المفقود والمطلوب في مفاوضات السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية
كلمات مفتاحية: 
عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية
العلاقات الأميركية – الإسرائيلية
مفاوضات السلام
حق تقرير المصير
نبذة مختصرة: 

تقويم أولي للمفاوضات بعد مرور نحو 13 شهراً عليها. ويشتمل على العناوين الفرعية: متاهة جيمس بيكر؛ الفلسطينيون في المفاوضات؛ حكومتان... وإدارتان؛ مطالب فلسطينية. ويخلص الكاتب إلى الدعوة إلى تصحيح خلل المفاوضات الذي هندسه الأميركيون بأنفسهم.

النص الكامل: 

مرّ على مفاوضات السلام الثنائية والمتعددة، بين العرب وإسرائيل، مدة زمنية تقارب ثلاثة عشر شهراً، وتعاقبت عليها إدارتان أميركيتان (بوش – كلينتون)، وحكومتان إسرائيليتان (الليكود – العمل).

وقد شهدت هذه المدة ثماني جولات من المفاوضات، بحيث أصبحت تسمح بتقويم أولي لها. وإذا كان الكل يجمع الآن، الفلسطينيون والعرب والإسرائيليون، وكذلك القوى الدولية، على أن المفاوضات لم تثمر شيئاً حتى الآن، فإن الكل يجمع أيضاً على أن المفاوضات لن تثمر شيئاً في المرحلة المقبلة أيضاً إذا بقيت منطلقاتها، وتكتيكاتها، وأساليب تعامل القوى الدولية معها، تسير على النهج القديم نفسه. ذلك بأن هذه المفاوضات قد بنيت على سلسلة من الأخطاء، لا يمكن إنقاذ المفاوضات إلا بإزالتها. والأخطاء التي نشير إليها فرضها الأقوياء وقبلها الضعفاء؛ فرضتها الولايات المتحدة الأميركية (وإسرائيل)، وقبلها الفلسطينيون والعرب، وحتى الأوروبيون.

ويمكن لسياسة الفرض أن تقود إلى طاولة المفاوضات، لكنها لا يمكن أن تنتج حلولاً واتفاقات. وإذا حدث وأنتجت حلولاً واتفاقات مفروضة بدورها، فإنها لا تنتج سلاماً، وإنما يهيئ السلام المغشوش لحروب أشد ضراوة.

لذلك يمكن القول إن مفاوضات السلام التي لا تزال جارية حتى الآن، تحتاج إلى عملية مراجعة، توضيحية قبل أن تكون نقدية، لوضع اليد على أساس الخطأ الذي بنيت عليه، ولفهم السبب الحقيقي الذي جعل حصيلة ثماني جولات من المفاوضات تساوي صفراً.

وإذ نقول إن عملية المراجعة المطلوبة هي عملية توضيحية لا نقدية، فلأننا نلمس من خلال المشاهدة والمتابعة، أنه على الرغم مما فُرض على الفلسطينيين والعرب من شروط، فإن أداءهم التفاوضي لم ينطو على أي تنازل أو تساهل جوهري في أثناء العملية التفاوضية.

لقد تم تقديم التنازلات والتساهلات قبل العملية التفاوضية. أما داخل العملية التفاوضية فيحاول الفلسطيني، كما يحاول الطرف العربي، أن تبقى العملية سائرة في المجرى التاريخي المقبول. وإذا كان هذا ينطوي على أي تناقض، فلأن هذا هو واقع الحال. 

متاهة جيمس بيكر

لقد بدأت العملية مسيرتها بعد انتهاء حرب الخليج مباشرة. بدأ جيمس بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة، وبإشراف الرئيس جورج بوش، اتصالات مكوكية مكثفة بالإسرائيليين والفلسطينيين والعرب، بهدف دفعهم جميعاً نحو طاولة المفاوضات. كان بيكر يتحرك مستنداً إلى الانتصار الأميركي على العراق، وإلى انهيار الاتحاد السوفياتي، وإلى كون الولايات المتحدة قد أصبحت زعيمة العالم بلا منازع. واجتهد في أن يستغل التأثير النفسي لكل هذه التطورات الساحقة من أجل خلق قناعة بأن لا مفر من قبول ما يطرحه، وبأن مَنْ لا ينسجم مع الطرح الأميركي سيبقى خارج النظام العالمي الجديد، وسيُنبذ بالتالي ويتحطم. ويبدو أن التأثير النفسي المطلوب حدث فعلاً، فنتجت موجة من التحليل السياسي العربي تحدثت عن النظام العالمي الجديد وضرورة الالتحاق به. وأخذ بعضها يتساءل إن كان العرب قادرين على "الارتقاء" نحو هذا النظام العالمي الجديد. كما نشأ، في المقابل، لدى المعارضين والمتخوفين قبول سلبي يسير في الاتجاه نفسه، ويتحدث عن قبول العرض الأميركي كشرّ لا بد منه، ولا بديل منه.

 ونمت هذه الأجواء نفسها داخل ساحة العمل السياسي الفلسطيني، وكثر الحديث عن الفرص الضائعة في الماضي، وعن الفرصة التي يجب ألا تضيع الآن. وارتفعت شعارات تقول: لنحصل على ما يمكن الحصول عليه، لنأخذ ما بقي من الأرض قبل أن تضيع الأرض كلها. وخياراتنا هي بين الموت السريع والموت البطيء. ولقد أنجز الفلسطينيون مفاوضاتهم مع بيكر تحت تأثير هذا كله.

رفع بيكر منذ البداية شعاراً مغشوشاً قال أنه يريد مفاوضات طوعية، لا يُفرض فيها على أي طرف ما لا يريده. وقال إن الولايات المتحدة الأميركية لن تضغط على أي طرف كان، وخصوصاً على إسرائيل. وكان لهذا الموقف ترجمة عملية واحدة ووحيدة، هي أن المفاوضات لن تتم إلا بقبول الفلسطينيين والعرب لشروط إسرائيل.

شروط إسرائيل الأولى (والقدمية) كانت أنها ترفض مفاوضات تتم عبر مؤتمر دولي، وترفض مفاوضات تتم برعاية الأمم المتحدة، وتقبل فقط بمفاوضات مباشرة، ومن دون شروط مسبقة، وبإشراف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فقط. وتبنى جيمس بيكر هذه الشروط الإسرائيلية، وأصبح مطلوباً من الآخرين أن يقبلوا بها ما دام أن المفاوضات يجب أن تكون طوعية ومن دون فرض.

وقد قبل العرب، وقبل الفلسطينيون، تحت الإلحاح الأميركي، وتحت وطأة التأثير النفسي لزخم الأحداث المتلاحقة، بالتراجع عن مطلبهم الدائم بالتفاوض من خلال المؤتمر الدولي وتحت مظلة الأمم المتحدة. ولم يكن هذا مجرد تراجع شكلي. فإزاء القوة الإسرائيلية المتفوقة، وإزاء الانحياز الأميركي الدائم إلى إسرائيل، كان المؤتمر الدولي يوفر عنصر التوازن المفقود على الأرض. فبوجود الاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا، لا تعود القوة الإسرائيلية هي التي تفرض النتائج. وبوجود الأمم المتحدة يكون القانون الدولي والقرارات الدولية المقياس والمرجع في فضّ الاختلافات، وفي وقف تجاوزات أي طرف.

أدى التراجع العربي والفلسطيني عن مطلب المؤتمر الدولي برعاية الأمم المتحدة، إلى إضعاف مرجعية المفاوضات وتغييبها. إن المفاوضات تجري نظرياً على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338، باعتبار أن مبادرة الرئيس بوش استندت إليهما، وتم تضمينهما فيما بعد في رسائل الدعوة إلى مؤتمر مدريد. لكن جيمس بيكر قبل مع الإسرائيليين، وعلى قاعدة المفاوضات الطوعية من دون فرض، أن هناك تفسيرات عدة للقرار 242، وأن القرار سيكون بالتالي خاضعاً للمفاوضات في شأن معناه ومغزاه، ولن يكون قراراً للتنفيذ. وهنا اكتفت الولايات المتحدة بأن تقدم هي تفسيرها لقرار مجلس الأمن 242، وأنه يعني الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، من دون أن يكون هذا التفسير ملزماً لإسرائيل. وتم بذلك وضع المفاوضات عامة أمام متاهة لا مخرج لها.

وبلغت الأمور ذروتها في مفاوضات جيمس بيكر مع الجانب الفلسطيني، حيث المطالب الإسرائيلية أكثر حدة، وحيث الموضوع الفلسطيني جوهر الصراع فعلاً لا قولاً، وحيث الحساسيات التاريخية والإنسانية والدينية تهيمن على المشهد كله.

لقد أراد الفلسطينيون، منذ البداية، مضموناً لمفاوضاتهم مع إسرائيل. أرادوا تحديد هدف المفاوضات، وعلى أساس الانسحاب الإسرائيلي وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، باعتبار أن إسرائيل ترفض مبدأ الانسحاب كما ترفض حق تقرير المصير، وتعتبر الأرض الفلسطينية أرضاً إسرائيلية تم تحريرها، لكن جيمس بيكر تجاوب مرة ثانية مع المطالب الإسرائيلية، فرفض تحدي أي مضمون مسبق للمفاوضات المقترحة. فلا الانسحاب، ولا حق تقرير المصير، موضوع مبتوت سلفاً، بل هو خاضع للتفاوض. وحين أثار الفلسطينيون مسألة الاستيطان، وطلبوا ضمانات بوقفها عند بدء التفاوض، رفض جيمس بيكر ذلك، واعتبر الاستيطان أيضاً موضوعاً من موضوعات المفاوضات. وكذلك كان الحال عند إثارة قضية القدس؛ فقد طلب الفلسطينيون أن تكون مشمولة بالمفاوضات، ورفض الإسرائيليون ذلك، ثم تجاوب الأميركيون مع الطرح الإسرائيلي، انطلاقاً من قاعدتهم برفض سياسة فرض أي شيء على أي طرف. وهكذا، كان مطلوباً سلفاً أن يتقدم الفلسطينيون نحو مفاوضات غير محددة المضمون، لتجري محاولة تحديد هذا المضمون من خلال المفاوضات.

حاول الفلسطينيون، وبدافع الرغبة في الوصول إلى تفاهم مع الأميركيين والمشاركة في العملية السلمية، أن يعوضوا خسارة التحديد المسبق لمضمون المفاوضات بالحصول على مكاسب في قضية شكل المفاوضات. فطلبوا أن يتم التفاوض باسم منظمة التحرير الفلسطينية، وطلبوا أن يكون الوفد الفلسطيني ممثلاً لفلسطينيي الداخل والخارج، وطلبوا أن يكون سكان القدس ممثلين في المفاوضات. ورفضت إسرائيل المطالب الفلسطينية الثلاثة، واستجاب جيمس بيكر للرفض الإسرائيلي، وبدأ يطلب من الفلسطينيين أن يتجاوبوا معه، وأن يساعدوه في إيجاد مخرج لهذه المشكلات، أي أن يتراجعوا هم. وهذا ما تم أيضاً.

في مقابلة صحافية بمناسبة مرور عام على المفاوضات، سئل فيصل الحسيني، المنسق العام للوفد الفلسطيني المفاوض، عن التنازلات التي قُدمت، فقال: "هذه التنازلات حصلت في قضايا تشكيل الوفد، واختيار أعضائه، ومن أين أماكن الاختيار. وبالتالي وجدنا أنفسنا مضطرين إلى أن نذهب إلى هناك فلسطينيين فقط من الداخل من دون أن يلتحق بالوفد أي واحد من القدس أو من الخارج."[1]

وفي مقابلة صحافية أُخرى مع الدكتور حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض، سئل عن نمط الصعوبات التي تواجه المفاوضات، فقال: "هناك عقبات عديدة جانبية مثل رفض الوفد الإسرائيلي السماح للمحامي الفلسطيني رجا شحاده بدخول قاعة المفاوضات، بصفته يحمل بطاقة شخصية من القدس."[2]

وبهذه الحصيلة، أوجد جيمس بيكر حالة تفاوضية فريدة في نوعها في العالم.

فليس هناك هيئة أو دولة أو مجموعة دول، يمكن الاستناد إليها لتكون مرجعاً للمفاوضات، بحيث تكون في النهاية حكماً بين المتفاوضين، ويكون تدخلها ملزماً.

وليس هناك مضمون يحكم مسيرة المفاوضات، فيؤكد مثلاً مبدأ الانسحاب في مقابل شروط السلام التي يضعها المحتل في مقابل الانسحاب.

وليس هناك شكل يمكن الاستناد إليه لتحديد مستقبل المفاوضات، فيقول الفلسطينيون أنهم يمثلون شعباً، وللشعوب بالتالي حقوق طبيعية أولها حق تقرير المصير.

فإذا غابت المرجعية، وغاب المضمون، وغاب الشكل، فكيف يمكن تصور أي إمكان لنجاح المفاوضات؟

إن مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية محكومة بالفشل، لأن جيمس بيكر انتزع منها كل العناصر التي يمكن أن تؤدي إلى نجاحها. فلا المرجعية ولا المضمون ولا الشكل قائم، بحيث يمكن أن يتوفر مقياس منطقي لاستمرار الحوار، أو لحل الخلافات على أساسه. ولم يحدث في التاريخ أنْ قامت مفاوضات تفتقر إلى المرجعية، وإلى المضمون، وإلى الشكل، في وقت واحد.

ولم تقف الأمور عند هذا الحد بالنسبة إلى الفلسطينيين. فقد فُرض عليهم، خلافاً للأطراف العربية الأخرى، أمران:

الأمر الأول: أن يكون التفاوض في شأن مصير الأراضي المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) على مرحلتين: مرحلة الحكم الذاتي الموقت، ومرحلة الترتيبات النهائية (هكذا من دون تحديد).

الأمر الثاني: أن رسالة الدعوة الخاصة بالفلسطينيين تضمنت ذكر مواصفات لعضوية الوفد الفلسطيني لم ترد في الرسائل الأخرى المماثلة. واشترطت هذه المواصفات أن يكون العضو قد أثبت في الماضي حسن النية تجاه السلام مع إسرائيل، وأن يواصل إثبات ذلك. 

الفلسطينيون في المفاوضات

بعيداً عن تفاصيل المفاوضات ومناوراتها الكثيرة، نجد أن من المفيد التركيز على قضيتين: موضوع التمثيل الفلسطيني، والقضايا الجوهرية التي اعترضت طريق المفاوضات.

يلاحظ في القضية الأولى أن الوفد الفلسطيني حاول، من خلال عملية التفاوض، أن يتجاوز الكثير من الأمور التي فُرضت عليه فيما يتعلق بتأليف الوفد وطبيعته. فمنذ الخطاب الأول الذي ألقاه الدكتور حيدر عبد الشافي في مؤتمر مدريد، ورد ذكر منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها قيادة الوفد الفلسطيني ومرجعيته. وتم هذا خلافاً لمطالب إسرائيل، ومع العلم بتهديداتها بالانسحاب من المفاوضات إذا تبين أن للوفد علاقة ما بمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع الوقت أخذ أعضاء الوفد يتصلون هاتفياً بالقيادة في تونس ويتلقون التعليمات منها، ثم قاموا بزيارات سرية لتونس وشاركوا في اجتماعات القيادة. وتحولت الزيارات بعد ذلك إلى زيارات علنية، وشاركوا في وقت لاحق في اجتماعات عربية، وانضموا كأعضاء إلى وفود فلسطينية يرئسها قادة من منظمة التحرير. وأراد الوفد المفاوض، من ذلك كله، إثبات تمثيله لمنظمة التحرير الفلسطينية كأمر واقع. لكن لم يتم قط الاعتراف الرسمي بذلك، لا من قبل إسرائيل، ولا من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وبقي الأمر تعبيراً عن إرادة فلسطينية، من دون أن ينعكس عملياً على طاولة المفاوضات.

وحين عُقدت الجولة الأولى من المؤتمر المتعدد الأطراف في موسكو (28/1/1992) حاولت منظمة التحرير الفلسطينية أن تتجاوز صيغة مدريد، فبعثت وفدها برئاسة عضو من المنظمة، وهددت بعدم المشاركة في أعمال المؤتمر إذا لم يقبل وفدها بصيغته الجديدة. وكانت حجة المنظمة المعلنة في ذلك، أن المؤتمر المتعدد يضم دولاً عربية وأجنبية، وأن الموضوعات التي سيبحث فيها لا تخص المناطق المحتلة فقط بل لها أيضاً امتداداتها الجغرافية والاقتصادية، ولهذا يحتاج الأمر إلى وجود منظمة التحرير الفلسطينية للبت في شأنها. لكن هذه المحاولة الفلسطينية لم تنجح؛ إذ اعترضت إسرائيل والولايات المتحدة عليها، كما اعترض عليها الوفد الروسي المضيف، وبقي الوفد الفلسطيني خارج قاعة المؤتمر. وحدث، في أثناء ذلك، أن تقدمت الولايات المتحدة باقتراح حل وسط، ارتأت فيه أنه يمكن لعناصر من منظمة التحرير الفلسطينية ومن الخارج (الفلسطيني) أن تشارك في أعمال اللجان التي ستنبثق من المؤتمر المتعدد. ورأت منظمة التحرير أنها حققت بذلك نجاحاً جزئياً على طريق الاعتراف الرسمي بمنظمة التحرير الفلسطينية طرفاً مفاوضاً. وحين عُقدت اجتماعات اللجان (أيار/مايو 1992)، ترأس عضوان من منظمة التحرير وفدي فلسطين في لجنتي اللاجئين والتنمية. لكن المفاجأة كان عند عقْد الدورة الثانية لاجتماعات اللجان المتعددة (أيلول/ سبتمبر 1992)، إذ اعترضت إسرائيل على وجود هذين العضوين وطالبت بانسحابهما. والغريب أن منظمة التحرير الفلسطينية وافقت على ذلك بسرعة، فغيرت رئيس وفدها في لجنة اللاجئين (إلياس صنبر)، وحل محله الدكتور محمد الحلاج بعد أن أعلن رسمياً أنه ليس عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني. وغيّرت المنظمة أيضاً رئيس وفدها في لجنة التنمية (د. يوسف صايغ)، وحل محله رجل الأعمال زين مياسي. واعتبرت المنظمة، على الرغم من ذلك، أن هذا الوضع يمثل نصراً لها، باعتبار أن الشخصين الجديدين في رئاستي الوفدين هما من فلسطينيي الشتات الذين ترفض إسرائيل أن يُمثَّلوا في وفد المفاوضات الثنائية في واشنطن.

وفي تقويم متفائل لهذا الواقع، يقول فيصل الحسيني: "أخذت الساحة تشهد تغيرات، بدءاً بإلغاء الكثير من الشروط التي وضعت علينا. فمنظمة التحرير الفلسطينية فرضنا وجودها العملي، ولكن من دون أن تكون هناك في صورة علنية أو رسمية. وانتقلنا بها من الوجود العملي إلى الوجود العلني. فعندما يعود الوفد الإسرائيلي إلى رابين ليتلقى التوجيهات، يعود الوفد الفلسطيني إلى الرئيس ياسر عرفات ليتلقى التعليمات. ناهيك عن أن الوفد الفلسطيني في المتعددة لا يقوده فلسطينيون من الخارج فحسب، ولكن أيضاً أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني (؟!)، وقد قبلت إسرائيل في النهاية أن تبتلع هذا الطعم وتقبله، وهذه هي بداية الدخول الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية."[3]

أما في صدد مضمون المفاوضات، فلا نستطيع أن نسجل على الوفد الفلسطيني أنه قصر في طرح القضايا الجوهرية، أو تساهل تجاهها. لكن الوفد يواجه مشكلات أساسية تنبع من الشروط التي تمت الموافقة عليها قبل بدء المفاوضات. فحين يطرح الوفد الفلسطيني موضوع القدس، ويعتبر أنها مشمولة بالمناطق منذ سنة 1967، يلجأ الوفد الإسرائيلية إلى ورقة الدعوة ليقول إن القدس غير مشمولة في مفاوضات هذه المرحلة. وكذلك حين يثير الوفد الفلسطيني شمولية القرار 242 لمرحلتي الحل، تستطيع القراءة الإسرائيلية لورقة الدعوة أن تبرهن أن فقرة المرحلة الأولى من الحل لم تترافق مع إشارة إلى القرار 242. وهكذا يدور الحوار في حلقة مفرغة، ولا يوجد أي تصوّر لإمكان وصوله إلى نتيجة عملية. إذ يكفي، في ظل القرار الأميركي بعدم التدخل وعدم الضغط وعدم التفسير، أن تقول إسرائيل لا حتى يصبح رأيها هو النافذ، وحتى يتعطل مسار أي طرح لا يعجبها.

وقد حاول الوفد الفلسطيني أن يتحايل على هذا الواقع، وأن يوجد منافذ لاختراقه، فلجأ إلى قضية خرق إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وكان يقدم في مطلع كل جلسة قائمة بما أقدمت إسرائيل عليه، من استيلاء على الأراضي، او هدم للبيوت، أو طرد للسكان، أو قتل للمدنيين، ويسجل أن هذا كله مخالف لاتفاقيات جنيف الخاصة بضوابط تصرف قوات الاحتلال في المناطق التي تحتلها، ليثبِّت من خلال ذلك أن الضفة الغربية وقطاع غزة منطقتان محتلتان يسري عليهما مبدأ انسحاب المحتل. لكن الوفد الإسرائيلي كان يرفض هذه المناقشة من أساسها، ويعلن أن اتفاقيات جنيف لا تنطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فاتفاقيات جنيف تتناول المناطق المحتلة، بينما الضفة والقطاع منطقتان محررتان، وهما "أرض إسرائيل التاريخية". وإزاء هذا الطرح والحوار، تدخلت الولايات المتحدة في الكواليس، وحذرت الوفد الفلسطيني من مواصلة التركيز على قضايا حقوق الإنسان، قائلة بلسان إدوارد دجيريجيان، إن قضايا حقوق الإنسان لا يمكن أن تكون قاعدة للمفاوضات وإنما هي نتيجة من نتائجها. وهكذا، بدل أن تتدخل الولايات المتحدة لتكريس قاعدة قانونية دولية تساعد في تطوير الحوار، تدخلت لمصلحة القمع الإسرائيلي، وقدمت له حماية سياسية غير مباشرة، وساعدت في إبقاء المفاوضات دائرة داخل حلقتها المفرغة.

ولجأ الوفد الفلسطيني المفاوض مرة ثانية إلى قضية القرار 242 وشموليته لمرحلتي الحل (الحكم الذاتي، والحل النهائي)، محاولاً الوصول من خلاله إلى تأكيد فكرة الانسحاب "وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة"، فأعلن الوفد الإسرائيلي، استناداً إلى ورقة الدعوة إلى مؤتمر مدريد، أن القرار 242 يخص المرحلة الثانية من الحل مع الفلسطينيين، ولا يخص المرحلة الأولى؛ أي مرحلة الحكم الذاتي. ففي ورقة الدعوة فقرتان تنص إحداهما على أن العملية السياسية تستند إلى القرارين 242 و338، وتنص الثانية على أن المفاوضات تجري في شأن المرحلة الانتقالية من دون ذكر الأساس الذي تستند مفاوضات تلك المرحلة إليه. ويفترض أن الولايات المتحدة وروسيا هما المؤهلتان لتفسير ورقة الدعوة التي وجهتاها، لكنهما – وخصوصاً الولايات المتحدة – ترفضان التدخل، فكل شيء يجب أن يبت على طاولة المفاوضات، أي بحسب رأي المعتدي والمحتل.

ويمكن من خلال المشاريع الفلسطينية والإسرائيلية المقدمة في شأن الحكم الذاتي، تسجيل نقاط الاختلاف الجوهرية بين الطرفين، وهي كما يلي:

  • حكم ذاتي غير محدد الهوية بالنسبة إلى إسرائيل، وهو بالنسبة إلى الفلسطينيين حكم ذاتي انتقالي.
  • صلاحيات الحكم الذاتي إدارية بالنسبة إلى إسرائيل، وتشريعية بالنسبة إلى الفلسطينيين.
  • السيادة ستكون على السكان فقط بالنسبة إلى إسرائيل، وعلى السكان والأرض والمياه بالنسبة إلى الفلسطينيين.
  • المرجعية هي لقوات الاحتلال بالنسبة إلى إسرائيل، وللحكومة المنتخبة بالنسبة إلى الفلسطينيين.
  • القرار رقم 242 لا يشمل مرحلة الحكم الذاتي بالنسبة إلى إسرائيل، وهو يشمل مرحلتي الحكم الذاتي والحل النهائي بالنسبة إلى الفلسطينيين.
  • الاستيطان باق بالنسبة إلى الإسرائيليين، وهو يجب أن ينتهي كصيغة رسمية بالنسبة إلى الفلسطينيين.
  • القدس غير مشمولة بالحكم الذاتي بالنسبة إلى الإسرائيليين، وهي جزء من أراضي الحكم الذاتي بالنسبة إلى الفلسطينيين.

والمهم ليس تسجيل هذه النقاط فقط، بل المهم أيضاً كيفية إدارة المفاوضات في شأنها. لقد كرس جيمس بيكر غياب الأسس التي توجه المفاوضات، ويستحيل بالتالي الوصول إلى أية صيغة حل بشأنها ما لم تكن صيغة القبول بما تعرضه إسرائيل، باعتبارها الطرف المحتل، وباعتبارها الطرف الأقوى عسكرياً والمدعوم سياسياً من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما أعلن الفلسطينيون حتى الآن أنهم يرفضونه. وستبقى هذه الصورة قائمة حتى الجولة التاسعة (إذا عُقدت)، وحتى الجولة العاشرة والجولة الحادية عشرة. ولن يتغير شيء حتى تتغير أسس المفاوضات نفسها، بدوائرها الثلاث: دور الطرف المشرف، وتحديد المضمون، وتغيير شكل التفاوض المفروض.

ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن المفاوضات أفرزت من داخلها قضايا، كان يمكن للمفاوض الفلسطيني أن يتشبث بها، وأن يعلن تجميد مساهمته في المفاوضات ما لم يتم حل تلك القضايا، فيكون ذلك مدخل الوفد الفلسطيني لتحسين شروطه التفاوضية التي يشكو من جرائها.

وقد أتيحت فرصة ذهبية لاتباع تكتيك من هذا النوع، عند طرح مسألة حقوق الإنسان، بعد أن اتسع نطاق القمع الإسرائيلي. وهي مسألة نابعة من المفاوضات، ومفهومة دولياً، وترفع الولايات المتحدة رايتها على مستوى عالمي، وبالتالي فإن الاستناد إليها لنيل مكسب من إسرائيل على الأرض، يحسن الوضع التفاوضي الفلسطيني، سيكون قضية مفهومة ومقبولة، ولن تحمل الوفد الفلسطيني مسؤولية تخريب المسيرة السلمية. لكن الوفد الفلسطيني لم يلجأ إلى هذا الأسلوب على الرغم من تلويحه بذلك.

ولاحت فرصة ذهبية أُخرى أمام الوفد الفلسطيني عند البحث في قضية ضمانات القروض التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة الأميركية (10 مليارات دولار). لقد نشأ خلاف أميركي – إسرائيلي في شأن هذه المسألة، وتطور إلى خلاف في شأن سياسة الاستيطان الإسرائيلي، وأعلنت واشنطن أنها لن توافق على تقديم هذه الضمانات إلا إذا غيرت إسرائيل من سياستها الاستيطانية في المناطق المحتلة، ووصل الخلاف إلى الكونغرس وإلى الهيئات التشريعية الأميركية. وقام الوفد الفلسطيني في أثناء ذلك بإعلان موقفه الرافض لتقديم ضمانات القروض إلى إسرائيل، بل أعلن أنه سيقاطع المفاوضات إذا تراجعت الولايات المتحدة عن موقفها. وكانت هذه مناسبة للتشدد في قضايا نابعة من داخل المفاوضات، وتحظى بتأييد عالمي، من أجل الضغط في اتجاه تحسين شروط التفاوض الفلسطيني. لكن ما أن جاءت حكومة يتسحاق رابين، وأعلنت تجميد بناء جزء من المساكن في المستوطنات، حتى تراجعت الولايات المتحدة عن موقفها، وقدمت ضمانات القروض لإسرائيل، من دون أن ينفذ الوفد الفلسطيني تهديداته.

وجاءت بعد ذلك قضية المبعدين، وشكلت مناسبة ثالثة للتشدد في قضية تحظى بدعم معنوي عالمي، وبقرار خاص من مجلس الأمن (رقم 799)، وأعلن الفلسطينيون أنهم لن يذهبوا إلى المفاوضات إلا إذا فرض على إسرائيل أن تطبق قرار مجلس الأمن. وشكل ذلك إحراجاً للإدارة الأميركية الجديدة، وللرئيس الأميركي الجديد بيل كلنتون. ومن الممكن أن يؤدي الصمود الفلسطيني في هذه المعركة إلى نتائج سياسية مهمة، أولها إلغاء مبدأ سياسة الإبعاد الإسرائيلية، وفرض "منهج" تطبيق قرارات مجلس الأمن، لتشمل بعد ذلك القرار 242، وتكريس تطبيق اتفاقيات جنيف على الأوضاع في المناطق المحتلة. وتؤدي هذه الأمور كلها إلى تحسين شروط التفاوض الفلسطيني، إذا لم يطرأ تغير على الموقف المعلن، وخصوصاً بعد جولة وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأميركي الجديد، في 17 شباط/ فبراير 1993.

وما يمكن استخلاصه، من هذا كله، أن الوفد كان مدركاً لمخاطر التنازلات التي كانت قد تمت الموافقة عليها قبل بدء المفاوضات، وحاول جهده تجاوز هذه التنازلات بإصراره على طرح العديد من القضايا على طاولة المفاوضات. لكن الدبلوماسية الفلسطينية كانت عاجزة ومترددة في تصعيد الخلاف في شأن العديد من المشكلات التي نشأت من داخل المفاوضات، والتي كان من شأنها أن تساعد كثيراً في تحسين شروط التفاوض، وتخفيف عبء التنازلات السابقة. ولا تقع المسؤولية هنا على عاتق الوفد الفلسطيني بقدر ما تقع على عاتق الجهات المسؤولة عن القرار السياسي، والتي ما زالت تتهيب خوض معارك تؤدي إلى تجميد المفاوضات أو الانسحاب الموقت منها، واعتبار ذلك جزءاً من عملية المفاوضات نفسها.

لقد بدا الوفد الفلسطيني، في كثير من الأحيان، متزوداً بالنيات الحسنة وبالإرادة الصلبة، لكنه كان مفتقداً لاستراتيجية تفاوضية شاملة. 

حكومتان... وإدارتان

شهدت المفاوضات العربية – الإسرائيلية حتى الآن حكومتين إسرائيليتين وإدارتين أميركيتين، مثلت كل واحدة منها تجربة خاصة.

حكومة يتسحاق شمير التي بدأت المفاوضات، بدأتها على مضض، ثم مارست المفاوضات بعدائية وصلت إلى حد الاستعلاء داخل الجلسات. كان منطلقها أن الأرض الفلسطينية المحتلة هي الأرض التي بشّر الله اليهود بها في التوراة، وهي أرض إسرائيل الكبرى التي لا تنازل عنها. ويترتب على هذا، إسرائيلياً، أن لا تفكير في الانسحاب، ولا مجال لوقف الاستيطان، وأن الحكم الذاتي مجرد وسيلة لتنظيم حياة السكان، ومن المؤكد أنه سيكون الترتيب النهائي الذي تستقر عليه المرحلة الثانية من التفاوض. وشمير نفسه هو الذي قال، بعد فشله في الانتخابات، أنه كان ينوي أن يطيل المفاوضات عشرة أعوام. ولذلك فإن أبواب التفاوض مع حكومة كهذه كانت مغلقة تماماً. وكان الأميركيون يعرفون ذلك من دون شك.

والإدارة الأميركية التي شهدت هذه الحكومة، إدارة الرئيس جورج بوش، كانت تدعي أنها تتعامل مع المفاوضات انطلاقاً من قاعدة عدم التدخل وعدم الفرض. لكن هذا الادعاء غير صحيح؛ فهي استعملت كل نفوذها ووزنها السياسي وانتصاراتها الدولية، لتفرض على الفلسطينيين والعرب شروط إسرائيل للتفاوض، قبل بدء المفاوضات نفسها. وحين كانت المفاوضات تتعثر وتفشل، كانت تضغط على الفلسطينيين بالذات لتدفعهم نحو التركيز على نقاط الاتفاق مع إسرائيل، وتأجيل البحث في النقاط الصعبة المختلف في شأنها.

وحين جاءت حكومة يتسحاق رابين، جاءت تحت شعارات الواقعية والسلام والتفاهم الأعمق مع واشنطن. وقد هلل الكثيرون لقدومها باعتبارها حكومة ستحقق السلام؛ لكنها في الحقيقة أخطر من حكومة شمير.

لقد طرحت حكومة رابين مفهوماً جديداً (وقديماً أيضاً) للاستيطان، فقالت إن هناك فارقاً بين الاستيطان السياسي والاستيطان الأمني: الاستيطان السياسي يمكن أن يتوقف، والاستيطان الأمني يجب أن يستمر ويتعزز. ثم طرحت، بناء على ذلك، مفهوماً أخطر للحكم الذاتي، يقوم على تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ثلاث مناطق: منطقة تخضع للحكم الذاتي الفلسطيني، ومنطقة تخضع للسيطرة الإسرائيلية (المستوطنات وأراضيها)، ومنطقة ثالثة تخضع للسيطرة الفلسطينية – الإسرائيلية المشتركة (أراضي الدولة). وقد كوفئت حكومة رابين فوراً على ذلك كله، وتم إعلان موافقة الولايات المتحدة على تقديم ضمانات القروض إلى إسرائيل.

ومع مجيء إدارة الرئيس بيل كلنتون، لا يبدو أن الأمور ستتغير بل ربما تسير نحو الأسوأ. فما تم إعلانه خلال الحملة الانتخابية شديد الانحياز إلى إسرائيل، وما تم الإقدام عليه بعد الحملة الانتخابية، ومن خلال قضية المبعدين، شديد الدلالة على وجهة سير الإدارة الجديدة. فكلنتون، في بياناته عن الشرق الأوسط، لم يكن يتحدث إلا عن إسرائيل. وحين كان يرد ذكر العرب فإما لتهديدهم وإما لمطالبتهم بقبول طلبات إسرائيل (رفع المقاطعة، وتقديم المياه... إلخ). أما في معالجته لقضية المبعدين، فقد خاص معركة مكشوفة لمنع تنفيذ قرار مجلس الأمن 799، وخاض معركة مكشوفة أخرى لمنع مجلس الأمن من الانعقاد، وأفهم إسرائيل والجميع أن أي تحرك مضاد سيدفعه إلى الأمر باستخدام حق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل من العقوبات، وشجع هذا كله إسرائيل على المضي في معركة المبعدين من دون تقديم تنازلات أساسية (تنفيذ قرار مجلس الأمن، إلغاء مبدأ الإبعاد). 

مطالب فلسطينية

قامت إسرائيل على أرضية هذه المواقف، وتحت وطأة أزمة المبعدين، بتحرك دبلوماسي مكثف لتعزيز علاقاتها بالإدارة الأميركية الجديدة. فأرسلت وزير خارجيتها، شمعون بيرس، لتوثيق الصلات بكبار المسؤولين فيها، وعينت سفيراً جديداً لها، واسع الاطلاع على ملف الصراع العربي – الإسرائيلي هو إيتمار رابينوفيتش، رئيس الوفد الإسرائيلي إلى المحادثات الثنائية مع سوريا. وأوفدت إلياكيم روبنشتاين، رئيس الطاقم المفاوض مع الفلسطينيين، ليقدم ويشرح مشروع حكومة رابين للحكم الذاتي القائم على قاعدة تقسيم الأرض.

في المقابل، قام الوفد الفلسطيني المفاوض بإرسال وفد إلى واشنطن (برئاسة الدكتورة حنان عشراوي الناطقة الرسمية بلسان الوفد الفلسطيني، والدكتور محمد الحلاج رئيس الوفد الفلسطيني بالنيابة في لجنة اللاجئين المنبثقة من المؤتمر المتعدد) للبحث في قضية المبعدين، وللبحث أساساً في تقويم عملية التفاوض السابقة (13 شهراً و8 جولات)، والإصرار على الحاجة إلى دور جديد للولايات المتحدة (وروسيا) في عملية المفاوضات، وإلى إقرار أسس جديدة لعملية التفاوض. ويمكن القول، استنتاجاً، إن الفلسطينيين يسعون لتغيير صيغة مدريد، وإنْ كانوا يستندون في طرحهم إلى أمور نابعة من المفاوضات نفسها.

وبالاستناد إلى تصريحات علنية صادرة عن الدكتور نبيل شعث، المستشار  السياسي للرئيس ياسر عرفات، والدكتورة حنان عشراوي، يمكن تلخيص المطالب الفلسطينية من الإدارة الأميركية بما يلي:

أولاً: المطالبة بأسس جديدة لعملية التفاوض تتجاوز صيغة مدريد، وتتلخص بمطلبين:

  • تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية علنياً ورسمياً على طاولة المفاوضات (وفي الحوار الثنائي مع الإدارة الأميركية)، ولا سيما بعد أن رفعت إسرائيل القيود الخاصة بالاتصال بالمنظمة.
  • مناقشة وضع القدس في المفاوضات الثنائية، بعد أن تسببت بإحداث مأزق في المفاوضات، حتى قبل مأزق مسألة المبعدين.

ثانياً: المطالبة بتدخل الولايات المتحدة الأميركية بصفتها راعية لمفاوضات السلام، من أجل بتّ مجموعة من القضايا توقفت المفاوضات الثنائية عندها، وهي:

  • تبني حكومة رابين لمخطط تقسيم المناطق المحتلة إلى ثلاث مناطق، بما يتنافى مع منطق الحكم الذاتي الشامل للمناطق المحتلة كافة.
  • تفسير مرجعية المفاوضات، واستنادها إلى القرار 242 بعد أن أُبقيت هذه القضية مبهمة في رسالة الدعوة إلى مؤتمر مدريد.
  • تحديد جدول زمني جديد للمسيرة السلمية، بعد فشل الجدول الذي حددته رسالة الدعوة إلى مؤتمر مدريد، "لأنه لا يمكن الاستمرار في المفاوضات إلى ما لا نهاية من دون جدول زمني ملزم."
  • دفع إسرائيل إلى تنفيذ إجراءات بناء الثقة التي تلقت منظمة التحرير الفلسطينية وعوداً عدة بشأنها، ومن ضمنها: وقف عمليات الإبعاد، وإعادة مبعدين سابقين، ووقف سياسة العقاب الجماعي.

ثالثاً: المطالبة بتقديم الحماية للشعب الفلسطيني في أثناء عملية المفاوضات، وعنوان ذلك:

  • تطبيق قرار مجلس الأمن 799 القاضي بإعادة المبعدين فوراً، من أجل تأكيد منع سياسة الإبعاد، وإلتزام إسرائيل تطبيق قرارات الأمم المتحدة، بما فيها القرار 242.
  • وقف تصاعد العنف الإسرائيلي في المناطق المحتلة، وفي عهد حكومة رابين بالذات، لجهة القتل المتعمد للشباب والأطفال، ولجهة النسف الجماعي للبيوت بالمدفعية.[4]

إن الفلسطينيين بهذه المطالب، يتوجهون نحو المطالبة بإصلاح الخلل الجوهري الذي تعاني المفاوضات من جرائه، والذي وضعه وكرسه جيمس بيكر في مفاوضاته سنة 1990.

إنهم يطالبون بحقهم في التمثيل الطبيعي والشامل وغير المشروط.

 وهم يطالبون بإدراج قضيتي الاستيطان والقدس، اللتين تم استبعادهما في السابق.

وهم يطالبون بتحديد مرجعية المفاوضات وتوضيحها (القرار 242 وشموله لمرحلتي الحل)، وبدور مباشر لراعيي المؤتمر لجهة تأكيد هذه المرجعية حين ينكرها طرف ما، وهو دائماً الطرف الإسرائيلي.

لقد أعلن الفلسطينيون أنهم لن يعودوا إلى المفاوضات (الجولة التاسعة) إلا بعد حل قضية المبعدين، لكنهم أعلنوا أيضاً أن إعادة المبعدين خطوة أولية وضرورية، لكنها ليست شرطاً كافياً؛ والشرط الكافي هو التعامل الأميركي الإيجابي مع المطالب الفلسطينية الأخرى، باعتبار أن مسيرة المفاوضات قد أثبتت ضرورتها، وبيّنت الحاجة إليها.

والسؤال المهم هنا: هل يستطيع الفلسطينيون أن يصمدوا عند هذا المطلب؟ أم أنهم سيتراجعون عن تهديداتهم كما فعلوا في مرات سابقة؟

لا أحد يملك جواباً عن ذلك، لكن التحليل المنطقي للمواقف والاحتمالات يضعنا أمام الصورة التالية:

  • إن ثماني جولات من المفاوضات الثنائية لم تنتج شيئاً، لا بالنسبة إلى السوريين والأردنيين، ولا بالنسبة إلى الفلسطينيين. وإذا بقيت أسس المفاوضات على حالها، فإن ثماني جولات أخرى لن تؤدي إلى أي جديد آخر.
  • إن قضية المبعدين تحظى بالتعاطف الدولي، وبالشرعية الدولية أيضاً (القرار 799) والرفض الأميركي للتدخل من أجل تنفيذ القرار يضع إدارة الرئيس كلنتون في اختبار صعب، ويهدد صدقية علاقاته بالمنطقة العربية. وبالتالي، فإن قضية المبعدين هي أفضل سند وأفضل تغطية للمطالبة الفلسطينية بإحداث تغيير في بنية المفاوضات ومسارها.
  • إن الشارع الفلسطيني شديد الحساسية لقضية المبعدين وما ارتبط بها من مواقف، والتراجع الفلسطيني عنها ثم القبول باستئناف المفاوضات كأن شيئاً لم يكن، سيفقدان الوفد المفاوض الدعم الشعبي الذي يحتاج إليه كثيراً؛ وهو أصلاً دعم شعبي بدأت صورته بالاهتزاز. قبل قضية المبعدين تحدث فيصل الحسيني عن درجة الدعم الشعبي للمفاوضات قائلاً: "بعد مؤتمر مدريد مباشرة كانت لدينا غالبية فلسطينية مستعدة لأن تقاتل معنا، الآن ما زالت لدينا غالبية لكنها غير مستعدة للقتال.... غير مستعدة مثلاً لأن تخرج في مظاهرات تأييد."[5] فإذا كان هذا هو الحال قبل قضية المبعدين، فكيف ستكون صورة الوضع الشعبي إذا تم التراجع عن قضية المبعدين؟
  • تقوم الولايات المتحدة دائماً بتهديد الفلسطينيين، ضمناً، بأنهم إذا قاطعوا المفاوضات لأي سبب من الأسباب، فسيكونون وحدهم في هذا الموقف، لأن العرب الآخرين سيشاركون في المفاوضات بغض النظر عن الموقف الفلسطيني. وفي مفاوضات حنان عشراوي الأخيرة في واشنطن، قيلت لها الحجة نفسها. فقد ذكرت مصادر فلسطينية أنه في مفاوضات عشراوي مع الإدارة الأميركية "كان هناك محاولات لتفريق الصف العربي، إذ بلّغ الأميركيون الفلسطينيين أن الأطراف العربية قد تشارك في مفاوضات السلام حتى لو لم يشارك فيها الفلسطينيون." وقد آن الأوان لاختبار هذه الحجة، وخصوصاً أن الموقف العربي المفاوض يعاني المشكلات نفسها التي يعانيها الموقف الفلسطيني. كما أن لقضية المبعدين تأثيراتها العربية، لا الفلسطينية فقط.
  • إذا ووجه الأميركيون بموقف فلسطيني وعربي متماسك، فليس هناك ما يمنع أن تعيد الإدارة الأميركية النظر في مجرة العملية التفاوضية، إذ توجد هنا احتمالات مختلفة:
  • احتمال أن تتدخل الإدارة الأميركية لتضغط على إسرائيل، أو لتوضح بعض الأسس المختلف في شأنها؛ مع أن هذا الاحتمال ضعيف.
  • احتمال أن تتخلى الإدارة الأميركية الجديدة عن الشكل الحالي للمفاوضات العربية – الإسرائيلية، وتقترح شكلاً جديداً، قريباً من شكل مفاوضات اتفاق كامب ديفيد. (تم تداول معلومات أميركية عن تكليف جيمي كارتر مهمة من هذا النوع).
  • احتمال أن تفشل العملية التفاوضية كلها، ليبرز آنذاك توجه العودة إلى مجلس الأمن، وإلى المؤتمر الدولي بمشاركة أوروبا والصين.

ومن الخطأ أن يربط الحديث عن مثل هذه الاحتمالات بالتشدد الفلسطيني أو العربي. فالمفاوضات تواجه مأزقها الراهن بسبب الأسس المغلوط فيها التي بنيت عليها، سواء تلك التي امتنع جيمس بيكر من تثبيتها (مبادئ التسوية وأسسها)، أو تلك التي فرضها على الآخرين فرضاً، ثم تبين بالتجربة أنه لا يمكن حل مشكلات التاريخ، وحقوق الشعوب، وقضايا الحرب والسلام، بمواقف مفروضة في وضع سياسي ملائم.

إن تصحيح خلل المفاوضات الذي هندسه الأميركيون بأنفسهم هو المدخل لإطلاق مفاوضات عربية – إسرائيلية ناجحة. ويحسن الفلسطينيون كثيراً إذا واصلوا مسعاهم الراهن للمطالبة بتصحيح خلل المفاوضات، كما أنهم لن يخسروا شيئاً إذا لم ينجحوا في هذه المهمة.

 

المصادر:

[1]  "الحياة" (لندن)، 5/12/1992.

[2]  "فلسطين الثورة" (نيقوسيا)، العدد 910، 18/10/1992.

[3]  "الحياة" (لندن)، 5/12/1992، مصدر سبق ذكره.

[4]  راجع تصريحات د. نبيل شعث، ود. حنان عشراوي في: "الحياة" (لندن)، 9/2/1993، و 10/2/1993.

[5]  راجع مقابلة مع "النهار" (بيروت)، 5/12/1992.

السيرة الشخصية: 

بلال الحسن: كاتب وصحافي فلسطيني.