يقوم عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات التسوية، ما تم تحقيقه في المفاوضات مع حكومة الليكود، وما يتطلع الوفد لتحقيقه مع حكومة حزب العمل. ويجيب عن أسئلة بشأن جملة من القضايا: العلاقات بالأردن؛ مستقبل المعارضة الفلسطينية؛ مصير م.ت.ف.؛ طبيعة العلاقة بينها وبين سلطة الحكم الذاتي المنشودة.
يقوم د. حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات السلام، في هذه المقابلة، ما تم تحقيقه في المفاوضات مع حكومة الليكود، وما يتطلع الوفد الفلسطيني إلى تحقيقه في المفاوضات مع حكومة حزب العمل. كما يجيب عن الأسئلة المطروحة في ذهن المواطن الفلسطيني والعربي بشأن جملة من القضايا، على رأسها العلاقات بالأردن، ومستقبل المعارضة الفلسطينية، ومصير منظمة التحرير الفلسطينية وطبيعة العلاقات بينها وبين سلطة الحكم الذاتي المنشودة.
س – منذ مؤتمر مدريد حتى الانتخابات الإسرائيلية، وقبل فوز حزب العمل بالسلطة في إسرائيل، عُقدت 5 جولات من المفاوضات الثنائية مع المفاوضين الإسرائيليين الذين كانوا يمثلون حكومة الليكود، ولم تسفر عن نتائج ملموسة فيما يتعلق بحل القضية الفلسطينية. لكن 5 جولات من الدبلوماسية الفلسطينية ماذا حققت من وجهة النظر الوطنية الفلسطينية؟
ج. عبد الشافي: في تقديري، إن الشيء الأساسي الذي تحقق هو كسب إعلامي للقضية الفلسطينية، إذ أصبحت هذه القضية محطّ اهتمام العالم، وخصوصاً أوروبا وأميركا، لأنها قضية تقف كأساس لإمكان الاستقرار في الشرق الأوسط. ومن خلال هذا المنطلق، وضُح للعالم أكثر فأكثر أن إسرائيل هي التي تقف عقبة في وجه السلام. كل هذا كان من ناحية إعلامية وسياسية في مصلحتنا. يضاف غلى ذلك أن هذه الفترة أكسبتنا دراية وخبرة بقضية المفاوضات، إذ اطلعنا على الأسلوب الإسرائيلي في التعامل. وفي كل ذلك فوائد يمكن أن نستفيد منها في المستقبل.
طبعاً لم يتحقق أي تقدم في المفاوضات نفسها وهذا واضح.
س – ماذا عن العلاقات العربية – الفلسطينية من خلال تجربة المفاوضات؟
ج. عبد الشافي: هنا أيضاً، فإن المفاوضات، ومن خلال وجود أطراف عربية أُخرى لها مشكلات مع إسرائيل، وبخاصة سوريا ولبنان والأردن، فتحت مساراً من الاجتماعات المتواصلة بين الوفود لتحقيق أكبر قدر من التنسيق وتوحيد الموقف العربي إزاء إسرائيل. هذه كانت فائدة أبرزت على السطح أهمية التعاون العربي في مواجهة إسرائيل.
س – ما الجديد في التنسيق العربي قياساً بما قبل مدريد؟
ج. عبد الشافي: قبل مدريد حين كان يجري الحديث عن التنسيق العربي، أو عن وحدة الموقف العربي، كان هذا مجرد كلام نظري ليس له أي مردود عملى. الآن، ونحن في مواجهة قضية عملية وملموسة، هي قضية المفاوضات، أصبح الحديث ليس نظرياً فقط بل أصبح عملياً أيضاً، وذلك من واقع أننا في عملية مفاوضات مع إسرائيل قد ينتج منها شيء. أصبح هناك على الأقل التزام عربي تجاه شمولية الحل وعدم جواز حل قضية على حساب قضية أُخرى، ولا يجوز تجزئة قضية السلام في الشرق الأوسط كما تريد إسرائيل، أي أن تتعامل مع العرب كل على حدة.
س – هل هناك شيء غير هذا التنسيق في تعامل الدول العربية مع منظمة التحرير الفلسطينية؟
ج. عبد الشافي: نعم بحسب ما أعتقد. إذ كان له اثر إيجابي بالنسبة إلى المنظمة. وحين نتحدث عن الجانب الفلسطيني في المحادثات، نعني منظمة التحرير طبعاً. ومن خلال هذا التعامل، والمصالح المتوازية الفلسطينية – العربية التي برزت في أثناء اجتماعات التنسيق مع إخواننا العرب، فلا شك في أنه كان للتنسيق أثر في إخراج المنظمة من حصارها، وإحضارنا إلى الساحة.
س – هل تعتبر علاقة شخصيات من الداخل بالدول العربية إنجازاً؟
ج – عبد الشافي: نعم، لأن الموقف قبل عملية المفاوضات كان يعبّر عن الكثير من التسيّب، وعدم التحديد أو الضبط. هناك تحدّدت، في وقت قصير، المعالم تماماً وحُددت المهمات والأهداف، وبرز الجانب الفلسطيني جانباً مستقلاً له دور. وبالتالي، حققت منظمة التحرير مكاسب في هذا الاتجاه.
س – لكنْ، هل اضاف وجود هذه الشخصيات حول طاولة التنسيق العربي بعداً جديداً، أو فهماً جديداً من جانب الدول العربية لقضايا الأراضي المحتلة، ولا سيما أنك أنت شخصياً شاركت إلى جانب آخرين في اجتماع وزراء الخارجية العرب في دمشق في تموز/ يوليو، بعد جولة وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في المنطقة وقبل عقد الجولة السادسة من المفاوضات؟
ج. عبد الشافي: نعم، ومن دون شك. أنا لا أشكك في اهتمام الدول العربية بما يجري داخل المناطق المحتلة. لكنْ أُتيحت لنا فرصة لإطلاع الدول العربية، وبتفصيل أكبر، على ما يجري داخل هذه المناطق، وتفهّم الأهداف والنيات الإسرائيلية فيما يتعلق بها.
س – إن الحوار بين منظمة التحرير والولايات المتحدة كان أحد الأهداف الوطنية الفلسطينية، ومع ذلك لم يتحقق هذا الهدف حتى بعد ما يقارب العام على بدء المسيرة السلمية. هل يُعتبر ذلك فشلاً؟
ج. عبد الشافي: أتصور أن الولايات المتحدة، وهي المعنية جداً بقضية المفاوضات والسلام، لا تريد أن تتخذ خطوات تعوق عملية المفاوضات. وطبعاً هي تعتقد أنها إذا أقدمت على تجديد الحوار مع المنظمة فسيؤدي ذلك إلى اعتراض من جانب إسرائيل، وقد يجعلها تتصلب في مواقفها التفاوضية. أعتقد أن هذا هو الموقف الأميركي؛ فهم ليسوا ضد الحوار، وهم لم يقطعوه، بل علّقوه. ومعنى ذلك أنه يمكن أن يعيدوه في الوقت الملائم. فلو افترضنا أن هذه المفاوضات لم تصل إلى نتيجة، ونشأت ضرورة لإحالة الموضوع على مجلس الأمن، فإني لا أستبعد في مثل هذه الحالة، وفي محاولة لِجَسْر الهوة بين الموقف العربي والموقف الإسرائيلي، أن تجد الولايات المتحدة أن من الموافق أن تستأنف الحوار مع منظمة التحرير. وعندها سيكون ذلك ضمن معطيات جديدة. لكن الآن، وحرصاً على عملية التفاوض، لا أعتقد أن الولايات المتحدة مستعدة لإعادة هذا الحوار.
س – هل المعطيات التي تحدثت عنها قابلة للتحقيق في المدى القريب؟
ج. عبد الشافي: إذا لم تتقدم الحكومة الإسرائيلية الحالية (حكومة يتسحاق رابين) بأي طرح نستطيع أن نقبله ونتعامل معه، وإذا بقي الموقف الأميركي على حاله لا يمارس أي ضغط لدفع الموقف الإسرائيلي إلى الأمام، عندها نكون فعلاً وصلنا إلى طريق مسدود. وفي هذه الحال، ربما يكون أحد الخيارات إحالة الموضوع برمته على مجلس الأمن؛ هذا وارد.
أهداف المرحلة
س – لنعد إلى مرحلة ما قبل مؤتمر مدريد بقليل: ما هي العوامل التي جعلت منظمة التحرير توافق على إرسال وفدها من الأراضي المحتلة للتفاوض مع إسرائيل، وتقبل بتغييب نفسها إلى حد ما؟
ج. عبد الشافي: أولاً، كانت إسرائيل معترضة على مشاركة المنظمة. هذا هو السبب الحقيقي، ونحن رضخنا للمطالب الإسرائيلية. أما سبب رضوخنا فهو أنه لم يكن أمامنا بديل، ولم يكن أمام المنظمة بديل. وكون قبول المشاركة شاملاً، أي عربياً وأوروبياً وأميركياً، لم يترك لنا خياراً إلا أن نشارك من جانب إسرائيل، لأنه لم يكن لدينا بديل.
من ناحية أُخرى، فإن مجرد المشاركة في مؤتمر له وزن عالمي، وكوننا فلسطينيين سنتحدث عن قضيتنا من منبر عالمي، يفيداننا في طرح القضية الفلسطينية – ربما أول مرة – أمام أنظار العالم. هذا كان المكسب الوحيد، وما عدا ذلك فالشروط التي دخلنا بها كانت سلبية طبعاً. إذ إن الإصرار على حصر التمثيل بالفلسطينيين من الجاخل، مع استثناء القدس، وعدم قبول تمثيل من الفلسطينيين من الخارج – كل هذا سلبي.
س – هل كان ممكناً لأوضاع مؤتمر مدريد، وقبول المنظمة الاشتراك فيه، وجولات المفاوضة التي تمت حتى الآن، أن تجري في وقت سابق – أي هل يمكن تصور أن ما جرى منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1991 حتى الآن، كان يمكن أن يجري في السبعينات أو في الثمانينات، على سبيل المثال؟
ج. عبد الشافي: لا، لا أتصور أنه كان يمكن أن يجري في السبعينات أو في الثمانيناتن بل أعتقد أنه كان من الممكن أن يجري فقط منذ اتخذ المجلس الوطني الفلسطيني قراره بطرح مبادرته السلمية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988. أعتقد أنه بعد طرح هذه المبادرة السلمية، أصبح الباب مفتوحاً لمثل هذا التطور.
إن خصوصية مرحلة ما بعد سنة 1988 هي أن مبادرة السلام الفلسطينية هذه طوّرت الموقف الفلسطيني أو حرّكته 180 درجة: من الموقف المطالب بتحرير التراب الفلسطيني بكامله إلى القبول بمبدأ الدولتين.
س – هل هذا التطور إيجابي أم سياسي، في رأيك؟
ج. عبد الشافي: من حيث الحق المطلق للفلسطينيين في أرضهم الفلسطينية، يشكل هذا الموقف الجديد تنازلاً كبيراً. لكنْ من حيث أخذ واقع الأمر وحقيقة وجود كيان يهودي أو إسرائيلي أو مجتمع إسرائيلي في المنطقة، فإن القرار كان منطقياً وعملياً، بغض النظر عن أنه حمل تنازلاً عن حقنا المطلق في فلسطين. هناك فارق بين الحق المطلق الذي لا يمكن تحقيقه في المدى المنظور، وبين أخذ الواقع الصارم بعين الاعتبار ومحاولة التوصل إلى سلام بشيء من المعقولية والإنصاف.
س – لكن بين سنة 1988 وسنة 1991، طرحت مبادرات أُخرى، بعضها إسرائيلي. فهل كون المبادرة الحالية جاءت أميركية جعلها مقبولة بالنسبة إلى الفلسطينيين، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار ميزان القوى الذي أفرزته حرب الخليج؟
ج. عبد الشافي: في الواقع هناك فارق. فأنا أتحدث عن الفترة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 1988. فالمبادرة الفلسطينية كانت فعلاً تشكل، في نظري، أساساً معقولاً ومنطقياً لمفاوضات من أجل السلام. طبعاً، رُفضت المبادرة من قبل إسرائيل، وأعرضت الولايات المتحدة عنها. ونعرف أن يتسحاق شمير (رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق) قدم مبادرة بعد سنة أشهر من مبادرتنا، واعتبرناها نحن مبادرة غير حقيقية، بل هي محاولة لإطالة الوقت والتسويف على أمل القضاء على الانتفاضة. وحين وُضعت هذه المبادرة الإسرائيلية أمام الامتحان من قبل أميركا، اتضح أنها نوع من التظاهر، حتى أن جيمس بيكر (وزير الخارجية الأميركي) قال: نحن نحاول أن نقنع شمير بقبول مبادرته. لذا، لم تكن هناك مبادرات حقيقية منذ أن قدّمنا نحن مبادرتنا سنة 1988. إن المبادرة الأميركية هي المبادرة الوحيدة التي جاءت بعد ذلك، وقبلناها لأن لها مرجعية وصدقية معينة؛ أي القرار رقم 242. هذه هي أهمية المبادرة الأميركية؛ أي أن مرجعيتها هي القرار رقم 242 الذي ينصّ على عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، كما ينصّ على الانسحاب في مقابل السلام.
س – ألم يكن هذا العامل موجوداً في مبادرات أميركية سابقة، مثل مبادرة ريغان ومبادرة شولتس؟
ج. عبد الشافي: لم يكن هناك مبادرات محدَّدة ومفصَّلة في السابق، كما في المبادرة الحالية؛ كانت مجرد عناوين لمبادرات. وفي كل الأحوال، كانت هذه المبادرات سابقة للمبادرة الفلسطينية، أي كانت تُعرض على قيادة فلسطينية لم تقرر بعد أن تتعامل مع القضية على أساس الواقع.
س – في كامب ديفيد أدخل الإسرائيليون مصطلح "الحكم الذاتي"، وحالياً، في المسيرة الحالية وفي الأسس التي صيغت لها، أُدخل تعبير "حكومة ذاتية"، أو self government. هل يختلف المفهومان إسرائيلياً وفلسطينياً، ولا سيما أن أحدهما مشتق من الآخر، من الناحية اللغوية؟
ج. عبد الشافي: أعتقد أن لا فارق بين التعبيرين. لكننا أدخلنا أيضاً كلمة إضافية، هي "حكم ذاتي انتقالي"، ونشدّد على وصف "انتقالي". بطبيعة الحال، ورد في مبادرة السلام، أو الدعوة إلى المشاركة في المؤتمر، أن المفاوضات تجري على مرحلتين: مرحلة أولى تختص بإقامة الحكم الذاتي الانتقالي، ومرحلة ثانية تختص بالتفاوض في شأن تقرير الوضع النهائي للمناطق المحتلة. وبالتالي، فإن الحكم الذاتي هو لمرحلة انتقالية فقط، ولن تتجمد العملية هنا بل سنواصل السير إلى المرحلة الثانية.
إن الفوارق بين المفهوم الفلسطيني والإسرائيلي تتعلق، أيضاً، بالصلاحيات ومداها، وبموضوع السيادة على الأرض، وصلاحية التشريع. فالإسرائيليون يصرون على أن تكون الصلاحيات محصورة في المهمات الإدارية للسكان الفلسطينيين وللمجتمع الفلسطيني، ولا يريدون أية سيادة على الأرض وعلى المصادر الطبيعية. يريدون أن تبقى القوانين والتعليمات نفسها السائدة حالياً سارية المفعول، ولا يوافقون إطلاقاً على صلاحية التشريع. لذلك، فهم يعارضون أن تؤلَّف الحكومة الانتقالية عن طريق انتخابات مباشرة من الشعب. هذا، بينما هدفنا نحن أن تكون مرجعية هذه الحكومة الجماهير الفلسطينية، لا سلطة الاحتلال. ونصرّ على سلطة التشريع كي لا تبقى هذه السلطة في يد الحكام العسكريين.
س – كيف تتصور الحكم الذاتي الفلسطيني في المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: أعتقد أن الجهد خلال الحكم الذاتي سيكون منصباً على تطوير الأجهزة الإدارية، تطلعاً إلى الوصول إلى مرحلة الاستقلال الوطني، وإجراء دراسات شمولية لكل المشكلات التي ستواجهنا لحظة الوصول إلى الاستقلال الوطني؛ وهي مشكلات كثيرة جداً، ومعقدة جداً. وأيضاً، هناك جانب يتعلق بتطوير قدراتنا ومعرفتنا بالوضع القانوني السائد، وخصوصاً أن إسرائيل أدخلت مئات من القوانين الجديدة، التي تنطوي على تمييز ضد السكان العرب. وهناك مسألة كيفية التعامل مع المستوطنين الإسرائيليين خلال المرحلة الانتقالية، وهل سيخضعون لقانون إسرائيل أن لقانون الحكم الذاتي. هذه المسائل كلها ستكون في صلب اهتمام الحكومة الذاتية الانتقالية.
س – كيف تتخيل علاقة الفلسطينيين بإسرائيل خلال المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: أنا شخصياً أريد أن تكون علاقة مبنية على التفاهم، وعلى التسليم بحقنا وفق ما نراه في صلاحيات الحكومة الانتقالية. ومن جانبنا، نريد أن نعمل كل ما هو ممكن، وبالتعاون مع إسرائيل، لتحقيق عنصر الأمن لإسرائيل وتطلعاتها المشروعة إلى الأمن، وأيضاً الأمن للفلسطينيين. نحن نريد علاقات مبنية على أساس ما هو وارد في المرجعية السياسية، أي القرار رقم 242. لن يكون، خلال فترة الحكم الذاتي، أي فصل بين إسرائيل والأراضي المحكومة ذاتياً، وإنما ستجري الأمور تقريباً بصورة طبيعية من ناحية الاتصال بينهما. لكنْ، ربما، مع قدر أكبر من المعقولية والإنصاف، وعدم التمييز، والتوازن الحقيقي، لن يكون هناك قطيعة. وهذا في نظري مهم، إذ إنه تمهيد لوجود علاقات طبيعية في المستقبل بعد أن نصل إلى مرحلة الاستقلال. وأنا أرى أنه في إطار سلام حقيقي، نابع من رغبة حقيقية في السلام من كل الأطراف، لن تكون هناك مشكلات، بل سيكون هناك مجال كبير لإيجاد أوضاع تخدم مصالح الطرفين.
س – ماذا عن العلاقة بين الأراضي المحكومة ذاتياً والأردن في المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: هنا أيضاً نريد علاقات جيدة. وهذا لا يعني أنني أتصور أنه ستكون هناك صعوبات أمام إقامة علاقات تعاون وتضامن وتكاتف على أرض الواقع. مثلاً، في مجال التعامل التجاري، هل سيكون هناك مزيد من التبادل التجاري بين الأردن والأراضي المحتلة؟ كل هذا سيخضع لعملية المفاوضات، التي ستخضع بدورها للتطلعات الأردنية والتطلعات الإسرائيلية والتطلعات الفلسطينية. كل هذه قضايا لا بد من أن تطرح على طاولة المفاوضات.
وأتوقع أن تستمر الروابط كما هي بين الأردن وهذه الأراضي في الفترة الانتقالية. هناك حديث عن صلاحية غصدار بطاقات هوية من قبل الحكومة الانتقالية. لكني على يقين من أن الأوضاع مع الأردن ستبقى كما هي. وبعد الوصول إلى مرحلة الاستقلال الوطني سيكون هناك وضع آخر تماماً، إلا إذا حدث تطور سريع إلى كونفدرالية مع الأردن. لكن، في كل حال، دعنا لا نستبق الأمور. أنا أتصور أن الأمور ستكون في المرحلة الانتقالية كما هي الآن تقريباً، وربما مع تعديلات هنا وهناك.
س – هل التعديلات إلى جهة مزيد من الاستقلالية عن الأردن، أم إلى جهة مزيد من التجانس معه؟
ج. عبد الشافي: إلى جهة مزيد من التعامل بما يحقق مصلحة الطرفين الأردني والفلسطيني.
س – أليس من الممكن أن يحدث تناقض بين المصلحتين؟ فهناك تناقض بين مصالح أي دولتين.
ج. عبد الشافي: لا أستطيع أن أسميه تناقضاً. ربما كان هناك تضارب مصالح هنا وهناك، أو اختلاف، الأمر الذي يستدعي اتفاقات واضحة.
س – هل أن اتفاقية مع الأردن ضرورية للفترة الانتقالية، إلى جانب الاتفاقية مع إسرائيل؟
ج. عبد الشافي: نعم، أعتقد أن هذا أمر ضروري. فمثلاً، يضع الأردن حالياً قيوداً على التصدير من الأراضي المحتلة إلى أراضيه، وذلك بسبب وجود هذه الأراضي تحت سيطرة إسرائيل. هذا الوضع سيُعدَّل طبعاً بعض الشيء في أثناء فترة الحكومة الانتقالية، الأمر الذي سيخفف تشدّد الأردن بالنسبة إلى قضية التصدير من الأراضي المحتلة. وفي الوقت ذاته، يجري النظر في مصالح الأردن في هذا الإطار من قبلنا. طبعاً سيكون لإسرائيل موقف، إذ إنها متصلة بالأراضي المحتلة. لكن كل هذه الأمور سيخضع للعملية التفاوضية.
س – متى يأتي دور المفاوضات مع الأردن: هل ستكون متزامنة مع المفاوضات مع إسرائيل، أم ستأتي بعدها؟
ج. عبد الشافي: إذا سلّمت إسرائيل بالمسائل الأساسية، وفُتح الباب لحديث مفصّل عن التجارة والرسوم الجمركية... إلخ، أعتقد أنه يجب أن يتم الحديث مع الأردن في الوقت ذاته الذي يجري فيه مع إسرائيل.
المعارضة الفلسطينية:
الحاضر، المستقبل
س – لننتقل إلى موضوع المعارضة الفلسطينية. فمنذ أن بدأت مسيرة السلام وعملية المفاوضات، كان هناك معارضون لها بين التنظيمات الفلسطينية المنتمية إلى منظمة التحرير، وغير المنتمية إليها. أين موقع هذه المعارضة اليوم؟ وما هو مستقبلها في ظل الحكومة الذاتية الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: ما زالت المعارضة كما كانت، وربما أشد، بسبب عدم التقدم في عملية المفاوضات. هذا بالنسبة إلى الفئات داخل منظمة التحرير (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتيار من الجبهة الديمقراطية). وهناك، طبعاً، معارضة أُخرى تعارض المنظمة بأسرها من الأساس، أي الحركة الإسلامية حماس. وهي تعارض عملية المفاوضات من خلال معارضتها لإيديولوجية منظمة التحرير. إن موقف المعارضة لا يؤثر في موقفنا من عملية التفاوض، فما زال موقف المنظمة التزام عملية السلام، انتظاراً لما سيكون الموقف الأميركي عليه بعد الانتخابات الأميركية – وأنا هنا أعبّر عن وجهة نظري، وإلى حدّ كبير عن وجهة نظر الوفد كوحدة. كذلك ما زال علينا أن نعرف موقف الحكومة الإسرائيلية الجديدة من خلال المفاوضات. وإلى أن يتم ذلك سيبقى موقفنا كما طرحناه في جولات المفاوضات الأخيرة. إذا كان هناك جديد في الموقف الإسرائيلي فسننظر فيه ونتعامل معه. أما إذا لم يكن هناك جديد، فذلك يعني أن المأزق سيستمر وعندها سننتظر لمعرفة الموقف الأميركي بعد الانتخابات، وما إذا كانت أميركا في صدد اتخاذ موقف يحمل إسرائيل على التنازل عن موقفها المتعنّت. وضمن هذا الواقع، أعتقد أن المعارضة في إطا منظمة التحرير – وهذا هو شعوري – تتفهم الوضع وتلتزم أسلوب معارضة ديمقراطياً وبنّاء، وتتفهم المنطق الذي نسير فيه. وأنا أعتقد أن هذا إيجابي ومهم، وربما من الأفضل أن تكون الصورة هكذا؛ أي أن يكون هناك معارضة بنّاءة.
أما موقف حماس فيختلف تماماً. وفي هذا الصدد لا بد من إجراء حوار مفتوح، بين المنظمة وحماس، لتحديد ماهية العلاقات المستقبلية. أنا أعتقد أن ما هو مطلوب، وكي لا يحدث تمزّق فلسطيني، أنْ يقبل الجميع التزام النهج الديمقراطي في الأحوال كافة.
س – ماذا سيكون موقع المعارضة داخل منظمة التحرير بعد إبرام اتفاقية مع إسرائيل؟
ج. عبد الشافي: إذا وصلنا إلى المرحلة الانتقالية، فهي لن تتم إلا على أساس تسليم إسرائيل بحق سيادتنا على الأرض، وبحق الحكومة الانتقالية في الهيمنة الفعلية على مصير الناس؛ بمعنى حق التشريع وأن الشعب الفلسطيني هو مرجعية هذه الحكومة. وكل هذه الأمور سيقوي مركز المنظمة، التي قبلت مبدأ المفاوضات. وأعتقد أن المعارضة الموجودة داخلها ستتقلص إلى حد كبير، وقد تنتهي أو تبقى معارضة شكلية لكيفية سير الأمور في إطار الحكومة الانتقالية.
إن جوهر المعارضة في إطار منظمة التحرير هو الخوف من التنازل عن حق الدولة المستقلة، والقبول بحكم ذاتي. وإذا اتضح أننا تجاوزنا مثل هذا الخطر، فستخف المعارضة. غير أنه يبقى هناك معارضة حماس.
س – لكن، أليس الطلب من حماس أن تكون معارضة داخل إطار الحكم الذاتي الانتقالي، يوازي مطالبتها بتغيير أيديولوجيتها، كونها ما زالت تنادي بتحرير كامل التراب الفلسطيني؟
ج. عبد الشافي: ما دامت حماس خارج منظمة التحرير فمن حقها أن ترفع صوتها وتعارض. والأمر متروك لحماس أن تقبل دخول المجلس الوطني، وتعارض من داخل المنظمة. وإذا حصلت على أغلبية فإنها تستطيع عندها أن تحدد سياستها. أما إذا لم يتحقق ذلك، فإن الأمر يعتمد على ما إذا كنا سنستطيع أن نجري انتخابات عامة بين الفئات الفلسطينية في كل مكان، لتقرير العضوية في المجلس الوطني. هذه أمور من شأنها أن تحول دون مشكلات كثيرة.
س – أحد قادة حماس في قطاع غزة قال، في حديث صحافي، أن حركته قد تشارك في انتخابات تجري في بداية المرحلة الانتقالية، شرط ألا تفرض عليها شروط مثل وجوب مساندة المفاوضات مع إسرائيل.
ج. عبد الشافي: أنا أعتقد أنه إذا قبلت إسرائيل مبدأ الانتخابات العامة لتأليف الحكومة الانتقالية، فسيكون الباب مفتوحاً أمام كل المواطنين والفئات للترشيح للمجلس العام، بمن في ذلك حماس. لم يقُلْ أحد أننا نضع قيوداً على أحد.
س- ربما توضع شروط ضمنية، لا شروط صريحة، كان يكون المجلس الذي سيدير الحكومة الانتقالية هو الذي سيقرر أيضاً مصير المرحلة النهائية.
ج- عبد الشافي: إن الانتخابات والتشريح حق لكل فلسطيني، ولا نستطيع أن نستثني حماس أو غير حماس، وإلا سيكون ذلك مخالفاً لمبدأ الديمقراطية. انا، شخصياً، لن أقبل أن يستثنى أحد.
المستوطنون والأمن الداخلي
س – المستوطنات اليهودية كانت وما زالت عقبة في طريق المفاوضات، ويُتوقَّع أن تكون عقبة العقبات حتى في التفاوض مع ممثلين عن حزب العمل. ما هي وجهة النظر الإسرائيلية فيما يتعلق بمكانة المستوطنات في المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: أتصور أن هناك، بالنسبة إلى المرحلة الانتقالية، عدة اعتباراتز من الجانب الإسرائيلي، لا بد من أن يهيَّأ المستوطنون لاحتمال قيام دولة مستقلة في المناطق المحتلة؛ وبالتالي على المستوطنين أن يبدأوا التفكير في خيار أن يكونوا مواطنين في الدولة الفلسطينية، أو أن يرجعوا إلى داخل الخط الأخضر. هذا، طبعاً، إذا كانت إسرائيل واقعية وتريد أن تتمشى مع هذا الواقع.
س – غير أننا نعرف موقف إسرائيل، وقد يبدو ما تقول من باب التمنّي.
ج. عبد الشافي: أنا أقول أنه إذا أصبحت إسرائيل تشعر بأن التوجه يسير نحو قيام حكومة مستقلة، ففي هذه الحالة، وسواء توصلت إسرائيل إلى هذا عن اقتناع أو نتيجة أوضاع تملي عليها ذلك، فإنها ستكون أمام أمر واقع. وعندها ستنحصر المشكلة في ما سيحدث للمستوطنين وللمستوطنات. أنا أرى أنه إذا كان لدى إسرائيل توجه مخلص نحو سلام مستتب في المنطقة، فلا بد من أن تسير الأمور بحكمة وتعقل، بحيث توضع الخيارات أمام المستوطنين. تقديري الشخصي أن المستوطنين لا يريدون أن يعيشوا في ظل حكومة فلسطينية. من هنا لا بد من أن يبدأ التحضير لمساعدة هؤلاء الناس في الانتقال، بسهولة ومن دون مشكلات، إلى داخل الخط الأخضر. ربما لن يتم هذا خلال المرحلة الانتقالية، لكن يمكن أن يتم التحضير له خلالها، بحيث يسهل الانتقال الفعلي بعد ذلك.
س – إذن فتصورك هو مرحلة نهائية من دون مستوطنات، أي الضفة الغربية وقطاع غزة من دون مستوطنين؟
ج. عبد الشافي: قد تبقى المستوطنات. ليس بالضرورة أن يعني ذهاب المستوطنين تدمير المستوطنات. قد تبقى، وقد يعوض المستوطنون أو الحكومة الإسرائيلية منها. ونستفيد منها في استقدام فلسطينيين من لاجئي 1948 ممن يريدون العودة إلى الأرض الفلسطينية. كل هذه الإمكانات وارد، والمسألة تتوقف على ما إذا كان لدينا فعلاً توجه حقيقي ومخلص لتحقيق سلام في هذه المنطقة.
س – هل القبول بوجود مستوطنين تحت الحكم الفلسطيني هو من باب المثالية أو اليوطوبيا (utopia)؟
ج. عبد الشافي: هذا شيء مستبعد، وخصوصاً بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي. فقد يكون من الصعب جداً على إسرائيلي أن يقبل العيش في ظل الدولة الفلسطينية والحكم الفلسطيني. كذلك، ليس من السهل القضاء على كل المشاعر السلبية لدى الجانب الفلسطيني من جرّاء ممارسات القمع الإسرائيلي التي استمرت أعواماً عديدة.
س – في أية عملية مفاوضات يكون هناك حلول وسط. ما هي الترتيبات التي يمكن أن يقبل الفلسطينيون بها بالنسبة إلى وضع المستوطنين خلال المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: أولاً، نريد أن يطبَّق القانون الذي سيسري على الجميع، أي على العرب والمستوطنين. ثانياً، قضية الأمن الداخلي تكون قضية تعاون ومشاركة بين فلسطينيين وإسرائيليين، لأن هذا يسهّل ويزيل الكثير من الحواجز النفسية، أي أن تكون قوة الأمن مشتركة من إسرائيليين وفلسطينيين، وتمارس عملها في المستوطنات وفي الأحياء العربية. كل هذا ممكن، ويتمشى مع روح التفاوض من أجل السلام، ويحول دون الحوادث والادعاءات المتناقضة، إلا إذا توصلنا إلى اتفاق على أن قضية الأمن الداخلي للأحياء العربية هي مسؤولية عربية، وأمن المستوطنات هو مسؤولية إسرائيلية. لكن أنا أفضل أن تكون مسؤولية مشتركة لتخطي الحواجز النفسية.
س – لماذا، في رأيك، ميّز يتسحاق رابين بين مستوطنات سياسية وأُخرى أمنية؟
ج. عبد الشافي: أنا لا أقبل هذا التمييز الذي أعتبره تمييزاً بهدف الكسب غير المشروع. وما يؤكده هو إعلان حكومته، فور تسلّمها السلطة، وقف عقود بناء لمستوطنات من دون أن يقول إنه وقف نهائي، أو إن بناء المستوطنات لن يُستأنف في المستقبل.
س – هل في هذا التمييز مؤشر إلى أن المفاوضين عن حكومة حزب العمل قد يتبنّون خطة آلون في مفاوضاتهم معكم؟
ج. عبد الشافي: ربما، وهذا غير مقبول لدينا. وهناك مسألة غير مقبولة لدينا منذ الآن، هي استبعاد القدس من قضية المفاوضات تماماً. لو تناول الإسرائيليون في كل المسائل الأُخرى وأصرّوا على مسألة القدس، فسيبقى المأزق كما هو. لا يمكن أن نتساهل في قضية القدس، وسنصرّ على وقف الاستيطان في القدس.
س – أيّهما أسهل: التفاوض مع الليكود في شأن الحكم الذاتي كما ورد في كامب ديفيد، أم التفاوض مع حزب العمل في شأن خطة آلون؟
ج. عبد الشافي: طبعاً إن التفاوض مع الليكود يكون أسهل، لأن موقفنا في الرفض يكون مفهوماً أكثر لدى العالم.
س – لكنه لن يوصلنا إلى حل؟
ج. عبد الشافي: هذا صحيح. غير أننا هنا أيضاً لن نصل إلى حل. فهل نحن على استعداد لأن نفرط في حقنا في القدس؟ أو هل نحن على استعداد للقبول بأن يكون غور الأردن خاضعاً للاستيطان كما تريد إسرائيل؟ أو هل نقبل أن تبقى مستوطنات غوش عتسيون (قرب بيت لحم) وكريات أربع (في الخليل)؟ هذا وضع لا يمكن أن نقبله.
س – هل المطلوب من حكومة حزب العمل أن تتنازل عن هذا الموقف، وأن تبحث عن حل وسط ما بين الموقف الفلسطيني والموقف القديم لحزب العمل؟
ج. عبد الشافي: أنا أرى أننا قدّمنا الحل الوسط، وأكثر من الحل الوسط، على حسابنا في مبادرة السلام الفلسطينية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988. ولا يجوز، كما أن من غير المعقول إطلاقاً، أن يطالبنا أحد بمزيد من التنازل. إن المستوطنات الإسرائيلية بكاملها، بما فيها مستوطنات القدس الشرقية، انتهاك صارخ وواضح لمرجعية السلام، أي القرار رقم 242، وهي مناقضة لاتفاقات جنيف وللقانون الدولي. فلماذا تطالَب بأن نقبل بشيء من هذا؟ إن من غير الطبيعي أن نقبل بأن هناك وضعاً تفاوضياً يقتضي تنازلاً من قبل الطرفين. نحن تنازلنا أكثر مما يجب. كما أن هناك تنازلاً حدث من دون موافقتنا، إذ إن إسرائيل احتلت الأرض، وتصرّفت بمحض إرادتها، ومن خلال قدرتها العسكرية. لكن مبادرة تشرين الثاني/نوفمبر 1988 شكلت تنازلاً من قبلنا وبموافقتنا، ويجب أن يؤخذ هذا التنازل بعين الاعتبار، وإلا فمعنى هذا أن تنازلنا غير مقبول، وهو ما يعني أيضاً رفضنا لمبدأ السلام.
س – لكنْ هناك، في أية عملية تفاوض، ميزان قوى يحدّد الكثير من الأمور.
ج. عبد الشافي: إن ميزان القوى هذا ممكن في قضية تفاوض بين كيانين مستقلين بشأن مسألة حدود، أو مسائل أُخرى. لكن يوجد هنا عدوان، ويوجد تحدّ للقوانين الدولية. نحن، من جانبنا، نقدم السلام في مقابل الأرض؛ وهذا مبدأ أُقر في القرار رقم 242، ولا يجوز لإسرائيل أن تخرج عنه وتواجهنا بمنطق يستدعي منا تقديم تنازلات إضافية.
س – إذا كان الموقف الفلسطيني خطأ منذ سنة 1988 من النقطة أ إلى النقطة ب، على خط مستقيم، فهل يفترض أن يلاقيه الموقف الإسرائيلي من الجهة الأُخرى عند النقطة ب، أم يمكن أن يلاقيه عند نقطة ج على الخط نفسه؟
ج. عبد الشافي: يجب ألا يلاقينا عند النقطة ب.
س – هل هذا موقف تفاوضي، أم موقف يعبّر عن تصور للمستقبل؟
ج. عبد الشافي: أنا أرى أن هذا موقف لا نستطيع أن نتنازل عنه. إذا كان هناك قيادة فلسطينية تقبل أن تقدم تنازلاًَ آخر، فأنا أعتقد أنه تنازل لن يخدم قضية السلام، ولكن قد يكون هناك تنازل موقت إلى حين عقد جولة أُخرى. إن دواعي التوصل إلى سلام حقيقي وثابت تستدعي القبول بما تنص عليه مبادرة السلام الفلسطينية، أي القبول بمبدأ قيام الدولتين، ويتم التفاوض على هذا الأساس. وعلى الأساس ذاته أرى أن لا مجال لتنازل جديد عن الأرض من الجانب الفلسطيني، بل ربما اقتضى الأمر أن تتنازل إسرائيل عن شيء من الأرض للجانب الفلسطيني؟
س – تحدثت عن تنازل، ربما لمرحلة معينة. هل يعني ذلك أنه ربما يكون هناك تنازل تكتي؟
ج. عبد الشافي: نعم، هذا ممكن.
م ت ف القيادة الشرعية،
ولكن...!
س – ما هو، في رأيك، مستقبل منظمة التحرير – كمؤسسة وكهيئة وكمنظمة – في المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: ستبقى منظمة التحرير كما هي: القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني. لكني أرى، من وجهة نظري، أن على المنظمة، كي تحافظ على هذا التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني، أن تتخذ كل ما هو ضروري لتشكل قيادة جماعية على أُسس ديمقراطية صحيحة. وهذا يعني تفعيل المجلس الوطني ليكون قيادة تسير على أُسس ديمقراطية صحيحة. كما نعرف، هناك الكثير من الخلاف داخل منظمة التحرير تحت ادعاء أن جهة متنفذة أكثر من غيرها، أي حركة "فتح"، تهمين بشكل أكثر، وأن القرارات لا تتخذ بأسلوب ديمقراطي. كل هذه نقاط ضعف في جسم المنظمة، تجعل استمرار تمثيلها الصحيح للشعب الفلسطيني أضعف. فعلى المنظمة أن تتخذ، فعلاً، كل ما هو مطلوب كي يشعر الفلسطينيون بأنها قيادة تسير على أُسس ديمقراطية صحيحة، وأن كل ما يجري داخلها يسير على أساس قيادة جماعية ترتكز على أُسس تنظيمية صحيحة في كل مؤسساتها.
س – هل سيؤثر ما سيجري خلال المرحلة الانتقالية في مكانة المنظمة؟
ج. عبد الشافي: نحن نريد فعلاً أن يكون الاتجاه مساعدة المنظمة لتحقيق ما قلت، أي مبدأ القيادة الجماعية على أُسس ديمقراطية صحيحة.
س – ماذا ستكون طبيعة العلاقة بين الأراضي المحكومة ذاتياً وبين المنظمة، في المرحلة الانتقالية؟
ج. عبد الشافي: ستبقى المنظمة المرجع السياسي الأعلى للشعب الفلسطيني.
س – حتى في وجود مجلس تشريعي؟ هل أن هذا المجلس لا يستطيع أن يشر!ع قبل الرجوع إلى المنظمة؟
ج. عبد الشافي: من الصعب أن نحدّد طبيعة العلاقة بين المجلس التشريعي في الداخل والمنظمة. لكن لا أعتقد أن من الملائم أن تفرض المنظمة قيوداً على مجلس منتخب يريد أن يشرّع لمصلحة المجتمع الفلسطيني في الداخل، ولا أتصور أن يكون هناك أي تناقض مع ما يراه المجلس، بل أعتقد أنه سيكون هناك توافق في وجهات النظر. كل ذلك يعني أن المنظمة ستحتفظ بمركزها القيادي لمجموع الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، وهي أساساً رمز وحدة هذا الشعب. الوضع الاستثنائي الوارد في قضية الحكومة الانتقالية هو استثنائي، كما أسميه، ويجب ألا يعكس أي انفصام في وحدة الشعب الفلسطيني. لكن من الطبيعي أن يكون هذا الجزء في الداخل، في هذه المرحلة، يسيّر أموره بأسلوب ديمقراطي، ومن خلال مجلس تشريعي له سلطة التشريع لإدارة الأمور في الداخل. وحين نصل إلى فترة الاستقلال الوطني فإنه لن يكون هناك داخل وخارج؛ عندئذ لا أدري كيف ستسير الأمور. فربما يُحل المجلس التشريعي عندها، وتُجرى انتخابات عامة يشارك فيها الفلسطينيون أينما كانوا، وينشأ مجلس نيابي يتحدث باسم الفلسطينيين جميعهم.
س – هل تختفي منظمة التحرير في هذه المرحلة؟
ج. عبد الشافي: في هذه الحال، لن تكون هناك ضرورة لمنظمة تحرير لأنه سيكون هناك حكومة فلسطينية؟
س – عندما تتحدث عن مجلس تشريعي ديموقراطي، هل يكون حديثك عن ديمقراطية تختلف عن تلك التي تمارس داخل منظمة التحرير؟
ج. عبد الشافي: سأتحدث بصراحة تامة، وما سأقوله ليس من باب الانتقاد. نحن نحترم إخواننا اينما كانوا، وخصوصاً القيادات الفلسطينية، لكنْ هناك متسع كبير في أجهزة منظمة التحرير لمزيد من الديمقراطية.
س – هناك خشية أن تكون ديمقراطية المجلس الذي سيدير المرحلة الانتقالية مطابقة لتلك التي تمارس في منظمة التحرير الفلسطينية؟
ج. عبد الشافي: أنا أرى أن الديمقراطية ليست مسألة نظرية يجوز فيها التأويل، وإنما قضية عملية من المعروف كيف تنفّذ وكيف تسير، وكل إنسان يهتم بالديمقراطية يجب أن يصر على أن تسير الأمور فعلاً كما تتم في أنحاء العالم كافة. العملية الديمقراطية، كما هو معروف، تحقيق لإرادة الجماهير العريضة بعد أن تُعطَى الفرصة لتحقيق خياراتها الحرة وممارستها. هل هذا هو ما يجب أن يكون؟ مع الأسف، لم تكن هناك فرصة لتنفيذ انتخابات من أجل تشكيل منظمة تحرير على أساس انتخاب حر. نرجو أن يتوفر هذا الإمكان في الداخل. وأتصور أن من غير الصعب أن تكون هناك انتخابات حرة في المناطق المحتلة بإشراف دولي، تُخرج إلى حيز الوجود مجالس منتخبة مرجعيتها هي للشعب والجماهير.
س – لكن الديمقراطية ليست حدثاًَ لمرة واحدة يتمثل في الانتخابات، وإنما هي ممارسة. وفي العالم العربي هناك نمط معين من الديمقراطية يُتَّبّع. هل نحن جزء من العالم العربي، أم لنا خصوصيتنا في الداخل؟
ج. عبد الشافي: في رأيي أنه لا توجد ديمقراطية في العالم العربي.
س – ولهذا سمّيته نمطاً معيناً من الديمقراطية؟
ج. عبد الشافي: وأنا أتحدث عن نمط آخر، بل عن نمط جديد.
س – لكن منظمة التحرير الفلسطينية جزء من العالم العربي بحكم ووجودها. فهل نحن جزء من المنظمة، وبالتالي جزء من العالم العربي، أم أن وجودنا تحت الاحتلال، وبالذات اتصالنا بالنظام الغربي في إسرائيل، يجعلنا نختلف؟
ج. عبد الشافي: نحن جزء من العالم العربي، ولا جدال في هذا. لكني قلت، وبكل صراحة، أنه لا توجد ديمقراطية في العالم العربي؛ وهذا شيء مؤسف. نحن نريد أن يكون هناك ديمقراطية في حال الاستقلال الفلسطيني، ولا أرى موانع حقيقية دون تحقيق ذلك. المسألة تتوقف على مدى أهمية الديمقراطية. إنها، في اعتقادي، ذات شأن كبير بالنسبة إلينا، وقد تكون الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين بسبب تعدّد توجهاتهم الأيديولوجية. وفي هذه الحال، لا يمكن للتعددية السياسية أن تحقق ميزاتها إلا في إطار ديمقراطين وإلا سنتعرض للاقتتال وكل ما هي سلبي، مثل هيمنة طرف على باقي الأطراف.
س – هل تعبير "الفلسطينيون الجدد"، الذي يطلق على المفاوضين الفلسطينيين، هو تعبير ينطبق على الواقع؟ من هم المفاوضون الفلسطينيون؟
ج. عبد الشافي: أنا شخصياً أستغرب هذه التسمية، ولا أرى بماذا نحن جدد أو مستحدثون. الوفد المفاوض كُلِّف القيام بهذه المهمة من قبل القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني، وهو يؤديها بشكل مسؤول في إطار حقيقة أن لنا مرجعية سياسية هي منظمة التحرير الفلسطينية؛ هذا أولاً، وثانياً من خلال شعورنا وموقفنا السياسي وآرائنا كوفد مفاوض.
س – من هم المفاوضون الفلسطينيون من ناحية الجيل الذي ينتمون إليه، ومن ناحية الفكر الذي يمثلونه، وخلفيتهم وتجاربهم، قياساً بالمفاوضين العرب والمفاوضين الإسرائيليين؟
ج. عبد الشافي: من الصعب إعطاء إجابة واحدة عن هذا السؤال. فهناك عدم تجانس على أكثر من صعيد: منه، مثلاً، السن؛ فأنا أكبر سنّاً من أغلب زملائي المفاوضين. وهناك فارق سنّ كبير مع بعضهم. ربما يندرج معي السيد الياس فريج والسيد مصطفى عبد النبي النتشة في فئة السن نفسها. فنحن عايشنا عهد الانتداب البريطاني، وما جاء بعده. أمّا زملاؤنا الباقون فهم من جيل ما بعد نكبة 1948. لكن وعلى الرغم من هذه الفوارق في السنّ فإننا كلنا عشنا على الأقل المرحلة الأخيرة، أي مرحلة الاحتلال بعد سنة 1967، الأمر الذي يجعلنا أقرب إلى بعضنا بعض من ناجية تجربتنا خلال 25 عاماً والأحداث التي عشناها، ويقرّب وجهات نظرنا بالنسبة إلى قضية التفاوض.
س – هل حقيقة أن هناك بين أعضاء الوفود الأُخرى دبلوماسيين متمرسين تعطيهم ميزة أفضل؟
ج. عبد الشافي: ربما هذا صحيح. فالكل يعلم أننا – نحن الفلسطينيين - لا نملك تجربة، ولم يكن لنا حكومة ولا مناصب. والتجارب السياسية هي لمنظمة التحرير، التي هي خارج العملية السلمية. ونحن قلنا إننا أشخاص لا نملك تجارب سياسية ودبلوماسية، وربما شكّل هذا نقطة ضعف.
س – لكن ذلك لا يجعلكم تسيرون وفق نظام التحكّم عن بعد (Remote Control)، من قبل المنظمة؟
ح. عبد الشافي: لا، إطلاقاً. قضية التحكّم عن بعد استبعدناها على طول الخط، ولدينا حساسية كبيرة تجاه كيفية قيامنا بالمهمة، من دون أن يقلّل ذلك من احترامنا لمرجعيتنا السياسية. لكننا أيضاً، إلى جانب هذا، نشعر بأننا مسؤولون أمام الشارع الفلسطيني وأمام الشعب الفلسطيني.
س – أكثر من مسؤولية منظمة التحرير أمام الشارع الفلسطيني؟
ج. عبد الشافي: لا أريد أن أقول أكثر. لكن بقدر ما هي مسؤولة نحن أيضاً مسؤولون، ولنا آراؤنا. وإذا حدث – وأرجو ألا يحدث – أن تعارضت آراؤنا مع آراء مرجعيتنا السياسية، فعندها سيكون أبسط الأمور أن نعفي أنفسنا من المسؤولية.
س – بصورة فردية أم جماعية؟
ج. عبد الشافي: يعتمد ذلك على كيف سيكون الوضع. فإذا كان هناك اتفاق جماعي يتم ذلك باسم الوفد ككل.
* مقابلة أجرتها مراسلة "مجلة الدراسات الفلسطينية"، ربى الحصري، في غزة أوائل آب/ أغسطس 1992.