يعالج المقال الموضوع تحت العناوين الفرعية: المنظور العربي للأمن الإقليمي؛ ترتيبات موقتة؛ الحجة الأمنية ـ الإقليمية الإسرائيلية؛ بعض الطروحات المضادة. ويخلص المقال إلى أن دعاة الحجة الأمنية ـ الإقليمية في إسرائيل لا يريدون تقديم أية تنازلات للعرب، حتى لو كان ثمن ذلك إجهاض عملية السلام، وإلى أن السبيل العربي الوحيد لعله دفع هؤلاء نحو الجهر بذلك.
يثير بدء المفاوضات المتعددة الأطراف، بين العرب وإسرائيل، مجموعة من التحديات والإشكالات الجديدة أمام عملية السلام الهشة التي انطلقت بالمفاوضات الثنائية في مدريد. وإذا كانت "المتعددة" تشكل استكمالاً سياسياً ومنهجياً لـ"الثنائية"، في المفهوم الشامل للتسوية في المنطقة، فإن آفاق وفرص الأولى ما زالت رهناً إلى حد بعيد بإمكان التقدم في الثانية، على الرغم من أن مستويات التفاوض وجوهره يختلفان في كل من المسارين، من حيث المبدأ على الأقل.
ولعل من أهم عناصر المفاوضات المتعددة الأطراف تلك المتعلقة بما يسمى "الأمن الإقليمي" أو "السيطرة على السلاح"، نتيجة القلق المحلي والدولي المتزايد حيال مخاطر الحرب في المنطقة، وإمكان انتشار أشكال جديدة من الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية التقليدية وغير التقليدية فيها، وخصوصاً عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، والتحولات الجيو – استراتيجية البعيدة الأثر في حلبة الشرق الأوسط الشمالية/الشرقية. هكذا، وعلى الرغم من حيوية القضايا الأُخرى المطروحة للنقاش في المفاوضات المتعددة الأطراف، مثل المياه والتنمية الاقتصادية واللاجئين إلخ، فإن مسألة الأمن الإقليمي ونزع السلاح تحتل مكانة مميزة، كونها تشكل الأداة الرئيسية المفترضة لضمان استقرار وثبات أي سلام محتمل، والإطار الأكثر فعالية لبناء الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع في الأمد البعيد.
المنظور العربي للأمن الإقليمي
تقوم الرؤية العربية السائدة للأمن الإقليمي، أساساً، على أهمية وضرورة دمج القضايا الأمنية في البنية السياسية الأشمل لأية تسوية في الشرق الأوسط. ومن أجل إقامة هذه البنية، بالتالي، لا بد من إيجاد تسوية سياسية للصراع العربي – الإسرائيلي. وتذهب الرؤية العربية إلى أنه لا يمكن فصل الإجراءات الأمنية عن المسار الكلي لعملية السلام، بحيث يأتي النظام الأمني الجديد المنشود كخلاصة لعملية التسوية السياسية، وبمثابة تتويج لها. ومن هنا تبقى أية خطوات، بما في ذلك الخطوات الأمنية التي من شأنها أن تساهم في تجميد الأمر الواقع القائم ما قبل التسوية، مرفوضة من وجهة النظر العربية نظراً إلى أنها تصب في مصلحة إسرائيل على حساب الجانب العربي. وتفيد الرؤية العربية بأن غياب الترتيبات الأمنية المسبقة يشكل، في حد ذاته، حافزاً لدفع إسرائيل نحو التفاوض المجدي، وخصوصاً في ظل ميزان القوى الراجح بحدة لمصلحة إسرائيل. وباختصار، يرى الجانب العربي أن التعامل الإيجابي مع الطروحات الأمنية الإقليمية، قبل التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة، سيقلص بصورة رئيسية من إلحاحية وضرورة هذه التسوية بالنسبة إلى إسرائيل.
وينطلق المفهوم العربي والدولي للتسوية من معادلة "الأرض في مقابل السلام". أما إسرائيل فكثيراً ما تطرح "الأمن" كأنه همّ تحتكره الدولة العبرية وحدها، أو كأنه بديل من بند "الأرض"، الأمر الذي يلغي ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة. والواقع أن إسرائيل قد نجحت، على مدار السنين، في انتزاع اعتراف دولي بشرعية مخاوفها الأمنية ("حقها في الحدود الآمنة" مثلاً)، في حين فشل العرب في تثبيت حقهم المماثل في الأمن، في القاموس السياسي – الدبلوماسي الدولي الخاص بالنزاع في الشرق الأوسط، وذلك على الرغم من أن تاريخ الصراع يشهد على أن الثمن الذي دفعه الجانب العربي، نتيجة غياب الأمن في المنطقة، يفوق بأضعاف الثمن الذي دفعته إسرائيل على جميع المستويات، البشرية والمادية والإقليمية.
لكن مهما يكن الأمر، فلعله يمكن القول إن المسألة الأمنية ليست مستعصية على حل مقبول من الجميع. وفي حال توفر الإرادة السياسية اللازمة، فقد تفرز المفاوضات المتعددة الأطراف (بالتناسق مع معالجة القضايا الأمنية في المفاوضات الثنائية) نظاماً أمنياً إقليمياً جديداً، قادراً على الثبات والاستمرار. غير أن الشرط الأساسي المطلوب هنا هو الاعتراف بمبدأ التبادلية والتكافؤ أساساً للمفاوضات والحل. وليس المطلوب، بالضرورة، تطبيق الإجراءات والترتيبات نفسها على الأطراف كافة، من حيث النوع والكم، بسبب عدم التساوق البنيوي في حجم وقدرات كل من الجانبين في المجال العسكري. غير أن عدم التساوق (بين "الكم" العربية و"النوع" الإسرائيلي مثلاً) يمكن معالجته بالمقايضة المدروسة بين عناصر القوة الفعلية والكامنة المختلفة، وبالتالي إقامة توازن جديد مبني على شبكة متراصة من الترتيبات العملانية والميدانية، مثل: إجراءات بناء الثقة العسكرية، والمناطق المحدودة والمنزوعة السلاح، وسبل التحقق والرقابة، وذلك علاوة على اتفاقيات الحد من التسلح، والمعاهدات الأمنية الثنائية والمتعددة الأطراف، ونشر القوات الدولية، إلخ.
ومن هذا المنظور بصبح الهدف المنشود، من النظام الأمني الإقليمي الجديد، لا الحد من احتمالات الحرب أو السيطرة العسكرية فحسب، بل دعم ثبات الوضع القائم ما بعد التسوية السياسية الشاملة. ويُبرز هذا المنظور كذلك مدى الترابط والتداخل بين العامل الأمني من جهة، وبين الجانب السياسي "الصافي" للتسوية من جهة أُخرى. فمن دون تسوية عادلة ومقبولة (أي الأرض في مقابل السلام) تفقد الاتفاقيات الأمنية الكثير من وقعها كوسيلة لدعم الاستقرار الإقليمي. بل إن أية اتفاقيات يتم التوصل إليها خارج هذا الإطار قد تصبح، في حد ذاتها، سبباً للاحتكاك والتوتر، ولربما سبباً لحرب إقليمية مدمرة في نهاية المطاف.
ترتيبات موقتة
كل هذا لا يتنافى مع إمكان الاتفاق على خطوات أمنية موقتة أو متدرجة، تتناغم مع وتيرة المفاوضات السياسية ووجهتها العامة. غير أن التقدم الفعلي في المجال الأمني يبقى رهناً بالتقدم في العملية السياسية. وعلى سبيل المثال، إذا قامت إسرائيل بـ"إعلان نية" تؤكد فيه التزامها معادلة الأرض في مقابل السلام، واستعدادها المبدئي للانسحاب من الأراضي المحتلة والاعتراف بالحقوق الفلسطينية السياسية المشروعة، فقد يصبح في الإمكان النظر إلى تنفيذ بعض الإجراءات الأمنية الجزئية الهادفة إلى تسهيل مجمل عملية السلام وتعجيلها. وتبدو لائحة أولية محتملة من هذه الإجراءات على النحو التالي:
- قيام أطراف النزاع بالالتزام، من طرف واحد، بعدم الاستخدام الأولي للقوة (أي لأغراض هجومية) ما دامت المفاوضات جارية. وقد يتم كذلك التزام إعلان مماثل، في هذا الصدد، من جانب الدولتين الراعيتين، كما يمكن إعلان نبذ الهجمات ضد الأهداف المدنية كبادرة "حسن نية".
- إعلان فتح المنشآت النووية أمام الرقابة الدولية، وتوقيع اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وإعلان نية مسبق في شأن توقيع اتفاقيات حظر انتشار الأسلحة الكيماوية والبيولوجية التي لا تزال في قيد الدراسة الدولية حالياً. (ومن اللافت أن سوريا، مثلاً، قد أقدمت على خطوة من هذا النوع في الآونة الأخيرة، بعد الاتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إخضاع مفاعلها النووي الجديد، المنوى استحصاله من الصين، لنظام الرقابة والتحقق الدولي، في حين لا تزال ترفض توقيع اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، أو فتح منشآتها النووية أمام الرقابة الدولية).
- إعلان حد طوعي لاستعمالات الأسلحة الهجومية المتطورة (مثلاً: صواريخ أرض – أرض) لفترة محددة، أو غير محددة، ما دامت المفاوضات جارية. وقد يتم كذلك إعلان تجميد تصنيع بعض الأسلحة أو التكنولوجيات المتقدمة، أو عدم إدخالها أولاً في الخدمة، مثل: تكنولوجيا "سْتِلْثْ"، أو صواريخ "كروز".
- الاتفاق على توسيع دائرة عمل أو تطوير مهمات قوات الأمن الدولية، المنتشرة حالياً في الجنوب اللبناني والجولان، ومدها بصلاحيات جديدة في مجالي التحقق والرقابة.
- الحد الطوعي لنشر القوات في المناطق الأمامية، أو إعادة انتشار القوات الموجودة حالياً على أساس "دفاعي".
- الاتفاق على إقامة "خط ساخن" (hot-line) بين القيادات العسكرية للأطراف المعنية، من أجل الحيلولة دون تفاقم الحوادث الحدودية، أو حدوث سوء تفاهم أو سوء تقدير للموقف العسكري. وقد يتم تعزيز ذلك بالاتفاق على الإعلام المسبق في شأن التحركات العسكرية، أو المناورات، في المناطق الحدودية.
- الاتفاق مع أطراف دولية – الولايات المتحدة مثلاً – على مد القوى المحلية بالمعلومات العسكرية، أو الأوضاع على الحدود، وذلك عن طريق توفير الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية ووسائل جمع المعلومات الإلكترونية الأخرى، بصورة دورية. ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تقوم بمثل هذه المهمات في سيناء كجزء من الاتفاقية الأمنية المصرية – الإسرائيلية، كما أنها تقوم حالياً بدور مماثل محدود في الجولان. وليس من الصعب دعم مثل هذه الاتفاقيات وتطويرها، في حال توفُّر الأجواء السياسية الملائمة.
وهذه لا تمثل لائحة كاملة بالترتيبات الموقتة أو الجزئية، التي يمكن اتخاذها إما بالاتفاق المباشر بين الأطراف المتنازعة، وإما بوساطة الأطراف الثالثة، وإما من جانب واحد، وأكثرها مبنّي على تجربة تطبيق إجراءات "بناء الثقة" خلال المفاوضات السابقة في شأن نزع السلاح في الساحة الأوروبية؛ وهي تجربة غنية وواسعة يمكن الاستفادة منها في الشرق الأوسط. وقد يتم كذلك الاتفاق على "رزمة" متكاملة من هذه الإجراءات، أو تنفيذ الواحدة تلو الأخرى بحسب الحاجة ومدى التقدم الفعلي نحو تسوية سياسية.
الحجة الأمنية – الإقليمية الإسرائيلية
من الواضح أن المشكلة الرئيسية التي تواجه برنامجاً أمنياً من هذا النوع (وكل التصورات الأخرى بالنسبة إلى الأمن الإقليمي)، هي الموقف الإسرائيلي الرسمي الرافض حتى الآن لمبدأ الانسحاب في مقابل السلام (والأمن). وتقوم الحجة الأمنية – الإقليمية (territorial) الإسرائيلية على الفرضيات التالية:
- على الرغم من تطوير وسائل القتال البعيدة المدى (مثل صواريخ أرض – أرض) وانتشارها في المنطقة، فإن الخطر الرئيسي على إسرائيل يبقى خطر الحرب البرية التي تخوضها الحشود المدرعة والآلية، والجيوش المقاتلة الضخمة. فالحروب كانت ولا تزال تحسم عبر احتلال الأرض، وتدمير آلة الخصم الحربية في الميدان، وتعطيل بنيته العسكرية – المدنية.
- تُوفِّر وسائل القتال الحديثة طاقة نارية – تدميرية هائلة، وهو ما يزيد في حيوية القتال البري قياساً بالسابق. وهكذا، فإن الجيوش العربية، المسلحة بالأنظمة التقليدية المتطورة، تبقى الخطر الأمني الأكبر على إسرائيل؛ هكذا تفيد النظرة الأمنية – الإقليمية الإسرائيلية بأن سقوط صواريخ "سكود" العراقية على إسرائيل، خلال حرب الخليج، لم يلغ أهمية الأرض من ناحية العمق الاستراتيجي، بل العكس.
- تعتمد إسرائيل على جيش نظامي صغير نسبياً، وقوة احتياط كبيرة. أما الجانب العربي فيعتمد، في المقابل، على الجيوش النظامية (الدائمة) الكبيرة، ولا تؤدي قوات الاحتياط دوراً أساسياً في النسق القتالي العربي. وبالتالي، يمكن للجانب العربي الانتقال بسرعة إلى حالة الهجوم المباغت، من دون أن يضطر إلى تعبئة الاحتياط كما هي الحال بالنسبة إلى إسرائيل.
- نتيجة هذه الاختلافات الجوهرية في بنية الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي، تحتاج إسرائيل إلى فسحة زمنية، لا تقل عن 72 ساعة، كي تضمن قدرتها على تعبئة قواتها الاحتياطية في مواجهة هجوم عربي مباغت ساحق انطلاقاً من خطوط وقف إطلاق النار الحالية.
- من هنا، لا بد من أن تحتفظ إسرائيل بعمق إقليمي يكفل قدرتها على التصدي لهجوم عربي بواسطة قواتها النظامية الصغيرة نسبياً، حتى تستكمل عملية دعوة الاحتياط. ومن الضروري كذلك الاحتفاظ بقدرة على رصد التحركات العسكرية العربية، في أبكر وقت ممكن، عبر محطات الرصد الإلكترونية المزروعة على الأرض في بعض المناطق الحيوية في الضفة الغربية، وعلى جبل الشيخ في الجولان.
- يكمن التهديد الرئيسي لإسرائيل في إمكان قيام "ائتلاف حربي عربي" يضم سوريا والعراق والأردن، ولربما أطرافاً عربية أخرى. وهذا الائتلاف، أو أي من مشتقاته، هو خطر دائم على إسرائيل، حتى في حال توقيع معاهدات سلام مع الأطراف العربية المعنية؛ ذلك بأن البيئة العربية السياسية تبقى عرضة للتقلبات السريعة والغير المرئية، ولا يمكن الثقة بديمومة الالتزام العربي إزاء المعاهدات الدولية. وإذا كان العراق مستعداً لخرق جميع اتفاقياته وتعهداته والقيام باجتياح الكويت، البلد العربي المجاور، فكيف يمكن الاعتماد على التعهدات العربية حيال إسرائيل، المرفوضة والمنبوذة عربياً من الأساس؟
- يستتبع كل هذا، أولاً، إن الضفة الغربية منطقة حيوية بالنسبة إلى أمن إسرائيل. والانسحاب منها سيزيد في انكشاف إسرائيل أمام التهديد العسكري العربي، كما أنه سيزيد في حافز العرب على مهاجمة إسرائيل. ولا يمكن التخلي عن محطات الإنذار والتنصت في الضفة، أو التراجع عن نهر الأردن كالخط الدفاعي الإسرائيلي الأول. ثانياً: هضبة الجولان حيوية بالنسبة إلى أمن إسرائيل للأسباب نفسها، ولا يمكن التراجع عن خطوط وقف إطلاق النار الحالية، أو التخلي عن محطات التنصت القائمة على جبل الشيخ.
لا بد من القول إن الحجة الأمنية – الإقليمية الإسرائيلية تمثل مدرسة واحدة، تناقشها مدارس استراتيجية أخرى في الدول العبرية وتختلف معها. غير أن أهميتها تكمن في أنها تعكس، إلى حد بعيد، الرأي السائد في المؤسسة السياسية – الأمنية الحاكمة، وبين العديد من المفكرين الاستراتيجيين الإسرائيليين الذين يطالبون بالاحتفاظ بالأراضي المحتلة، لا بدافع أيديولوجي أو سياسي بل بناء على تقديرات عسكرية مجردة، كتلك التي أوردناها أعلاه.
بعض الطروحات المضادة
إذا كان للمفاوضات بشأن القضايا الأمنية، في أي من حلقتيها المتعددة الأطراف أو الثنائية، أن تحقق الحد الأدنى من التقدم، فإنه يبدو أنه سيكون من الضروري مواجهة هذه المدرسة الإسرائيلية بالذات، وطرح التصورات العربية المضادة فيما يتعلق بمسألة الأمن والأرض.
وبصورة عامة، يمكن القول إن القضية المركزية الأولى في الحجة الأمنية – الإقليمية الإسرائيلية، تتمحور حول عنصر الوقت وأهمية الحصول على "إنذار مسبق" يكفل القدرة على دعوة الاحتياط. فالواقع أن الدعوة إلى الاحتفاظ بالأرض، كسبيل وحيد لضمان "العمق"، يمكن مواجهتها بطرح "العمق" كبُعد زمني لا كبُعد إقليمي؛ أي أنه يمكن تطوير سبل الإنذار المبكر التي تحول دون ضرورة الانتشار على الأرض مباشرة، والتي تحد من فرص الهجمات المباغتة إلى حد بعيد. وهنالك عدة مستويات من الإنذار المبكر تعمل حالياً في ساحة الصراع مع إسرائيل، ويشكل تطويرها جزءاً من النظام الأمني الجديد.
أولاً: الإنذار المبكر الاستراتيجي، القائم على الرصد الدائم لكل الساحة الإقليمية بوساطة الأقمار الصناعية. وفي حين أن هذا النمط من الإنذار المبكر غير متوفر بصورة مباشرة لأطراف النزاع في الوقت الحاضر، فإن المنطقة تخضع لرقابة مستمرة من الأقمار الصناعية الأميركية المتخصصة بجمع المعلومات الإلكترونية والصور الفوتوغرافية الدقيقة، فيما يتعلق بكل النشاطات العسكرية الميدانية والتصنيعية التي تقوم دول المنطقة بها. ومن شبه المؤكد أن الولايات المتحدة على أتم الاستعداد لمد إسرائيل بالمعلومات اللازمة، وفي أبكر موعد ممكن، في حال ظهور أي "خطر" عربي فعلي يهددها. والمعروف أن الجانب الأميركي سبق أن مد العراق بصور من الأقمار الصناعية للتحركات العسكرية الإيرانية خلال حرب الخليج الأولى، كما أنه مد المملكة العربية السعودية بمثل هذه الصور فيما يتعلق بالانتشار العسكري العراقي عقب غزو الكويت. ومن هنا، ليس من الصعب طرح إمكانية قيام الولايات المتحدة (ربما بالتعاون مع دول أخرى ذات قدرة في هذا المجال، مثل روسيا والمجموعة الأوروبية) بتزويد كل من الجانبين، العربي والإسرائيلي، بالمعلومات عن التحركات العسكرية "العدائية" المحتملة، وذلك كجزء من اتفاقية أمن إقليمية، وبغرض ردع الهجمات المباغتة من كلا الطرفين. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إسرائيل على وشك الحصول على قدرات ذاتية في مجال الاستطلاع والرصد بوساطة الأقمار الصناعية، وذلك عبر برنامج أقمار "أفق" التي يتم تصويرها حالياً. وبالتالي، يمكن القول إن الحاجة إلى الحصول على وسائل "الإنذار المسبق" الاستراتيجية أصبحت حاجة عربية ملحة، بغض النظر عن مستلزمات تفنيد الحجة الأمنية – الإقليمية الإسرائيلية.
ثانياً: الإنذار المبكر العملاني. ويقوم حالياً على وسائل الاستطلاع والرصد الجوي المتطورة، مثل: طائرة "أواكس" في الخدمة السعودية، وطائرة "هوكآي" في الخدمة الإسرائيلية والخدمة المصرية. وإذا كانت الأقمار الصناعية قادرة على رصد ومراقبة الأوضاع على المستوى الاستراتيجي، أي الشامل والبعيد المدى، فإن طائرات "أواكس" ومشتقاتها تشكل صمام أمام لرصد التحركات العسكرية على المستوى العملاني الأقل شمولية، وبأفق زمني/ مكاني أضيق. لكن على الرغم من ذلك فإن طائرات "أواكس" و"هوكآي" تمتلك قدرة على الكشف عن تحرك الأهداف الجوية والبرية، بما في ذلك انتقال الحشود المدرعة من ساحة إلى أخرى، أو داخل ميدان المعركة نفسه. ومن هنا يمكن أن تشتمل الاتفاقيات الأمنية – الإقليمية على دعم وتطوير سبل الإنذار المبكر من هذا النوع، والموافقة المتبادلة على فتح "الممرات" الجوية الخاصة أمام طائرات الرصد والإنذار المبكر فوق مناطق معينة، الأمر الذي يسمح كل من الطرفين برصد تحركات الطرف الآخر بصورة مشروعة، ومن دون إثارة حساسيته الأمنية.
ثالثاً: الإنذار المبكر الميداني، والخاص بساحة المعركة المباشرة. ويشتمل على سبل الاستطلاع التقليدية مثل طائرات الاستطلاع المجهزة بآلات التصوير الخاصة، والمستحدثة مثل طائرات بدون طيار التي يمكن أن تنقل المعلومات الفورية إلى القيادات الميدانية. وهنا أيضاً تستخدم إسرائيل، حالياً، مزيجاً من وسائل الإنذار والرصد هذه، كما تستخدم الأطراف العربية وسائل مماثلة، على الرغم من التفوق الإسرائيلي التكنولوجي المستمر في مجال الطائرات بدون طيار بصورة خاصة. وكما في الحالتين أعلاه، فإنه يمكن الاتفاق على تطوير هذه الوسائل ومنحها نوعاً من الحصانة عبر تحديد الممرات الجوية المتفق عليها، والتي تحول دون اعتراض طائرات أي من الطرفين من جانب الطرف الآخر.
وباختصار، تشكل وسائل الرصد والإنذار المسبق، الاستراتيجية والعملانية والميدانية، منظومة متكاملة ومتداخلة من وسائل الكشف عن نيات وتحركات أطراف النزاع، الأمر الذي يجعل سيناريو الحرب المباغتة الشاملة صعب المنال، حتى ضمن الأوضاع الحالية. وإذا تم تطوير ودعم هذه المنظمة عبر تطعيمها بالرقابة "المحايدة" التي قد تقوم بها أطراف ثالثة دولية من جهة، وعبر مد القوة المحلية نفسها بما تحتاج إليه في هذا المجال، وتتويج ذلك بالاتفاقيات الأمنية التي تحدد كيفية استخدام الوسائل المعنية كافة، فإن احتمالات قيام أي من الطرفين بهجمات عسكرية واسعة النطاق على الطرف الآخر، من دون إشارة مسبقة واضحة إلى ذلك، تصبح شبه معدومة. والأساس هنا هو تطبيق مبدأ "الشفافية" (Transparency) على التحركات العسكرية المحلية كافة، كنقيض لمبدأ الحرب المباغتة.
والحقيقة، إن اختطاف إسرائيل لسيناريو "الحرب المباغتة" يتطلب رداً عربياً يقوم على إثارة المخاوف العربية المشروعة من لجوء إسرائيل إلى هذا الأسلوب (وهو في صميم عقيدتها العسكرية)، ومحاولة احتواء واستباق النيات والقدرات الإسرائيلية الهجومية التي طالما شكلت مصدر الخطر الأول على الأمن الجماعي العربي. فالمطلوب لا حماية إسرائيل من الهجمات العربية المباغتة، بل تقييد حرية عملها ضد الجانب العربي ومنعها من استغلال تفوقها العسكري، في مرحلة ما بعد التسوية، لفرض هيمنتها السياسية، أو القيام بالمغامرات العسكرية الجديدة ضد العمق العربي. ومن هذه الزاوية، يصبح امتلاك القدرة على الرصد والإنذار المسبق مطلباً عربياً، لا من أجل سحب البساط من تحت الحجة الأمنية – الإقليمية الإسرائيلية فحسب، بل لكونه يساهم أيضاً في معالجة الحاجات الأمنية العربية الملحة.
وفي الأحوال كافة، يمكن القول إن بروز "ائتلاف حربي عربي" وفق ما يطرحه السيناريو الإسرائيلي، لا بد من أن تسبقه مؤشرات عسكرية واقتصادية وسياسية، لن يكون في الإمكان إخفاؤها بسهولة. فالحرب الواسعة النطاق التي تتطلب نقل الآلاف من الرجال والدروع والطائرات إلخ، عبر مسافة طويلة نسبياً – من العراق إلى نهر الأردن مثلاً – ثم الدخول في مواجهة شرسة مع إسرائيل، تحتاج إلى أشهر طويلة من الاستعداد العسكري والخطوات الاحترازية في المجال الاقتصادي، إضافة إلى التنسيق المحكم بين عناصر الائتلاف المفترض، على أعلى المستويات السياسية. فعلى الصعيد العسكري، لا بد من التدريبات والمناورات المعينة، ومن تكديس قطع الغيار والوقود، وتجهيز ورش الصيانة والمستشفيات، وتحصين المناطق الخلفية، إلخ. كذلك لا بد من تعبئة الاقتصاد للحرب، وتكديس المواد الغذائية والأولية الأخرى، والحفاظ على مخزون من العملة الصعبة، إلخ. والسؤال الأكبر هو هل يمكن لـ"ائتلاف حربي عربي" أن يقوم بكل هذه الإجراءات، أو أكثرها، على أساس منسق ومحكم وطويل الأمد وبسرية مطلقة وبالحد الأدنى من التناغم السياسي، من دون إثارة أي شكوك لدى دوائر الاستخبارات الإسرائيلية، أو الصديقة، الناشطة على الدوام في هذا المجال بالذات؟ والأرجح أن مجرد التحضير لائتلاف من هذا النوع سيشكل، في حد ذاته، نوعاً من الإنذار المسبق الذي يحول دون إمكان مباغتة إسرائيل. ولا يمكن هنا الاستشهاد بتجربة 1973، إذ إن تلك الحرب انطلقت من حالة سياسية مختلفة تماماً عن الحالة المتوقعة ما بعد التسوية، أي الحالة المفترضة في السيناريو الإسرائيلي. ففي سنة 1973 سمحت أوضاع اللاحرب واللاسلم بالانتقال السريع نسبياً من الهدنة العسكرية إلى المواجهة الشاملة، من دون تحركات عسكرية عربية مسبقة واسعة النطاق، وعلى خلفية من التعبئة والتحضير للحرب المستمرين منذ سنة 1967. أما في حال التوصل إلى اتفاقيات سلام عادلة ومقبولة، تنهي حالة الحرب بين العرب وإسرائيل، وتعيد الأراضي المحتلة، وتعترف بالحقوق الفلسطينية، وتشتمل كذلك على أنظمة رقابة وتحقق وضمانات دولية وقوات حفظ أمن ومناطق منزوعة من السلاح إلخ، فإن كلاً من العودة إلى التحضير للحرب من جهة، أو اتخاذ الخطوات العملانية من أجل تنفيذ المخططات العسكرية من جهة أخرى، سيشكل تحدياً يختلف جوهرياً عن التحدي الذي واجه مصر وسوريا عند اتخاذ قرار الحرب سنة 1973.
والواقع أن سيناريو "الائتلاف الحربي العربي" يقوم، في الأساس، على تشكيك في طبيعة الالتزام العربي الفعلي بالسلام، وافتراض الاستعداد العربي الجماعي للقيام بالمغامرة غير المحسوبة من أجل قلب النظام القائم ما بعد التسوية، من دون الاكتراث لعواقب ذلك السياسية الدولية، ومن دون حساب القدرة الإسرائيلية على الردع والانتقام في ظل تفوقها النووي وتفوقها التقليدي المستمرين. لكن هذا التشكيك يخفي حقيقة أخرى، وهي أن دعاة الحجة الأمنية – الإقليمية في إسرائيل لا يريدون تقديم أية تنازلات للعرب، حتى لو كان ثمن ذلك إجهاض عملية السلام من الأساس. وإن كان هذا صحيحاً، فلعل السبيل العربي الوحيد هو دفع هؤلاء نحو الجهر بذلك، من دون منحهم فرصة الاحتماء وراء الحجج الأمنية السيئة النية وغير الصادقة بطبيعة الحال.