التفاوض في شأن ترتيبات الحكم الذاتي
كلمات مفتاحية: 
مفاوضات السلام
النزاع العربي - الإسرائيلي
الحكم الذاتي
ضم الأراضي
عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية
نبذة مختصرة: 

يعالج المقال الموضوع تحت العناوين الفرعية: ضمان الحصول على الأرض والمياه؛ ضم الأرض من دون شعبها؛ خلق إدارة منفصلة للفلسطينيين؛ خاتمة. وتخلص إلى أن الأمل هو أن يدرك المتعقلون في إسرائيل وخارجها أن الإصرار على تفسير ضيق جداً للشروط التي تستند المفاوضات إليها قد يبدد فرصة تاريخية عظمى للوصول إلى سلام متفق عليه.

النص الكامل: 

إن المرحلة الأولى من أية عملية تفاوضية، هي الوصول إلى اتفاق بشأن الشروط التي تشكل المستند الأساس، وفيما يختص بالمفاوضات الإسرائيلية -  الفلسطينية، فإن هذه الشروط قد تم الاتفاق بشأنها قبل عقد مؤتمر مدريد في تشرين الأول/أكتوبر 1991 مباشرة. ولم يعد من الممكن الآن أن تصبح هذه الشروط محط جدل. والأمر الوحيد المتبقي للمفاوضين الفلسطينيين، هو محاولة تدبير أفضل الاستراتيجيات المؤدية إلى ما يأملون بإنجازه من خلال هذه المفاوضات.

وقد وردت هذه الشروط في رسالة الدعوة إلى مؤتمر مدريد بتاريخ 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1991، كما يلي: "وفيما يختص بالمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين... فستدور هذه المفاوضات على مراحل، تبدأ بمحادثات بشأن ترتيبات الحكم الذاتي الموقت."[1]

إن عبارة "ترتيبات الحكم الذاتي" تخضع لمجال واسع من التفسيرات. لكن، وبالنسبة إلى هذه الفترة على الأقل، فهي تبقى تماماً كما وردت، أي مفاوضات في شأن ترتيبات. وهذا يستثني، حكماً، أن تكون المفاوضات بشأن شرعية الأعمال الإسرائيلية على امتداد ربع القرن الماضي. فهذه الأمور يجب أن تؤجل إلى حين المفاوضات بشأن الوضع النهائي التي ستبدأ، استناداً إلى رسالة الدعوة، "في العام الثالث لفترة ترتيبات الحكم الذاتي الموقت."[2]   وتقول الرسالة: "ستجري المفاوضات بشأن الوضع الدائم على أساس القرارين 242 و338."

ومن المعلوم أن معظم التغييرات التي قامت إسرائيل بها، منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية، لم يكن يتماشى مع أحكام القانون الدولي. ومع ذلك فمن العبث، في هذه المرحلة من المفاوضات، أن يحاول المرء إدخال موضوع شرعيتها بطريقة مباشرة في المفاوضات، لأن ذلك من شأنه أن يُفسَّر بأنه مناقض للشروط التي تم الاتفاق عليها. وإذا كان من المطلوب إنجاز أي تقدم حقيقي، فإنه يجب البحث عن طريقة أخرى.

وللتدليل على طريقة يمكن فيها للمفاوضين الفلسطينيين التحجج بها، وبنجاح، لإدخال التغييرات غير الشرعية التي قامت إسرائيل بها منذ احتلالها تلك الأراضي في المحادثات، وذلك على الرغم من الشروط المقيّدة، أودّ أن أبحث هنا في موضوع المستوطنات الإسرائيلية. وفي رأيي أن من الممكن الوصول، وبنجاح، إلى إدخال هذا الموضوع في المحادثات، وأنه من خلال ذلك يمكن للفلسطينيين الالتفاف حول الاستراتيجية الإسرائيلية التي تستثني كل حديث عن هذا الموضوع، بحجة أن الشروط التي تشكل المستند الأساس لهذه المرحلة لا تسمح بذلك.

من المتوقع أن تكون حجة الجانب الإسرائيلي أن الشروط تحدد جدول الأعمال بـ"ترتيبات الحكم الذاتي"، وأن كل ما هو خارج هذا الموضوع لا يمكن الحديث عنه. وبما أن هذا أمر متوقع، فإن على الجانب الفلسطيني أن يكون مستعداً لإدخال موضوع المستوطنات من خلال الحديث عن "ترتيبات الحكم الذاتي".

ويجب هنا لفت الانتباه إلى تمييز مهم. فمصطلح المستوطنات الإسرائيلية لا يعني تلك البُقع المعينة من الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، والتي يقطنها يهود إسرائيليون حالياً. فهذا المصطلح يعني هنا الشبكة المعقدة من الترتيبات القانونية والإدارية التي وُضعت على امتداد ربع القرن الأخير لإنجاز الضم الفعلي للأراضي المحتلة، ومن خلال مناورات شبه قانونية لإسرائيل، وذلك من جميع النواحي باستثناء الجانب الاسمي. ومن خلال إدخال موضوع المستوطنات الإسرائيلية بمعناها الأوسع في المفاوضات، سيفرض المفاوضون الفلسطينيون أيضاً إدخال الأعمال الإسرائيلية التي أدت، في واقع الحال (de facto)، إلى ضم هذه المنطقة إلى إسرائيل.

وبما أن المعايير المستخدمة لتحديد شرعية الموضوعات في المفاوضات هي الشروط المرجعية، فالسؤال يجب أن يكون ما يلي: هل يمكن التفاوض في شأن ترتيبات الحكم الذاتي، من دون التطرق إلى موضوع كل هذه الترتيبات المتعلقة بالمستوطنات؟ وبكلام آخر: هل أن المفاوضات، بشكلها الحاضر، تستثني التفاوض في شأن التغييرات التي قامت الإدارة العسكرية الإسرائيلية بها لتمكين وتسهيل الاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية؟

والجواب، ولا ريب، بالنفي. فالتفاوض الناجح في شأن "ترتيبات الحكم الذاتي" لا يمكن أن يتم إلا في إطار الوضع القائم حالياً، حيث سيتم في نهاية المطاف تثبيت هذه الترتيبات. وهذه الأخيرة  لا يمكن أن تتم في الفراغ. إن الشبكة المعقدة من القوانين والتغييرات الإدارية المتعلقة بالمستوطنات الإسرائيلية، والتي تؤثر تأثيراً مباشراً، وبطرق شتى لا تحصى، في حياة المواطنين الفلسطينيين ومستقبلهم، هي جزء رئيسي لا يتجزأ من هذا الواقع. كيف يمكننا، إذاً، أن نتصور أنه يمكن البحث في ترتيبات الحكم الذاتي مع تجنّب الحديث عما مكّن في الماضي، وعما يسمح حالياً بالإبقاء على المستوطنات الإسرائيلية؟

لذا، فليس ثمة فقط من حجة جيدة تقضي بألا تُستثنى المستوطنات، كما عرّفناها أعلاه، من جدول الأعمال. بل إن المفاوضين يبقون ضمن شروط المفاوضات إذا هم أصرّوا على إزالة المستوطنات، لا تجميدها فحسب.

لكن ذلك لا يعني بالضرورة الإزالة الفورية للمستوطنات الحالية، أي المناطق المحددة بأنها تلك التي يقطنها يهود إسرائيليون حالياً، كما لا يعني طرد من يعيش فيها. إن مصير اليهود الإسرائيليين الذين لهم مسكن واحد في الأراضي المحتلة خلال الفترة الانتقالية، ومدتها خمسة أعوام، يجب أن يُترك للمفاوضين.

وكما أن هدف الحكومة الإسرائيلية، كما هو واضح، لا يقتصر على ضمان حق السكن لليهود الإسرائيليين الذين يسكنون حالياً في الأراضي المحتلة من خلال المفاوضات، بل أيضاً تعزيز الضم غير الشرعي الذي أُنجز فعلاً (de facto)، كذلك يجب أن يكون هدف الفلسطينيين إزالة الخطوات التي أدت إلى ذلك الأمر.

غير أن تحقيق هدف إزالة ذلك البنيان، الذي تم إنشاؤه عبر ربع قرن من الزمن بصورة غير شرعية، ومن خلال خطوات مدروسة بعناية، لا يمكن أن يتم إلا إذا كان ثمة استعداد بادىء ذي بدء لمواجهة طبيعة ما هو قائم الآن.

إن أفضل وصف للواقع القانوني والإداري للأراضي المحتلة هو أنها مراكز فلسطينية للسكن في "أرض – إسرائيل". ويُسمح لهؤلاء السكان الفلسطينيين بمقدار محدود من السيطرة على الأرض التي يملكونها فعلاً. وهم محصورون في المناطق التي يقطنونها الآن، ولا يُسمح لهم بإنجاز سوى مقدار محدود جداً من التطور، تم حصره في معظم أرجاء الأراضي المحتلة ولأربعين عاماً في المستقبل.[3]   وهم يخضعون لقوانين تقييدية تحكم أوجه معيشتهم كافة. أما ما تبقى من الأراضي فهو مستوطَن الآن، وإما أنه مخصص للاستخدام في المستقبل من جانب أصحاب الأرض الوحيدين المعترف بهم، أي الشعب اليهودي. وتخضع المستوطنات اليهودية الإسرائيلية لأحكام القانون الإسرائيلي، ويخضع المستوطنون لأحكام المحاكم الإسرائيلية. لذا، وفي واقع الأمر، فإن المناطق التي لا يزال يشار إليها أنها المناطق المحتلة قد ضُمّت فعلاً، وإن لم يكن بالاسم، ومن دون سكانها الفلسطينيين.

هذه هي الحقيقة على الرغم من مرارتها وغرابتها؛ وهذه هي الخلفية التي بموجبها ينبغي للمفاوضين الفلسطينيين أن يديروا دفة المفاوضات. إن أي وصف آخر لما هو قائم الآن في الأراضي المحتلة، لا يعدو كونه ضرباً من التمني.

وقد خاض الفلسطينيون، ولأعوام عديدة، صراعاً ضد هذه الحقيقة التي فُرضت عليهم. والمفاوضات الجارية الآن ما هي إلا طور جديد في هذا الصراع المستمر. بيد أن هذا الطور الأخير من الصراع يمتلك حظاً من النجاح أفضل كثيراً، إذا تم إدراك الحقيقة التي تسعى المفاوضات لتغييرها إدراكاً تاماً.

وكي نصبح في وضع يسمح لنا بتطبيق استراتيجية إزالة ما فُرض علينا بصورة غير شرعية، يجب أن نعي أيضاً كيف حدث هذا الأمر في المقام الأول. إذاً، كيف تم هذا الأمر؟

أولاً: ضمان الحصول

على الأرض والمياه

              لم يكن من السهل قط البحث في التغييرات القانونية والإدارية التي قامت إسرائيل بها منذ الاحتلال. فخلال الأعوام الستة عشر الأولى من الاحتلال، كانت هذه التغييرات تتم من خلال أوامر عسكرية لم تُنشر. وفي أثناء قيامي بالأبحاث، لفت انتباهي أمر عسكري بعنوان "أمر بشأن تسجيل صفقات بعقارات معينة". وقد صدر هذا الأمر، ذو الرقم 569، بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 1974. يفرض القانون الأردني تسجيل كل المعاملات المتعلقة بالأرض في دائرة تسجيل الأراضي، التي لها فروع في أرجاء المنطقة كافة. وتشمل هذه المعاملات الأراضي الحكومية، كما تشمل المعاملات التي تقوم الحكومة بها، كمصادرة الأرض. لكن، واستناداً إلى الأمر رقم 569، كان من المفترض إنشاء سجل منفصل بهدف تسجيل المعاملات المختصة بتلك  الأراضي التي أُعلن أنها أصبحت أرضاً عامة، أو التي تمت مصادرتها لأغراض عسكرية.

وتساءلتُ آنئذ عن مكان هذا السجلّ، وافترضتُ أنه موجود في مقر الإدارة العسكرية.[4]

ومضت بضعة أعوام قبل أن أصادف عقد إيجار يتعلق بالأرض في الأراضي المحتلة، وكانت هذه الأرض موضع إعلان من قِبل ضابط إسرائيلي يجعل منها أرضاً "عامة".[5]    وكانت مدة الإيجار 49 عاماً، قابلة للتجديد إلى فترة مماثلة. وفي هذا العقد لم يذكر فقط أن قانون الأرض الإسرائيلي لسنة 1969 هو القانون الذي ينطبق عليها، بل أيضاً أن عقد الإيجار ذاته سُجِّل في هيئة إدارة أراضي إسرائيل في القدس الغربية. وهذه الهيئة هي المسجل فيها 92,6% من الأراضي في إسرائيل بصفتها أراضي تابعة لدولة إسرائيل.[6]

وقد ذُهلتُ لهذا المنطق المخيف الذي لا يرحم. فبين الأعمال الأولى التي قامت الإدارة العسكرية بها بعد احتلالها المنطقة، كان إيقاف تسجيلات الأراضي كافة. وهذه عملية كانت مستمرة منذ سنة 1928. وخلال أعوام الانتداب البريطاني كانت الأولوية تُمنح لتسجيل أراضي السهول الساحلية. وعلى الرغم من  أن الحكومة الأردنية ثابرت بعد سنة 1948 على تسجيل أراضي الضفة الغربية، فإنه لم يكن قد تم تسجيل سوى ما يفوق قليلاً ثلث الأرض عندما احتلت إسرائيل هذه المنطقة، وذلك لأن عملية تسجيل الأرض عملية طويلة الأمد وتستغرق وقتاً طويلاً. وصدر الأمر رقم 291 بتاريخ 9 كانون الأول/ ديسمبر 1968، ليعلّق العملية.[7]   ثم بدأت الإدارة العسكرية، بعد هذا بقليل، بإصدار أوامر أحادية الجانب، تعلن فيها الأراضي الفلسطينية الخاصة أراضي "عامة". وهكذا، ومن خلال هذه الأوامر، أعيد تسجيل مئات الآلاف من الدونمات من الأراضي الخاصة، وأُعلن  أنها أصبحت أراضي "عامة". ثم بدأ تسجيل الأراضي الفلسطينية الخاصة وإدارتها من جانب هيئة إدارة أراضي إسرائيل، كأراضي دولة إسرائيل، والتي يقول القانون فيها أنها "لا يمكن انتقالها بواسطة البيع أو بأي طريقة أخرى."[8]

ومن خلال الاكتشافات هذه، اتضحت لي السًبُل المستخدمة للتطبيق الإداري للموقف الأيديولوجي الذي طالما أُعلن من جانب حزب إسرائيل الحاكم، وهو أن "يهودا والسامرة" – وهما الإسمان التوراتيان للضفة الغربية – هما جزء من "أرض – إسرائيل"، مملوك إلى الأبد من قِبل الشعب اليهودي.

لا يمكن أن يعرف أحد بالضبط النسبة المحددة للأراضي المحتلة التي أصبحت تخضع لأحكام تلك الأوامر العسكرية، وذلك لأن السجل الذي تُسجَّل فيه غير متاح للجمهور.[9]  وثمة تقديرات لهذه النسبة هي أنها ما لا يقل عن 40% من إجمالي مساحة الضفة الغربية، و81% من قطاع غزة.[10]

أما المياه، فهي المورد الطبيعي الرئيسي الآخر في الأراضي المحتلة. وفي سنة 1978، أصبحت مياه الضفة الغربية خاضعة للسيطرة الحصرية لشبكة المياه الوطنية الإسرائيلية، مكوروت. وكما الحال بالنسبة إلى الأرض، فإن كل المعلومات التي يجب أن تكون متاحة للجمهور، فيما يختص مثلاً بكمية احتياطي المياه في مخزونات المياه الأرضية، ومقدار الكمية التي تُضَخّ منها إلى إسرائيل، ونسبة ما يحصل عليه المستوطنون الإسرائيليون منها وإلى ما هنالك، كل ذلك ممنوع عن الجمهور.

بيد أن إعادة تسجيل الأرض في الأراضي المحتلة، وإعلانها أرضاً "عامة" للاستخدام اليهودي حصراً، ليسا هما التطور المهم الوحيد فيما يختص بالأرض. فمهما تكن نسبة الأرض التي لم تخضع حتى الآن لأمر عسكري بمصادرتها، فإن الفلسطينيين لا يملكون القدرة على تحديد استعمال الأرض المتبقية بين أيديهم. والأمر الذي نادراً ما يشار إليه، لدى الكلام في مصير أراضي الضفة الغربية، هو الحد الذي وصل المخططون الإسرائيليون إليه في تقدير استعمال الأرض هناك في المستقبل. وقد تم هذا الأمر لضمان حجز القدر الأكبر لمصلحة المستوطنات الإسرائيلية حاضراً ومستقبلاً، ولحصر المناطق التي يُسمح للفلسطينيين باستخدامها.

وقد وجد أنطوني كون، وهو مخطط اسكتلندي قام بدراسة شاملة لخطط التنمية في الضفة الغربية، أن "80% من الطلبات الفلسطينية للحصول على تصاريح للتخطيط يجري رفضها"، وأن "التكلفة التي يدفعها الفلسطيني للحصول على إذن تخطيط لبيت جديد توازي التكلفة التي يدفعها الإسرائيلي لشراء بيت في مستوطنة يهودية." ووجد أيضاً أن "ليس ثمة في أية قرية فلسطينية، أو في أية بلدة، أي خطة تنموية عصرية ومصرّح لها. وقد تم إعطاء الإذن لعدة مئات من هذه الخطط للمستوطنات اليهودية." وقد وصف كون هذا الوضع بأنه "تمييز عنصري على مستوى فادح." ويضيف، مع ذلك، "أن الأمر أُنجز من دون صدور أي بيان رسمي بشأن سياسة الحكومة، بل حتى من دون أي ذكر تقريباً للفئة القومية التي تُمارَس لمصلحتها هذه السياسات، سواء في الخطط المدينية أو في الأوامر العسكرية، أو في استراتيجيات الاستيطان اليهودي التي تُبنى سياسة الحكومة الإسرائيلية عليها... وهذا إنجاز لو قارنّا به جهود نظام التخطيط في المناطق 'البيض' سابقاً في جنوب أفريقيا، لوجدناها فاترة الهمة."[11]

وبعد الاستيلاء على الأرض التي تقام عليها المستوطنات الإسرائيلية وإتمام تطويرها، والاستيلاء على الموارد المائية، كان التحدي الآخر كيفية التأكد من أن الإسرائيليين الذين سيعيشون في المنطقة القضائية ذاتها التي يعيش الفلسطينيون فيها، لن يخضعوا للقوانين والتقييدات ذاتها التي يخضع الفلسطينيون لها. وبكلام آخر، كيف يمكن العيش خارج المنطقة القضائية لإسرائيل، مع البقاء تحت حكم القانون الإسرائيلي.

ثانياً: ضم الأرض

من دون شعبها

              تم إنجاز هذا الأمر من خلال استخدام مناورات قانونية شتى. ففي سنة 1979، وقبل توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بستة أيام فقط، تم إنشاء خمسة مجالس إقليمية في الضفة الغربية، لها صلاحيات تشمل جميع الأراضي الخاضعة للملكية أو السيطرة الإسرائيلية، وليس فقط المناطق التي تقام عليها الأبنية داخل المستوطنات. وفيما بعد، تم إنشاء مجالس محلية بموجب أمر عسكري حدد صلاحياتها ومسؤولياتها بأنها مماثلة تماماً لتلك التي تتمتع بها البلديات الإسرائيلية العادية داخل إسرائيل. وبهذه الطريقة تم إدخال القانون الإسرائيلي إلى الأراضي المحتلة من خلال أمر عسكري. وهكذا، برز إلى الوجود نوعان من المجالس المحلية في المنطقة القضائية الواحدة، يخضعان لنوعين من التشريعات المختلفة التي تتصف بالتمييز العنصري الشديد: أحدهما لليهود الإسرائيليين، والآخر للفلسطينيين.[12]

              أما المناورة الكبرى الأخرى، التي أدت إلى تطبيق القانون الإسرائيلي خارج إسرائيل، فكانت بقانون صدر عن الكنيست.[13]  وأدرج الملحق لهذا القانون تسعة قوانين إسرائيلية. وقد ورد في المادة 4 أنه "فيما يتعلق بالقوانين المذكورة في الملحق، فإن تفسيرة لفظة 'ساكن إسرائيلي'، أو غيرها مما يتعلق بالسكن أو مكان السكن أو السكن في إسرائيل، هو أنها تشمل أي شخص يقع مكان سكنه في المنطقة [التي يحددها القانون بأنها تشمل الأراضي المحتلة]، وهو مواطن إسرائيلي أو يحق له الحصول على الجنسية الإسرائيليةٍ...".

              أما الملحق، فلا يشكّل مجموعة قانونية مغلقة. ويرد في المادة 4 (ب) ما يلي: "يجوز لوزير العدل، وبموافقة لجنة القانون والدستور والتشريع التابعة للكنيست، أن يغيّر الملحق بموجب أمر." وهذا يعني في واقع الحال أنه، وإذا لم يعمد البرلمان الإسرائيلي إلى إلغاء هذا القانون خلال المفاوضات، فإن عملية الضم يمكن أن تستمر – وبكل بساطة – من خلال زيادة عدد القوانين الوارد ذكرها في ملحق هذا القانون. وما دام مبدأ أن إسرائيل تستطيع أن تشرّع، من خلال تشريعات تتخطى حدودها، قوانين تسري في أراض تقع خارج أراضيها، وفي المناطق المحتلة، باقياً من دون تحد، ففي الإمكان أن يصار إلى جعل قوانين إسرائيلية أخرى صالحة للتطبيق على سكان الأراضي المحتلة. وبهذه الطريقة يمكن للبرلمان الإسرائيلي أن يستمر، حتى بعد قيام الحكم الذاتي الفلسطيني، في توسيع صلاحية القانون الإسرائيلي ليشمل الأراضي المحتلة في اي وقت يرتئي ذلك، الأمر الذي يعزز عملية الضم.

              ومع أن البرلمان الإسرائيلي وجد السبيل لجعل الإسرائيليين الساكنين خارج نطاق صلاحياته التشريعية يخضعون لقوانينه، فإن محكمة العدل الإسرائيلية العليا (التي اشتهرت بمساهمتها في عملية الضم من خلال إضفاء غطاء من الشرعية المحترمة عليها) قررت أن المستوطنين الإسرائيليين الساكنين في الأراضي المحتلة يجب اعتبارهم من السكان المحلّيين فيما يختص بالقانون المحلي. وهكذا، وفي مجال رفضها لاستئناف قانوني ضد شبكة من الطرق البديلة في الضفة الغربية تهدف إلى ربط المستوطنات بإسرائيل، مع تفادي المراكز السكنية الفلسطينية، كانت حجة هذه المحكمة أنه وبما أن أحد المعايير الرئيسية لشرعية الأعمال التي يقوم محتل بها بموجب اتفاقية لاهاي لسنة 1907 هو منفعة السكان المحليين، فإن قرار شق هذه الطرق قرار سليم لأن هذه الطرق تخدم مصالح المستوطنين.[14]

              وهاتان المناورتان الموصوفتان أعلاه هما من الوسائل المباشرة التي أصبح القانون الإسرائيلي، من خلالها، ينطبق على خارج إسرائيل. لكنهما ليستا أبداً الوسيلتين الوحيدتين. وكما أوضحنا أعلاه، فإن هيئة إدارة أراضي إسرائيل أعلنت أن قانون الأراضي في إسرائيل لسنة 1969 قابل للتطبيق على جميع العقود المتعلقة بالأرض "العامة" في الأراضي المحتلة. وعندما نسترجع إلى الأذهان أن هذه الأرض تمثل ما لا يقل عن 40% من الأراضي في الضفة، و81% من أراضي القطاع، فإن مدى هذه المناورة يصبح قريباً إلى التفهم. ومن خلال السُبل غير المباشرة الأخرى، اكتسبت المحاكم الإسرائيلية أيضاً صلاحيات تشمل شؤون المستوطنين القاطنين في الأراضي المحتلة، خارج نطاق صلاحيات المحاكم الإسرائيلية. كما أن المدراس والجامعات الإسرائيلية، العاملة خارج حدود الدولة، تُعتبر أنها تعمل داخلها.[15]   وقد أتاح كل هذه المناورات للمواطن الإسرائيلي أن يعيش خارج حدود دولته، ويبقى خاضعاً في أوجه حياته كافة لقانون هذه الدولة.

              ولم ينحصر توسيع نطاق القانون الإسرائيلي في حدود المستوطنةـ بل تعدى هذه الحدود. فالمستوطن الإسرائيلي لا يخسر مفعول القانون الإسرائيلي في أثناء مروره، مثلاً، ببلدة أو قرية فلسطينية. فقد قيل لرؤساء المحاكم الفلسطينية أن الإسرائيليين يتمتعون بحصانة ضد المحاكمة في محاكمهم. أما في القضايا المدنية، فإن المحاكم الإسرائيلية أكثر ليبرالية في منح المحاكم الإسرائيلية الصلاحية، ومنذ سنة 1969، أُعطي الإذن في تحضير الوثائق في الأراضي المحتلة، أي خارج صلاحية المحكمة.

              ومن وجهة النظر القانونية، فإن هذه "الترتيبات" التي قامت إسرائيل بها لتعزيز الاستيطان اليهودي وحمايته هي بمثابة تطبيق توسّعي لقانون دولة على أراضي دولة أخرى. وهي بمثابة نظام من الفصل العنصري (الأبرتهايد) في نواحيه كافة، ما عدا الاسم، لأنه مسؤول عن خلق مجتمعين يعيشان جنباً إلى جنب، ويخضعان لنظامين قانونيين منفصلين، ولهما صبغة التمييز العنصري.[16]

هذه، إذاً، هي "الترتيبات" التي أُنجزت (وهي تخالف بوضوح أحكام القوانين الدولية والبلدية)، والتي كان الهدف منها أن تُطبَّق على المستوطنين اليهود الإسرائيليين الذي سُمح لهم بالاستيطان في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967. وكما يتضح من أن جميع الأراضي التي تُعلن "عامة" (أو التي يتم مصادرتها أو الاستيلاء عليها بإحدى السُبُل المختلفة) لا يمكن نقلها إلاّ إلى أفراد من الدين اليهودي، فإن هذه الترتيبات تهدف إلى تطبيق موقف ضيق عنصري أيديولوجي، يتعارض تماماً مع أحكام القانون الدولي الذي هو وحده ما يجب أن يسود. واستناداً إلى هذا المنظور غير الشرعي، فإن الأرض التي احتلتها إسرائيل سنة 1967 يملكها الشعب اليهودي الذي هو الفئة الوحيدة التي لها حق ممارسة السيادة عليها.

لكن هذه الترتيبات لا تنطبق فقط على اليهود الإسرائيليين الذين يسكنون في الأراضي المحتلة، بل إنها تؤثر أيضاً في حقوق الفلسطينيين الذين يعيشون على أراض سُمح لهم بالبقاء فيها. وهكذا، فإن حق الفلسطيني في استخدام أرضه للبناء، مثلاً مقيّد بالتنمية التي لا تعرقل، في نظر المخطّطين الإسرائيليين، تنمية المستوطنين اليهود حالياً أو في المستقبل. وفي الأعوام الأخيرة، فاق عدد البيوت الفلسطينية التي دمرها الإسرائيليون لأنها لا تملك تصريحاً من [سلطة] التخطيط، عدد البيوت التي مُنحت مثل هذا التصريح من قِبل الإسرائيليين.[17]  وحق الفلسطيني في زراعة أرضه هو، أيضاً، حق مقيد. فإذا أراد أن يحفر بئراً ارتوازية، أو أن يزرع أشجار حمضيات بدلاً من الخضراوات، يجب أن يحصل على إذن السلطات العسكرية. ويشارك المستوطنون الإسرائيليون في قرار منح هذه التصاريح، وهمهم الأكبر مصلحة مستوطناتهم لدى مناقشة هذه الطلبات وإقرارها.

وبالنظر إلى ما تقدم، من المشروع لنا أن نتساءل كيف يمكن التفاوض بنجاح في شأن ترتيبات الحكم الذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، من دون الأخذ في الاعتبار كل هذه الترتيبات الشاملة التي تحدد من هو صاحب الحق في هذه الأرض، وكيفية ممارسة هذه الحقوق؟ وبكلام آخر: هل أن الفلسطينيين فعلاً في موقع يسمح لهم بممارسة الحكم الذاتي، بينما تبقى على حالها تلك الخطط الشاملة التي تتسم بالتمييز ضدهم، والتي وضعتها إسرائيل لاستخدام الأراضي بأسرها حالياً وفي المستقبل، وتبقى بذلك خارج نطاق هذه المفاوضات؟

إن ما أوردناه أعلاه لا يمثل الأوجه الكاملة للترتيبات التي وضعتها إسرائيل موضع التنفيذ. ومن أجل استكمال الصورة، ينبغي لنا أن نعرض الآن النوع الآخر من الترتيبات المبتكرة بغية خلق إدارة للفلسطينيين تختلف عن تلك التي يخضع لها المستوطنون الإسرائيليون الذين يعيشون على الأرض ذاتها.

ثالثاً: خلق إدارة منفصلة للفلسطينيين

              عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية، خوّل ضابط المنطقة (الذي كان آنئذ حاييم هيرتسوغ، وهو الآن رئيس إسرائيل) نفسه الصلاحيات التشريعية والقضائية والتنفيذية كافة. وبعد ذلك بقليل، أصدر الأمر العسكري رقم 130 (بتاريخ 27 أيلول/ سبتمبر 1967) الذي حُددت بموجبه صلاحيات ضابط المنطقة بخصوص توكيل سلطته المنتحلة حديثاً.[18]   ومن خلال استخدام سلطة التوكيل هذه، تم تنفيذ سياسات الاحتلال التي صاغها ضباط إسرائيليون كبار، وتم ذلك في  الغالب على يد موظفين مدنيين فلسطينيين. لذا، وفي مجال التربية والصحة والقضاء المحلي والرفاهية الاجتماعية، على سبيل المثال، وباستثناء الوظائف الكبرى، نفذ الموظفون المدنيون الفلسطينيون السياسات التي رسمتها الإدارة الإسرائيلية.

وعقب اتفاق كامب ديفيد، وخشية انسحاب الحكومة العسكرية، أعادت إسرائيل ترتيب إدارتها كي تعكس سياساتها. وفي 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1981، أعلن القائد العسكري للقوات الإسرائيلية قيام الإدارة المدنية.[19]   أما الموظف الإسرائيلي الذي كان يرئس هذه الإدارة، والذي عيّنه حاكم المنطقة العسكري، فقد أُوكلت الصلاحيات إليه بموجب لائحة مرفقة بالأمر العسكري، قوامها نحو 160 أمراً عسكرياً. وشملت هذه الأوامر ميادين التربية والقضاء المحلي والصحة والرفاهية الاجتماعية وإلى ما هنالك، ومع مرور الزمن ازدادت هذه اللائحة طولاً.[20]

وقد حددت اللائحة الوظائف التنفيذية التي كان رئيس الإدارة المدنية مسؤولاً عنها. وكان يُظن أن هذه الوظائف يمكن أن تنتقل إلى الفلسطينيين إذا جاء زمن اضطرت إسرائيل فيه إلى تقديم تنازلات على شكل منح الفلسطينيين الحكم الذاتي. وعلى سبيل المثال، فإن كل ما كان له أدنى صلة بالمستوطنات، أو بأمور المستوطنين، لم يظهر ضمن هذه الوظائف. لكن الأمر الأساسي هو أنه، ومهما تكن صفة هذه "الأمور المدنية"، فقد كانت تُدار مباشرة تحت سلطة قائد المنطقة، الذي بقي مصدر السلطات كافة.

إن العرض الذي تقدم الجانب الإسرائيلي به للفلسطينيين في الجولة الرابعة من المفاوضات التي تمت في شباط/ فبراير – آذار/ مارس الماضيين، ونال شهرة واسعة، كان في الواقع شبيهاً جداً بنموذج الإدارة المحلية الذي جرى طرحه في الأمر العسكري رقم 947 الصادر سنة 1981. وهكذا، فقد اتضح أن كل ما كان الجانب الإسرائيلي مستعداً لتقديمه للفلسطينيين هو توكيل بعض الوظائف المدنية المعيّنة، وتعيين فلسطيني في نهاية المطاف تحت سلطة حاكم المنطقة العسكري ليرئس الإدارة المدنية، التي يرئسها إسرائيلي الآن. وزعموا أن هذا العرض عرض حقيقي للحكم الذاتي، في الوقت الذي لم يكن هذا العرض سوى اقتراح مخادع يهدف إلى تعزيز ترتيبات غير شرعية تتعارض مع أي سلام دائم.

والأمر ذاته يقاس في الاقتراح الإسرائيلي الذي قُدِّم في الجولة الخامسة التي بدأت في نهاية نيسان/ أبريل، وفحواه السماح بإجراء انتخابات بلدية. فبعد أن قيّدت الحكومة الإسرائيلية سلطات المجالس البلدية، وأعادت تحديدها من جديد على نحو يجعل المستوطنات التي أُنشئت ضمن حدودها خارج صلاحياتها (كما هي حال الخليل مثلاً)، ورغبة منها في الظهور بمظهر المتعاون في هذه المفاوضات، أشارت هذه الحكومة إلى أنها مستعدة للسماح بما تزعم أنه قسم أكبر من الحكم الذاتي للفلسطينيين الذين يعيشون تحت حكمها. والواقع إن ما تفعله هذه الحكومة لا يتعدى السماح للفلسطينيين بممارسة حق كانت قد منعتهم، بصورة غير شرعية، من ممارسته في المقام الأول؛ وذلك لأن قانون البلديات الساري يفرض إجراء الانتخابات مرة كل أربعة أعوام.

وإذا ما أبدى الفلسطينيون استعداداً لخوض نقاش في شأن ترتيبات الحكم الذاتي، وهذا ما تجري المفاوضات بشأنه حالياً، استناداً إلى الشروط المقترحة من الجانب الإسرائيلي، فإنهم يكونون بذلك قبلوا ما لا يتعدى كونه، في أحسن الأحوال، إصلاحات ضمن الإطار الراهن لضم الأرض من دون شعبها. وفي واقع الأمر، فإنهم سيكونون قد قبلوا المساهمة في تعزيز نظام الفصل العنصري الذين تم وضعه على امتداد عقدين ونصف العقد من السنين، من قبل حكومات إسرائيلية متعاقبة، وخلافاً لأحكام القانون الدولي وقانون البلديات؛ أي المساهمة في إضفاء الشرعية على ترتيبات غير شرعية إطلاقاً. كما أنهم سيحكمون بالفشل على المفاوضات بشأن الوضع النهائي التي تستند، وفقاً للشروط المرجعية، إلى القرارين رقم 242 ورقم 338. وهذان القراران يشجبان اكتساب الأرض من خلال الحرب، ويطالبان إسرائيل بالانسحاب.

ومن الواضح أيضاً أن السياسة الإسرائيلية قد مورست بثبات مخيف ومخيب للآمال، لا يبدو أنه تزعزع بمشاركة تلك الدولة في مفاوضات السلام.

خاتمة

              إن الأساس الذي ترتكز مفاوضات السلام عليه، في نهاية المطاف، هو الاعتقاد أن الترتيبات التي فرضتها إسرائيل من جانب واحد في الأراضي التي احتلتها سنة 1967، قد أدّت إلى بلبلة في المنطقة، ويجب استبدالها بترتيبات أخرى من شأنها أن تؤدي إلى الاستقرار والسلام. ولن تبدأ المفاوضات بشأن الوضع النهائي إلا بعد مضي ثلاثة أعوام على بدء المرحلة الانتقالية. والترتيبات التي يجري التفاوض بشأنها الآن ليست نهائية في حد ذاتها، بل هي مجرد ترتيبات انتقالية لا تبقى صالحة سوى لفترة لا تتجاوز خمسة أعوام.

              لقد سعت الحكومة الإسرائيلية، على امتداد الأعوام الأربعة والعشرين الماضية، لخلق حقائق كانت تأمل بأن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الواقع، بحيث يصبح من المستحيل العودة عنها. وعلى امتداد السنة المنصرمة، بصورة خاصة، تسارعت وتيرة هذه العملية. لكنْ، هل أن هذه التغييرات نهائية فعلاً، ولا يمكن العودة عنها؟

              من الصحيح، مثلاً، أن نسبة مرتفعة من الأرض في الأراضي المحتلة قد أُعيد تسجيلها، وتم تحديد استخدامها مستقبلاً لخدمة المستوطنات الإسرائيلية. ومن الصحيح، أيضاً أن ثمة تغييرات شاملة قد حدثت في القانون الساري هناك.

لكن علينا ألاّ ننسى أن الأمر الذي سبّب إعادة تسجيل الأرض في المقام الأول، وبالطريقة السيئة التي تمت بها كما وصفناها أعلاه، كان تعليق العمل بالقانون المحلي الخاص بتسجيل الأرض. وكل ما هو مطلوب للسماح لهذه العملية بأن تعود إلى سابق عهدها، هو – بكل بساطة – إلغاء الأمر رقم 291؛ وعندها يمكن للأرض أن تُسجَّل وفق القانون. ومثل هذا التراجع الإداري يعني أنه لن يكون في الإمكان في المستقبل الاستيلاء، بطريقة أو بأخرى، على نحو 40% من أراضي الضفة، وتخصيصها لمصحة اليهود. وبعد إنجاز هذا الأمر، تعود المشكلة لتتخذ حجمها الحقيقي، أي أن 5% فقط من الأرض يستوطنها اليهود فعلاً.

إن الموقف الإسرائيلي، كما جرى توضيحه حتى الآن، هو الإصرار على أن نقطة البداية هي ما آلت الأمور إليه بعد 25 عاماً من سياسة متعمدة منهجية، تهدف إلى خلق الحقائق انتهاكاً للقوانين البلدية والدولية ولحقوق السكان الفلسطينيين. ويمكن إيضاح الأمر بتشبيهه بنزاع نشب بين صاحب منزل وبين آخر استولى على المنزل بالقوة. وقد بقي بعض أفراد أسرة صاحب المنزل في غرفة من غرف المنزل بعد الاستيلاء عليه. وبعد ذلك بأعوام، وعندما فشل الجانبان في حل نزاعهما عن طريق القتال، قرّرا الجلوس معاً إلى طاولة المفاوضات. لكن الرجل الذي استولى على المنزل أوضح، عند بداية هذه المفاوضات، أنه غير مستعد لأن يتكلم في أي شيء سوى في أي ركن من أركان الغرفة التي يسكنها أفراد عائلة صاحب المنزل يمكن أن يعلقوا ثيابهم، أو أن يضعوا إناء الزهور. أما فيها يختص بحق الانتفاع من المياه والكهرباء، وحق دخول المنزل والخروج منه بحرّية، فإن الرجل الذي استولى عليه يرى أن الأمر يقع خارج نطاق هذه المفاوضات، ناهيك بقضية عودة بقية أعضاء الأسرة والأجزاء الأخرى من المنزل.

والأمل هو أن يرى المتعقلون في إسرائيل وخارجها سخافة موقف كهذا، ويدركوا أن الإصرار على تفسير ضيق جداً للشروط التي تستند المفاوضات إليها، قد يبدد فرصة تاريخية عظمى للوصول إلى سلام متفق عليه. 

[1]   نشر نص الرسالة الكامل في: Journal of Palestine Studies, Vol. XXI, No. 2, Winter 1992, pp. 120-121.                                                                                                                   

[2]   جاء في رسالة الدعوة أن "ترتيبات الحكم الذاتي الموقت ستدوم خمسة أعوام."

[3]   ذلك لأن معظم خطط استعمال الأرض المفصلة والخطط الإقليمية يُعدُّ لمدة هذا طولها.

[4]    تقضي المادة 3 (أ) من الأمر العسكري 569 بأن "يقوم المسجل [الذي سيعينه الحاكم العسكري للضفة الغربية لأغراض هذا الأمر، على ما جاء في المادة الثانية من الأمر العسكري عينه] بتأسيس سجل لتسجيل صفقات العقارات التي تطبق عليها المادة 2 [....] وفيه تسجيل الصفقات." ولا ذكر، في أي موضع من الأمر، لمكان وجود المسجل هذا.

[5]    ربما أشير إلى الأراضي "العامة" أحياناً بعبارة أراضي الدولة. ومع أنها تغطي السواد الأعظم من الأراضي التي استولت إسرائيل عليها ووضعتها في تصرف المستوطنين، فهي ليست إلا وسيلة من وسائل عدة استخدمتها سلطات الاحتلال للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين. ومن أجل دراسة مفصلة للطرق المختلفة التي تستملك بها الأرض في الأراضي المحتلة وتوضع في تصرف المستوطنين، أنظر كتاب المؤلف بعنوان: "قانون المحتل: إسرائيل والضفة الغربية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ الكويت: جامعة الكويت، 1990)، ص 29 – 59.

[6]   John Quigley, in “Apartheid Outside Africa: The Case of Israel,” Indiana International and Comparative Law Review, Vol. 2, No. 1, Fall 1991, p. 234.                             

     ويبيّن المقال أن نسبة 75% من الأرض تمتلكها الدولة، وأن 17,6% يملكها الصندوق القومي اليهودي.

[7]    كتب المؤلف، سنة 1983، إلى قائد المنطقة طالباً منه استئناف عملية تسجيل الأراضي. وفي معرض رده، المؤرخ في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1983، سوّغ المستشار القانوني لقائد المنطقة رفضه الطلب بكون السلطات العسكرية لا تستطيع السماح بتسجيل الأراضي، لأن ذلك قد يضرُّ بمصالح أصحاب الأملاك الغابين.

[8]   القانون الأساسي: أراضي إسرائيل، المادة الأولى/14، قوانين دولة إسرائيل 48، 1960. لاحظ أنه حيثما يحظر هذا القانون بيع هذه الأراضي فهو لا يحظر تأجيرها. أما في حال غير اليهود فالتأجير محدود جداً.

[9]   وتقضي المادة 3 (ب) من الأمر 569 بأن "يكون السجل مفتوحاً لاطلاع الجمهور، ويجوز لكل شخص الاطلاع عليه إلا إذا منع قائد المنطقة الاطلاع على السجل لأسباب تتعلق بالأمن." ثم جاء الأمر 605 يقضي بحصر مراجعة السجل بأولئك المخوَّلين القيام بالمعاملات المتعلقة بأراضي الدولة، أي أن مراجعة السجل قد اقتصرت على المسؤولين الرسميين الإسرائيليين.

[10]   أنظر:

  Meron Benvenisti, The West Bank Data Project: A Survey of Israel’s Policies         (Washington and London: American Enterprise Institute for Public      

Policy Research, 1984), p. 19.                                                                    

[11]   أنطوني كون محاضر في مركز التخطيط في جامعة ستراثكلايد. والاقتباس مأخوذ من:

Anthony Coon, “Racial Distinctions Break on West Bank,” Planning Journal,          

November 1991.                                                                                               

ويمكن الحصول على نسخة سابقة للنشر عن الدراسة الكاملة من مؤسسة الحق، وهي فرع الضفة الغربية للجنة الحقوقيين الدولية، ص.ب 1413، رام الله عن طريق إسرائيل. وستنشر دارتماوث في بريطانيا الدراسة الكاملة في ربيع سنة 1992.

[12]  خوّل الأمر العسكري رقم 892 قائد المنطقة أن يحدد الأصول التي ستحكم المجالس الإسرائيلية المحلية في الضفة الغربية. وقد قام بذلك من خلال أصول وضعت بفضل هذا الأمر.

[13]   Emergency Regulations (Judea and Samaria, Gaza Strip, Sinai and Southern Sinai) Criminal Jurisdiction and Legal Assistance (Amendment and Extension of            

Validity Law, 5744-1983.                                                                                         

[14]   كانت الدعوى الأولى التي اعتبرت فيها المحكمة الإسرائيلية المستوطنين في الأراضي المحتلة جزءاً من السكان المحليين دعوى شركة كهرباء منطقة القدس المحدودة ضد وزير الدفاع وآخرين سنة 1972، P.D. 27(1). 124, 138 F  والدعوى المناقشة في النص كانت دعوى تعاونية إسكان المدرسين ضد قائد المنطقة في الجيش الإسرائيلي ولجنة التخطيط العليا، SCJ, No. 393/82

[15]   توجد المدارس الإسرائيلية في مستوطنتين على الأقل: بيت إيل قرب رام الله، وأريئيل بالقرب من نابلس. وقد أقامت جامعة بار – إيلان والجامعات الإسرائيلية فروعاً (أو دوائر) في مستوطنتين في الضفة الغربية. أما القاعدة القانونية التي أُقيمت هذه الفروع بموجبها، فغير واضحة عندي. لكن من المتوقع أن تعامَل هذه المؤسسات كأنها تعمل داخل إسرائيل، وذلك لأسباب تتعلق بدعمها من قبل الدولة، وتمويل الطلاب، وحساب الأرصدة الجامعية، وتطبيق الأنظمة والمناهج الإسرائيلية عليها.

[16]   عرّف الاتفاق الدولي بشأن قمع ومعاقبة جريمة التمييز العرقي التمميزَ العرقي بأنه يشمل "ما يلي من الأعمال اللاإنسانية المرتكبة من أجل بسط وصيانة سيطرة جماعة عرقية على أية جماعة عرقية أخرى وإنزال الحيف المنظم بها." وتشتمل القائمة على مصادرة أرض جماعة عرقية، والاعتقال والسجن الاعتباطيين، والإجراءات التي تميّز جسدياً جماعة عرقية معينة، إلخ. وتحظر الاتفاقية أيضاً الإجراءات "المصمَّمة من أجل تقسيم السكان بحسب قواعد عرقية من خلال إنشاء محميات ومَعازل (غيتوات) لأعضاء جماعة عرقية معينة." وتفيد لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (المستشهد بها في كتاب Quigley, op.cit., p. 224) بأنه "على الرغم من أن جنوب أفريقيا هي أهم ما تهتم الاتفاقية به"، فإن "تطبيقها شامل" نظراً إلى "الاهتمام بكشف التمييز العرقي ومعالجته من حيث ماهيته، وبصرف النظر عن موضع حدوثه."

[17]   Coon, op.cit.

[18]   تنص المادة 18 (أ) من الأمر العسكري رقم 130 على ما يلي: "حيثما ورد الكلام في تشريع الأمن عن صلاحية أو مهمة خاصة بقائد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في المنطقة، يجوز لقائد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في المنطقة:

  • أن يحيل صلاحياته أو مهامه خطياً إلى شخص آخر، باستثناء صلاحية إصدار المناشير والأوامر التي تسري على المنطقة كلها.
  • أن يخول خطياً كل سلطة تعمل بالنيابة عنه، بأن تحيل صلاحياتها إلى شخص آخر.

[19]   الأمر رقم 947، بشأن إقامة إدارة مدنية، صادر في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1981.

[20]   عن اللائحة الكاملة والوصف الموجز لكل من الأوامر الملحقة بالأمر العسكري رقم 947، أنظر:

Jonathan Kuttab and Raja Shehadeh, “Civilian Administration in the Occupied          

West Bank: Analysis of Israeli Military Government Order No, 947,”             

وهو من منشورات مؤسسة الحق سنة 1982. أنظر أيضاً:

Joel Singer, “The Establishment of a Civil Administration in the Areas                   

Administered by Israel,” in Israel Yearbook of Human Rights, Vol. 12,          

1982, pp. 259-289.                                                                                              

السيرة الشخصية: 

رجا شحاده: محام – المدير المشارك لمؤسسة الحق / القانون من أجل الإنسان في الضفة الغربية.