مصالحة. "طرد الفلسطينيين: مفهوم "الترانسفير" في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882 ـ 1948" (بالعربية)
النص الكامل: 

لم يشعرني كتاب بهوة البحث في معرفة الآخر في الصراع العربي – الصهيوني ككتاب مصالحه الأخير. ولا يكفي في تحديد المعرفة هنا استنادها إلى إحساس الضحية الصادق في التقاط الهدف النهائي للخصم نتيجة واقع المأساة والمعاناة، بل القدرة على رصد هذا الهدف وتوثيقه، والقدرة على كشفه وعرضه على نحو مقنع للرأي العام. وكلا العمليتين، القدرة على التوثيق والقدرة على العرض، هما في النهاية حصيلة توازن قوى ومستوى حضاري كان العرب فيهما، حتى الآن، هم الطرف الخاسر.

بهذا المفهوم يمكن القول إن كتاب مصالحه جاء متأخراً خمسين أو ستين عاماً، لكنه جاء ليسد ثغرة من التقصير واللامبالاة في الجهد العربي لفهم الخصم الرئيسي، متمثلاً في الحركة الصهيونية العالمية.

يتناول الكتاب التصور الصهيوني لفكرة "الترحيل" – أي طرد السكان العرب من فلسطين منذ نهاية القرن الماضي وصولاً إلى قيام الدولة العبرية سنة 1948 – والموضوع ليس عودة إلى ماض مقطوع الصلة، بقدر ما يوفره من إطلالة مثالية لفهم العقلية السائدة في إسرائيل ومسلك الزعامة الحالية فيها. إن الإرهاب وعملية الطرد القسري للعرب سنة 1948، ورفض إسرائيل عودة اللاجئين الفلسطينيين، وترحيل اليهود العرب إلى إسرائيل، وموجة التهجير الثانية سنة 1967، ودعوات "الترانسفير" العلنية أو المبطنة بانتهاج سياسة الخنق الاقتصادي الحالية، ما هي  سوى فصول من تخطيط قديم وضعته الحركة الصهيونية، وسعت لتطبيقه طوال الوقت.

ويتضح من الأدلة والوثائق التي استعان بها، ومعظمها باللغة العبرية، أن أفكار الترحيل لازمت المشروع الصهيوني منذ انبعاثه، وكانت في الصلب من العقيدة الصهيونية ذاتها. صحيح أن هذه الأفكار لم تتخذ، عبر هذا المسار، شكل برنامج معلن بل كان خططاً ومشاريع تطفو وتختفي وفق ما يسمح المناخ السياسي به، إلاّ إنه جرى تبنيها عملاً وبثبات من قبل التيار السائد في الحركة الصهيونية والمؤسسة الحاكمة في إسرائيل.

لقد سهل غياب أو ضعف الفعل العربي، وانتصارات إسرائيل السهلة، على سبيل المثال سنة 1948 وسنة 1967، زيادة الثقة بالنفس لدى إسرائيل، وبالتالي الدفع بتلك المشاريع الجاهزة إلى حيز التطبيق والفعل. وتكاد الدهشة تتملكك من أسماء بعض "الحمائم" التي تكشفها مصادر مصالحه، ممن دافعوا أو تولوا الإشراف على تنفيذ بعض خطط الترحيل في مراحل مختلفة، بينها أسماء مثل موشيه شاريت وبعض رجال مابام ويتسحاق نافون وآبا إيبن. إن هذا يفسر نتائج استطلاعات حديثة للرأي العام في إسرائيل، تبين أن نحو نصف السكان هم مع طرد العرب، على الرغم من أن أحزاب "التطرف اليميني" – الداعية علناً إلى اتباع هذه السياسة – تتمتع بنحو 15% من أصوات الإسرائيليين.

وتظهر الوثائق والاقتباسات الواردة في الكتاب أن ترحيل العرب كان الهدف الذي التقت عنده الحركة الصهيونية، بفصائلها كافة، وإنْ اختلفت بشأن التكتيكات وترتيب الأولويات. ويشير مصالحه، استناداً إلى أدبيات الحركة الصهيونية، إلى نوعين من الطرد كانت تجري مناقشتهما في الدوائر الصهيونية: الطرد "القسري" وتبنته أحزاب اليمين عامة، والطرد "الطوعي" وحبذته الأحزاب العمالية عامة. على أن أي طرد هو في الجوهر عمل قسري؛ ومثل هذا التصنيف يبدو غير دقيق. إن الهجرة "الطوعية"، في المفهوم الصهيوني، تعني نهب الأرض والموارد، وسدّ سبل العيش أمام العرب بحيث يدفعون إلى الهجرة بالتدريج من دون حاجة إلى القيام بعمل عنف مباشر ضدهم. وعبّر يتسحاق رابين في سنة 1974، حين كان رئيساً للحكومة، عن ذلك بدقة حين دعا "إلى أن تعمل إسرائيل، في السنوات العشر أو العشرين المقبلة، على خلق أوضاع من شأنها أن تدفع اللاجئين إلى الهجرة الطوعية الطبيعية من قطاع غزة والضفة الغربية إلى الأردن."

علينا أن نتذكر أيضاً أن عمليات الطرد القسري، التي وقعت سنة 1948 وسنة 1967، تمت بترتيب من بن – غوريون وخلفائه من الزعماء العماليين. وكان تعليق بن – غوريون التقليدي فيالرد على منتقديه من اليمينيين – وأولهم مناحم بيغن – "أنتم تثرثرون ونحن نفعل."

إن الاختلاف كان، في الواقع، بين أصحاب إعلان خطط الترحيل من الصهيونيين المثاليين، وبين البراغماتيين الأكثر حذراً من الزعامة العمالية، ممن آثروا إخفاء تلك الخطط من دون أن يتوانوا لحظة في تطبيقها.

إن أفكار "الترحيل" تجسد، تجسيداً صارخاً، الطابع العنصري ومفهوم التفوّق الأوروبي في العقيدة الصهيونية، التي تناغمت مع السائد في أوروبا في مطلع القرن، في النظرة إلى شعوب المستعمرات. فقد روّج حينها مؤسسون في الحركة الصهيونية، من أمثال يسرائيل زانغويل، الكاتب الأنغلو – يهودي البارز والمتحمس لفكرة الترحيل، للشعار القائل إن فلسطين "أرض بلا شعب بلا أرض." ووردت إشارات إلى فكرة "البلد الخالي" على لسان حاييم وايزمن الذي تولى لاحقاً رئاسة المؤتمر الصهيوني العالمي. ويروي آرثر روبين، رئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، أنه عندما سأل وايزمن، بعد الحصول على وعد بلفور، عما لديه من أفكار بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين أجابه هذا الأخير: "أخبرنا البريطانيون أن ثمة بضع مئات الألوف من الزنوج (كوشيم)، وليس لهؤلاء أية قيمة."

إن تلك الفرية التاريخية لم يكن ليصدقها أحد، حتى أولئك الذين أطلقوها. وعندما زار المؤسسون الصهيونيون فلسطين صدموا بالواقع السكاني فيها، وكتب زانغويل نفسه عقب زيارة قام بها إلى هناك: "إن الكثافة السكانية في ولاية القدس تبلغ ضعفي نظيرتها في الولايات المتحدة ، إذ تبلغ نسبة الأنفس فيها إثنين وخمسين في الميل المربع، ولا يكاد اليهود يشكلون ربع هذا العدد." واقترح لذلك طرد من سمّاهم "القبائل العربية البدوية" إلى تلك الرض الفسيحة في بلاد العرب.

إن فكرة طرد الفلسطينيين كحلّ في بلد آهل وذي أرض مستغلة ومزروعة، لم تكن مجرد فكرة راودت أذهان النخبة من المؤسسين الصهيونيين، بل طرحت كخطط ومشاريع كان يتم البحث فيها في إطار مجالس الحركة الصهيونية، وتبنتها شخصيات مؤثرة ذات انتماءات سياسية مختلفة داخل الحركة. ويعرض مصالحه بعض هذه الخطط خلال الثلاثينات والأربعينات حتى قيام الدولة، والتي شكلت خميره التفكير وراء الترحيل الفعلي الذي وقع لاحقاً. ويلاحظ على هذه الخطط:

أولاً:       إنها سعت، في الغالب، لدفع الفلسطينيين إلى مناطق نائية عن فلسطين. وكان بين المناطق المقترحة، مثلاً، سيناء ومنطقة الفرات الأوسط في العراق ومنطقة الجزيرة السورية، كما اقتُرحت ليبيا والأرجنتين في مرحلة لاحقة لقيام الدولة.

ثانياً:     إن الحركة الصهيونية سعت على الدوام لإقناع الدولة الغربية – وخصوصاً بريطانيا – باستعمال نفوذها لدى العرب لحملهم على القبول بهذه الخطط. وهناك  ما يؤكد، في مصادر مصالحه، أن مشروع التقسيم الذي أوصت لجنة بيل الملكية به في سنة 1937، إنما جاء بوحي هذا التأثير. وقد تضمن المشروع ترحيل الأكثرية العربية عن المناطق التي خُصِّصت لليهود. كما أن حزب العمال البريطاني تبنى، بتأثير من النشطاء الصهيونيين قراراً غريباً في مؤتمر الجزب في كانون الأول/ ديسمبر 1944، دعا فيه إلى ترحيل العرب!

إن مصالحه باحث موعود مكّنته معرفته بالعبرية وشغله بقضايا الصراع العربي – الصهيوني من تقديم عمل ذي شأن يتناول موضوعاً لا يزال يحتل موقع اللب من فكر المؤسسة الحاكمة في إسرائيل، ويساعد في فهم الأسباب الأعمق لسياستها الحالية.

إن براغماتية "العمل" لم ترقَ إلى طرح الشك في بعض المنطلقات الأساسية للفكرة الصهيونية، وبينها الموقف العدائي من الفلسطينيين، ونفيهم، واقتلاعهم. وظلت حركة زعامته السياسية في إطار الإخلاص لتلك المنطلقات الإيديولوجية من دون التصريح بذلك.

لقد أعاد الإسرائيليون مؤخراً وجوه "العمل" القديمة إلى السلطة. ويبقى السؤال فيما إذا عاد هؤلاء بأفكار جديدة؟ لقد ربط رابين، سنة 1974، بين دعوته إلى تبني سياسة "الترحيل الطوعي" وبين الحاجة إلى الاتفاق مع الأردن لا مع منظمة التحرير الفلسطينية. والواضح أن مستقبل السلام في المنطقة سيظل متوقفاً على الإقرار بحق الفلسطينيين في أرضهم، والتخلص من فرية أُخرى فحواها أن في إمكان الفلسطينيين التعبير عن حقوقهم السياسية خارج فلسطين

السيرة الشخصية: 

عباس شبلاق: مسؤول الإعلام في مكتب جامعة الدول العربية في لندن.