في تعويم هذا الخيار في السابق قد تبددت إلى حد كبير، كما تبدد الكثير من التعاطف والدعم العربيين لأساليب العمل العسكري الفلسطيني المعهودة. وليس مصادفة أن تكون الجبهات العربية المختلفة قد أُقفلت أمام هذا العمل إقفالاً كاملاً تقريباً. وإضافة إلى هذا لا بد من الاعتراف بأن الجبهة الفلسطينية الداخلية، نفسها، لم تعد مهيأة لمثل هذا الخيار كخيار استراتيجي، حتى لو كان هنالك تعاطف تلقائي مع العمليات العسكرية الموجهة ضد الأهداف الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة. فالنقلة النوعية في الموقف الفلسطيني التي تثبتت منذ سنة 1988، أصبح من الصعب إلغاؤها أو عكسها من دون المس بصميم الصدقية السياسية الفلسطينية، وخلق ارتباك واسع في مجمل العلاقات الفلسطينية الداخلية والخارجية. وفي النهاية يجب القول إنه حتى في ظل الالتفاف العام حول شعار "الكفاح المسلح"، والتعبئة والحشد في هذا السبيل، لم يفلح الفلسطينيون في تحقيق خرق حقيقي بالوسيلة العسكرية وحدها، ولو كان هذا العمل قد ساهم في بلورة الهوة النضالية الفلسطينية، وفي زج القضية الفلسطينية عامة في موقع متقدم ضمن سلم الأولويات الدولية. وليس هنالك ما يدعو إلى الاعتقاد أن الكفاح المسلح سيحقق، في المستقبل، ما لم يفلح في تحقيقه في الماضي، في أوضاع أفضل وأكثر ملاءمة لمثل هذا الخيار محلياً ودولياً.
احتمال التدخل الخارجي
لكنْ على الرغم من هذه المحدوديات فإنه يمكن للتصعيد في العمل العسكري الفلسطيني، والرفع من وتيرته، وزيادة حدة المواجهة مع إسرائيل (على غرار ما جرى في الأراضي المحتلة في ربيع سنة 1993)، أن تؤثر في احتمالات التدخل الخارجي في النزاع. ومن الممكن أن يتخذ هذا التدخل أياً من الشكلين التاليين:
أولاً: زيادة القناعة الدولية بضرورة إيجاد حل للمواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية المستمرة، وبالتالي زيادة الضغوط الدولية السياسية على إسرائيل، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين الموقف الفلسطيني ودعمه بصورة عامة. وقد تشتمل هذه الضغوط على محاولة دفع إسرائيل إلى القيام بتغيير رئيسي في مواقفها التفاوضية، وفي مفهومها للحل، و/ أو إلى اتخاذ الخطوات العملية على الأرض لما فيه مصلحة الجانب الفلسطيني (رفع الحصار عن الضفة والقطاع والقدس مثلاً، احترام حقوق الإنسان الفلسطيني، إلخ). كذلك قد يساهم التصعيد العسكري في الحيلولة دون انزلاق المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية إلى مكانة ثانوية نسبياً في جدول الأعمال الدولي، في وقت يحظى فيه بعض النزاعات الأُخرى (مثلاً يوغسلافيا) بحَيز ذي شأن من الاهتمام الدولي الراهن.
ثانياً: قيام الأطراف الخارجية/ المجتمع الدولي بالتدخل المباشر على الأرض "للفصل" بين الطرفين المتنازعين، ووقف "دورة العنف"، وحماية الفلسطينيين إلخ، وذلك تمهيداً لإيجاد حل سياسي، أو بهدف الحيلولة دون انهيار العملية السلمية كلياً. ومن الممكن أن يأخذ هذا التدخل شكل إرسال البعثات الدولية، أو المراقبين الدوليين، أو في الحالات القصوى قوات حفظ سلام دولية/ متعددة الجنسيات على غرار القوات المنتشرة في البوسنة، أو كمبوديا، إلخ.
لكن كلا هذين الاحتمالين يطرح تساؤلات عديدة في شأن آلية الوصول إليه، وفي شأن نتائجه العملية في حال تطبيقه في الميدان. ومن الواضح أن تطوير الدور الدولي يحتاج إلى قرار من الأطراف الخارجية الرئيسية ـ أي أساساً الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية ـ إنْ كان ذلك داخل إطار الأمم المتحدة أو خارجه. ولا يكفي أن يطالب الجانب الفلسطيني (أو الفلسطيني - العربي) بتطوير الدور الدولي، وإنما لا بد من أن تكون الأجواء الدولية مهيأة لاتخاذ الخطوات التي ستعارضها إسرائيل، على الأرجح، والتي ستعتبرها إسرائيل موجهة ضدها في الأساس. وفي معظم الأحوال لا يصعب التكهن بأن الولايات المتحدة، القادرة على حسم الموقف الدولي إلى حد بعيد، لن تتجاوب مع دعوات إلى التدخل الخارجي في النزاع ضد إرادة إسرائيل، أو ضد مصالح إسرائيل المرئية. وبغض النظر عن الدعم الأميركي المحتمل لإسرائيل في هذا المضمار، فليس من الضرورة أن يؤدي تفاقم الأوضاع في الأراضي المحتلة، في حد ذاته، إلى زيادة الاستعداد الخارجي للتحرك من أجل إنهاء النزاع، ولا سيما فيما يتعلق بالتدخل المباشر على الأرض. ويمكن القول إنه كلما ازداد العنف حدة ارتدعت الأطراف الخارجية عن التدخل في النزاع، إمّا خوفاً على عناصرها البشرية، وإمّا تردداً أمام التورط في نزاع لا نهاية واضحة له، وإمّا اقتناعاً منها بأن العنف المتصاعد يلغي إمكان الوساطة الفعالة، ويقوّض فرص إدارة النزاع وتسويته بالوسيلة السياسية. ويشير الموقف الدولي من مأساة البوسنة إلى تحفظ الأطراف الخارجية من اتخاذ الإجراءات الميدانية الفعالة، حتى لو كانت هذه الأطراف "متعاطفة" مع الجانب الضحية في النزاع بصورة عامة. (ويمكن التساؤل عما إذا كان الموقف الدولي سيؤيد الفلسطينيين في كل الأحوال، إذا ما بدا أن الجانب الفلسطيني هو المسؤول عن تصعيد العنف، لا إسرائيل).
وحتى في حال القدرة والاستعداد الدوليين للتدخل في الحلبة الفلسطينية - الإسرائيلية، فإنه ليس من الواضح أن النتيجة السياسية النهائية لذلك ستحسب في مصلحة الفلسطينيين. ولا بد من التذكير بأن التدخل الدولي سنة 1947 أدى إلى تقسيم فلسطين ضد إرادة أهلها، وإلى إنشاء إسرائيل على حساب الحق الفلسطيني. وبكلام آخر: يمكن التشكيك في فرضية أن الدور الدولي الأكبر، و/أو التدخل الدولي المباشر في النزاع، سيؤديان بالضرورة إلى تعزيز الموقف الفلسطيني. بل يمكن أن يؤديا إلى عكس ذلك، بحسب التجربة الفلسطينية السابقة. لكن مهما يكن الأمر فإن الأهم هنا يبقى أنه ليس من الواضح أن مثل هذا الدور/ التدخل سيفرز، بالضرورة، تسوية سياسية أفضل - من وجهة النظر الفلسطينية - من تلك المطروحة في المفاوضات اليوم، أو من تلك التي يمكن تحقيقها بأساليب أُخرى.
هكذا تعود فتبرز محدوديات العمل العسكري الهادف إلى زيادة التدخل الخارجي في النزاع، من دون أن ينتقص ذلك من الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، أو يقلل من الوقع النفساني الذي تتركه العمليات العسكرية عند الطرف الآخر. ولعله يمكن تحقيق مستويات أعلى في التعامل الدولي مع النزاع بسبل أُخرى، بما في ذلك تنشيط العمل السياسي - الدبلوماسي - الإعلامي الفلسطيني على مختلف الساحات المحلية والإقليمية والعالمية. وهذا يتطلب "خطة تحرك" شاملة تهدف إلى توعية كل الأطراف المعنية بالنزاع، وتعبئتها ضد الطروحات والممارسات الإسرائيلية الجارية، ومحاولة الوصول إلى قطاعات جديدة من الرأي العام العالمي بغية حثها على تحريك حكوماتها في اتجاه الدعم الأكثر فعالية للموقف الفلسطيني. وقد يشتمل مثل هذا الخيار على زيادة الاتصالات بالقوى الدولية الرئيسية - المجموعة الأوروبية واليابان، إلخ - من جانب منظمة التحرير الفلسطينية وممثلي الداخل، وتطوير وسائل دعمها السياسي والاقتصادي لأهالي الداخل والقطاعات الفلسطينية الأُخرى، ومحاولة إحراز اختراقات جديدة في ساحة الرأي العام الأميركي الحيوية، حيث لا تزال صورة الفلسطينيين مشوهة إلى حد بعيد.
لكنْ إذا كان الفلسطينيون (عبر منظمة التحرير وخارجها) قد ركزوا في الأعوام الماضية على مثل هذا الخيار، بل نجحوا في تحقيق الكثير من التقدم من خلاله، فإنه يمكن القول إن إمكان توسيع رقعة التعاطف والاهتمام بالقضية الفلسطينية، وتحويلها إلى أنماط العمل المباشر، ربما وصل إلى حدوده في الأوضاع القائمة والمرئية. وهذا لا يعني أنه لا يمكن العمل على تحقيق المزيد في هذا المجال، لكن المكاسب الجديدة الرئيسية قد تزداد صعوبة بمرور الزمن. فالساحة الأميركية تحتاج إلى جهد وتنظيم ومثابرة، ولن يثمر أي استثمار رئيسي فيها إلا بعد فترة طويلة نسبياً في أفضل الحالات. ويبدو الرأي العام العالمي مشدوداً إلى الصراعات الدامية الأُخرى (البوسنة، كمبوديا، إلخ)، وليس من الواضح أن المحنة الفلسطينية ستستمر في استقطاب اهتمام محلي ودولي إلى أمد غير مسمى. لكن الأهم من ذلك كله، أن مثل هذا الخيار يبدو محدود الفعالية في مواجهة التغيرات على الأرض؛ وأهمها عملية الاستيطان والتهويد، المستمرة من دون انقطاع، للقدس والأراضي المحتلة.
خيارات أخرى
ليس المقصود هنا أن على الجانب الفلسطيني إسقاط خيارَي التصعيد العسكري والتنشيط السياسي (أو أي مزيج منهما) من حساباته. لكن يبدو أنهما قد لا يشكلان سبيلاً فعالاً لتحسين الموقف الفلسطيني بصورة رئيسية. وفي حين يمكن إعادة تقويم المفاوضات بحسب التغيرات الطارئة على الساحة وبروز الأوضاع المؤاتية لتوظيفهما في خدمة المصلحة الفلسطينية مجدداً، يبقى أن المفاوضات هي الآلية التي ستمر عبرها كل الحلول في نهاية المطاف. بغض النظر عن السبيل الموصل إليها. ومن هنا، فإن السؤال المركزي يبقى قائماً وهو ما إذا كان في الإمكان تحقيق قدر أكبر من الأهداف الوطنية الفلسطينية عن طريق تبديل الأوضاع المحيطة بالمفاوضات الجارية، أو تعديل القواعد التي قامت المفاوضات عليها في ظل القيود المفروضة على الفلسطينيين في مدريد. وتبرز في هذا السياق الاحتمالات والبدائل التالية:
(1) العمل على التبديل التراكمي في صيغة مدريد: ويمكن هنا السعي لتغيير قواعد مدريد بالتدريج عبر الخطوات الصغيرة المتراكمة، وهو ما يؤدي عملياً إلى إعادة تشكيل أسس المفاوضات، ورفع الكثير من القيود التي وُضعت على الفلسطينيين عند بدئها. ومن الواضح أن الجانب الفلسطيني قد حقق حتى الآن، عبر هذا الأسلوب، بعض النجاحات المهمة. لكن يمكن السعي للمزيد في هذا المضمار، بما في ذلك:
أ ـ رفع مستوى العلاقة الرسمية بين الوفد الفلسطيني ومنظمة التحرير، بما في ذلك الإعلان رسمياً أن الوفد يتبع مباشرة المنظمة وقيادتها.
ب ـ توسيع رقعة تمثيل القدس العربية في الوفد المفاوض.
ج ـ زيادة تمثيل الشتات الفلسطيني في الوفد، ورفع مكانة هذا التمثيل من خبراء إلى مفاوضين رسميين.
د ـ إعلان الفصل الكامل بين المسار الأردني والمسار الفلسطيني، وكذلك استقلالية الوفد الفلسطيني سياسياً وتمثيلياً.
هـ ـ طرح المزيد من قضايا "المرحلة النهائية" في المفاوضات الجارية (مثل وضع القدس)، و/ أو العمل لتقليص مدة المرحلة الانتقالية، أو إلغائها كلياً.
لقد جاءت أكثرية التغيرات في قواعد مدريد التي وافقت إسرائيل عليها حتى الآن، بمثابة تغيرات "إجرائية" من حيث المبدأ. ومن شأن المعارضة الإسرائيلية (وبما التحفظ الأميركي)، للمزيد من مثل هذه التغيرات، أن تتصاعد إذا ما بدا أنها أخذت تمس قضايا جوهرية، أو أنها تخرج عن إطار إجراءات "حسن النية" أو "بناء الثقة" الموجهة للفلسطينيين. لكن يبقى أن من الصعب الفصل بين الخطوات ذات الطابع الإجرائي وبين الخطوات ذات الأثر الجوهري. كما يصعب التحكّم في ذلك من وجهة النظر الإسرائيلية، نظراً إلى التداخل والترابط بين البعدين الإجرائي والجوهري على أكثر من صعيد. ولا شك في أن الإعلان الرسمي بشأن انتماء الوفد إلى منظمة التحرير، سيحمل في طياته مدلولات ذات شأن فيما يتعلق بدور المنظمة في العملية السلمية، وموقعها بصفتها القيادة الشرعية للحركة الوطنية الفلسطينية. ويمكن التساؤل عن ردات الفعل الإسرائيلية حيال مثل هذا الإعلان، إذا ما كان مرتبطاً بالتزام الجانب الفلسطيني العملية السلمية، وخصوصاً بعد قرار الكنيست رفع الحظر عن الاتصال بالمنظمة. فهل سينسحب الإسرائيليون لمجرد هذا الإعلان، أم سيجد الجانب الإسرائيلي (والأميركي) نفسه مضطراً إلى التعامل معه كأمر واقع؟ وهذا، بدوره، سيطرح مسألة "الاعتراف" الإسرائيلي بالكينونة الفلسطينية السياسية التي تمثلها منظمة التحرير، وبالتالي سيرفع مستوى الحوار بين الطرفين في الشكل والمضمون معاً. كذلك، فإن اشتراك ممثلي القدس في المفاوضات سيعزز فرص إثارة موقع القدس في المفاوضات، ويزيد في احتمالات ذلك عاجلاً أو آجلاً، على الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية الشديدة والمستمرة. وزيادة تمثيل الشتات لن تُساهم فقط في تطعيم المفاوضات بكفاءات جديدة قد لا تكون متوفرة بالكامل داخل الأراضي المحتلة، بل إنها ترمز أيضاً إلى شمولية المشاركة الفلسطينية في التسوية، وتؤكد وحدانية الهوية الفلسطينية الوطنية على أرض الواقع. أما الفصل النهائي بين المسارين الأردني والفلسطيني فيحتاج، بالضرورة، إلى قرار أردني - فلسطيني مشترك، وإلى موافقة متبادلة في شأن انعكاسات ذلك على العلاقات بين الطرفين. غير أنه، في الوقت نفسه، يصبّ في تثبيت الهوية الفلسطينية المستقلة من دون الإجحاف بإمكان تطوير العلاقات الفلسطينية - الأردنية الثنائية في المستقبل (ويمكن التذكير هنا بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق رابين، سبق أن أعلن استعداده للتعامل مع الفلسطينيين وحدهم في المفاوضات، وإنْ لم يؤكد هذا فيما بعد). ويبقى إمكان تقليص المرحلة الانتقالية، أو إنهائها، أصعب هذه الاحتمالات، نظراً إلى الدور الحيوي للمرحلة الانتقالية في المفهوم الإسرائيلي الراهن للحل. لكن مع ذلك، وفي حال تعثر المفاوضات أو وصولها إلى الطريق المسدود، يمكن التساؤل عن إمكان تجاوز "الانتقالية"، لا بهدف تقويض العملية السلمية، بل سبيلاً لدفع المفاوضات إلى الأمام وضمان استمراريتها. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدوائر في حزب العمل الإسرائيلي بدأ يطرح مثل هذا الخيار منذ مدة، باعتبار أن العقبات أمام الاتفاق بشأن المرحلة الانتقالية لن يكون في الإمكان الالتفاف حولها، بل إن الجهد المطلوب للوصول إلى مثل هذا الاتفاق يمكن تجييره مباشرة إلى اتفاق في شأن الحل النهائي. لكن، في المقابل، يرى رئيس الحكومة الإسرائيلية أن مصلحته السياسية تقتضي تجزئة الحل، وتأجيل القرارات الصعبة بشأن مدى الانسحاب ومستقبل المستوطنين إلى مرحلة لاحقة، وبعد فترة طويلة نسبياً من "تجربة" القدرة الفلسطينية على الإدارة الذاتية، وتهيئة الرأي العام الإسرائيلي لمستلزمات "المساومة الإقليمية" (أي الانسحاب الجزئي). ويبدو أنه لا يزال في إمكان الجانب الفلسطيني الدفع في اتجاه تسريع الوصول إلى تسوية نهائية، وإنْ كان ذلك سيؤدي عملياً إلى تفريغ صيغة مدريد من بعض أهم مكوناتها الأساسية.
تدل التجربة الفلسطينية على أن صيغة مدريد قابلة للتبديل، وأن احتمالات فكفكتها (أو فكفكة بعض جوانبها) قائمة، من دون أن يكون السقف الأميركي - الإسرائيلي واضحاً في هذا المجال. غير أن خيار التبديل التراكمي لصيغة مدريد يفسح المجال لتوسيع دائرة المناورة الفلسطينية، وتحريك التفاعل بين القضايا الإجرائية والقضايا الجوهرية لما فيه مصلحة الفلسطينيين بصورة عامة. وهذا التفاعل هو في صميم طبيعة العملية التفاوضية وحركتها الدينامية المستمرة.
(2) التفاوض بشأن عناصر مجزأة خارج الإطار السياسي العام: يمكن للفلسطينيين الوصول إلى قناعة بأن عملية مدريد - واشنطن لن تحقق شيئاً بأسسها الحالية أو المعدلة. لذلك، ونظراً إلى ضعف الموقف الفلسطيني في هذا الإطار، فإنه يمكن للجانب الفلسطيني أن ينسحب من المفاوضات القائمة، والعودة إلى الأراضي المحتلة وطرح الاستمرار في التفاوض مع إسرائيل بشأن عناصر مجزأة من الحل، من دون أن يُلزم نفسه بنتيجة سياسية مسبقة (قيام حكومة ذاتية مثلاً)، ومن دون أن يتخلى عن الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة في المقابل. وبكلام آخر: يكون الهدف هنا التركيز على زيادة السيطرة الفلسطينية على الأرض، عبر النظر إلى القضايا "الصغرى" (micro)، بدلاً من محاولة دمج ذلك في إطار سياسي أو اتفاق أعم. وهنالك أفضليات ومحدوديات عديدة لمثل هذا الخيار:
- يتيح هذا الخيار الفرصة أمام الانسحاب من صيغة مدريد، من دون رفض مبدأ التفاوض أو الاستمرار في العملية السياسية من حيث المبدأ. هكذا، فإن "تكلفة" رفض مدريد ستكون أقل، فيما لو كان الانسحاب الفلسطيني من المفاوضات يشير إلى نية بضرب عملية السلام برمتها. وهذا العامل قد يكون مهماً فيما يخص أثر مثل هذا القرار في المسارات العربية - الإسرائيلية الأُخرى، وفي الموقف الدولي العام من الجانب الفلسطيني. وبكلام آخر: إن الغاية هنا ستكون تسجيل الاحتجاج على صيغة مدريد، لا على مبدأ التفاوض في حد ذاته.
- يمكن للجانب الفلسطيني العودة إلى المفاوضات بشأن الإطار السياسي الأوسع في مرحلة لاحقة، وإذا ما نجح في تثبيت موقعه على الأرض. أي أن نجاح الفلسطينيين في إدارة شؤونهم (على أوسع نطاق ممكن) سيشكل، عملياً، قاعدة للتوجه لاحقاً نحو إسرائيل والأطراف الأُخرى من موقع قوة نسبياً، ومن موقع تفاوضي أفضل مما هو عليه اليوم. وفي الوقت نفسه، فإن نجاح مثل هذه "التجربة" قد يساعد في طمأنة الإسرائيليين، وفي زيادة استعدادهم لتقديم التنازلات السياسية الجوهرية في المفاوضات اللاحقة.
- في المقابل، من محاذير هذا الخيار أن التفاوض مع إسرائيل بشأن "القضايا الصغرى"، في ظل الاحتلال، ومن دون الاتفاق على إطار سياسي واضح، قد يضع الفلسطينيين في موقع ضعيف نسبياً، ويفرض عليهم قبول شروط وقيود إسرائيلية، ربما كان يمكن تفاديها في أوضاع أخرى. وفي الوقت نفسه، فإن "نقل السلطة" من دون إطار سياسي أوسع، ومن دون تحديد الهدف النهائي من العملية، قد يصعّب على الفلسطينيين الانتقال إلى مرحلة المفاوضات في شأن التسوية النهائية، حيث قد تبقى المرحلة التجريبية مرحلة مفتوحة، كما أن مرجعية المفاوضات قد تتميع. ويبقى هنالك خطر "التطبيع" مع الاحتلال، أو إضفاء صفة شرعية على بعض عناصره ذات الصلة بـ "القضايا الكبرى".
- على صعيد آخر، فإن المعارضة الفلسطينية الداخلية ضد مثل هذا الخيار، قد تؤدي إلى تعطيل الاتفاق على "القضايا الصغرى"، أو إلى تقويض مثل هذا الاتفاق في وقت لاحق. والفشل الفلسطيني في التعامل مع مثل هذه المعارضة، قد يساهم - بدوره - في مدّ الجهات الإسرائيلية التي تعارض التسوية بحجج إضافية للحيلولة دون المزيد من التقدم في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية المشروعة.
في الأحوال كافة، يمكن توقع خلافات فلسطينية - فلسطينية داخل الأراضي المحتلة وخارجها (وربما تحفظات داخل منظمة التحرير) حيال هذا الخيار؛ الأمر الذي قد يصعب من فرص تنفيذه على الأرض. وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الفلسطيني لم يبد تجاوباً حيال المبادرة الإسرائيلية التي طرحت في الجولة التاسعة من المفاوضات، والتي دعا الإسرائيليون بموجبها إلى "النقل المبكر" لبعض الصلاحيات إلى الفلسطينيين، قبل الوصول إلى اتفاق كامل بشأن المرحلة الانتقالية. وإذا كان هذا الطرح الإسرائيلي لا يتطابق كلياً مع الخيار الفلسطيني في قيد البحث هنا، فإن الإشكالات التي يثيرها مشابهة، لاسيما فيما يتعلق بمحاذير تسلم السلطة في غياب الاتفاق الأشمل.
مهما يكن الأمر، فإن هذا الخيار يبقى بديلاً محتملاً من صيغة مدريد، إذا ما تعذّر تبديلها أو تحسينها من وجهة النظر الفلسطينية. ويمكن مراجعة إيجابياتها وسلبياتها وإعادة تقويمها بحسب تطور المفاوضات، وإمكانات تحسين الوضع الفلسطيني بالوسائل الأُخرى.
(3) الانسحاب من المفاوضات وتصعيد الانتفاضة: بناء على اعتبارات شبيهة بتلك الواردة في الخيار رقم (2) أعلاه، يمكن للجانب الفلسطيني الانسحاب من المفاوضات، والعمل على تصعيد الانتفاضة وتوسيع نطاقها وأثرها إلى أقصى حد ممكن. وفي مثل هذه الحال، يمتنع الفلسطينيون من التزام أي سيناريو سياسي مسبق، أو أي موعد محدد للعودة إلى التفاوض، إلى أن تتبدل الأوضاع بما يستدعي قراراً فلسطينياً جديداً في هذا الشأن. ومن شروط نجاح هذا الخيار ومستلزماته: (1) ألا تفقد السيطرة على آلية العمل الفلسطينية ومكوناتها البشرية؛ (2) أن تفوق القدرة الفلسطينية على الصمود القدرة الإسرائيلية على الصمود المضاد؛ (3) ألا تتجاوز تكلفة المواجهة طاقة الاستيعاب الفلسطيني للخسائر البشرية والمادية؛ (4) أن يتم تحسين وتطوير نظم الاتصال والدعم اللوجستي والمادي (الاقتصادي/ المالي) وقنوات التوزيع في الداخل، وأن يتم رفع مستوى الانضباط الفلسطيني، وذلك إمّا عبر التنظيم الذاتي و/ أو عبر توطيد العلاقات بين الداخل والخارج.
وفي حال القناعة الفلسطينية بتوفر مثل هذه المستلزمات، فإن هذا الخيار ينطوي على مزايا عديدة، منها أنه يمكن استقطاب قدر كبير من الدعم العربي والدولي والتعاطف مع الفلسطينيين، وخصوصاً في حال التركيز على أساليب النضال والمواجهة غير العنيفة مع إسرائيل (مثل التظاهرات الحاشدة "السلمية")، وعلى العصيان المدني بصورة عامة. ويمكن استعادة بعض الزخم السياسي والمعنوي الذي اكتسبته الحركة الفلسطينية في أيام الانتفاضة الأولى (وربما ترميم بعض الجسور مع أطراف عربية ما زالت مستاءة من الموقف الفلسطيني خلال حرب الخليج). كما يمكن التأثير في الرأي العام الإسرائيلي نفسه، وربما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تبديل مواقفها السياسية. ويمكن للانتفاضة المصعّدة، كذلك، فإن قراراً رسمياً من جانب قيادة منظمة التحرير، بالتنسيق مع ممثليها في الداخل، يدعو إلى إحياء الانتفاضة بديلاً من المفاوضات، يمكن أن يساعد في توطيد الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتحجيم المعارضة، وتثبيت موقع "الخط المركزي" داخل الجسم السياسي الفلسطيني. وعلى صعيد آخر، فإن خيار تصعيد الانتفاضة يفسح المجال لتأجيل القرارات الخلافية في شأن الحلول الانتقالية (وأشكالها المختلفة)، إلى أن يتبلور إجماع فلسطيني جديد على تبني سياسة معينة في هذا الصدد. وبكلام آخر: يمكن النظر إلى هذا الخيار أنه جزء من عملية "انتقالية" يختارها الجانب الفلسطيني بذاته، حيث يتعزز الالتفاف الوطني حول شكل العمل المطلوب (الانتفاضة المصعّدة)، وحول الأهداف النهائية المرجوة من النضال(الاستقلال)، بما يعكس إرادة الأغلبية الفلسطينية، في حين يتم تجميد الخلافات بشأن الخطوات السياسية الصعبة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف في الأوضاع الراهنة، إلى أن يتبدل الوضع على الأرض.
لكن على الرغم من جاذبية هذا الخيار من ناحية مبدئية، من وجهة النظر الفلسطينية، فإنه يمكن التساؤل عن مدى قابليته للتنفيذ على الصعيد العملي. فالأعوام الستة التي مضت على الانتفاضة أدت إلى تراكم الأعباء، وإلى درجة عالية من الإرهاق والإحباط داخل الأراضي المحتلة، وهو ما قد يجعل من الصعب إعادة تحريك الانتفاضة كما في مراحل سابقة. وقد أُصيبت البنية التحتية التنظيمية الفلسطينية بضربات شديدة نتيجة ردات الفعل الإسرائيلية والقمع المضاد. كما أن الجاهزية السياسية والنفسية للعمل الجماهيري الواسع النطاق قد تقلصت بسبب عوارض الرتابة والظواهر السلبية، وأهمها الاقتتال الفلسطيني الداخلي الذي أدى - في بعض الفترات - إلى مقتل عدد أكبر من الفلسطينيين من أولئك الذين استشهدوا في مواجهة إسرائيل نفسها. ومن هنا، قد يكون من الصعب التأكد من إمكان تأمين مستلزمات الانتفاضة وضمان ذلك بالشكل المطلوب. كما أنه حتى على افتراض اتخاذ قرار فلسطيني قيادي بهذا الشأن، فإن الفترة التمهيدية والاستثمار المادي والسياسي المطلوبين قد لا يتوافران للجانب الفلسطيني في الأوضاع الحالية. وإلى جانب هذا، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الناجمة عن محاولة فاشلة لإعادة تحريك الانتفاضة، ووقْع ذلك على الفلسطينيين في الداخل والخارج، وعلى الموقف الفلسطيني السياسي، وعلى الجانب الإسرائيلي نفسه.
ليس المقصود هنا أن إمكان تطوير الانتفاضة غير متوفر على الإطلاق. لكن الدعوة الصادقة إلى تصعيدها يجب أن تقترن بالإجراءات العملية الهادفة والفعالة، وبتعبئة وتحضير جديدين في هذا الاتجاه. وإذا كان لا مفر من بعض المجازفة في القرارات الصعبة، فإنه لا يمكن في المقابل الإقدام على مثل هذه المجازفة من دون تقويم موضوعي ومجرد لإمكانات النجاح أو الفشل.
(4) تطوير العلاقة بالأردن: يمكن للجانب الفلسطيني أن يعيد صوغ قواعد المفاوضات الجارية، وذلك عبر تطوير علاقته بالأردن. وفي هذا المضمار، يمكن النظر إلى دمج الوفدين الفلسطيني والأردني تحت "مظلة" أردنية جامعة، وبحيث يعطى الوفد الجديد صلاحيات كاملة للتفاوض في شأن مصير الأراضي المحتلة ضمن إطار أردني - إسرائيلي ثنائي. ومن أفضليات هذا الخيار أنه يفسح المجال لتجاوز المرحلة الانتقالية كلياً، وذلك بالتفاوض المباشر مع إسرائيل في شأن التسوية النهائية أسوة بالمسارات العربية - الإسرائيلية الأُخرى. وفي هذا السياق نفسه، فإن مثل هذا الخيار سيزيل العديد من الإشكالات الناجمة عن خصوصية المسار الفلسطيني - الإسرائيلي قياساً بالمسارات الأُخرى، أي فيما يتعلق بالتنسيق بين التفاوض في شأن "الانتقالي" الفلسطيني، وبين التفاوض في شأن "النهائي" في المسارات الأُخرى. وهذا يعزز فرص التواقيع المتزامنة على الاتفاقيات المختلفة، ويقلل من احتمالات المناورة الإسرائيلية، أو محاولة إسرائيل ضرب المسارات العربية، بعضها ببعض. وفي الوقت نفسه، فإن خيار الانضواء تحت المظلة الأردنية يساعد في التعامل مع الطروحات الأمنية الإسرائيلية، وفي فرزها بحيث تدرج في إطار المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية الأشمل.
والواقع أن هذا الخيار يتماشى أيضاً مع الطرح الفلسطيني بشأن إمكان قيام كونفدرالية أردنية - فلسطينية بعد التسوية النهائية؛ وهو طرح يحظى - بصورة مبدئية - بتجاوب من الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وإنْ كان الموقف الفلسطيني يصر على ضرورة الاستقلال أولاً، وهذا ما زال مرفوضاً إسرائيلياً وغير محبذ أميركياً على الأقل. ومن هذه الزاوية، يمكن البدء بتطبيق بعض العناصر الكونفدرالية في وقت مبكر، وبحيث يمكن تجييرها لمصلحة الطرفين الفلسطيني والأردني في المفاوضات (فيما يتعلق بقضايا الأمن مثلاً). لكن في المقابل، فإن الجانب الفلسطيني قد يجد صعوبة في التنازل عن رموز الاستقلالية في الأوضاع السائدة، أو في صلاحية التفاوض بشأن الأراضي الفلسطينية. ومن جهته، فإن الأردن لم يبد حتى الآن استعداداً للالتزام المسبق بأية طروحات "كونفدرالية"، باعتبار أن ذلك لا يزال سابقاً أوانه. ويضاف إلى ذلك أن أية صيغة أردنية - فلسطينية جديدة في المفاوضات، أو فيما يتعلق بالكونفدرالية المقترحة، قد تعارضها بعض الأطراف العربية التي من شأنها أن تضغط على كل من الجانبين الأردني والفلسطيني، على حد سواء.
ومهما تكن الصعوبات التي تواجه هذا الخيار، فإن الحقائق الديموغرافية وعلاقات الجوار، إلخ، تفرض البدء بالنظر إلى طبيعة العلاقات الفلسطينية - الأردنية المستقبلية، والصيغ المحتملة لتنظيمها وتطويرها. وإذا تبين أن هنالك مزايا يمكن للجانبين تحقيقها عبر تبديل أسس مشاركتهما في المفاوضات، فإن المصلحة المشتركة تقتضي البحث في ذلك في أقرب وقت ممكن.
(5) النضال من أجل المساواة السياسية والمدنية تحت الحكم الإسرائيلي: يمكن للجانب الفلسطيني، في حال الوصول إلى قناعة كاملة بأن المفاوضات الجارية وعملية السلام، بشكلها الحالي، لن تؤديا إلى نتيجة مقبولة، أن ينظر إلى بديل النضال من أجل المساواة السياسية والمدنية تحت الحكم الإسرائيلي.
من الواضح أن أخطر ما في هذا الخيار من وجهة النظر الفلسطينية، أنه يتطلب التنازل عن الحقوق الوطنية المستقلة، والاستعداد السياسي والنفسي للتعامل مع احتمال ضم الأراضي المحتلة رسمياً إلى إسرائيل، والعمل من خلال الأُطر والمؤسسات الإسرائيلية، بدلاً من التصدي للوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وبناء كيان وهوية فلسطينيين مميزين. وبكلام آخر: إن هذا الخيار يتناقض مع التراث النضالي الفلسطيني، ومع أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية منذ قيام إسرائيل وما قبل قيامها.
لكنْ إذا ما افترضنا، جدلاً، أن الجانب الفلسطيني سيختار مثل هذا السبيل، فسيكون من الصعب جداً على إسرائيل رفضه من حيث المبدأ. فضم الأراضي المحتلة من دون منح الأهالي الفلسطينيين الحقوق السياسية والمدنية الكاملة، سيشكك في صميم "الديمقراطية" الإسرائيلية، وسيعريها أمام الرأي العام العالمي، وخصوصاً الرأي العام الغربي الذي ما زال ينظر إلى إسرائيل أنها "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة. وقد يجد الفلسطينيون أنفسهم في موقع مشابه لموقع حركة التحرر السوداء في جنوب إفريقيا ضد العنصرية البيضاء، الأمر الذي يستقطب دعماً واسعاً لنضالهم. وعلى صعيد آخر، فإن المطالبة الفلسطينية بـ "المساواة" ستثير جدلاً عميقاً في إسرائيل نفسها بشأن طبيعة الدولة اليهودية وماهيتها، ومفهوم الصهيونية في الأساس. وفي هذا السياق، يمكن توقع استقطابات واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي ما زال يتأرجح بين الإصرار على الطابع اليهودي للدولة من جهة، وبين محاولة التوفيق بين اليهودية والديمقراطية من جهة أخرى، وهو المأزق الذي نفاه أريئيل شارون بصراحة في كلامه الأخير أمام مؤتمر الليكود، الذي أكد فيه أن الغاية من الصهيونية هي إقامة دولة لليهود لا دولة ديمقراطية. وتجدر الإشارة إلى أن حزب العمل الإسرائيلي نفسه يبرر ضرورة الانسحاب الجزئي من الأراضي المحتلة، تماماً من أجل تفادي الوقوع في "مأزق"، ما بين الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة وبين احترام أصولها الديمقراطية المفترضة. ومن شأن موقف فلسطيني يدعو إلى المساواة أن يحشر تلك الأوساط الإسرائيلية التي ما زالت تسعى للحفاظ على الأراضي المحتلة بكاملها، من دون النظر بجد إلى وضع السكان الفلسطينيين فيها في مثل هذه الحال. هكذا، وبالمفارقة، فإن هذا الخيار قد يزيد في دعم الدوائر الإسرائيلية الداعية إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، خوفاً من آثار الضم في صميم المفهوم الصهيوني وطبيعة الدولة اليهودية.
يتضح أن هذا الخيار يطرح مسألة الدولة الثنائية - القومية في فلسطين (ولو ضمن الإطار السياسي - القانوني الإسرائيلي)، وهو شبح يثير قلق إسرائيل إلى حد بعيد، ولا سيما أن أكثرية التقديرات تذهب إلى أنه ستكون هناك أغلبية فلسطينية - عربية في كامل الأراضي الفلسطينية (أي إسرائيل زائد الأراضي المحتلة منذ سنة 1967) في غضون العقد الثاني أو الثالث من القرن المقبل. وهذه الحقيقة الديموغرافية تستحق في الواقع وقفة تأمل فلسطينية، بقدر ما تنفّر الجانب الإسرائيلي وتدفعه إلى رفض مبدأ المساواة. لكن النقطة الأساسية هنا ليست ما إذا كان في الإمكان إقناع الإسرائيليين بتقبل هذا الخيار (وهنالك وسائل إسرائيلية عديدة للتملص منه، مثل إقامة حكم ذاتي دائم للفلسطينيين من دون منحهم المواطنية، أو اللجوء إلى التهجير الواسع - "الترانسفير" - إلخ)، وإنما إذا كان هذا السبيل مفتوحاً أمام النضال السياسي الفلسطيني، وإذا كان يمكن تجييره لدعم الأهداف الفلسطينية، وفي النهاية تعزيز الموقف السياسي - التفاوضي الفلسطيني العام. لكن الواقع أن محدوديات هذا الخيار لا تقتصر على الصعوبات الذاتية التي تواجه إمكان تبنيه بالنسبة إلى الفلسطينيين، بما في ذلك احتمالات الانقسام الحاد داخل الصف الفلسطيني نفسه، وأرضيته القائمة على فرضية الإقرار بشرعية الضم الإسرائيلي؛ فخيار مثل هذا قد يزج الفلسطينيين في موقع صعب مع الأطراف العربية الأخرى الساعية لاستعادة أراضيها، بل إنه يتناقض مع جميع الأسس التي قامت عليها مشاريع السلام المختلفة منذ سنة 1967. ومن هنا فالميزان بين سلبيات هذا الخيار وإيجابياته ميزان حرج، الأمر الذي قد يجعله أقرب إلى السلاح الأخير من سلاح الصف الأول في الجعبة الفلسطينية في الوقت الحاضر.