يحاول المقال الإجابة عن السؤال ما إذا كان القرار السوري بالموافقة على المبادرة الأميركية لبدء التسوية السلمية قد شكّل تغييراً أم أنه لم يكن سوى تحرك تكتي. وهو يقسم الجواب إلى شقين: الأول يتعلق بجوهر التسوية وموضوعها، والثاني يتعلق بالمسائل الإجرائية. وهو يخلص إلى أن القيادة السورية تنظر إلى مجمل العملية على أنها معركة أخرى وجزء من الصراع لاحتواء التوسع الإسرائيلي وضمان الاستقرار.
أولاً: تمهيد
اعتبر بعض المحللين والخبراء أن القرار السوري في تموز/يوليو 1991، بالموافقة على المبادرة الأميركية لبدء عملية التسوية السلمية للنزاع العربي – الإسرائيلي، لم يكن متوقعاً. والسؤال الذي طرح آنذاك هو ما إذا كان هذا القرار قد شكّل تغييراً جذرياً في الموقف السوري، أم أنه لم يكن سوى تحرك تكتي فرضته الأحداث بعد حرب الخليج الثانية وانتهاء الحرب الباردة. ويمكن تقسيم الجواب إلى شقين: الأول يتعلق بجوهر التسوية وموضوعها، والثاني يتعلق بالمسائل الإجرائية.
ففيما يخص موضوع التسوية أو صيغتها، ليس هناك في الواقع تحول أساسي بالمفهوم والموقف السوريين حيال شروط الحل السلمي منذ تولي الرئيس حافظ الأسد زمام السلطة في تشرين الثاني/نوفمبر 1970. وليس من المبالغة القول إن الوصف الملائم لسياسة في هذا المجال هو التمسك بمفهوم ثابت ومنسجم مع نفسه. فهزيمة سنة 1967 شكلت نقطة التحول في تفكير الرئيس الأسد، الذي كان آنذاك وزيراً للدفاع، كما في تفكير الكثيرين من أفراد الطبقة المثقفة والنخبة السياسية، وخصوصاً في حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم. وحتى قبل حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ألقى الرئيس الأسد خطباً أوضح فيها أن أية تسوية عادلة ومستقرة يجب أن تكون شاملة، وأن تستجيب للحقوق العربية من أجل احتواء التوسع الإسرائيلي، بغض النظر عن طبيعة قرارات الأمم المتحدة وشكلها (علماً بأن سوريا لم تكن، في ذاك الوقت، قد قبلت القرار رقم 242 بعد).
وفي إثر حرب تشرين الأول/ أكتوبر، قبلت سوريا قرار مجلس الأمن رقم 338 الذي يدعو إلى تنفيذ القرار رقم 242 عن طريق المفاوضات، وضمن إطار ملائم، وهو ما أدى إلى عقد مؤتمر جنيف سنة 1973 برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. غير أن سوريا، على الرغم من رفضها حضور المؤتمر آنذاك لعدم وجود تعهد كاف قوي من قبل راعييْ المؤتمر بتنفيذ القرار رقم 242، تعاونت مع الجهود الأميركية بعد اتفاق فصل القوات سنة 1974، لعقد مؤتمر دولي حتى تشرين الأول/ أكتوبر 1977، حين أحبطت إسرائيل الاتفاق الأميركي – السوفياتي على عقد مؤتمر دولي حينذاك. وتبع انتكاس هذه الجهود عقد اتفاق الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل سنة 1979، الذي اعتبرته سوريا أنه وجه ضربة قاسية إلى مفهومها الاستراتيجي للتوصل إلى تسوية سلمية شاملة.
ثانياً: المفهوم الاستراتيجي السوري
من الواضح أن قبول القرارين رقم 338 ورقم 242 من جانب سوريا عنى أنها تقبل بالواقع الإسرائيلي، على الرغم من أنه مرفوض نظرياً بحسب المنطق القومي العربي؛ فقد كانت الفكرة السائدة أنه لا يمكن التوصل إلى تعايش سلمي بين عقيدتي القومية العربية والحركة الصهيونية. غير أن الكارثة العسكرية والسياسية سنة 1967 شكلت، في الواقع، الشرارة التي حرّكت العقل العربي للبحث عن أسباب النكبة وسبل التخفيف من آثارها، وبالتالي تفحّص واقع الصراع العربي – الإسرائيلي وما آل إليه. ويمكن القول إن محصلة النقاش آنذاك على المستوى العربي، وخصوصاً في مصر وسوريا، من قِبل من طرحوا الديماغوجية السياسية جانباً، أدت إلى استخلاص ثلاث نتائج مهمة:
أولاً: إن الفجوة التقنية بين إسرائيل والعرب من السعة بمكان في كل مجال، نظراً إلى
الارتباط العضوي بين الغرب وإسرائيل. واي حديث عن تدمير الكيان الصهيوني مقولة لا تستند إلى التحليل الموضوعي؛
ثانياً: على الرغم من أن الاتحاد السوفياتي يدعم الجانب العربي، عسكرياً وسياسياً، فإن المجتمع الدولي، وخصوصاً العملاقين آنذاك، لا يمكنه القبول بهزيمة إسرائيل على الصعيد العسكري هزيمة حاسمة (حتى لو كان ذلك ممكناً نظرياً)؛ فبالأحرى عدم التأمل بتدمير وجودها؛
ثالثاً: أثبت شعار إنجاز "الوحدة العربية"، بالمعنى الدقيق والشامل الذي رفعته "الأنظمة الثورية" كشرط مسبق لهزيمة إسرائيل، إفلاسه الكامل. فقد ثبت أن إسرائيل عدوة العرب، سواء أكانوا رجعيين أم ثوريين؛ إذ أنها تهدف إلى التوسع على حساب الأرض والموارد العربية، بغض النظر عمن يسود هذه الأرض ويتحكم في تلك الموارد.
وانطلاقاً من هذه النتائج، بدأ البحث عن مفهوم استراتيجي لترميم الخلل في ميزان القوى بين إسرائيل والعرب، من أجل استعادة الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وحل المشكلة الفلسطينية. فالتسوية المستندة إلى هذين العنصرين تمكّن، مرحلياً، من احتواء وتحييد السياسة التوسعية الإسرائيلية المهددة للأمن القومي العربي.
وبالنسبة إلى الرئيس الأسد، فقد تمحورت استراتيجيته حول مبدأين رئيسيين:
أولهما، تبني مبدأ "التضامن العربي" كي يتمكن العرب من تكريس جهودهم لمجابهة إسرائيل؛ فالشعار الثوري الداعي إلى قلب الأنظمة العربية التقليدية، وتحقيق الوحدة العربية، فَقَد صدقيته بعد أن أثبت الواقع أن التناقض الرئيسي هو مع إسرائيل لا بين بعض الدول العربية وبعضها الآخر. ونقطة ارتكاز هذا التضامن العربي الأساسية يجب أن تكون التحالف الثلاثي بين الدول العربية الرئيسية: مصر والسعودية وسوريا. وفعلاً، فقد مكّن هذا التحالف مصر وسوريا من القيام بحرب تشرين الأول/أكتوبر. واستمرار هذا المحور يحقق الحد الأدنى من علاقات القوى القادرة على ردع إسرائيل، ويقوي الموقف التفاوضي العربي، كما يضمن توازن القوى المطلوب لتثبيت دعائم التسوية السلمية في حال التوصل إليها.
وثاني مبدأ في الاستراتيجية السورية، خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والغربي، كان استغلال هامش المناورة بينهما للاستفادة من الدعم السياسي والعسكري الذي يقدمه الاتحاد السوفياتي وموازنة الدعم الأميركي لإسرائيل.
ثالثاً: المتغيرات الدولية والإقليمية
تبع السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل نشوب الحرب العراقية – الإيرانية سنة 1980، الأمر الذي أدى إلى تدمير ما تبقى من التضامن العربي لانشغال دول الخليج باحتواء خطر الثورة الإيرانية، ورفض سوريا الانجرار إلى دعم هذه الحرب؛ وهو ما أدى، بالتالي، إلى انعزالها عن دينامية النظام العربي. وفي تلك الفترة جابهت سوريا، وحدها بين الدول العربية، إسرائيل في لبنان بين سنة 1982 وسنة 1985، مع بعض المساعدة من إيران.
ولم تستعد سوريا دورها المركزي في الساحة العربية إلا بظهور عاملين رئيسيين هما: انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية سنة 1988، وبداية الانفراج الدولي الجديد مع تلاشي الحرب الباردة؛ فالأول وضع حداً لتمحور الدول العربية، ومكّن الرئيس الأسد من بدء تحركه للتقارب مع مصر. والثاني أدى، عملياً، إلى إلغاء دور الاتحاد السوفياتي كثقل موازن للولايات المتحدة*. وأهم ما تأثرت سوريا به، من جراء انتهاء الحرب الباردة وإعادة الاتحاد السوفياتي لتقويم مصالحه الاستراتيجية في الشرق الأوسط، هو أن هدفها الرامي إلى تحقيق "التوازن الاستراتيجي" مع إسرائيل، بمعناه الكامل، أصبح صعب التحقيق. فالتوازن الاستراتيجي كان يعني تحقيق هدفين: أولهما رفع درجة الردع إزاء اي هجوم إسرائيلي على سوريا، وذلك بزيادة نسبة الخسائر التي يمكن أن تتكبدها إسرائيل بالنسبة إلى الهدف الذي تريد تحقيقه من ذلك الهجوم، سواء محاولة إخراج سوريا من لبنان، أو تحطيم قدرتها العسكرية، أو احتلال العاصمة دمشق لفرض استسلام استراتيجي. وثانيهما بناء قوة عسكرية قادرة مستقبلاً على شن حرب ضد إسرائيل لاستعادة الجولان عندما تتوفر الأوضاع السياسية، الدولية والإقليمية، الملائمة. وبالنسبة إلى الهدف الأول، يمكن القول إن سوريا خطت خطوات لا بأس فيها لإنجازه. أما بالنسبة إلى الهدف الثاني، فمن الواضح أنه لم يعد سهل المنال بسبب أن أنظمة الأسلحة الرئيسية هي من مصدر سوفياتي، ومن الصعب استبدالها بالحجم نفسه، أو حتى زيادتها بالوتيرة السابقة نفسها.
وبينما كانت الجهود منصرفة إلى إعادة لحمة التضامن العربي، بما فيها إنهاء الخلاف العراقي – السوري، قام النظام العراقي بغزو الكويت صباح الثاني من آب/ أغسطس 1990، رافعاً الشعار الثوري القديم ضد الأنظمة العربية التقليدية في الخليج لعدم إشراكها العرب في ثرواتها النفطية، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء إلى الغرب لحماية أمنها، وما جلب ذلك من أضرار فبالنسبة إلى الرئيس الأسد، ارتكب النظام العراقي "خطيئة" في حق العرب، وليس خطأ فقط.
وقد اعتبرت سوريا أن حرب الخليج، الناجمة عن غزو الكويت، أفرزت نتيجتين متناقضتين: الأولى ازدياد الضعف العربي تجاه إسرائيل جراء ازدياد التشرذم العربي، وتحجيم القدرات العسكرية العراقية التي تشكل الاحتياطي الاستراتيجي لسوريا؛ والثانية، الموازِنة، كانت تثبيت التحالف الثلاثي مع مصر والسعودية، إلى درجة مكّنت سوريا من الانضمام إلى المحور الأميركي – العربي الجديد الذي جاء نتيجة تطابق المصالح العربية الشاملة كما تراها الدول الثلاث مع المصالح الغربية، لحماية النظام القائم في الخليج العربي. وقد رأت سوريا في هذا العامل الجديد فرصة لقبول المبادرة الأميركية لعقد مؤتمر سلام على أساس القرارين رقم 338 ورقم 242، على الرغم من أنها لا تعتبر أن الشروط المثلى لإنجاز تسوية تستجيب للمطالب العربية متوفرة.
وفي ضوء هذه الأوضاع، كان لا بد من التنازل حيال الشروط الإجرائية التي طالما أصرت سوريا عليها؛ فهي كانت ترغب في مؤتمر دولي يفرض إرادته على إسرائيل لتحقيق تسوية، وذلك في ضوء ضعف الموقف التفاوضي العربي. لكنها، آخذة في الاعتبار أن الثقل السوفياتي الموازن قد تلاشى، وأمام التعنت الإسرائيلي، قبلت باعتبار المؤتمر مظلة دبلوماسية لمفاوضات ثنائية. وهي كانت تفضل دوراً فعالاً للأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية، لكنها قبلت بدورهما كمراقبين، معتبرة أن الالتزام الأميركي القوي تجاه العملية السلمية، لمبادلة الأرض بالسلام، يشكل نوعاً من العامل المعوِّض من التوازن الدولي المطلوب لمساعدة الجانب العربي.
رابعاً: الأهداف السورية
من وراء جهود التسوية
يمكن النظر إلى الأهداف السورية من وراء قبول جهود التسوية السلمية الحالية، من خلال مقياسين: الأول زمني، ويتناول أهدافاً قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى؛ والثاني كمي، يتناول أهداف الحدّين الأدنى والأقصى. وقد يتطابق المقياسان في بعض النقاط، لكن ليس من الضروري أن يتوافقا توافقاً كاملاً.
أ - الأهداف القصيرة المدى
هناك خمسة أهداف رئيسية في المدى القصير:
1) الهدف المباشر للقيادة السياسية السورية هو تقوية العلاقة الأميركية – العربية الجديدة، من خلال تعزيز موقف الإدارة الأميركية الحالية في مواجهة الكونغرس، الذي يشكل قاعدة القوة الرئيسية لدعم إسرائيل؛
2) العمل على تسهيل إعادة انتخاب الرئيس الأميركي، جورج بوش، بتوفير نجاح آخر له في مجال السياسة الخارجية؛ فهو التزم علناً العمل على التوصل إلى تسوية، وهذا ما يشكل التزاماً أدبياً وسياسياً لم يُعهد في الرؤساء الأميركيين السابقين بمثل هذه القوة. فقد استخدم بوش، في رسالته إلى الرئيس الأسد التي توضح بنود مبادرته، عبارة "تتعهد" الولايات المتحدة بموجبها بالعمل على التوصل إلى تسوية سلمية. وإضافة إلى ذلك، من الواضح أن الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية تسعى لموازنة مصالحها بين العرب وإسرائيل، واستتباب الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بعد حرب الخليج، وهذا ما يشكل عاملاً مشجعاً يتطلب الحفاظ عليه؛
3) محاولة تثبيت ارتباط حكومة يمينية إسرائيلية بالعملية السلمية الشاملة، وهو ما أُجبرت إسرائيل عليه نتيجة الضغط الأميركي؛
4) العمل على زيادة التناقضات في الساحة الداخلية الإسرائيلية، وهو ما قد يقود إلى تأليف حكومة جديدة بعد الانتخابات المقبلة، تكون أكثر قبولاً لمبدأ التسوية المبنية على مبدأ مقايضة الأرض بالسلام؛
5) زيادة الضغط على إسرائيل لوقف بناء المستعمرات في الأراضي المحتلة، وخصوصاً أنها تطلب مساعدة مالية كبيرة من الولايات المتحدة لاستيعاب المهاجرين اليهود السوفيات والإثيوبيين.
ب) الأهداف المتوسطة المدى
1) بما أن سوريا لا ترى في الوضع العربي الحالي عامل قوة يساعد الجانب العربي في التفاوض، فإنها تأمل بإعادة التضامن العربي بصورة فعالة. غير أن هذا الأمر يتطلب زوال النظام العراقي الحالي لتسهيل المصالحة العربية؛ ولذلك فهي تشجع المعارضة العراقية، وتستخدم عامل الوقت لزوال هذا النظام.
2) إن إعادة الرئيس بوش لولاية ثانية ستضعه في مركز أقوى لزيادة الضغط على إسرائيل وقبولها بمبدأ الانسحاب، وتمكين الشعب الفلسطيني من السيطرة على مقدراته وأرضه.
ج - الأهداف البعيدة المدى
أما في المدى البعيد، أي خلال 3 – 4 أعوام، فإن سوريا تتوقع أن تتطور الأمور بالشكل الذي يؤدي إلى حشر إسرائيل في الزاوية نتيجة الضغط الأميركي والدولي والعربي. ومن الممكن، عندئذ، التوصل إلى تسوية شاملة على جميع الجبهات تشمل بالضرورة عنصرين أساسيين: الأول، أن يصبح الشعب الفلسطيني في مركز يسمح له بممارسة حقه في تقرير المصير؛ والثاني، تنفيذ الانسحاب الكامل من الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية، ومرتفعات الجولان، والجنوب اللبناني.
ومما يستشف من الموقف السوري إزاء عقد معاهدة سلام مع إسرائيل، أن مثل هذا الأمر لن يحدث قبل أن تنفذ إسرائيل هذين العنصرين الأساسيين للتسوية تنفيذاً كاملاً. وتخدع إسرائيل نفسها إذا اعتقدت أنها قد تستغل أي خلاف في الرأي والتفسير بين الفرقاء العرب، وخصوصاً بين سوريا والشعب الفلسطيني، ممثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية. فالتزام سوريا تجاه القضية الفلسطينية ليس نابعاً من سبب عقائدي، ويشكل شرعية أي نظام حاكم في سوريا فحسب، بل هو ناجم أيضاً عن كونه ذا مصلحة حيوية لسوريا. وهذا ناشئ عن وضع الفلسطينيين كلاجئين في الأردن ولبنان وسوريا، تُنكر عليهم حقوقهم الوطنية المشروعة في الانتماء إلى دولتهم الخاصة، الأمر الذي يولد بالتالي عدم استقرار سياسي تتأثر الدول الثلاث به، إنْ حدث في إحداها، كما ثبت عقب حوادث الأردن سنة 1970، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية 1976 – 1989. وهذا، بالتالي، هو ما يدحض حجج بعض المحللين الغربيين الذين يرددون المزاعم الإسرائيلية بعمى فكري من أن الدول الثلاثة تستغل المشكلة الفلسطينية لأغراضها الخاصة الداخلية.
خامساً: الخلاصة
يُطرح السؤال التقليدي عماً إذا كانت سوريا متفائلة أم متشائمة من نتيجة المفاوضات الحالية. لكن هذا ليس الشاغل الأساسي بالنسبة إلى القيادة السورية؛ فهي تنظر إلى مجمل العملية السلمية على أنها معركة أخرى، وجزء من الصراع لاحتواء التوسع الإسرائيلي وضمان الاستقرار. ومع ذلك، فالرئيس الأسد يعتبر أن كون العملية ابتدأت يشكل عاملاً إيجابياً في حد ذاته. فهو يعتبر أن الموقف الجدي الذي تتخذه الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لإنجاز تسوية، مؤشر مشجع للمستقبل إذا أُحسن استخدامه. ومن الممكن القول إن سوريا ترى، كحد أدنى، أن في المفاوضات فائدة للجانب العربي من أجل كبح إسرائيل في ظل "النفوذ الأميركي المهيمن" أو كما يسمى، أدباً، "النظام الدولي الجديد". وهي ترى كحد أقصى، وفي المستقبل المنظور مع توفر كامل الشروط الموضوعية الملائمة دولياً وإقليمياً، أن إسرائيل ستُجبر على الخضوع للأمر الواقع والقبول بالمطالب العربية.
لكنْ لا بد من ملاحظة أخيرة، وهي أنه يجب التزام جانب الحذر لعدم الركون إلى السلبية. فالعملية السلمية الحالية لا تجري ضمن علاقات قوى صحيحة ومتوازنة، بل تعتمد إلى حد كبير على "النية الحسنة" للولايات المتحدة. وبالنسبة إلى أتباع مدرسة موازين القوى، فإنه لا يمكن الاعتماد على النية الحسنة وحدها لبناء سياسة خارجية وضمان الأمن القومي أمام احتمالات المتقلبات السياسية المستقبلية. والخطر الأكبر هو إمكان عدم إعادة انتخاب الرئيس بوش لأسباب داخلية، الأمر الذي يعرض العرب لخيبة أمل كبيرة، بالإضافة إلى إمكان حدوث ردات فعل إقليمية وعربية، فيما إذا تراجعت الإدارة الأميركية المقبلة عن تعهدها بالقيام بدور فعال لدفع المسيرة السلمية بالزخم والوتيرة أنفسهما.
وما يبقى مجالاً للترقب والاهتمام هو إلى أي مدى قد يتمكن الجانب العربي من الاستفادة من العامل الأميركي الحاسم لوضع حدّ لتوسع إسرائيل على حساب الأرض العربية، ولإنكارها حقوق الشعب الفلسطيني كي تفرض هيمنتها على المنطقة. وفي الجانب الآخر، هل تتابع إسرائيل أسلوبها العنجهي فتفوّت الفرصة التاريخية لدخول مرحلة ضبط النزاع كي تصل إلى تعايش سلمي مع البيئة العربية، إذا ما اعتقدت أنها تستطيع التملص من العملية السلمية والحفاظ على الوضع القائم. فدروس التاريخ تؤكد مقولة أساسية هي أنه لا يمكن للدول والشعوب أن تستسلم لوضع قائم تعمل فيه معادلة علاقات القوى ضد مصالحها الحيوية؛ إذ إن علاقات القوى هذه عرضة للتبدل مع الوقت. كما أن العرب، مدفوعين بعامل الدفاع عن النفس، سيعملون إنْ آجلاً أو عاجلاً على تغيير الوضع القائم، سواء سلماً أو حرباً.
* يسود الآن تفسيران فيما يتعلق بانتهاء الحرب الباردة: فبعض العرب يعتقد أن ذلك يساعد في إنجاز تسوية سلمية، لأن إسرائيل فقدت قيمتها للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط، وهذا مما يسهل ازدياد الضغط الأميركي عليهأ. والبعض الآخر يرى أن في ذلك إخلالاً بالتوازن الدولي، الأمر الذي يسمح بمزيد من الهيمنة الأميركية، وهذا يؤدي إلى زيادة إضعاف الجانب العربي. والواقع أن من المبكر استقراء نتائج محددة في شأن التغييرات في النظام الدولي وتأثيرها في الصراع العربي – الإسرائيلي، لاعتماد ذلك على عوامل إقليمية أخرى.