كُتب الكثير عن منظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذا الكتاب من أفضل ما كُتب. فالمؤلف، ركس براينن، يجمع بين براعة عالِم السياسة وبراعة المؤرخ، ليخرج برواية فيها التفصيل الزمني. كما التحليل بحسب الموضوعات.
فالهدف الأساسي لهذا الكتاب دراسة العلاقة الدينامية التي تنشأ حين تضطر حركة تحرير وطنية، تستخدف العمل المسلح وسيلةً رئيسيةً بسبب الأوضاع التاريخية، إلى أن تمارس نضالها في المنفى وخارج الوطن الذي تطالب به. وبما أن القسم الأعظم من المجتمع الفلسطيني اقتُلع بالقوة من دياره وأرضه، بسبب إنشاء إسرائيل سنة 1948، فقد شكّل هذا الأمر صعوبات جوهرية لإعادة تجدّد الحركة الوطنية الفلسطينية. فتحطيم المؤسسات السياسية والثقافية، وتفتيت الشبكات الاجتماعية والاقتصادية، أعاق نمو هذه الحركة، وجعل من إعادة صهر الهوية، وإعادة تكوين هيئة مركزية لها طابع شبه حكومي (منظمة التحرير)، خطوة أولى نحو استعادة الأرض ذاتها.
لكن، وفوق كل هذا وذاك، فإن الحقيقة المادية الطاغية التي كان على الحركة الوطنية الفلسطينية النامية أن تواجهها هي أن اللاجئين كانوا مشتتين في عدة دول عربية مضيفة، أو موزعين في أرجاء شتى من وطنهم الأصلي، فلسطين (في الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل ما قبل سنة 1967). وفي كل مكان، كان الفلسطينيون خاضعين لحكم سياسي أجنبي ولتقييدات أمنية، إسرائيلية كانت أم لبنانية أم سورية أم أردنية، إلى ما هنالك.
وكي يطور المؤلف موضوعه، درس الحقبة التي هي في كثير من النواحي أهم الحقب وأكثرها كشفا ً عن الحقيقة في تاريخ تطور المنظمة، أي الحقبة التي تم فيها إنشاء الدولة – داخل – الدولة الفلسطينية في لبنان، ما بين سنة 1969 وسنة 1982. ولم تنتقل المنظمة إلى لبنان طوعاً، بل بسبب هزيمتها في الحرب الأهلية الأردنية في سنتي 1970 و1971، والتقييدات التي فُرضت عليها لاحقاً في سوريا. لكن، وعلى امتداد العقد التالي من السنين، استطاعت المنظمة أن تكسب الوقت. وخلال تلك الفترة، سعت المنظمة لـ"تأسيس" الهوية الفلسطينية؛ وهكذا فرضت وجودها على الخريطة السياسية إقليمياً ودولياً.
غير أن إنجازات المنظمة كان لها ثمن مرتفع. ويرصد المؤلف الطريق الملتوي لتأكيد الوجود الفلسطيني في لبنان، من انتفاضة محلية حررت مخيمات اللاجئين من حكم الشرطة السرية اللبنانية الضاغط، إلى توقيع اتفاقية القاهرة التي شكّلت الأساس اللاحق الذي بُنيت عليه العلاقات الرسمية بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير. فالوجود المتنامي للحركة الفلسطينية وحيويتها جرّا إسرائيل بالضرورة إلى سياسة من الرد الثأري المتعاظم في عنفه والعشوائي ضد لبنان، الأمر الذي غذّى بدوره التوترات الداخلية ضمن النظام اللبناني والتوترات الإقليمية، وخصوصاً مع سوريا. وعلى امتداد الكتاب، يركز المؤلف على دور المنظمة في الصراع المتنامي، وخصوصاً خلال حرب السنتين (1975 – 1976) وما بعدها، كي يوضّح نظرة المنظمة إلى محيطها وكيفية تعاملها مع ذاك المحيط.
وفي نهاية المطاف، نجحت المنظمة في الوصول إلى مكانة إقليمية ودولية تثير الإعجاب، من خلال خلق ما يشبه الدولة في لبنان والدفاع عنها. والواقع أن هذا كان ذا أهمية كبرى لنجاح التيار المركزي بقيادة عرفات في التقليل من أهمية الكفاح المسلح كهدف مركزي، وتشجيع الدبلوماسية وفكرة التسوية المتفاوض في شأنها مع إسرائيل ضمن الحركة الفلسطينية. وكما أكد المؤرخون الإسرائيليون، فإن هذا الخوف من نجاح المنظمة، الذي قد يؤدي إلى محادثات في العمق مع الولايات المتحدة، وفيما بعد إلى السلام وإلى دولة فلسطينية، هو الذي صنع قرار اجتياح لبنان سنة 1982 وتفكيك بنية المنظمة التحتية هناك. ويقدم براينن تقويماً منطقياً لتجربة منظمة التحرير في لبنان، ولكيفية صنع القرار فيها حتى اندلاع تلك الحرب، ثم ينتهي إلى لمحة عامة عن تأثير هذا الصراع في سياسات المنظمة واستراتيجيتها عقب ذلك.
وعلى عكس معظم المؤلفين الغربيين الذين عالجوا هذا الموضوع، نجح براينن في استخدام المواد باللغة العربية بكثافة. وقد ضم ذلك إلى مصادر منشورة أخرى وإلى سلسلة مهمة من المقابلات مع شخصيات قيادية في المنظمة، ونسج هذه المواد بمهارة ليصنع منها كتاباً بارعاً يتّصف بالحبكة، والحساسية حيال المعاني الدقيقة، والأسلوب العلمي. وكل مؤلف يتبعه على هذا الطريق سيجد من الصعب أن يتقدم عليه.