في ضرورة عودة الوعي
كلمات مفتاحية: 
مفاوضات السلام
النزاع العربي - الإسرائيلي
العلاقات الدولية
نبذة مختصرة: 

يناقش الكاتب مقالة "المفاوضات واحتمالاتها في ظل علاقات قوى متغيرة" لأحمد سامح الخالدي وحسين جعفر آغا المنشورة في العدد الثامن من مجلة الدراسات الفلسطينية، والتي يرى أنها تمثل "نموذجاً صارخاً على الدعوة التنظيرية إلى تبني أسس المرحلة الحالية" والتي وصلت بنظره إلى مرحلة الترويج لحتمية ديمومة الأسس الحالية التي تحكم الوضع العربي والعلاقات الدولية.

النص الكامل: 

هناك بون شاسع وفارق جوهري بين قبول الحركة الوطنية الفلسطينية التعامل مع مقتضى المعطيات التي تفرضها عليها المتغيرات السياسية في مرحلة تُعرّفها هي بوضوح بأنها مرحلة "حصار وجزْر"، وبين تبلور دعوات جادة ومؤثرة داخل ساحة هذه الحركة تُنظّر وتُروّج لتبني هذه المرحلة، وتحثّ على رسم الاستراتيجية الفلسطينية المستقبلية وفقاً لمعطياتها ومعاييرها. ففي الحالة الأولى، يبقى التعامل مع المعطيات محكوماً بضرورة أخذ الحيطة والحذر والتروي في جميع الخطوات المتّبعة، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما، أنّ المتوقّع والمنطقي أن تكون الشروط المنبثقة من مثل هذه المرحلة غير مؤاتية لتحقيق الأهداف الفلسطينية ضمن السقوف المقبولة وطنياً. ويجب الإشارة إلى أن ارتفاع هذه السقوف تضاءل مع مرور الوقت، وبفعل عوامل ذاتية وموضوعية عديدة، حتى وصل إلى مستوى يهدّد النزول عنه مجدداً وحدة وكيان الشعب الفلسطيني، ويمسّ بأساسيات حقوقه الوطنية. ففي مرحلة "الحصار والجزْر" يُتوقّع أن تتضاءل قدرة الطرف المحصور على مقاومة الضغوط. وفي حالة اختلال ميزان القوى يأتي التوصل إلى اتفاق، في أغلب الأحيان، على حساب "أضعف" الأطراف. وثانيهما، أن حالة "الحصار والجزْر" لا يمكن أن تبقى أزلية، إلا إذا أردنا لها ذلك واقتنعنا بذلك. فالمتغيرات التي برزت حتى الآن في هذه المرحلة لم تثبُت بعد، ولم تصبح نهائية، بل هي ما زالت متحولة، الأمر الذي يترك المجال لمختلف أنواع المؤثرات فيها. لذلك، فإن هدف الطرف "المحصور" ضمن مثل هذه الأجواء غير المؤاتية، ولكن غير الثابتة أيضاً، يبقى محدداً في العمل على التأثير فيها وتخطيها، عوضاً من التسليم بها وقبول اشتراطاتها. فهي بالتأكيد لا تشكل، في أي حال من الأحوال، نهاية المطاف.

أمّا في الحالة الثانية، حالة القبول بالمرحلة والتنظير لها، فيتم القفز عن واقع مرحلة "الحصار والجزْر" من دون توفّر الوقائع الملموسة، بل المأمول بها. وعلى أساس المأمول به يجري التعامل مع المعطيات الجديدة كأنها بوابة "الفرصة الذهبية السانحة" لتحقيق الأهداف الوطنية. وتُزيَّن المرحلة بالكثير من الشعارات، ويتم تناسي جميع الاشتراطات التي تحكم المسار، ويُبدأ بنسج الاختراقات، وافتعال الإنجازات، وكأن المتغيرات التي تحكم المرحلة حتى الآن هي من صنع الذات. وتتصاعد حملة التبريرات مع كل تنازل من التنازلات، ويتم التعويل على الغير لتحقيق المكتسبات. فالهدف لم يعد تخطّي المرحلة، بل الإيمان بها، والعمل وفق شروطها وضمن محدّداتها.

*  * *

تأتي مقالة أحمد سامح الخالدي وحسين جعفر آغا، "المفاوضات واحتمالاتها في ظل علاقات قوى متغيرة"، والتي تصدرت العدد الثامن من "مجلة الدراسات الفلسطينية"، نموذجاً صارخاً على الدعوة التنظيرية إلى تبني أسس المرحلة الحالية. فبعد إعادة قراءتها مرات عديدة، وجدتُ في طريقة عرضها تخطياً لوجهة النظر التي تحتمل الصواب والخطأ، لتصل في دعواها إلى مستوى خَطِر، في اعتقادي، من الترويج لحتمية ديمومة الأسس الحالية التي تحكم الوضع العربي والعلاقات الدولية. وبعد تثبيت هذه الديمومة بطروحات وجدتها تفتقر إلى الكثير من التدعيم، تصل المقالة إلى الاستنتاج الوحيد المتوقع من مثل هذا التحليل، وهو الانخراط التام في عملية المفاوضات الحالية على أساس أنها السبيل الوحيد المتاح للفلسطينيين والعرب لا حالياً فحسب، بل على مدار المستقبل أيضاً.

              وكي أوضح استنتاجي أعلاه من قراءة المقالة، وأبيّن ما وجدت أنه يفسح المجال لإمكان الانزلاق إلى تحليلات قد تؤدي بنا إلى رسم استراتيجيات على أسس مبالغ فيها، فتفشل في تحقيق أهدافها في نهاية المطاف، أجد من الضروري فتح باب حوار ديمقراطي، هادىء وبنّاء، في شأن المسألة التي تتعلق قضيتنا المصيرية بها الآن، وهي المسيرة التفاوضية الحالية. فالحوار ضروري وأساسي لعملية تقويم مستمر لفحوى هذه المسيرة ومجراها وجدواها. ويجب أن نحاول دائماً إيجاد الإجابة عن السؤالين المهمين التاليين: هل تشكّل المسيرة التفاوضية الحالية المنفذ الوحيد لتحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية؟ وهل هي بدأت وفقاً لأسس ومحددات واضحة وثابتة من المضمون – لا المأمول به – أن تقودها في مسارها في هذا الاتجاه؟ فإنْ كان الجواب إيجابياً فيجدر طرح المعطيات والبراهين التي تثبت ذلك، كي يطمئن الشعب الفلسطيني إلى حقوقه ومصيره. أما إنْ كان الجواب سلبياً فيجدر البحث في الوسائل التي يجب اتّباعها لوضع المسيرة التفاوضية في المسار الذي يكفل تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي ذلك وحده السبيل لإقرار جدوى الاستمرار في المسيرة التفاوضية الحالية، أو عدم الاستمرار فيها.

              لقد وجدت في مقالة الخالدي وآغا ثلاثة مرتكزات أساسية يقف التحليل عليها، وينبثق الاستنتاج منها بالضرورة. وسأتناول بالعرض والتحليل كل واحد منها على حدة.

(1)  تغليب المنحى الميكانيكي الحتمي في التحليل: على الرغم من أن عنوان المقالة يتضمن ذكر عامل التغيّر، فإن التحليل يقف عند حدّ التسليم بما وقع حتى الآن من متغيرات، ولا يفترض على الإطلاق وجوب أو إمكان استمرار تفاعلات التغيّر بعد الآن. لذلك، فإن محدّدات المرحلة الحالية تبقى كأنها ثابتة ومستمرة، لن يطالها التغيير بعد الآن. ولهذا السبب يُلاحظ مدى ما تعجّ به من صيغ حتمية تستند، في أساسها، إلى تحليلات ميكانيكية. وللتدليل على ذلك يكفي إيراد ثلاثة أمثلة عينية.

              يؤكد الكاتبان، في تحليلهما لخلفية التبدل في علاقات القوى السائدة في المنطقة، أنه نجم عن "هزيمة العراق الحاسمة... تحرر الجانب العربي، إلى حدّ بعيد، مما يمكن تسميته 'سياسة الأوهام' التي طالما تحكمت في الفكر والعمل العربيين فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل...". كما يذكران أن حرب الخليج ساهمت مساهمة رئيسية "... في 'تطهير' الفكر العربي من الكثير من الأوهام المزمنة التي كانت تشكّل تهديداً للمستقبل العربي برمته."

              على الرغم من أنني أوافق الكاتبين على معارضة الادعاءات البطولية والاحتماء خلف الشعارات الرنّانة، فإنني أجد نفسي – مع ذلك – عاجزاً عن فهم الماهية الكلية لـ"سياسة الأوهام" التي يذكرانها، والكيفية التي تمّ الاستدلال بها على تحرّر الجانب العربي من هذه "السياسة" في الصراع مع إسرائيل، وتلمُّس الأبعاد التطهيرية التي خلفتها تلك الحرب المدمرة على ما يسمى "الأوهام المزمنة" في الفكر العربي. ومن أجل إزالة أي إمكان للالتباس، ومساعدة في فهم المقصود بالتمام، يجدر في هذا السياق طرح العديد من الاستفسارات والتساؤلات، لعلّ الإجابة عنها تكون كفيلة بتوضيح المقصود بـ"سياسة الأوهام". فهل تمّ التفريق بين سياسات الأنظمة العربية وطموحات الشعوب العربية عند استخدام هذا التعبير؟ وهل دخول العرب مفاوضات مع إسرائيل على الطريقة الأميركية، وباشتراطات إسرائيلية، تمخضت حتى الآن عن الكثير من التنازلات الفلسطينية (التنازل عن المؤتمر الدولي كامل الصلاحيات؛ تغيب منظمة التحرير الفلسطينية؛ عدم استقلالية الوفد الفلسطيني؛ انتقاص السمة التمثيلية للوفد على الأراضي المحتلة من دون القدس؛ القبول المسبق بالفترة الانتقالية؛ ... إلخ)، كان الدواء الشافي من "سياسة الأوهام" في الصراع العربي / الفلسطيني – الإسرائيلي؟ وهل تعتبر طموحات الشعوب العربية إلى تحقيق الحرية والديمقراطية والتقدم وإحقاق الحقوق السياسية والمدنية "أوهاماً مزمنة"، أم قضايا مشروعة خاض ويخوض الكثير من الشعوب في سبيلها نضالات طويلة؟ أم أن قبول واقع القطرية والتفكك والتبعية السياسية والاقتصادية التي يعانيها العالم العربي يعتبر تحرراً من وهم مزمن اسمه الوحدة العربية؟

في الحقيقة أن الوهم الكبير هو اعتقاد الكثيرين من العرب أن حرب الخليج فتحت أمام العرب نافذة للتخلص من "الأوهام المزمنة"؛ فالنظم السياسية الشمولية ما زالت على حالها لم تتغير، والديمقراطية لم تحقق عقب "هزيمة العراق" اختراقات فعّالة، وحقوق الإنسان ما زالت في الكثير من المواقع مستلبة. أمّا طموحات الشعوب وأحلامها فهي ليست، في أي حال من الأحوال، من "الأوهام"؛ إذ لو كانت كذلك لما تحقق التقدم أينما كان. أما الوهم الكبير الآخر فهو أن يستطيع العرب، وهم على ما هم عليه الآن من حال، إدارة عملية مفاوضات فعّالة مع إسرائيل، يستطيعون من خلالها تخليص أرضهم المحتلة وإحقاق حقوقهم المستلبة.

أما المثال الثاني، من ناحية أخرى، فهو تأكيد الكاتبين القاطع انتهاء الخيار العسكري العربي. فـ"هزيمة العراق"، بالنسبة إليهما، في تحقيق أهدافه ضد الكويت دليل ساطع على عدم قدرة الأطراف العربية على مواجهة إسرائيل "... حتى لو بلغ أحد الأطراف العربية ذروة عسكرية لا يستهان بها." وبهذا يصل الكاتبان إلى الاستنتاج أن حرب 1991 "كشفت... عن آخر 'الأوهام' العربية العسكرية"، وجاءت "... لتؤكد أن الحرب كوسيلة حتى لتحقيق الأهداف [العربية] المحدودة، لم تعد ممكنة أو قابلة للتنفيذ ضمن أي تقويم واقعي لميزان الربح والخسارة المتوقعين." أمّا السبب الكامن وراء هذه الحتمية، فهو "... إن الثغرة النوعية*  ما بين القدرات العسكرية العربية والقدرات العسكرية الغربية – الإسرائيلية، أوسع مما يمكن ردمه بالحصول على نظام سلاحي معين، أو مجموعة من النظم، أو تحسّن نسبي في الأداء والإدارة العسكريين."

إن ما يقدمه الكاتبان في مجال القدرة العسكرية العربية هو وصفة للاستسلام، لا لإجراء المفاوضات. فإدارة عملية مفاوضات فعّالة تحتاج إلى غطاء ذاتي للإسناد. ومن دون وجود هذا الغطاء الذاتي، والاستعاضة منه بالتعويل على عوامل خارجية غير مؤكدة، مثل "الرأي العام العالمي" و"جدّية الإدارة الأميركية"، سيتم رهن نتيجة المفاوضات بعوامل خارجة عن إطار إرادتنا، وليس لنا عليها أي احتكار. ويجدر في هذا السياق التنبيه إلى أن غطاء القدرات الذاتية، كالقدرة العسكرية، يمكن أن يكون ماثلاً للعيان أو كامناً فيما تتضمنه الاحتمالات المستقبلية من إمكانات. ويجب ألا يغيب عن البال أن الشغل الشاغل للدول الغربية هذه الأيام، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، ينحصر في محاولات دؤوبة لتطويق القدرات النووية المستقبلية والقضاء على الأسلحة غير التقليدية لدول عديدة في المنطقة. فإذا كانت هذه الدول تحسب حساب المتغيرات المستقبلية، فلماذا نقوم نحن بتغييبها وإسقاط احتماليتها وكشف الغطاء عن أنفسنا منذ الآن؟! ويقود هذا السؤال إلى سؤال آخر مهم هو: ما هي متطلبات ردم الثغرة النوعية بين القدرات العسكرية العربية والقدرات العسكرية الغربية – الإسرائيلية، وكيف يكون السبيل لتحقيقها؟ أليس بالاعتقاد أن موضوع هذا السؤال حيوي ومهم، ويتطلب توجيه جميع الطاقات والقدرات للكشف عن هذه المتطلبات، والعمل على تلبيتها، قبل إعلان حتمية انقضاء الخيار العسكري العربي إلى فترة مقبلة غير محددة؟

أما من ناحية ثالثة، فإن التحليل الوارد في المقالة عن انحسار الوجود السوفياتي وأثره في علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة يقدّم لنا المثال الأخير؛ فهو تحليل ميكانيكي يقلّص العلاقة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل إلى علاقة استراتيجية ذات أبعاد عسكرية، ثم يحدّد هذه العلاقة الاستراتيجية ضمن إطار التنافس الأميركي – السوفياتي. فما دام الاتحاد السوفياتي يمثّل تهديداً ومنافساً للولايات المتحدة، فستبقى إسرائيل تحظى بأهمية استراتيجية من قبل الولايات المتحدة. وبالتالي فإن انهيار الاتحاد السوفياتي، وانحسار تهديده ومنافسته للولايات المتحدة، "أضعفا موقع إسرائيل في المنظومة الاستراتيجية الأميركية الإقليمية، وقلّلا من أهمية إسرائيل كـ'ذخر' في مواجهة هذا التهديد المفترض." ويسترسل التحليل في انحسار الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل ليؤكد أن حرب الخليج أثبتت محدودية وعدم فعالية القدرة الإسرائيلية في مواجهة الأخطار المحلية (لاحظ التناقض بين الثغرة النوعية التي يستحيل ردمها بين القدرات العسكرية العربية والقدرات العسكرية الإسرائيلية من جهة، وبين محدودية القدرة الإسرائيلية وعدم فعاليتها من جهة أخرى). ويصل التحليل إلى الاستنتاج أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تصل إلى درجة التخلي عن إسرائيل، فإن "... حصيلة التغيرات في علاقات القوى السائدة في المنطقة... أفرزت 'تعديلات' إيجابية من وجهة النظر العربية، لكنها 'سلبية' عامةً بالنسبة إلى إسرائيل."

وعندما يتم تمحيص "حصيلة التغيرات" هذه، لا يجد المرء الكثير من التعديلات الإيجابية للعرب، والسلبية بالنسبة إلى إسرائيل. فالولايات المتحدة ما فتئت تعامل "حلفاءها" العرب بمنطق التبعية لا المشاركة، وتنطلق في تعاملها مع النظم السياسية العربية من منطلق الحرص وعدم الوثوق باستتباب أوضاعها الداخلية واستقرارها. أما بالنسبة إلى العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، فيجب الانتباه إلى ثلاثة أمور أساسية: الأول، أن هذه العلاقة تتعدى أهمية إسرائيل في "المنظومة الاستراتيجية الأميركية الإقليمية"، لتصل إلى امتزاج عضوي له جذوره الدينية والحضارية والقيمية والثقافية. فإسرائيل لا تُمثّل بُعداً حضارياً أو ثقافياً غريباً عن الولايات المتحدة، بل هي شريكتها في هذا المجال. لذلك تبقى المجمّعات أكبر أثراً وتأثيراً من المفرّقات في العلاقة بين الطرفين، حتى عندما تطفو على السطح خلافات في شأن السياسات. والثاني، أنّ العلاقة بين الطرفين ما زالت مهمة في جانبها الاستراتيجي؛ فالخطر الكامن بالنسبة إلى الولايات المتحدة هذه الأيام، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي وزواله، يتبلور في تجمّع الجمهوريات الإسلامية التي يمتلك بعضها أسلحة نووية. والخشية الغربية، في هذا المجال، هي أن يُقام تحالف بين هذه الجمهوريات مع دول إسلامية كإيران، فتتعزز "الأصولية" – وفقاً للتعبير الغربي – وتمتد تباعاً (وفقاً لنظرية الدومينو) لتشمل منطقة الشرق الأوسط الحيوية للمصالح الغربية. لذلك يبقى الدور الإسرائيلي أساسياً في "المنظومة الاستراتيجية الأميركية القائمة." وتعتبر إسرائيل، وفقاً لهذه المخاوف والحسابات الغربية، "ذخراً" للولايات المتحدة، وذلك بحسب التصريحات التي أدلى بها مؤخراً دينيس روس، مسؤول دائرة التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية، أمام زعماء الجالية اليهودية الأميركية. أمّا الأمر الثالث فينبع من الثاني، وهو ضرورة عدم الاستخلاص السريع بانحسار القدرة الإسرائيلية على مواجهة الأخطار المحلية عقب حرب الخليج؛ فعدم اشتراك إسرائيل فعلياً في هذه الحرب، مع أنها تلقت الصواريخ العراقية، يُنظر إليه في الغرب على أنه مثال للقدرة العالية على ضبط النفس، وليس قصوراً أو عدم قدرة. وفي هذا المجال، يمكن التفكير في أن إسرائيل استطاعت بضبط النفس هذا أن تثبت للولايات المتحدة أنها شريك معتمد يراعي مصالحها، حتى عندما يأتي الأمر على حساب أمنه ومصالحه الخاصة. لذلك فإن المتوقع هو أن الاعتمادية الغربية على إسرائيل "المستقرة" في المنطقة الحيوية "غير المستقرة" ستزداد، مع مضي الوقت، عوضاً من أن تتقلص.

(2)  بروز النزعة التبريرية في الاستخلاصات: تقود الحتمية في التحليل، بالضرورة، إلى التسليم بالأمر الواقع. فما دام توفر اقتناع راسخ بثبات العوامل التي تحكم السياق الحالي والمستقبلي، فإن "المنطق" يبرّر ضرورة التعامل معها وفقاً لأسسها ومحدّداتها. والمنطق الذي نجمت المقاله عنه يعزّز تثبيت اقتناع بانكشاف الغطاء عن العرب جراء انهيار الاتحاد السوفياتي من جهة، وثبوت الفشل الدائم والمستمر لقدراتهم العسكرية نتيجة "هزيمة العراق الحاسمة" في حرب الخليج. وبما أن الانكشاف والفشل يؤديان، بالضرورة، إلى تقلّص الخيارات وانحصارها فيما هو متاح وفقاً للشروط والمحدّدات الخارجية التي يفرضها "المنتصرون"، وليس الذاتية للمنهزمين، فإن الأجدى مع غياب البديل الانخراط فيما يمليه الوضع القائم، حتى لو لم يتضمن كامل المراد. فعمل من انكشف الغطاء عنه وثبت فشل قدراته الذاتية، داخل الإطار المتاح، يبقى أسهل الخيارات وفق المنطق التبريري (ويُدعى، مغالطة، البراغماتي). فالانخراط فيما هو متاح يمنح الإعفاء من محاسبة الذات تبريراً ملائماً، ويقفز عن ضرورة استخلاص العبر والدلالات، ووجوب اتخاذ جميع القرارات والإجراءات لإصلاح المسار، ويحافظ في نهاية المطاف على استمرارية التمتع بالمكتسبات.

              من هذا المنطلق، يسلّم الكاتبان بأنه على الرغم من عدم تحقيق "... أي تغير ملموس في الموقف الإسرائيلي..." حتى الآن جراء عملية المفاوضات، فإن هذه العملية "قد تشكّل، في حال استمرارها، الفرصة الأفضل – ولربما الوحيدة – المتاحة أمام الجانب العربي لتحقيق الحدّ الأدنى من أهدافه المعلنة...". والمثير في هذا المجال أن كاتبي المقالة لا يقدّمان أية إثباتات تدعم هذه المقولة التقريرية، سوى الإيحاء بعدم وجود بدائل أخرى متاحة. ويجب هنا الانتباه إلى أن عدم وجود بدائل من عملية المفاوضات لدى الطرف المفاوض، وفقدان دعائم الإسناد الذاتية لما يخوضه من مباحثات، يؤديان، إذا ما ترافقا مع وعي الطرف المقابل لهذه المعطيات، إلى توريط الطرف المفاوض نفسه في عملية مفاوضات غير متكافئة (وعدم التكافؤ في المفاوضات لا ينبع، بالضرورة، من عدم توازن القوى من الناحية الفعلية). فالطرف المقابل يستغل فرصة وعيه وجود بدائل لدى الطرف المفاوض، ويبدأ بممارسة الضغوط عليه. وعندما يتم ذلك لا يكون في وسع الطرف المفاوض سوى أن يحاول إيقاف أو تقليص الضغوط الممارسة عليه، عن طريق الاستعانة بعوامل خارجية غير مضمونة، أو أن يبدأ بتقديم التنازلات. ويجب الإشارة إلى أن تقديم التنازلات في عملية المفاوضات لا يتمّ، بالضرورة، دفعة واحدة تأتي مع نهاية العملية، وعند موعد توقيع الوثائق والمعاهدات. بل إن مجرى العملية التفاوضية، وخصوصاً إنْ افتقرت إلى التكافؤ بين طرفي المفاوضات، كفيل في حدّ ذاته بفرض "جرعات تنازلية" قد لا يعي الطرف المفاوض تبعاتها على موقفه إلا عندما يحين موعد توقيع الوثائق والمعاهدات، فيجد نفسه عندئذٍ قد كشف الغطاء عن موقفه خلال المسار، لكنه لن يتمكن في تلك الفترة بالذات من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

              من ناحية أخرى، يسلّم الكاتبان أيضاً بأن "... الإدارة الأميركية الحالية تمثّل أقصى ما يمكن للجانب العربي أن يصبو إليه، من حيث توفر النية والاستعداد لإيجاد تسوية مقبولة من وجهة النظر العربية." وإضافة إلى أن التسوية المقبولة عربياً لم تعد واضحة أو ثابتة المعالم، فإن السياسة تقتضي التعامل مع الوقائع الملموسة، وعدم الاعتماد على استشفاف معاني النيات المكبوتة ومغازيها. فمنذ بدأت الإدارة الأميركية الحالية مساعيها لعقد المفاوضات العربية – الإسرائيلية لم تقم حتى الآن، وهي الراعية الرئيسية للعملية، بتحديد الأسس والقواعد التي يفترض أن تحكم المفاوضات إذا أُريد لها أن تبلغ غايتها الطبيعية. فحتى قرار مجلس الأمن رقم 242، وهو الأساس الذي ترتكز التسوية المنشودة عليه، تركته الإدارة الأميركية عائماً لتتفاوض في شأن تفسيره الأطراف المتفاوضة. وعندما بدأت عملية المفاوضات وأخذت تتعثر مع كل جولة من الجولات، وذلك بسبب التعنت الإسرائيلي والإيغال في تضييع الوقت في الشكليات والإجراءات، أحجمت هذه الإدارة عن التدخل لدفع المسيرة التفاوضية إلى الأمام. وجاء المنطق التبريري ليعلن أن الإحجام الأميركي مقصود بالتأكيد؛ فموقف الإدارة الأميركية الحالية "... يقوم أساساً على السعي نحو تحقيق حل 'طبيعي'*  يأتي نتيجة تفاعل وتصارع الأطراف نفسها خلال عملية التفاوض،* وهو ما يتطلب الرعاية الأميركية الدائمة للعملية والحرص على استمرارها، لكنْ عدم فرض* الحلول من الخارج التي لا يمكن ضمان ديمومتها."

              من الواجب أن نواجه هذا المنطق التبريري ونتساءل: إذا كنا نقرّ ونعترف بانكشافنا وفشلنا من جهة، وبالتفوق العسكري الإسرائيلي من الناحية المعنوية علينا من جهة أخرى، ونقوم على الرغم من ذلك بإدارة مفاوضات على أمل أن تقوم الجهة الوحيدة القادرة على ممارسة الضغط على إسرائيل بممارسة ما يكفي من هذا الضغط لتعديل كفة الميزان، فكيف يمكن أن نبرّر في ظل هذا الاختلال الواضح في المعادلة إحجام الولايات المتحدة عن التدخل الفعّال في مسيرة المفاوضات بأنه مقصود ويهدف إلى التوصل إلى حل "طبيعي"؟ ويجدر بمن يحمل هذا الاعتقاد أن يُفسّر معنى الحل "الطبيعي" في ظل التباين الواضح في ميزان القوى. ففي مثل هذه الحالة تكون نتيجة المفاوضات، على الأغلب، تحقيق تسوية في مصلحة الطرف الأقوى على حساب حقوق الطرف الأضعف ومصالحه.

ويجب أن أشير، في هذا السياق، إلى أن ما أثار لديّ الانتباه والدهشة في آن واحد هو خلو المقالة من أية إشارة تتضمن تحليلاً لشروط وإمكانات استنهاض القدرات الذاتية العربية، وكأن العرب أضحوا من دون أية قدرات على الإطلاق، سواء أكانت ظاهرة أم كامنة. وطبعاً، فإن الاعتقاد بفقدان القدرة الذاتية هو الأساس التبريري للتسليم بواقع الحال، والانسجام داخل بوتقة الأمر الواقع. ولا بد، مع هذا الحال، من أن يتم في نهاية المطاف القبول بأدنى نتيجة للمفاوضات. فالاعتقاد الذاتي بالضعف هو أكبر الهزائم على الإطلاق، وأخطر ما يمكن أن يُدخَل على أساسه المفاوضات، لأنه الدافع الأساسي إلى تقديم التنازلات.

(3)  التركيز على إبراز العامل التفاؤلي في الاستنتاجات: بالإضافة إلى القفز عن الدوافع الأميركية المصلحية من مسألة التسوية السياسية في الشرق الأوسط، ومنح الإدارة الأميركية الحالية شهادة تقدير عالية على ما يُعتقد أنها تتحلى به من نيات حسنة، وإلى جانب إضفاء السمة الترويجية على العملية التفاوضية، فإن المقالة التي نحن في صددها تغصّ بالكثير من الاستنتاجات التفاؤلية. وأهم ما يلاحظ بالنسبة إلى هذه الاستنتاجات أنها تعاني شحّاً حاداً في مجالات الإسنادات الملموسة بالأدلة والمعطيات. بل يمكن القول، في واقع الأمر، إن الكثير منها يأتي مخالفاً للوقائع والمؤشرات؛ فعلى سبيل المثال، يركّز كاتبا المقالة على أن السنة الماضية شهدت تحولاً في "علاقات القوى* السائدة في المنطقة"، وهي علاقات أوسع في رأيهما من "ميزان القوى بالمعنى العسكري الضيق." ويتابعان هذا التأكيد بذكر أن "مجرد عَقْد مؤتمر السلام" "قد عكس... هذا التبدل في علاقات القوى...". وللتدليل على صحة هذا الرأي يذكر الكاتبان ثلاثة شواهد: الأول، أنّ إسرائيل ذهبت مضطرة إلى "... مسيرة محفوفة بالأخطار من وجهة نظرها." وطبعاً، يعود الفضل في إجبارها على المشاركة في هذه المسيرة إلى الولايات المتحدة التي "... حاولت 'اختطاف' الطروحات الإسرائيلية حيال عملية السلام، ثم مواجهة إسرائيل بأمر واقع جديد، الأمر الذي أغلق الباب أمام إمكان استمرار شمير في الرفض والتملص في نهاية المطاف." والثاني، أنّ شمير اكتشف عدم وجود أطراف في الساحة الدولية تشاركه رؤيته للسلام وفقاً لمعادلة "السلام في مقابل السلام". ويخلص الكاتبان، في هذا السياق، إلى أن شمير "اضطر... إلى الدخول في مفاوضات مع الجانب العربي في وقت بات حليفه الاستراتيجي الأكبر – الولايات المتحدة – ينطلق من تصور للحل أقرب للتصور العربي منه للتصور الإسرائيلي – الليكودي." والثالث، أن نجاح إسرائيل في فرض شروطها الإجرائية على مجمل العملية التفاوضية بقي "... رمزياً ومحدود الأثر بصورة عامة." أما الدليل على ذلك، فهو بروز الهوية الفلسطينية المستقلة أمام العالم بصورة لم يسبق لها مثيل، ومشاركة منظمة التحرير الفعلية في العملية التي كان لها فيها "... وجود مباشر وراء الستار"، وإلغاء الكثير من "... القيود السياسية والدبلوماسية التي فُرضت على المنظمة في إثر موقفها من حرب الخليج."

              وقبل دخول عملية تمحيص لهذه الشواهد، يجب الإشارة إلى أن إدارة عملية مفاوضات فعّالة وهادفة تحظر على المشارك فيها الوقوع في شرك خلط الواقع بالتوقعات. فالخلط يؤدي إلى الالتباس بين الأماني والمجريات، ويقحم عنصر التفاؤل الذاتي في عملية التقويم التي تُبنى الاستراتيجية التفاوضية والتكتيكات على أساسها. وقد يؤدي ذلك – وغالباً ما يؤدي – إلى تطور دينامية تفكير ذاتية تبعد مع انخراطها في العملية عن الموضوعية، وتبدأ في رؤية الزاوية التي تجدها ملائمة لتدعيم تقويمها التفاؤلي، في حين تقوم باستمرار – في الوقت نفسه – بتقديم التبريرات لجميع المؤشرات والمعطيات التي لا تدعم تفاؤلها. وتؤدي التوقعات التفاؤلية بها إلى انفصال متدرج عن المجريات الواقعية لعملية المفاوضات، فتستمر في المسار على أمل أن يتعدّل الحال في وقت من الأوقات.

              وعودة إلى مسألة التحول في علاقات القوى السائدة في المنطقة، نجد أن "مجرد" عَقْد "مؤتمر السلام" لا يحمل في ثناياه الإثبات بصحة هذا الادعاء، فكيف يكون عَقْد "المؤتمر" دليلاً على هذا التحوّل في اتجاه الجانب العربي و"المؤتمر" ذاته عُقد وفقاً لكامل الشروط الإسرائيلية؟ وكيف يمكن تفسير اضطرار الاتحاد السوفياتي (قبل زواله) إلى إعادة علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل كي يتأهل للمشاركة في رعاية "المؤتمر" العتيد، في حين يبقى مجرد الحوار الأميركي مع منظمة التحرير معلَّقاً؟ وكيف يتم أيضاً تفسير إقامة إسرائيل لعلاقات دبلوماسية بالهند والصين؟ وكيف نعلّل رعاية الولايات المتحدة لإلغاء قرار الجمعية العامة المتعلق بالصهيونية، والتأييد الواسع الذي حظي مشروع الإلغاء به عند التصويت؟ وعلى الرغم من جميع هذه الإنجازات الإسرائيلية، فإنه يبدو أن هذه الوقائع كلها لا تدخل في حسابات التحول في القوى السائدة في المنطقة ما دام بعضنا يعتبر أن "... من أهم نتائج العملية السلمية حتى الآن إمكان بلورة 'تناغم' جنيني بين الجانبين الفلسطيني والأميركي."

              أما بالنسبة إلى "اضطرار" إسرائيل إلى المشاركة في المسيرة التفاوضية نتيجة "الفهلوة" الأميركية، فيكفي أن نذكّر بأن بعضنا خبرها وهو يحقق "الإنجازات الإعلامية" في انتظار حضور الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن حينما رفضت إسرائيل الإذعان لطلب أميركي إجرائي ببدء جولة المباحثات في التاريخ المحدد أميركياً، فجلست الوفود العربية بالانتظار مدة أربعة أيام لتوضيح حسن نياتها ومدى إصرارها على تحقيق "السلام". ويبقى من الضروري أن نتساءل: إذا كانت رغبة الإدارة الأميركية الحالية "تطويق" إسرائيل ووضعها "تحت الأمر الواقع" فيما يتعلق بالمشاركة في المسيرة التفاوضية، فلماذا لا تقوم الإدارة نفسها بوضع إسرائيل "تحت الأمر الواقع" فيما يتعلق بتطبيق مبادىء الشرعية الدولية وقراراتها، وعلى وجه التحديد القرار رقم 242 الذي وافقت الولايات المتحدة في حينه عليه؟ ألأن الإدارة الأميركية ذاتها لا تريد ذلك، أم لأنها تحاول "تمرير" ذلك بجرعات على إسرائيل "الساذجة" التي تفتقر إلى القدرة على استيعاب ما يدور من حولها؟!

              أما كيف اعتُبر اكتشاف شمير عدم وجود شركاء له في الساحة الدولية بشأن معادلة "السلام في مقابل السلام" شاهداً على التبدل في علاقات القوى في المنطقة، فيدخل تحت باب المنطق الغريب، ويحتاج من صاحبيه إلى تفسير. هل أدى هذا "الاكتشاف" بشمير إلى استعداد واضح للتنازل في المفاوضات، أو عن "حق" الإسرائيليين في الاستيطان في كل بقاع "أرض إسرائيل"؟ أم أن هذا "الاكتشاف" أدى إلى خروج مئات الآلاف من الإسرائيليين (كما حدث خلال الحرب في لبنان) إلى الشوارع مطالبين بتغيير شمير وسياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية؟ هل من الغريب أن يكون الموقف الأميركي من حل الصراع العربي / الفلسطيني – الإسرائيلي مختلفاً عن الموقف الإسرائيلي – الليكودي؟ وهل الاختلاف في التصوّر الأميركي عن تصوّر اليمين الإسرائيلي مؤشر كاف للثقة بالنيات الأميركية؟ ويجب أن نشير إلى أن التصوّر الأميركي لطبيعة الحل يقارب، إلى درجة كبيرة، تصوّر حزب العمل الإسرائيلي. فهل تصوّر حزب العمل الإسرائيلي يشكّل السقف الأعلى لتصوّرنا؟ وهل نحن، في نهاية المطاف، نفاوض الليكود في شأن برنامج حزب العمل؟!

              وفيما يتعلق باعتبار أن نجاح إسرائيل في فرض شروطها على مجمل العملية التفاوضية لا يخرج عن المجال الإجرائي، ويبقى "رمزياً ومحدود الأثر"، فإنه في اعتقادي مغالطة تفاؤلية سيكون لها، إنْ تمّ تبنّيها فلسطينياً (ويبدو أن ذلك قد تم فعلاً)، آثار سلبية في الاستراتيجية الفلسطينية التفاوضية. فإسرائيل، في واقع الأمر، تخطّت فرض الشروط في مجال الشكليات والإجراءات، لتصبّ في تقييد مدينة القدس، وعدم حصول الوفد الفلسطيني على الاستقلالية الرسمية في عملية المفاوضات، لها الكثير من الأبعاد السياسية والمغازي القانونية التي تتخطى مجال الإجراءات. ويكفينا أننا الآن أصبحنا نسعى لإقامة الكونفدرالية رسمياً قبل تحقيق الاستقلال، ولو لفترة وجيزة من الزمان. أما بالنسبة إلى الهوية الفلسطينية فقد شكّلت أحداث الانتفاضة، لا "مؤتمر السلام"، الحدث الذي لم يسبق له مثيل في إبرازها. ومع أن الدليل ليس قاطعاً على أن المشاركة الفلسطينية في المسيرة التفاوضية أدت إلى رفع القيود التي فُرضت على المنظمة بعد حرب الخليج، فالقيود ستبقى تمارَس حتى يحين موعد التوقيع. إلا إننا يجب أن نعي أن صلب الموضوع يتعلق بالحقوق الوطنية الفلسطينية، لا برفع الحصار عن منظمة التحرير. ويجب في هذا المجال الحرص والانتباه إلى الثمن الذي نقوم بدفعه في مجال الحقوق، كي نستطيع تأمين بعض الإجراءات المظهرية لمسألة رفع القيود. فموافقة الإدارة الأميركية على منح مسؤول في منظمة التحرير تأشيرة دخول، على سبيل المثال، يجب ألا تُحمَّل أكثر من طاقتها من التفسيرات والدلالات. فالتفاؤل المفرط في هذا السياق غير مبرر على الإطلاق، إذ إن من حق الفلسطينيين، أصلاً، تأليف وفدهم بالطريقة التي يجدونها موافقة من جهة، والتعامل الأميركي مع المنظمة ما زال متخلفاً بدرجات عما كان عليه الحال قبل وقف الحوار بين الطرفين من جهة أخرى. أمّا الترويج لاختراقات "دون كيشوتية" خلال مسار المفاوضات، ومن دون تحقيق إنجازات جوهرية ملموسة، فسيكون وبالاً على قضية الحقوق الوطنية الفلسطينية في نهاية هذه المفاوضات.

*   *   *

ينبغي لنا الاعتراف بأن العملية التفاوضية الحالية بين الأطراف العربية وإسرائيل بدأت والعرب يعانون قصوراً ذاتياً في مفهومهم عن قوتهم الكامنة، وعن طبيعة المرحلة التي قذفت بهم إلى المفاوضات. فقد أدت حرب الخليج بهم إلى رفع الراية البيضاء والتسليم بأنه لن تقوم لهم قائمة بعد الآن. وأدى انهيار الكتلة الشرقية وزوال الاتحاد السوفياتي إلى تصديقهم شعار "النظام الدولي الجديد" الذي ليس لهم فيه سوى التسليم بالأمر الواقع لقلّة الفعالية والتأثير. ونتيجة الخلل الذاتي في التفكير، والإقرار بالضعف المبين من دون مبرّر قادر على استثناء قدراتنا وطاقاتنا في المستقبل، إنْ نحن قررنا بحق وجدّ استنهاض الذات، أقحم العرب أنفسهم في عملية تفاوضية (أو اُقحموا فيها)، والطرف المقابل يعي أنهم منهكون ولا يستطيعون ممارسة الحد الأدنى المطلوب من الضغوط لإدارة عملية مفاوضات فعّالة تسمح بتحقيق أدنى مربوط الحقوق الوطنية المفترض تحصيلها من هذه  العملية. وبدلاً من الاعتماد على الذات، والقيام بتنسيق عربي فعّال يسمح للعرب بإدارة هذه المفاوضات كما يُفترض أن تُدار المفاوضات (بلورة استراتيجية وتكتيكات توظف استخدام الضغط والمناورة وسيلة فعّالة لتحديد مجرى المفاوضات وفحواها)، آثر العرب الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة لاعتقادهم حدوث تغيّر نوعي في الإدارة الأميركية، الأمر الذي سيؤدي بها بالضرورة إلى الضغط على إسرائيل وتعديل الكفة العربية المائلة.

واستغلت الحكومة الإسرائيلية الفرصة السانحة، فبدأت بمفاوضات كبّلتها باشتراطات وإملاءات مسبقة، واختارت لها، لأنها متحررة من ضغوط الطرف المقابل، أبطأ سرعة ممكنة، ووضعت في مسارها كل ما يخطر في البال من المعوقات. وفي المقابل، اتخذت من هذه العملية غطاء لتسريع عملية فرض الوقائع في الأراضي العربية المحتلة.

ولم يستطع العرب حتى الآن إيقاف التدهور الجاري في مناخ المفاوضات ومجراها، ولم يتمكنوا حتى الآن من "تجميد" عملية الاستيطان؛ فقد سلموا بالمقولة الأميركية بأن الغرض الآن يتمحور حول "عدم إتاحة الفرصة لإسرائيل لترك طاولة المفاوضات." ومع هذا التسليم، والإصرار الناجم عنه على التأكيد المستمر للبقاء في عملية المفاوضات تفاؤلاً بضرورة التدخل الأميركي في نهاية المطاف، سلّم العرب بعدم قدرتهم على ممارسة أي تكتيك ضاغط على الطرف المقابل، وفسحوا له المجال لممارسة الضغوط. وعوضاً من أن تكون  عملية المفاوضات، كما هو متوقع منها أن تكون، أخذاً ورداً ومواجهات، أصبحت تتركز على فرض الإملاءات التي تُرفض في بداية الأمر، وتعود فتُقبل في التالي من الجولات.

وفي خضم الذهاب والإياب، وتبرير العثرات بالتوقعات المستقبلية والتفاؤلات، وعدم تحقيق الملموس من "الإنجاز"، نسي العرب أن الخلل لا يكمن في مبدأ إجراء المفاوضات، بل في الكيفية التي بدأت هذه المفاوضات بها واستمرت عليها. والمرجع الأساسي في هذا الخلل هو الذات، وتقويم الذات. فغياب الوعي عند الكثير من العرب بعد حرب الخليج أدى إلى ما نحن عليه الآن من حال. وإلى حين يتمكن العرب من استعادة الوعي ستبقى عملية المفاوضات تسير بالإملاءات، وستكون في نهايتها محكومة بطرح نتائج مقلّصة عن أدنى مربوط ما كنا نسعى لتحقيقه حتى الآن. وبالتحديد، ستكون النتيجة في اعتقادي حكماً ذاتياً على الطريقة الإسرائيلية، لكن ملفَّعاً بقبول فلسطيني – عربي لأن الوقت حينئذ سيكون قد فات على إمكان الاعتراض. ويبقى أن نعمل ونأمل باستعادة الوعي العربي قبل فوات الأوان. 

السيرة الشخصية: 

علي الجرباوي: أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة بير زيت.