الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية، 1947 – 1986: محاولة في التأريخ
عبد الإله بلقزيز، والعربي مفضال، وأمينة البقالي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.
كلما صدر كتاب جديد في وطننا العربي زاد الأمل بغد مشرق. فالكلمة المكتوبة همزة وصل بيننا، وشمعة تنير دروبنا في هذا الوضع المعتم والمتقطع الأوصال. وكتاب "الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية" همزة وصل جديدة بين مغرب الوطن العربي ومشرقه، يهدف إلى إعادة بناء صورة لواقع العلاقة بين المغاربة والمسألة القومية العربية، وإلى إعادة الاعتبار إلى فكرة ارتباطهم المباشر بالعروبة والقضايا القومية، والرغبة في توفير مادة توثيقية في موضوع العلاقة بين المغاربة والمسألة القومية. أما مدخل هذا الهدف فهو الحركة الوطنية المغربية، القيادة الفعلية لنضال الشعب المغربي، كما يرى المؤلفون.
1) مضمون الكتاب: قُسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام على الشكل التالي:
أ – القسم الأول: الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية: الإطار النظري والساسي العام.
ب – القسم الثاني: الحركة الوطنية المغربية وقضايا الوحدة العربية
ج – القسم الثالث: الحركة الوطنية المغربية والقضية الفلسطينية. وهذا القسم هو الذي يهمنا، ونناقشه بالتفصيل. فأهميته تنبع من أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعاً، وليست قضية محصورة بالأقطار العربية المجاورة للكيان الصهيوني. فالمعركة معركة وجود، لا معركة حدود.
يمكن تلخيص هذا القسم بأنه يعرض تصور الحركة الوطنية المغربية للقضية الفلسطينية، ويحدد مواقفها من الحركة والمشروع الصهيونيين، ومن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ومن مسألة التسوية السياسية، كما يحدد طبيعة إدراكها لأبعاد النضال الفلسطيني القومية، وحجم مساهمتها فيه.
يعتبر المؤلفون أن الدين الإسلامي ظل يشكّل الخلفية الثقافية الإسلامية للنضال الوطني والقومي للحركة الوطنية المغربية، على امتداد مرحلة تكونها، وأولى مراحل نشاطها. وبهذا الوعي "أطل أوائل الوطنيين على الأحداث التي كان يعرفها المشرق العربي، بعد توقيع 'وعد بلفور' وتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين" (ص 184). وعلى هذا الأساس، يعتبر التحرك المغربي عقب أحداث حائط المبكى (ثورة البراق)، في أيلول/ سبتمبر 1929، في القدس بداية الانشغال الوطني الجماهيري بالقضية الفلسطينية؛ "فبعد أحداث 'الحائط' حصل تحرك واسع في بعض المدن المغربية كان عبارة عن اكتتابات مالية [....] وتجمعات جماهيرية" (ص 188). أما كيف تشكَّل وعي المغاربة الأولي لانتمائهم القومي، فيمكن إرجاعه إلى البعثات الطالبية المغربية إلى المشرق العربي، وتحديداً إلى فلسطين، والاتصالات التي قام بها الوطنيون المغاربة بالزعيم الحاج أمين الحسيني.
كان التصور للصراع قائماً على أساس أنه صراع ديني بين اليهودية والإسلام، وأن اليهود يشكلون كلاً واحداً وشعباً منسجماً له انتماء حضاري واحد نقيض للحضارة الإسلامية، حتى جاءت الجلسة الاستثنائية للمجلس الأعلى لحزب الاستقلال في 21 كانون الأول/ ديسمبر 1947، للنظر في القرار الصادر عن الأمم المتحدة والداعي إلى تقسيم فلسطين. وبعد الاجتماع أصدر الحزب بياناً جاء فيه:
"إن موقفنا ضد الصهيونية لا يقتضي العداء لليهود المواطنين الذين يتمتعون بالجنسية المغربية وتشملهم رعاية جلالة الملك [....] أما الصهيونية فهي فكرة استعمارية تسلطية تريد الاستيلاء على ما في يد الغير ظلماً وعدواناً" (ص 192).
أما عن النشاط اليهودي في المغرب، فيقول الكتاب إن العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت أوضاع اليهود في المغرب، يتفق على تأكيد إيجابية العلاقة التي ظلت تربطهم بباقي الجماعات المكونة للمجتمع المغربي من جهة، وبالسلطة المركزية من جهة أخرى. كما أن جل هذه الدراسات يؤكد التحول الكبير الذي سيطر على هذه العلاقة في القرن التاسع عشر، مع بداية التغلغل الأوروبي، وتحديداً مع بداية تطبيق سياسة الحماية القنصلية التي فرضتها الدول الغربية، بعد هزيمة المغرب في معركة تطوان (سنة 1860). والحقيقة، إنه بقدر ما كان دخول فئات التجار من اليهود في سياسة الحماية القنصلية، ثم في سياسة التجنيس التي تسمح لهم بالحصول على امتيازات هائلة، نتيجة لسياسة القناصل الأوروبيين الذين عمدوا إلى خلق فئة من المتعاملين والوسطاء، معتمدين على الدعاية والتحريض المبنيين على أسس دينية وعرقية، فإنه كان حصيلة موضوعية لبداية انفراط السلطة المركزية، الذي سجله تراجع سيطرتها على جزء من التراب الوطني وعلى جزء من رعاياها. ويخلص الكتاب إلى القول إن الصراع، الذي بدأ ينمو بين الطائفتين والمرتبط بهذه المرحلة، ثلاثة أوجه هي:
أ – وجه اقتصادي: يتمثل في الخراب الذي أصاب خزينة الدولة، نتيجة الحماية القنصلية والتجنيس اللذين استغلهما الأثرياء اليهود، بحكم موقعهم الاقتصادي وتحكّمهم في الجزء الأعظم من التجارة الخارجية، للامتناع من دفع المستحق عليهم من الضرائب.
ب – وجه سياسي: لقد كان لواقع العلاقة الحمائية، وعلاقة التعاون مع دول أجنبية، أن سُمح لتلك القوى الأجنبية بالتدخل المباشر في سياسة الدولة، واستعمال نفوذها وقوّتها لتحقيق مصالح محمييها ومصالحها، ضد مصلحة البلاد.
ج – وجه ثقافي: شكّل نظام التعليم الذي اضطلعت به الرابطة الإسرائيلية العالمية والبعثات الأجنبية تولاً نوعياً في العلاقة بين الجانبين، نتيجة القطيعة التي أحدثها هذا التعليم في سيرورة الاندماج الثقافي والقيمي.
أما موقف الحركة من عملية التسوية في الشرق الأوسط، فيمكن إيجازه بأن لا سلم في الشرق الأوسط إلا السلم العادل "والسلم العادل، القار، يستلزم الاعتراف للشعب الفلسطيني بحقه في استرجاع وطنه والحياة بأمن في وطنه وتنظيم نفسه كأمة حرة وديمقراطية لها سيادتها." والحل النهائي للمشكلة لن يكون إلا "بإقامة دولة ديمقراطية علمانية لكل فئات المجتمع الفلسطيني، وذلك بوضع حد للدولة الصهيونية." وبناء على هذا الأساس، رفضت الحركة الوطنية المغربية القرار رقم 242 الصادر في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ورأت أن لا سبيل لتسوية القضية الفلسطينية وإقامة الدولة إلا بالمقاومة، ولا مجال للقبول بكيان الاستعمار.
2) منهج الكتاب: يأتي الكتاب ليؤكد أن القضية الفلسطينية والمسألة القومية وقضايا الوحدة العربية، هي قضايا تهم الأمة العربية كلها، في مشرق الوطن العربي ومغربه؛ وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب الذي يوضح لنا أن المغاربة يشاركون إخوانهم المشارقة، ويقفون معهم صفاً واحداً في تصديهم لكل هجمة تستهدف قضاياهم المصيرية. لكنْ هل كانت المعلومات والأبحاث المقدمة في الكتاب تامة وخالية من الثغرات؟ طبعاً ليس هناك عمل تام خال من الثغرات والالتباس، وثغرات هذا الكتاب يمكن أن نوجزها بما يلي:
1- طغيان الأسلوب السردي الانتقائي على الكتاب؛ فالمؤلفون انتقوا ما يفيدهم من الوثائق وما يؤكد الذي يريدونه هم، وقدموه من دون تحليل أو تعليق أو تعقيب. وعلى سبيل المثال، قدموا لنا أن التعاطف مع القضية الفلسطينية هو من منطلق قومي إسلامي، علماً بأن الأحزاب المغربية تنظر إلى القضية الفلسطينية "من زاوية أنها قضية حق وعدل ومظلمة تاريخية لشعب شقيق يسكن أرضاً عاصمتها مقدسة (القدس)، ولا ينظر لهذه القضية على أساس أنها قضية 'قومية' ترتبط جدلياً بالقضايا الوطنية الأخرى بل تتصدرها، وهكذا يُعلن عن مواقف 'مناصرة' و'مؤيدة' للشعب الفلسطيني ولا يعلن عن 'مشاركة' و'إسهام' متميز في النضال القومي من أجل تحرير فلسطين."[1]
2- يقدم الكتاب عناوين فقرات كبيرة ولافتة، لكنها لا ترتبط بالكلام والاستشهاد اللذين يأتيان بعدها. مثال ذلك صفحة 201: يقدم لنا عنوان "الأبعاد القومية للقضية الفلسطينية" (وهذا قريب من عنوان كتاب للدكتور ابراهيم أبراش "البعد القومي للقضية الفلسطينية")، لكن على الرغم من كبر العنوان وبريقه فإننا نفاجأ بأن ما أتى بعده بعيد كل البعد عنه، إذ يتحدث عما قدمته الحركة الوطنية المغربية، نظرياً، إلى القضية الفلسطينية، وعلى العكس من العنوان نراه يركز على العمل الوطني الفلسطيني.
3- هناك قفزات تاريخية طويلة في مسار العلاقة بالقضية الفلسطينية. فالكتاب يقدم لنا، وبحرارة قوية، موقف الحركة الوطنية من القضية الفلسطينية منذ سنة 1929 حتى سنة 1948، ثم يقفز بعدها قفزة طويلة إلى سنة 1967 تاركاً وراءه كل المحطات التاريخية المهمة في الفترة المذكورة. فهل هناك نقص في مواقف الحركة الوطنية في تلك الفترة؟ وهذا من غير المعقول أن تقف الحركة متصلبة وساكتة عن حرب 1956 وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية؛ فإن كان الكتاب ذكر هاتين المحطتين (ص 77) لكن لم يكن هناك موقف محدد وواضح منهما. وقد برر ذلك بـ"تراجع الاهتمام المباشر، والعمل الملموس للصالح القضية الفلسطينية بعد النكبة، ولكن هذا التراجع لم يكن خاصاً يومئذ بالحركة الوطنية المغربية" (ص 61).
4- نظراً إلى اشتراك ثلاثة مؤلفين في تأليف الكتاب، فقد ظهر التكرار فيه بوضوح. فالحديث عن بداية التعرف على القضية الفلسطينية من خلال البعثة الطالبية إلى المشرق تكرر أكثر من ثلاث مرات، وكذلك الحديث عن القضية الفلسطينية وعلاقة الحركة الوطنية المغربية. وأيضاً، كان التكرار يأتي في بعض الأحيان مصحوباً بمصطلحات مغايرة، مما يوقع الالتباس. مثلاً ذكر (ص 48) أن الاندماج الاجتماعي في المغرب العربي قد تحقق على أساس رابطة العروبة؛ ويقول (ص 183): إن القضايا القومية للشعوب العربية كان يتم التعامل معها انطلاقاً من تصور ديني؛ وهكذا (ص 229)، كانت الحركة تضفي البعد القومي السياسي على عروبتها كلما كانت وجهتها المشرق العربي. وما يريدون قوله هنا إن الرابطة المغربية – المشرقية كانت تقوم على أساس عروبي – إسلامي، وهذا هو موقف علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال الذي يقوم على السلفية الدينية، والوحدة الإسلامية.
5- هناك نقص في الحديث عن المد الصهيوني وتأثيره في المغرب، وكيف تعاملت الحركة الوطنية معه.
6- جاء في الكتاب (ص 228) بعض المحطات التاريخية المهمة في مسار القضية والثورة الفلسطينية، تعامل الكتاب معها من منطلق تبريري أكثر منه تحليل تاريخي موضوعي. من هذه المحطات، مثلاً، خروج المقاومة من بيروت سنة 1982؛ إذ يقول: "هذه الأوضاع الجديدة أجبرت المقاومة الفلسطينية على أن تتعاطى مع الوقائع بشكل مغاير، وهي تفقد الساحة اللبنانية [....] ففقدان الساحة اللبنانية لم يكن، إذن، فقدان موقع جغرافي ينفتح على الحدود مع العدو، فحسب، بل هو بالأساس فقدان ذلك الموقع الذي شكّل الحقل الأهم الذي مارست فيه المقاومة نضالها." كما كان يتوجب على الكتّاب، كمؤرخين، أن يلتزموا الدقة الموضوعية عند الحديث عن الانشقاقات داخل صفوف منظمة التحرير سنة 1983. فتراكم السلبيات والتراجعات، والتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني لدى قيادة المنظمة، أوجبا مراجعة الحسابات ووقفة نقدية لفترة سابقة بعد هزيمة 1982.
يبقى أن نقول إن الكتاب يشمل مجموعة وثائق مهمة لمواقف الحركة الوطنية المغربية من القضايا الأساسية في الوطن العربي. لكن هذه الوثائق جاءت تجميعية من دون تحليل ونقد، ومنتقاة انتقاء يخدم فكرة محددة. لذلك يعتبر الكتاب كتاباً مدرسياً موجهاً إلى الشباب الناشئ، أكثر منه كتاب علمي يمكن لصانعي السياسة والخبراء الاعتماد عليه. وهناك نقص كبير في مواقف الحركة الوطنية المغربية من التطورات السياسية الأخيرة: الموقف من التسوية وحل القضية الفلسطينية، بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 والتقارب السوفياتي – الأميركي؛ الموقف من الحرب الإيرانية – العراقية وانعكاسه على الأمن القومي العربي؛ موقف الحركة من السياسة الأميركية ماضيها وحاضرها... إلخ.
[1] د. عفيف البوني، "الوعي القومي العربي والأحزاب السياسية في المغرب العربي"، "المستقبل العربي" (بيروت)، العدد 72، شباط/فبراير 1985، ص 79 – 92.