تبدأ الدراسة بالتعريف بمرتفعات الجولان السورية، من حيث تضاريسها وسكانها، ثم عمليات التهجير والصمود، وتتناول: المقاومة السياسية في الأعوام الأولى؛ الصراع في شأن الجنسية الإسرائيلية؛ الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية لسلطات الاحتلال؛ المشاريع المحلية الجماعية؛ المستعمرات؛ علاقة دروز الجولان بالمجموعات السكانية الأخرى؛ الوضع اليوم.
مرتفعات الجولان – معظم محافظة القنيطرة وأجزاء من محافظة درعا في جنوب سوريا – هي أرض منبسطة جبلية (متوسط الارتفاع: 3280 قدماً)، مرغوب فيها لموقعها الاستراتيجي وموارد المياه الغنية فيها.[1] وقد احتلت إسرائيل 1250 كيلومتراً مربعاً من مساحتها البالغة 1750 كيلومتراً مربعاً، خلال حرب 1967. واستعادت سوريا – نتيجة حرب 1973 – نحو 100 كيلومتر مربع، وهو ما يعني أن 1150 كيلومتراً مربعاً ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي.
عشية حرب 1967، كانت منطقة القنيطرة آهلة بسكان من أجناس مختلفة، يبلغ عددهم 147.613 نسمة، موزعين على 163 قرية وبلدة، و108 مزارع.[2] وكانت أغلبية السكان العظمى من العرب، معظمهم مسلمون سنّيون مع أقلية علوية وأُخرى درزية؛ كما كان هناك جماعات لا بأس في عددها من الشركس والتركمان، وأعداد قليلة من الأرمن والأكراد، ونحو 9000 فلسطيني من لاجئي 1948. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات العرقية كانت تسكن، في الغالب، في قرى منفصلة، منتشرة في أرجاء المنطقة كلها، فإنها عاشت في انسجام بعضها مع بعض، وخصوصاً بعد أن حصلت سوريا على استقلالها في نهاية الاحتلال الفرنسي.
خلال حرب 1967، سيطرت إسرائيل على نحو 70 في المئة من الأراضي مع سكانها الذين يبلغ عددهم 130.000 نسمة تقريباً، والذين يقيمون في 139 قرية وبلدة و61 مزرعة. وخلال شهر أصبحت مرتفعات الجولان بأسرها خالية تقريباً من السكان: لم يبق سوى ست قرى تشتمل على 6000 شخص، متجمعين في الطرف الشمالي الغربي من المنطقة، ونحو 250 مدنياً آخر في مدينة القنيطرة بصورة رئيسية.[3]
ومن المستحيل معرفة كم عدد من هرب من عشرات الآلاف الذين غادروا المنطقة، وكم عدد الذين أُجبروا على ذلك. لقد فر كثيرون، بالتأكيد، من تلقاء أنفسهم في ذروة المعركة، وخصوصاً في الجنوب حيث كانت المعركة محتدمة جداً. لكن آلافاً آخرين غادروا في الأسابيع التالية للحرب. وقد ورد في تقرير للأمم المتحدة. وُضع استناداً إلى زيارة قام بها للأراضي المحتلة حديثاً الممثل الخاص للأمم المتحدة، نيلز غوران غاسينغ، في آب/ أغسطس ونُشر في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1967، ذكر لعدة حوادث إطلاق نار واعتقالات للمدنيين فيما يتعلق بالجولان. وبينما يشير التقرير إلى أنه كان من "الصعب في مثل هذه الأوضاع تحديد الخط الفاصل بين الضغط الجسدي والمعنوي"، فإنه يتابع قائلاً أنه "بغض النظر عما كانت سياسة الحكومة الإسرائيلية عليه، فيما يختص بالسكان، فقد كان واضحاً للممثل الخاص أنه حدثت أعمال معينة في المستوى المحلي، مرخص ومسموح بها من قِبَل القادة العسكريين المحليين، كانت سبباً مهماً في فرارهم."[4]
فعلى سبيل المثال، بقي بضعة آلاف من السكان مدة أسبوعين على الأقل في مدينة القنيطرة (من مجموع أكثر من 20.000 من السكان قبل الحرب). وقد ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية اليومية، في 12 أيلول/ سبتمبر 1967، أنه بعد توقيع اتفاق تموز/ يوليو لوقف إطلاق النار، أُجبر الناس على مغادرة القنيطرة بالقوة، بعد أن أُرغموا على توقيع نماذج "مغادرة طوعية". كما كان هناك عدد من القرى بالقرب من مجموعة القرى الناجية تم إخلاؤه، إلا إن سكانه لم يغادروا المنطقة. وهكذا، فإن سكان قرية جباتا السنّية، وقرى زعوره وعين فيت وبانياس الدرزية، لجأوا إلى قرية مجدل شمس الدرزية، التي كانت آمنة أكثر من باقي القرى بفضل تضاريسها الطبيعية. وقد حُشد اللاجئون في مبنى المدرسة، أو قُدم لهم المأوى من قِبَل السكان المحليين. وتعرض اللاجئون في المدرسة للضرب والمضايقة والتهديد على أيدي الجنود الإسرائيليين. وبعد انتهاء المعركة، بقيت طلباتهم للعودة إلى قراهم تُرفض عدة أسابيع.[5] وعندما أُخبروا أخيراً أن في استطاعتهم العودة، أطلق الجنود الإسرائيليون النار عليهم في الطريق، وانتهى الأمر بهم إلى الفرار إلى الجزء غير المحتل من سوريا. أما المعاقون أو العجزة فقد حُمّلوا على ظهور الحمير وأُبعدوا.
وفي أية حال، لم يكن قد بقي في المنطقة، في تموز/يوليو، إلا ست قرى: مجدل شمس، أكبر القرى، وبقعاتا، ومسعدة، وعين قنيه، وسحيتا، والغجر. وباستثناء الغجر، التي تقع على بعد مسافة ما إلى الغرب بالقرب من خط الهدنة السوري – الإسرائيلي، فقد كانت القرى الأُخرى على بعد بضعة كيلومترات من بعضها البعض بالقرب من خطوط وقف إطلاق النار. ومرة أخرى، باستثناء الغجر العلوية، كانت القرى الأخرى كلها تقريباً درزية.
وفي الحقيقة، علاوة على تفريغ أراضي منطقة الجولان المزدهرة والغنية زراعياً تقريباً من سكانها، فقد حدثت ثورة ديموغرافية حقيقية فيما يتعلق بالبنية السكانية. فالدروز، الطائفة الإسلامية التي شكلت من قبل أقلية صغيرة نسبياً في الجولان، يشكلون الآن الأغلبية العظمى من السكان.[6] لقد نجت قرى مرتفعات الجولان الدرزية الخمس، على الرغم من أن سحيتا، القريبة جداً من خطوط وقف إطلاق النار، دُمرت على أيدي الإسرائيليين سنة 1970 "حرصاً على سلامة السكان"، وصودرت أراضيها ووزع سكانها على القرى الأخرى. ومع أن كثيرين من الدروز – 20 في المئة من السكان، الشرائح المهنية في الأساس – رحلوا خلال المعركة وبعدها مباشرة، فإن لب المجتمع بقي هناك. وستركز هذه الدراسة على القرى الدرزية الأربع، إذ إن سكان قرية الغجر النائية بقوا بمعزل عن الأحداث السياسية التي شغلت الآخرين.
هناك عدة أسباب أدت إلى صمود الدروز. فقراهم، القائمة في موقع استراتيجي على سفوح جبل حرمون، تقع في منطقة ذات تضاريس وعرة، ولم تشهد تقريباً أي قتال في حزيران/ يونيو. وكانوا مغروسين عميقاً في أرضهم، وتميزت علاقاتهم الاجتماعية – الاقتصادية بالمساواة؛ إذ وُزعت أراضي القرية بالتساوي بين أعضاء المجتمع قبل 200 عام. كما أن تجربة مجدل شمس، خلال الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين في 1925 – 1927، تشكل عاملاً آخر ذا شأن؛ إذ عندما هجر القرويون بيوتهم خلال القتال، عادوا ليجدوا قريتهم مدمرة بالكامل. وكان هناك أشخاص من الذين عاشوا تلك الأحداث كانوا لا يزالون أحياء في سنة 1967، وفعلوا كل ما في استطاعتهم ليمنعوا الناس من الفرار، وفي بعض الحالات تدخلوا حتى جسدياً. وأصبح ذلك جزءاً من فولكلور قرانا.
لكن بالقدر نفسه – على الأقل – من أهمية هذه العوامل المحلية، كان موقف القوات المحتلة من المجتمع الدرزي، الذي نال في إسرائيل نفسها الرعاية من جانب الإسرائيليين، والذي تعاون كثيرون من أفراده مع الدولة. لقد افترض الإسرائيليون، على ما يبدو، أن الدروز السوريين كجماعة سيكونون مثل أقربائهم في الجليل. ويعتقد السكان المحليون أيضاً أن للإسرائيليين طموحاً، في المدى البعيد، إلى إقامة دولة درزية عازلة – مثل الدولة المارونية العازلة التي يحاولون إقامتها في الجنوب اللبناني – سينقلون إليها الدروز من مناطق أُخرى في سوريا ولبنان. وقد أسرّت السلطات بمثل هذه الأفكار إلى الزعيم الدرزي التقليدي، الشيخ كمال كنج أبو صالح، في الأيام الأولى للاحتلال. وقام هذا الزعيم الذي تظاهر بالاهتمام، بإعلام السلطات السورية على الفور. وقد سجن سنة 1971 بعد أن حكم عليه بالسجن مدة أربعة وعشرين عاماً، لكن أُفرج عنه بعد حرب 1973 في عملية تبادل سجناء إسرائيلية – سورية.
المقاومة السياسية في الأعوام الأولى
لقد كان واضحاً، منذ البداية تقريباً أن الإسرائيليين قرروا البقاء في الجولان. لم يدّعوا – كما فعلوا في الضفة الغربية وقطاع غزة – أنهم سيحتفظون بالقانون المحلي ويدخلون عليه تعديلات بأوامر عسكرية. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تزعم قط أنه يوجد "فراغ" في السيادة هناك، فقد ألغى المحتلون القانون السوري برمته على الفور، وأنشأوا حكماً عسكرياً. واستُبدلت العملة السورية بعملة إسرائيلية. وتم إصدار لوحات معدنية إسرائيلية للسيارات (بأرقام خاصة). وصودرت الهويات الشخصية السورية، واستبدلت بهويات عسكرية إسرائيلية. ولم يجر أي حديث عن مرادف لسياسة "جسر مفتوح" مع سوريا، على الرغم من أن مواطنين عاديين عبروا في فوضى الأشهر الأولى طريق البر إلى سوريا لرؤية أقاربهم، من دون عائق. ولبعض الوقت استمر النشيطون سياسياً في التسلل ليلاً عبر خطوط وقف إطلاق النار، ذهاباً وإياباً. ولم يكتمل الجدار المنيع، المحصن بحقول الألغام، والذي يفصل الجولان الآن عن باقي سوريا، إلا بعد حرب 1973، في سنة 1975 تقريباً. وإشارة أخرى إلى مخططات إسرائيل للمدى البعيد، هي أن أول مستوطنة أنشأتها إسرائيل في المناطق المحتلة كانت في مرتفعات الجولان، بعد مجرد شهر واحد تقريباً من وقف القتال.
في زمن الاحتلال، عزلت إسرائيل رؤساء بلديات قرى الجولان، وحاولت أن تشجع القادة التقليديين المحليين، وأن تعيد إحياء التنافس العشائري المحتضر؛ وقد باءت هذه المحاولات بالفشل. إلا إن السلطات الإسرائيلية وجدت شخصيات أقل شأناً، على استعداد لأن تعبّر عن سعادتها بالوجود الإسرائيلي، ولأن تلمع وجه الاحتلال. وفي سنة 1974، حاول الإسرائيليون أن ينشئوا مجالس محلية مشابهة للمجالس القائمة في إسرائيل. وفشلت هذه المحاولة كما فشلت المحاولات الأخرى. وفي النهاية، عينوا شخصاً في كل قرية لإدارة الشؤون المحلية. إن رئيس بلدية مجدل شمس الذي عينته إسرائيل ليس حتى من المنطقة.
وحظر الإسرائيليون أيضاً، في بداية احتلالهم، البرنامج التعليمي السوري، واستبدلوه بآخر معد خصيصاً ليغرس في الذهن الإحساس بـ"هوية درزية" منفصلة، متميزة من الهوية العربية – وكأن أعضاء فرع القرن الحادي عشر هذا من الإسلام يشكلون أمة لا طائفة دينية. وقد صُقلت هذه السياسة على مدار الأعوام، وأصبحت أكثر صراحة في سنة 1976، بتأليف "اللجنة التعليمية للدروز". وتم وضع كتب تاريخ خاصة مناقضة تماماً للحقائق. على سبيل المثال: يتحدث واحد منها عن العلاقة التاريخية بين المجتمعين اليهودي والدرزي بحكم وضعهما المشترك كأقليتين، وعن عداوة تقليدية بين الدروز وإخوانهم السنّيين. ويجري التشديد على إيصال هذه الرسالة بطرق شتى: إن الدروز جماعة استثنائية، متفوقة ومتميزة من العرب الآخرين – في الحقيقة ليست عربية على الإطلاق. ولا يرد ذكر لحقيقة أن مرتفعات الجولان كانت دائماً جزءاً من سوريا.[7]
بمرور الوقت، جرى فصل المدرّسين الذين يتمتعون بأي مستوى من الوعي السياسي. وقد تم فصل مئة مدرّس على الأقل لأسباب سياسية منذ بدء الاحتلال، وفُصل أكثر من عشرين مدرّساً دفعة واحدة في أثناء مقاومة الضم سنة 1982. وتم استبدال هؤلاء، في معظم الأحيان، بمدرسين غير مؤهلين، بعضهم لم يكمل حتى المرحلة الثانوية، لكنهم مُنحوا "شهادات تعليم" بعد أن حضروا دورات قصيرة في إسرائيل. وهناك، علاوة على ذلك، شرط هو أن المدرسين يجب أن يكونوا دروزاً، وهذا ما لم يحدث قط في الماضي. إن افتقار كثيرين من هؤلاء المدرسين للمؤهلات الحقيقية يجعلهم طائعين للسلطات، إذ سيجدون صعوبة في إيجاد وظائف في مكان آخر. وتضمن السلطات استمرار إذعانهم لها بتوظيفهم على أساس عقود سنوية.
منذ البداية، كان هنا مقاومة للاحتلال، ولا سيما من جانب أولئك الذين كانوا نشيطين في حزب البعث والأحزاب الناصرية. وتم تنظيم خلايا كانت مهمتها الأساسية جمع المعلومات عن النشاطات الإسرائيلية في الجولان، وتمريرها إلى السوريين. وقد اكتشفت عدة خلايا، وحكم على أعضائها بالسجن لمدة طويلة. كما حدثت اعتقالات، وخصوصاً بين الذين عبّروا عن معارضتهم للحكم الإسرائيلي.
مع ذلك كان الناس، في أغلب الأحيان، هادئين نسبياً في الأعوام الأولى. لم يحبوا الاحتلال، لكنهم تفادوا قول أي شيء خوفاً من السجن. رفضوا أن يدفعوا الضرائب، وقاطعوا النظام. وقد كان ذلك ممكناً وقتها، لأن الأمور كانت لا تزال تتم بصورة عشوائية نسبياً. ولم يكن نظام التصاريح قد أُنشئ بعد. وكان الناس يبنون البيوت والمباني حيثما يشاؤون. ولاحقاً فقط، أصبحت الإجراءات الاقتصادية أداة رئيسية في يد السلطات المحتلة.
ظهر أول تعبير عن مشاعر الناس في سنة 1970، عندما توفي عبد الناصر وخرج آلاف من الناس – عملياً السكان كلهم – إلى الشوارع في القرى الأربع، في تعبير عفوي غير منظم عن الحزن والغضب، حتى أن المدنيين هاجموا جندياً. وقد جرت اعتقالات كثيرة، وفُصل بعض المدرسين من مدارسهم. وكانت حرب 1973 علامة مميزة مهمة أُخرى؛ فحقيقة أن سوريا استعادت – ولو لفترة قصيرة – جزءاً كبيراً من مرتفعات الجولان، كسرت الحاجز النفساني وبعثت الأمل في النفوس. وفي هذه الأثناء، كان قد بدئ بالإفراج عن الأشخاص الذين اعتقلوا في الأعوام الأولى للاحتلال. وكان هؤلاء مسيّسين في الأصل، وجعلتهم "مدارس السجن" أكثر تطرفاً، واكتسبوا أفكاراً من المناضلين الفلسطينيين، وبدأوا يتحدثون عن الوضع، وبدأ الناس يعبّرون صراحة عن رغبتهم في العودة إلى أحضان سوريا. مع ذلك، لم تكن هناك بعد حركة جماهيرية بالمعنى الحقيقي.
الصراع في شأن الجنسية الإسرائيلية
في الواقع، كانت سياسات الليكود هي التي دفعت السكان إلى اتخاذ موقف فعال. وكما ذكرنا من قبل، كان لدى حزب العمل نيات حقيقية في الاحتفاظ بالجولان. وقد استثمر أموالاً طائلة في المستوطنات، لكنه في الوقت نفسه لم يرغم السكان على ما يكرهونه ما داموا محافظين على الهدوء.
أما الليكود، فقد وضع نصب عينيه الضم الفعلي. وقبل مرور وقت طويل على تسلمه السلطة في سنة 1977، بدأت الحكومة الجديدة الضغط على الناس لطلب الجنسية الإسرائيلية؛ فهي لم تُرد الضم من جانب واحد، بل "استجابة للرغبات المحلية". وقُدمت إلى الكنيست عدة مشاريع تدعو إلى الضم، لكنها رفضت. ومُدّت الصلاحية القانونية لمحاكم الدروز الدينية في إسرائيل إلى الجولان، لكن الشعب رفض الاعتراف بها.
وخلال عام، تزايد عدد التظاهرات الشعبية في قرى الجولان كلها، وقدمت العرائض إلى الحكومة الإسرائيلية. وبدأت السلطات في هذه الفترة، وعلى نطاق واسع، الربط بين الجنسية والحياة اليومية: لم يكن في الإمكان الحصول على رخصة سياقة من دون حيازة بطاقة هوية شخصية مذكور فيها أن الجنسية إسرائيلية.[8] ولم يكن في الإمكان السفر داخل إسرائيل من دون مثل هذه البطاقة... إلخ. وفي الوقت نفسه، حصلت القلة التي تعاونت مع السلطات على امتيازات خاصة مثل: ضرائب مخفّضة، وحصص أكبر من المياه، وأجوبة سريعة تتعلق بتصاريح البناء، إلخ.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1980، عُدّل قانون الجنسية الإسرائيلية وخُوّل وزير الداخلية صلاحية منح الجنسية الإسرائيلية بناء على شروط مختلفة مفصَّلة في القانون. وكان الشرط الذي ينطبق على السكان السوريين في الجولان أن "الجنسية تمنح عندما يعتبر ذلك تحقيقاً لمصلحة خاصة للدولة."[9] وفي نهاية السنة، كانت إسرائيل قد بدأت تضغط على السكان ليقبلوا بطاقات الهوية الشخصية الجديدة؛ وبحسب قول السلطات، فقد قبل بها 400 شخص تقريباً. وفي الحقيقة، كان 300 من هؤلاء من الدروز الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية أصلاً، وانتقلوا من إسرائيل نفسها إلى مرتفعات الجولان، إمّا لأسباب عائلية وإمّا لغيرها من الأسباب.
تصاعدت التظاهرات والاحتجاجات. وفي أوائل آذار/ مارس دعا الزعماء الدينيون، مدفوعين من نشطاء محليين، جميع سكان مرتفعات الجولان إلى اجتماع عام في الخلوة في مجدل شمس. واحتشد نحو 6000 شخص من القرى الأربع، أو ما يزيد على نصف عدد سكان الجولان في ذلك الوقت، في المبنى الضخم والساحة المكشوفة أمامه. وتقرر في ذلك الاجتماع فرض مقاطعة اجتماعية دينية كاملة – عملياً: حرمان ديني ومدني – على كل من يقبل الجنسية الإسرائيلية. وتقرر منع الذين تسري المقاطعة عليهم من حضور الأعراس والمآتم وكل المناسبات الاجتماعية والدينية، وعدم السماح لأي فرد من أفراد المجتمع بالتعامل معهم بأي شكل. وفي مجتمع صغير كمجتمعنا، حيث يعرف كل شخص الآخر، فإن تأثير مثل هذا النبذ من شأنه أن يكون مدمراً. وفي ذلك الاجتماع نفسه، أقر الحضور "وثيقة وطنية"، نشرت فيما بعد في الصحف، تعلن أن سكان الجولان هم سوريون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأنهم يتطلعون إلى اليوم الذي سيتحررون فيه ويعودون إلى أحضان سوريا.
وفي ردها على ذلك، قامت سلطات الاحتلال بفرض عقوبات على السكان، بما فيها ضرائب مبالغ فيها، وقيود مشددة على السفر وعلى تسويق المنتوجات الزراعية. ووُضع عدد من النشطاء في الإقامة الجبرية أو الاعتقال الإداري، وفُصل بعض المدرسين. وبعد ذلك أُخبر القادة المحليون، بصورة غير رسمية، أن العقوبات ستُرفع إذا وافق السكان على إنهاء مقاومتهم. مع ذلك، استمر النبذ وبدأ أولئك الذين قبلوا الجنسية الإسرائيلية بالتخلي عنها، واحداً بعد الآخر.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 1981، بعد أشهر من الاضطراب، صدر قرار بضم مرتفعات الجولان فعلياً.[10] وعلى الفور تمت الدعوة إلى إضراب عام لمدة ثلاثة أيام، فَشُلَّت الحياة تماماً في القرة الأربع. وأُرسلت مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، كما أُرسلت عريضة إلى الحكومة الإسرائيلية تطالبها بإلغاء الضم.
استمر ما أصبح الآن نمطاً اعتيادياً: التظاهرات من جهة، والاعتقالات والقيود من جهة أخرى، حتى 13 شباط/ فبراير 1982، عندما وضعت إسرائيل أربعة من زعماء الطائفة في الاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر. وفي اليوم التالي، 14 شباط/ فبراير، أُعلن إضراب عام استمر أكثر من خمسة أشهر من دون انقطاع. وردّت سلطات الاحتلال بفرض نظام حظر التجول. وفي 25 شباط/ فبراير، فُرض حصار كامل على الجولان: أُوقف كل أشكال المواصلات من المنطقة وإليها؛ لم يسمح بإدخال الطعام أو الدواء؛ قطعت الكهرباء والماء. وقد نُظمت تظاهرات كل بضعة أيام خلال الإضراب، في بعض الأحيان في القرى الأربع كلها، وأحياناً في قرية واحدة حيث كان سكان القرى الأخرى يحتشدون فيها. وقد تمت المحافظة على تنسيق دقيق طوال تلك المدة من خلال الاجتماعات العامة. وجوبه بعض التظاهرات بالعنف، وأصيب خمسة وثلاثون شخصاً بطلقات نارية خلال اشتباكات مع الشرطة. وفقد شاب رجله ويده وعينه في حادث انفجار لغم خارج مجدل شمس. وقد رُفضت كل محاولات اللجنة الدولية للصليب الأحمر لزيارة المنطقة.[11]
في 1 نيسان/أبريل، أعلنت إسرائيل رسمياً الجولان منطقة مغلقة، وفرضت حظر التجول على مدار الساعة، وأرسلت إلى المنطقة 14.000 جندي إسرائيلي – أكثر من عدد السكان العرب في مرتفعات الجولان – قاموا بالتنقل من بيت إلى آخر لمصادرة بطاقة الهوية العسكرية القديمة وتوزيع بطاقات الهوية الجديدة، المعدّة لكل فرد، والمذكور فيها الجنسية الإسرائيلية. وقد تم اعتقال 150 شخصاً خلال هذه الحملة. في هذه الأثناء، وفي محاولة لإقناع السكان بقبول بطاقات الهوية/ الجنسية، بثت الإذاعة معلومات زائفة بأن زعماء عديدين قبلوا بها. لكن المحاولة فشلت فشلاً ذريعاً، وسرعان ما تناثرت بطاقات الهوية المرفوضة في شوارع القرى الأربع جميعاً. وفي5 نيسان/ أبريل، انسحبت القوات الإسرائيلية ورُفع الحصار.
أُنهي الإضراب أخيراً في 21 تموز/ يوليو. وكانت العيون، في ذلك الوقت، مركزة على غزو إسرائيل للبنان وحصار بيروت الوحشي؛ وكان واضحاً في هذه الأوضاع الجديدة، أن من العبث الضغط على إسرائيل فيما يختص بالجولان. وعلاوة على ذلك، كان مخزون المواد الغذائية – مؤونة كبيرة من الأغذية المجففة والمحفوظة التي كانت دائماً في متناول القرى – قد بدأ بالنفاد. لم يكن الحليب متوفراً؛ وكان الأطفال يعانون. وقد نفقت مئات من المواشي جوعاً بسبب منعها من الوصول إلى المراعي. وأخيراً، تراجع الإسرائيليون عن إصرارهم على موضوع الجنسية، ولم يرد في بطاقات الهوية ووثائق السفر التي وزعت في النهاية ذكر للجنسية الإسرائيلية. وكان هناك اتفاق آخر يقضي بأن سكان الجولان لن يؤدوا الخدمة في القوات المسلحة، وأنه سيتم السماح لهم بزيارة سوريا، وأن الأراضي لن تصادر. ولم يتم احترام الالتزامين الأخيرين. وهذا هو الوضع الآن: تعتبر إسرائيل سوريي الجولان "مقيمين في إسرائيل"، لا مواطنين.
لقد كان إضراب 1982 العام ذروة العمل الجماهيري في الجولان، ولم يتكرر ما يرقى إلى مستواه. منذ ذلك الحين، جرت تظاهرات عديدة. ويتم التقيد سنوياً على الأقل بإضرابين ليوم واحد: في 14 شباط/ فبراير، ذكرى الإضراب العام؛ وفي 17 نيسان/ أبريل، عيد الاستقلال السوري. ومنذ بدء الانتفاضة، أُضيف إلى القائمة يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر، يوم اندلاعها في سنة 1987. وتقوم تظاهرات كلما حدث أمر استثنائي في المناطق المحتلة الأخرى (مثل مذبحة الأقصى، أو عمليات القتل في ريشون لتسيون)، أو في المستوى الدولي (مثل أزمة الخليج، والحرب ضد العراق).
الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية
تمكنت إسرائيل، نتيجة حرب 1967 وخروج الأغلبية العظمى من سكان الجولان، من الاستيلاء على 80 في المئة من أراضي المنطقة. ولم يتم أي إعلان بشأن مصادرات أُخرى، على الرغم من أنه مع مرور الوقت أُعلنت أراضٍ معينة مناطق عسكرية مغلقة، أو أنه ببساطة تم تسييجها. وفي حالات كثيرة، بقيت الأراضي مسيجة أعواماً عديدة، من دون أن يستخدمها الإسرائيليون لأي غرض. وفي أوائل الثمانينات، عندما كانت روح المقاومة في ذروتها، كسر الناس الحواجز وبدأوا زراعة أراضيهم المسيجة ثانية. وفي أول حادثة من نوعها، في سنة 1984، جاء شرطي ليوقف سلمان إبراهيم من سكان مسعدة، وكان قد استأنف زراعة أرضه، فاندفع مئات من الناس إلى تلك البقعة، لوعيهم دلالة ما يحدث بالنسبة إلى المجتمع كله. وفي تلك الفترة، لم تصرّ السلطات في الغالب [على منع المزارعين من زراعة الأراضي المسيجة]، إذ لم تكن على عجلة من أمرها. لقد كانت استولت فعلاً على معظم الأراضي، بما فيها الأراضي الغنية في جنوب الجولان، وكان عدد السكان اليهود وقتها قليلاً جداً.
بحسب نظام ملكية الأراضي في القرى الأربع، كان نصف الأراضي ملكية فردية، والنصف الآخر ملكية جماعية للقرويين. وعندما وقع الاحتلال، لم يكن سوى جزء قليل من الأراضي المملوكة فردياً مسجلاً رسمياً. فنظراً إلى عدم الإحساس بالحاجة الملحة إلى ذلك، في غياب أي تهديد قبل سنة 1967، لم يهتم الناس بالشكليات. وبوجود الاحتلال، انتهى إمكان تسجيل الأراضي طبعاً. إن غياب التسجيل الرسمي لا يبشر بخير للمستقبل: لقد أعلنت السلطات مؤخراً أن مساحة كبيرة من أراضي مجدل شمس المبني عليها، وتقدر بنحو 40 في المئة من إجمالي المساحة، هي "أراضي دولة".[12]
لقد كانت الأراضي المملوكة جماعياً تستخدم بصورة عامة لرعي المواشي، ولم تكن تستخدم للزراعة كون بعضها صخرياً أو ذا تربة فقيرة. وتدل تجربة العرب الآخرين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية منذ سنة 1948، بوضوح، على أن مثل هذه الأراضي كان هدفاً رئيسياً للمصادرات الإسرائيلية، بحجة كونه "أراضي دولة". ولهذا قام سكان كل قرية بعد الاحتلال بتوزيع الأراضي المملوكة جماعياً على الأفراد، وبدأوا زراعتها بأشجار التفاح على افتراض أن الأراضي المحسنة ستجعل مصادرتها أكثر صعوبة. ونتيجة هذه المبادرة، زادت الأراضي الزراعية في القرى الأربع ثلاثة أضعاف منذ سنة 1967.
لقد عاشت قرى الجولان تقليدياً على الزراعة كلياً. وفي العقود الأخيرة، أصبح الاقتصاد معتمداً على زراعة التفا اعتماداً كلياً تقريباً. بعد الاحتلال مباشرة، حل الإسرائيليون "اللجان التعاونية" التي انتخبها المزارعون المحليون في كل قرية للتنسيق مع الحكومة في دمشق فيما يتعلق بالشؤون الزراعية. وقد كانت هذه اللجان تنقل حاجات المزارعين إلى دمشق، كما كانت القناة لإيصال خدمات الحكومة إلى القرويين: توزيع الأسمدة مجاناً، ومنح القروض الزراعية، وتوفير شتل التفاح مجاناً للزراعة، وتسويق المنتوجات، إلخ. وهكذا، فإن القرويين لم ينقطعوا نتيجة الاحتلال عن باقي سوريا ويجبروا على بيع منتوجاتهم في الأسواق الإسرائيلية فحسب، بل حرموا أيضاً المساعدة التي كانوا يتلقونها تقليدياً من الحكومة في دمشق.
تبع ذلك قيود أخرى، وخصوصاً فيما يتعلق بالمياه. فبموجب قانون المياه الإسرائيلي لسنة 1959، تعتبر مصادر المياه كلها ملكاً لدولة إسرائيل. وبناء على هذا القانون، حُظر حفر الآبار الإرتوازية والبرك في منتصف السبعينات. وفي الفترة نفسها، صودرت بركة مسعدة (المعروفة أيضاً ببركة رام)، وهي بركة تتغذى بالمياه من نبع طبيعي، وتتسع لـ 2 – 3 ملايين متر مكعب من المياه سنوياً، وكانت توفر المياه للمواشي وتلبي حاجات الري المحلية حتى ذلك التاريخ. وقد حُظر على القرويين استخدامها، وضُخت مياهها إلى المستوطنات اليهودية. ولكن، في السنوات القليلة الماضية، سُمح للقرويين باستخدام هذه المياه استخداماً محدوداً.[13]
بسبب هذه القيود والوضع المتغير، بادر السكان السوريون المحليون إلى إنشاء عدة مشاريع اقتصادية من دون عون خارجي. فبعد أن صادر الإسرائيليون بركة مسعدة، خشي القرويون في مجدل شمس أن تصادر ميكوروت، شركة المياه الوطنية الإسرائيلية، نبعهم الرئيسي، راس النبع، الذي كان الإسرائيليون قد حولوا كميات من مياهه خلال أشهر الشتاء. كما خشي السكان أن تجعلهم وسيلة الري التقليدية بالقنوات المفتوحة عرضة للإجراءات الإسرائيلية بحجة الإفراط في استخدام المياه. ومرة أخرى، افترضوا أنه كلما ازداد التطور قلّت مجازفة المصادرة، فبادروا إلى إنشاء مشروعهم الحديث الخاص بالري، الذي حل محل النظام القديم، وتحمل القرويون أنفسهم تكاليفه بالكامل. وقد اكتمل المشروع سنة 1974. وفي محاولة جماعية أخرى للتغلب على النقص في المياه، قام المزارعون المحليون في أوائل الثمانينات ببناء خزانات حديدية ضخمة لجمع مياه الأمطار في معظم بساتين التفاح. وقد تم بين سنة 1983 وسنة 1985 بناء نحو 650 خزاناً، يتسع كل منها لما يتراوح بين 500 و1000 متر مكعب من المياه سنوياً، إلا إن السلطات الإسرائيلية عندئذ حظرت بناء الخزانات. وتم تدمير عدد منها، وفُرضت غرامات عالية بحجة أن مصادر المياه كلها، بما فيها مياه الأمطار، هي ملك للدولة. وفيما بعد، وعلى الرغم من أن حظر بناء خزانات إضافية بقي سارياً، فإنه سُمح للمزارعين بالحصول على تصاريح للخزانات القائمة بعد تقديم التصاميم الدقيقة المبنية وفقاً لها. ومؤخراً، صدر إشعار يفيد بأنه سيتم تركيب عدادات مياه على كل خزان، وأنه يتعين على المزارعين أن يسددوا ثمن مياه الأمطار التي يستخدمونها. لكن حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يتم تنفيذ ذلك.
كان مشروع بناء ثلاثة برادات لتخزين التفاح مشروعاً مهماً آخر، تحقق من دون معونة خارجية، وساعد في حفظ جزء من المنتوج لبيعه خارج الموسم عندما تكون الأسعار أفضل. وقد بُنيت هذه المستودعات الضخمة – واحد في مجدل شمس واثنان في بقعاتا – فيما بين سنة 1978 وسنة 1990؛ كما بنى كثيرون من المزارعين مستودعات فردية صغيرة في بساتينهم. وانتهى في سنة 1990 شق طريق من مجدل شمس إلى البساتين، بلغت تكلفته 170.000 دولار، بتمويل كامل من السكان المحليين.
يُعتبر تفاح قرى الجولان من صنف ممتاز، وذلك بسبب ارتفاع المنطقة وأحوال الطقس. ومما لا شك فيه أن قرار حظر زراعة التفاح على المزارعين السوريين المحليين، الذي صدر سنة 1980، كان ناجماً عن منافستهم مزارعي التفاح الإسرائيليين في سهل الحولة. ولقد رفع الحظر في السنوات الأخيرة، بعد أن تحول مزارعو الحولة إلى زراعة القطن. لكن في هذه الأثناء أصبحت مستوطنات الجولان اليهودية تزرع التفاح؛ ويضاهي منتوجها، الذي ينمو في أحوال مناخية مماثلة، المنتوج السوري في الجودة. ونتيجة ذلك انخفض الدخل المحلي، مع أن جزءاً من هذا الانخفاض ناجم أيضاً عن الوضع الاقتصادي في إسرائيل. وقد بدأ بعض مزارعي الجولان زراعة أشجار الكرز؛ ويمثل هذا المحاولة الوحيدة لتنويع المنتوج الزراعي.
وتعمل أعداد كبيرة من القرويين أيضاً في إسرائيل، نظراً إلى وقت الفراغ الطويل الذي تتيحه زراعة التفاح. ويعمل كثيرون منهم في بناء مستوطنات جديدة، أو في توسيع القائمة منها، كما يعمل آخرون في المصانع في إيلات والقدس وتل أبيب، ويعودون في عطلة نهاية الأسبوع.
المشاريع المحلية الأخرى
في الجولان، كما في غيره من المناطق المحتلة، لا تقدم السلطات الإسرائيلية إلا خدمات قليلة للسكان العرب المحليين، على الرغم من الضرائب التي تقتطعها منهم. فباستثناء رواتب معلمي المدارس، وإصلاح الطرق أحياناً، والطريق الذي بُني السنة الماضية بين مجدل شمس ومسعدة (وليس مصادفة أنه يخدم أيضاً منحدراً في جبل حرمون يمارس الإسرائيليون رياضة التزلج عليه)، يصعب على المرء أن يتبيّن وجهة استخدام أموال الضرائب التي يفترض أن تخصص لمصلحة السكان. فقد شيّد القرويون مدرستين في مجدل شمس، وجهزوهما تجهيزاً كاملاً من تبرعات فردية، وتقاسم السكان والبلدية من أموال الضرائب تكاليف مدرسة ثالثة بالتساوي. وخلال إضراب سنة 1982 العام، عندما لم يكن في استطاعة أحد أن يغادر القرى أو يذهب إلى العمل، قام سكان مجدل شمس ببناء نظام مجارير خاص بهم. كما بنى القرويون شبكة لمياه الشرب في سنة 1972، من أموالهم الخاصة أيضاً، وذلك لتوسيع وتحسين مستوى النظام الذي أُنشىء سنة 1946.
وقد تصدرت العمل لإنشاء عدد من هذه المشاريع المحلية الجماعية – الاقتصادية منها والاجتماعية – جمعية الجولان الأكاديمية، التي تأسست سنة 1983. إلا إن السلطات الإسرائيلية لم تعترف بها. وتسجلت منظمة أُخرى، هي الجمعية العربية للتطوير، رسمياً سنة 1991. وتنفذ المشاريع لخدمة أغراض محددة بالذات – يتم مناقشة الحاجة إلى المشروع، ويتفق عليه، وتجمع الأموال له. وتتراوح هذه المشاريع ما بين إصلاح الطرق والشوارع، أو إنشاء مكتبة محلية، أو توفير التدريب للمزارعين. ونظراً إلى تدني العلاج الطبي في مرتفعات الجولان[14] - هناك عيادة واحدة فقط تفتح أبوابها لساعات قليلة في كل يوم، وهي مكلفة في غياب التأمين الصحي – تُنظم "أيام الصحة" بالتعاون مع أخصائيين متطوعين من الضفة الغربية، يقدمون خدماتهم مجاناً. وقد تم في أحد "أيام الصحة" هذه فحص أكثر من 500 مريض. وتم إنشاء دور حضانة ومراكز رعاية نهارية ومعسكرات صيفية في سنة 1986.
وعلى الرغم من أن طبيعة كثير من هذه المشاريع غير سياسية إلى حد كبير، فإن السلطات الإسرائيلية قاومتها، واعتقلت أو ضايقت القيّمين عليها. فقد أغلقت عدة دور حضانة بحجة التصاريح. كما حاولت أن تنافس هذه المشاريع: فبعد افتتاح المعسكر الصيفي بوقت قصير، على سبيل المثال، افتتحت إسرائيل معسكراً. وتكرر هذا مع دور الحضانة، التي لم تكن موجودة من قبل. ومن اللافت للنظر أن الإسرائيليين أغلقوا دور الحضانة التي أنشأوها في عين قنيه، بعد أن أُغلقت دور الحضانة الخاضعة لإشراف محلي.
المستوطنات
يمكن تقسيم الاستيطان حتى اليوم إلى ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى، من سنة 1967 إلى سنة 1973، تم إنشاء معظم المستوطنات في جنوب لبنان، حيث هناك وفرة في المياه، والحقول – التي طورها السكان السابقون تطويراً جيداً – غنية التربة. عملياً لم تكن هناك حاجة إلى استثمار لإيجاد أساس اقتصادي. وفي الواقع أُنشىء كثير من هذه المستوطنات في مواقع القرى.
المرحلة الثاني بدأت مع حرب تشرين الأول/ أكتوبر، التي أرغمت إسرائيل على إعادة تقويم سياستها الاستيطانية في المنطقة. فحقيقة أن السوريين اخترقوا الجولان الأوسط، تماماً حيث يوجد عدد قليل من المستوطنات، وسيطروا على 60 في المئة من الجولان قبل أن يجري صدهم، لفتت نظر الإسرائيليين إلى ضرورة إقامة مزيد من المستوطنات في الوسط والشمال. وقد انصبت الجهود على إنشاء مستوطنات صناعية، لأن أراضي الوسط غير خصبة كفاية. وبنيت المستوطنات بعد حرب 1973 بشكل يجعلها تتحمل قذائف القنابل. وخلال تلك الفترة أيضاً، بنى الإسرائيليون كتسرين، لتكون بمثابة عاصمة لمرتفعات الجولان، وتخدم السكان اليهود هناك.
وبدأ الليكود المرحلة الثالثة بعد وصوله إلى السلطة سنة 1977، محدثاً تغييراً في الأولويات فيما يتعلق بالاستيطان في الضفة الغربية، كما تبين الأرقام التالية: استثمر حزب العمل 67 مليون جنيه استرليني في الجولان و62 مليون جنيه استرليني في الضفة الغربية خلال العام المالي 1977/1978، بينما استثمر الليكود 81 مليون جنيه في الجولان و168 مليون جنيه في الضفة الغربية خلال العام التالي، 1978/1979.[15] ومثّل تشديد الليكود على المستوطنات في المناطق الآهلة تغيراً آخر في السياسة في هذه المرحلة. وكان ذلك واضحاً بصورة خاصة في الضفة الغربية. إلا إن ذلك كان صحيحاً أيضاً بالنسبة إلى الجولان؛ فاثنتان من المستوطنات الثلاث القريبة من قريتنا أنشأهما الليكود.
وكما أشرنا سابقاً، كانت أول مستوطنة أُنشئت في المناطق المحتلة في مرتفعات الجولان: ميروم هغولان، التي أُنشئت في 14 تموز/يوليو 1967. لقد كانت خطط الاستيطان طموحة، إلا إنها لم تكن ناجحة جداً حتى الآن.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 أنهى عوزي غادور، من المنظمة الصهيونية العالمية/ مكتب فرع الجليل، الخطة الأولى من عدة خطط لتطوير الجولان. وقد دعت الخطة إلى إنشاء ما يتراوح بين سبع عشرة واثنتين وعشرين مستوطنة، تتسع لـ 45.000 – 50.000 من السكان اليهود، خلال السنوات العشر التالية.[16] وفي سنة 1977، كان هناك فعلاً واحد وعشرون مستوطنة يهودية، إلاّ إن عدد المستوطنين لم يتجاوز 3850 مستوطناً.[17]
وقد قلّت الأهداف الموضوعة لخطط تطوير الجولان المتتالية منذ ذلك الحين بالتدريج، لكن حتى هذه لم تنجز. وقد دعت "الخطة التنفيذية للتطوير السريع 1982 – 1987" الموضوعة في سنة 1980، إلى إسكان 26.700 شخص بحلول سنة 1987.[18] وفي الواقع، كان عدد المستوطنين الإسرائيليين في الجولان، في تموز/ يوليو 1991، أقل من نصف هذا العدد، 11.000 مستوطن موزعين على ست وثلاثين مستوطنة.[19] ولم تنل خطط وزير الإسكان أريئيل شارون، التي أُعلنت في سنة 1990، وهدفت إلى توطين 22.000 مستوطن يهودي – في الغالب مهاجرين من الاتحاد السوفياتي سابقاً وإثيوبيا – حتى نهاية سنة 1992، نصيباً أكبر من النجاح على الرغم من بناء أربع مستوطنات جديدة. وفي الواقع، وعلى الرغم من المعونات والحوافز الأخرى التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية، فإن عدداً قليلاً يرغب في العيش في مناطق معزولة كهذه، بعيداً جداً عن تل أبيب والقدس. وتظل فرص العمل قليلة خارج مجال الزراعة؛ ولم تنجح المستوطنات الصناعية التي أُنشئت في منتصف السبعينات، بل حتى جرى تفكيك بعضها.
باستثناء أولئك الذين يعملون في المستوطنات، لا يوجد هناك عملياً اتصال بين السوريين المحليين والسكان اليهود؛ في بداية الثمانينات، كان بعض المستوطنين اليمينيين يأتي إلى قرانا في مجموعات، يكتب الشعارات على الجدران ويحاول إخافة الناس، لكن الوضع تغير الآن. كما يجب الإشارة إلى أن المستوطنين في الجولان هم في معظمهم مما يسمى "اليسار"، ولهذا فهم ليسوا استفزازيين مثل مستوطني الضفة الغربية اليمينيين المتطرفين.
العلاقات بالمجموعات السكانية الأخرى
في الأشهر الأولى للاحتلال، عجّل الدروز الفلسطينيون في القدوم إلى مرتفعات الجولان لإعادة بناء العلاقة، العائلية وغيرها، التي انفصمت منذ قيام إسرائيل. غير أنه سرعان ما تدخلت الخلافات السياسية، إذ غضب الدروز السوريون من التعاون الذي كشف عنه أعضاء كثيرون في جماعة دروز الجليل مع الدولة الإسرائيلية. وإضافة إلى ذلك، سرعان ما أدرك الدروز السوريون أن أقاربهم الفلسطينيين لم يستفيدوا فعلياً من تعاونهم مع السلطات: لم يفرق الإسرائيليون بين الدروز والعرب الآخرين في مصادرة الأراضي، وقصر استخدامها على اليهود. وهكذا فقد العرب الذين بقوا في إسرائيل – سواء أكانوا سنّيين، أم مسيحيين، أم دروزاً – أراضيهم كلها تقريباً.
تجدر الإشارة إلى أن الدروز الفلسطينيين ليسوا متناغمين تماماً في مواقفهم. فقد تظاهر أهالي عدة قرى درزية في إسرائيل تأييداً لنا خلال الإضراب العام سنة 1982؛ وكان ذلك في بعض الحالات بدافع التضامن الديني، لكنه في حالات أخرى كان بدافع من أسباب قومية. وتألفت، في ذلك الوقت، لجنة تضامن معنا. وهناك أيضاً أعداد متزايدة من الدروز الفلسطينيين تعترض على تعاون الطائفة ككل، وتعارض سياسة إسرائيل التي تعزلها عن أشقائها العرب؛ ويحتفظ سكان الجولان العرب بعلاقات ممتازة بهؤلاء الناس، ويمدونهم بكل أشكال العون الذي يحتاجون إليه. وما من شك في أن تحدي سكان الجولان للسلطات الإسرائيلية كان له أثره بين دروز الجليل.
لكن، بصورة عامة، لا بد من الاعتراف بأن العلاقات بين المجتمعين الدرزيين علاقات فاترة، وخصوصاً منذ سنة 1982. ومن الملاحظ أن هناك عائلات في الجليل والجولان، تربط بينها صلات قرابة وشيجة، لم يزر بعضها بعضاً منذ أعوام؛ ولهذا مدلوله القوي في المجتمع العربي. وتجدر أيضاً الإشارة إلى أنه بينما يتزوج الدروز داخل إطار مجتمعهم الديني، فإن الزيجات بين دروز الجولان ودروز الجليل قليلة جداً. ونظراً إلى قلة عدد السكان الدروز فإن لهذا مغزاه المهم.
هناك عدة تفسيرات محتملة للاختلاف بين المجتمعين: واقع أن دروز الجليل انتقلوا من الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، بينما عاش دروز الجولان في ظل حكومتهم في دمشق؛ حقيقة أن دروز الجولان اندمجوا في الحياة السياسية السورية؛ تراث المقاومة في مرتفعات الجولان، وخصوصاً ضد الفرنسيين في سنة 1920؛ وربما أيضاً حقيقة أن دروز الجولان شعروا بأن هناك حكومة راسخة تقف خلفهم، بينما يتوفر هذا لجماعة الجليل بعد سقوط فلسطين. ومهما تكن الأسباب، فالاختلافات موجودة.
وفي الواقع، يمكن القول إن دروز الجولان يقيمون علاقات أفضل وتضامناً أقوى مع فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، من تلك القائمة مع الدروز في إسرائيل نفسها. وقد حاول سكان المناطق المحتلة إرسال أغذية خلال الإضراب العام في سنة 1982، وما زالوا يساعدون بمختلف الطرق. وكما ذُكر سابقاً، فإنهم يرسلون أطباء إلى الجولان ليساهموا في العيادات المتنقلة في "أيام الصحة"، ويفتحون أبواب مستشفياتهم للمرضى من دروز الجولان. ويستطيع سكان الجولان العرب أن يدرسوا في جامعاتهم (مع أن كثيرين يدرسون في الجامعات الإسرائيلية، وفي السنتين الماضيتين في الجامعات السورية أيضاً). كما يرسل الفلسطينيون خبراء بالزراعة وتلوث المياه ومجالات أخرى، بحسب ما يُطلب منهم.
من جهتهم، ألّف دروز الجولان لجاناً للتضامن حين اندلعت الانتفاضة، وكانوا أول من أرسل شاحنات محملة بالأغذية والملابس إلى مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهم يجمعون الأموال وينظمون زيارات تضامن لمخيمات اللاجئين. وفي كل سنة، ينظمون حملات لقطف التفاح، ويوزعون التفاح على مستشفيات الضفة الغربية وغزة، ويتبرعون بعائدات مبيعات التفاح لدعم الانتفاضة. كما أنهم قاموا بعدة تظاهرات شعبية وإضرابات عامة تأييداً للانتفاضة. لكنْ يحد من تعاونهما واقع أن الضفة الغربية ومرتفعات الجولان منفصلتان جغرافياً، بإسرائيل طبعاً.
الوضع اليوم
تختلف طبيعة النضال في الجولان عنها في الضفة الغربية وقطاع غزة. فعدد سكان الجولان قليل جداً، نحو 16.000 نسمة حالياً، وهم محصورون في ركن واحد من المنطقة كلها. ويشكل صغر الحجم نقطة قوة ونقطة ضعف في آن واحد. في الجانب الإيجابي، يُكسب الجماعة تماسكاً اجتماعياً وترابطاً وثيقاً: المتعاونون معروفون؛ ويصعب اخراق التنظيمات السياسية. وفي الجانب السلبي، يسهل على المحتلين في مجتمع صغير كهذا أن يعرفوا كل شيء عن النشيطين سياسياً. وفي السراء والضراء، اقتصاد الجولان هو اقتصاد محصول واحد، مبني على التفاح. وفي غياب أي قدر من الاكتفاء الذاتي، لا يستطيع السكان أن يعيلوا أنفسهم لفترات طويلة من دون مساعدة من الخارج، والمنطقة مطوقة بالإسرائيليين من كل جانب، من دون روابط مباشرة بالحلفاء. وليس هناك مجال لأن يخوض عرب الجولان نضالاً مطولاً على نمط الانتفاضة. وهكذا، فإن هدفهم هو أن يحافظوا على هويتهم ويحتفظوا بأرضهم، في انتظار أن تحررهم سوريا أو الدبلوماسية الدولية.
لقد حافظت الهوية السورية على قوتها، على الرغم من حقيقة أن الجولان عُزل عن سوريا لأكثر من عشرين عاماً، حتى سنة 1989 عندما بدأت السلطات المحتلة منح عدد محدود من التصاريح للزيارات العائلية. ويستمع الناس إلى التلفزة والإذاعة السوريتين، ويحرصون حرصاً شديداً على تربية أولادهم على أنهم سوريون. وتساعد سياسة الاحتلال نفسها في الحفاظ على الهوية حية – انعدام الأمن، والإحساس بالعجز أمام النظام وبأن من الممكن أن يؤخذ كل شيء منك في لحظة واحدة، والوعي بأنك تعامل باحتقار، كعربي، على الرغم من أن سكان الجولان في معظمهم يتحدثون العبرية بطلاقة، وكثيرين منهم متخرجون من الجامعات الإسرائيلية.
على الرغم من التصاريح لزيارة لسوريا فإن معظم الاتصالات يتم، حتى حالياً، من خلال ما يطلق عليه اسم "تل الصرخات"، المعروف أيضاً باسم "تل الدموع"، حيث يصرخ الناس من الجولان المحتل عبر خط وقف إطلاق النار، عبر 500 – 600 متر من حقول الألغام والسياجات وجدول المياه الضحل، منادين أفراد العائلة أو الأصدقاء الذين تجمعوا على التل في الجانب السوري. يصرخون عبر مكبرات الصوت، ويتطلعون إلى أحبائهم، الذين افترقوا عنهم كل تلك الأعوام، من خلال المناظير. ولا يمكن ترتيب اللقاءات مسبقاً، إذ لا يوجد بريد أو اتصالات هاتفية؛ لكن كل صباح في الفجر، تنطلق الصرخات من الجانب السوري: "فلان وفلان هنا من دمشق (أو حمص أو درعا) جاء ليرى فلاناً وفلاناً." ويجري البحث عندها في الجانب المحتل عن الشخص أو الأشخاص المطلوبين. وقد يتطلب الأمر أحياناً السفر إلى الناصرة، إلى مستوطنة، إلى أي مكان لإحضار الشخص المطلوب.
ومن خلال نظام الصرخات هذا يعرف عرب الجولان أن شخصاً ما مريض، أو رزق ولداً، أو توفي؛ وفي الحالة الأخيرة يُخطط لإقامة العزاء في يوم محدد، ويتجمع العديدون في الجانبين ويحاولون مشاطرة بعضهم البعض أحزانهم عبر 500 – 600 متر من حقول الألغام والأسلاك الشائكة. ويتكرر الشيء نفسه في الاحتفالات: في كل سنة، يأتي آلاف من السوريين إلى الجانب الآخر، في 17 نيسان/ أبريل (عيد الاستقلال السوري) و14 شباط/ فبراير (ذكرى إعلان الإضراب العام سنة 1982). ويكون هناك في الجانب السوري أعلام ورايات سورية، ويافطات، وصفارات، وخطب عبر مكبرات الصوت، وموسيقى، وحتى رقص. وفي الجانب المحتل يشارك الناس بأفضل ما في وسعهم عبر هذا الحاجز. ويحدث أحياناً أن يجتمع نحو 10.000 شخص في الجانب السوري، وفي بعض الأحيان، في أوائل الثمانينات، كان قادة فلسطينيون، ومسؤولون حكوميون كبار، يحضرون إلى المكان. وما زالت هذه الاحتفالات أو التظاهرات مهمة – هذه السنة احتشد نحو 5000 شخص على التل السوري – لكنها الآن أكثر رصانة وأقل صخباً.
وما من شك في أن معنويات عرب الجولان كانت قبل إطلاق عملية السلام في تشرين الثاني/ نوفمبر، قد بدأت بالفتور. لقد شعروا بوطأة حرب الخليج، وتدمير العراق، وسقوط الاتحاد السوفياتي – دعامة سوريا الوحيدة في المجال الدولي. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، كانت الأعباء المالية للمقاومة تضغط بثقلها أكثر فأكثر: بالإضافة إلى الضرائب الإسرائيلية، دعي عرب الجولان إلى دفع مئات من الدولارات في كل شهر لـ"صندوق" المحامين، ولمساعدة الناس في السجون، ولتمويل مختلف المشاريع المحلية، مثل العيادة الصحية التي يجري حالياً التخطيط لإقامتها، ومراكز الرعاية النهارية، إلخ. وما زال هناك عجز قيمته 70.000 دولار في ميزانية الطريق الذي اضطر السكان إلى إنشائه السنة الماضية. وإضافة إلى ذلك، فقد ازدادت السيطرة الإسرائيلية إحكاماً خلال خمسة وعشرين عاماً من الاحتلال. ولم تعد السلطات تفترض، كما كانت تفعل في الأعوام الأولى، أنه إذا كان الناس محافظين على الهدوء، فإن هذا معناه أنهم لا يعارضون الاحتلال. ومن خلال إدراكها هذه الحقيقة، وضعت نظاماً يجعل كل فرد معتمداً على بنية الاحتلال بطرق لا تحصى، كي تكون قادرة على استعادة السيطرة مع أول إشارة إلى حدوث متاعب. وكما في الضفة الغربية وغزة، فإن الناس بحاجة إلى التصاريح لكل شيء الآن، ولك شيء يمر من خلال جهاز الشين بيت، الذي يتمركز في المكتب الذي يمثل رئيس الحكومة في مسعدة. وكما يحدث في الضفة الغربية وغزة أيضاً، فقد يقال فجأة للشخص الذي يعتبر مشاغباً، أنه لم يدفع الضرائب المستحقة عليه تماماً، وأنه مدين بـ 10.000 دولار – فإما أن يدفع وإما أن يدخل السجن. ثم تقول السلطات أنه إن بقي هادئاً وتصرف تصرفاً حسناً فسينخفض المبلغ – جباية عشوائية تماماً. وتحدث أيضاً غارات ضريبية، على غرار ما حدث في بيت ساحور، لكن على نطاق أضيق.
وتشكل تصاريح الزيارة لسوريا أداة ضغط إضافية: كل شخص في الجولان تقريباً له عائلة في سوريا. والناشطون سياسياً – الذين يشاركون في التظاهرات، أو يتحدثون، أو يرسلون أطفالهم إلى أحد مراكز الرعاية النهارية المحلية، أو حتى الذين يوجد في عائلاتهم أفراد نشيطون سياسياً – لا يحصلون على التصاريح. وتكون السلطات أحياناً صريحة: "إذا حافظ أولادك على هدوئهم في السنة المقبلة، فستحصل على تصريح." ويصبح هذا حافزاً قوياً لمن لم يروا آباءهم أو أخاً أو لداً منذ أكثر من عشرين عاماً، كي يفعلوا ما يُطلب منهم.
ويخدم السماح بزيارة سوريا هدفاً ثانياً، هو تقوية سلطة المتعاونين، لأن تقديم الاستمارات يتم من خلالهم. وتعتمد السلطات على هذه الضغوط العاطفية والاقتصادية اعتماداً متزايداً، لكنها ما زالت تمارس بكثرة الوسائل التقليدية للسيطرة، مثل الاستجواب والاعتقال الإداري وغيرهما. وبينما أصبحت السلطات أكثر صرامة تجاه من يقاوم الاحتلال، فإنها إجمالاً تترك الذين لا يقاومون في حال سبيلهم. وليس غريباً أن بدأ الناس يشكك في جدوى التظاهر والمقاومة العلنية، معتقداً أن في استطاعته المحافظة على هويته بينما هو يعيش حياته الاعتيادية.
لقد قطعت عملية السلام شوطاً بعيداً في اتجاه عكس ميل المعنويات بصورة متزايدة نحو التدهور. ومع أن أحداً لم يشارك في الانتخابات الإسرائيلية. بمن في ذلك الذين حصلوا على جنسية إسرائيلية، فقد غذى انتصار رابين حالة التفاؤل. والمفاوضات هي الآن الموضوع الأساسي للحوارات: كل تصريح سوري، وكل تصريح إسرائيلي، متعلقان بالجولان، يفحصان بإمعان، ويحللان ويناقشان من الزوايا كافة. ويعتقد الناس في معظمهم، على ما يبدو، أن مسألة عودتهم إلى سوريا باتت مسألة وقت فقط. وقد بلغ المزاج العام قدراً جعل المتعاونين يجنحون إلى عدم الظهور (حتى أن أحدهم وزع رسالة اعتذار على مواطنيه من أهل الجولان)، وعادت الأغاني الوطنية إلى البروز في احتفالات الأعراس. وهناك طبعاً أصوات أكثر حذراً، وما زال هناك لدى مجموعات صغيرة مخاوف بشأن المستقبل.
في هذه الأثناء، يستمر العمل في محاولة خلق مؤسسات محلية. وهناك شعور بأنه إذا عاد الجولان إلى سوريا فستكون هذه المؤسسات مفيدة. وإذا استمر الوضع الحالي، فهي ضرورية من أجل البقاء: ليس هناك حماية للناس من دون مؤسسات.
المصادر:
[1] يبلغ معدل الأمطار السنوي في مرتفعات الجولان 800 م م. وبحسب الأرقام السورية، فإن كمية مياه الآبار تبلغ نحو 1205 ملايين متر مكعب سنوياً. ويتركز معظم هذه المياه في منطقة جبل حرمون.، حيث تقع ينابيع نهر الأردن. ويتجمع في بركة رام بالقرب من قرية مسعدة نحو 2 – 3 ملايين متر مكعب سنوياً. وفي جنوب الجولان، تعتبر بحيرة طبريا ونهر اليرموك مصدرين مهمين للمياه الإقليمية.
[2] Uri Davis, Golan Heights Under Israeli Occupation, 1967-1981 (Durham, UK: University of Durham, Center for Middle Eastern and Islamic Studies, 1983).
[3] Report of the UN Secretary General Under GA Res. 2252 (ES-V) and SC Res. 237-A/6797 and S/8158, p. 5.
[4] Ibid., pp. 8-9.
[5] يجب الإشارة إلى أن الـ 133 قرية التي أُخليت قد خرجت، على الغالب، من المعركة بأضرار طفيفة. وفقط بعد عدة أشهر جاءت الجرافات وسوّتها بالأرض، تاركة مسجداً هنا، وبيتاً أو بيتين هناك. وفي السنوات الأخيرة، مُحيت آخر آثار متبقية فيها ليتمكن المستوطنون الإسرائيليون من زراعة الأرض مجدداً.
[6] استناداً إلى الإحصاءات الإسرائيلية التي ذكرها ديفيس في كتابه أعلاه، فإن 5875 من السكان المتبقين، البالغ عددهم 6396 في سنة 1967، كانوا دروزاً.
[7] من أجل تفصيلات في شأن هذه السياسة، أنظر: أسامة ر. حلبي، "الدروز في إسرائيل: من طائفة إلى أمة؟" (القدس، 1989).
[8] وُزعت في بداية الاحتلال بطاقات هوية عسكرية إسرائيلية. والمقصود هنا هويات تشير إلى الجنسية الإسرائيلية.
[9] Laws of the State of Israel, 1980, p. 222.
[10] Ramat Hagolan Law, 1981, Laws of the State of Israel, 1981, p. 6.
[11] Al-Fajr, 12-18 March, 1982.
[12] "عال همشمار"، 22/5/1991. أنظر أيضاً:
Golan Academic Association, “Appeal to Public Opinion,” November 1991.
[13] بحسب تقرير قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية (عوزي غادور، "خطة لتطوير الجولان"، قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية، منطقة الجليل، 1975)، فإنه خلال 1973 – 1974، زُوِّد 1900 مستوطن إسرائيلي في مرتفعات الجولان بـ 7.59 ملايين متر مكعب بينما زُوِّد 8900 سوري محلي بـ 2.1 مليون متر مكعب. وهكذا فإن استهلاك اليهود للمياه بلغ 17 ضعف استهلاك السوريين المحليين.
[14] قبل الاحتلال، كان سكان الجولان يعالجون في مستشفى في القنيطرة. وكان مستشفى مؤلف من عشرين غرفة في مجدل شمس قد اكتمل بناؤه وقعت حرب حزيران/ يونيو، لكنه لم يكن مجهزاً بعد. وقد استولى الإسرائيليون على المبنى واستخدموه مقراً للحكم العسكري. ويستخدم المبنى الآن مدرسة.
[15] Yael Yishai, “Israeli Annexation of East Jerusalem and the Golan Heights: Factors and Processes,” Middle East Studies, 21, No. 1 (January 1985), p. 52.
[16] عوزي غادور، "خطة لتنمية الجولان" (قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية، 1969).
[17] William W. Harris, Taking Root: Israeli Settlement in the West Bank, the Golan and Gaza-Sinai, 1976-1980 (New York: John Wiley and Sons, Research Studies Press, 1980).
[18] Yigal Zamir, “Outline Plan for Ramat Hagolan,” District Planning and Building Commission, 1980.
[19] Report on Israeli Settlement in the Occupied Territories, July 1991 (Washington. D. C.: Foundation for Middle East Peace), P. 4.
* نُشرت هذه الدراسة في: Journal of Palestine Studies, XXII, No. 1 (Autumn 1992), pp. 78-93.