مؤتمر مدريد وضع الأمور في نصابها
كلمات مفتاحية: 
مؤتمر مدريد 1991
الأرض مقابل السلام
سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
تسوية النزاعات سلمياً
نبذة مختصرة: 

تتناول المقالة عقد مؤتمر مدريد للسلام الذي جمع العرب وإسرائيل وجهاً لوجه للمرة الأولى في تاريخ النزاع العربي - الإسرائيلي. ويستعرض أسباب انعقاد المؤتمر والظروف التي أملت انعقاده، ويرى أن الإطار الذي عقد فيه يبدو أكثر أهمية من الأسباب وهو ما يعطيه زخماً ومصداقية قد يؤديان إلى نتائج إيجابية تعكس نفسها على المنطقة. ويستعرض المقال بعض العقبات التي قد تواجه المؤتمر مثل التفكك في الموقف العربي، ومحاولات إسرائيل استغلال أي عقبات للانسحاب من المفاوضات. ويورد مبررات مشاركة الفلسطينيين في المؤتمر ضمن شروط مجحفة من واقع التعامل مع الأوضاع والوقائع المتاحة. ويستنتج المقال أن الولايات المتحدة تتحدث بجدية تامة عن حل عادل ودائم في الشرق الأوسط، وترى ضرورة تطبيق القرارين 242 و338، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ويختتم بالتساؤل :هل يتحول الحديث الأميركي الجدي إلى مساع جدية ورغبة أميركية بالبحث عن السلام؟

النص الكامل: 

علينا أن ننظر إلى مؤتمر السلام المنعقد بداية في مدريد بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1991، على أنه حدث تاريخي مهم. قد يكون أهم حدث يقع في منطقة الشرق الأوسط، فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي. وقد جاء هذا المؤتمر بعد حروب وثورات استمرت أكثر من ستين عاماً، هي المدة التي ظهرت فيها تطلعات الحركة الصهيونية نحو فلسطين، مشفوعة بتأييد بريطانيا العظمى، ومؤيدة بصك الانتداب الذي سنّته عصبة الأمم المتحدة التي جيّرت هذا الصك ليكون القاعدة التي سيُبنى الوطن القومي اليهودي في فلسطين عليها.

كذلك، جاء هذا المؤتمر بعد ثورات عدة وحروب متكررة بين العرب والإسرائيليين، وبعد قيام الثورة الفلسطينية بستة وعشرين عاماً، وبعد انطلاق الانتفاضة بأربعة أعوام.

غير أن حدثين مهمين أمليا على الولايات المتحدة الأميركية ضرورة السعي الحثيث لعقد هذا المؤتمر، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الأطراف المعنية:

الأول، حرب الخليج التي حملت عبأها الرئيسي الولايات المتحدة، التي جنت نتائجها كلها؛ تلك الحرب التي عززت هيمنة الولايات المتحدة لا على منطقة الشرق الأوسط فحسب بل على العالم أجمع. ولا بد من أن نقول أن المهمات التي كانت موكولة إلى إسرائيل في المنطقة قد فقدت كثيراً من أهميتها وبريقها وضرورتها. بعد أن أصبحت الولايات المتحدة موجودة في المنطقة بصورة مباشرة.

الثاني، الانهيار غير المتوقع للمنظومة الاشتراكية وللنظام الشيوعي بصورة عامة، في كل من الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، وظهور جميع هذه الدول أنها دول تحتاج بصورة ملحة إلى مساعدات ودعم الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان. وبهذا الانهيار، تراجع دور وأهمية الاتحاد السوفياتي على المستوى الدولي تراجعاً عنيفاً، بالإضافة إلى الصعوبات التي يعانيها، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو المالي أو القومي.

هذان الحدثان المهمان دفعا الولايات المتحدة وحلفاءها إلى السعي الحثيث نحو تحقيق السلام في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، فإن الأطراف المعنية في هذه المنطقة، لم تجد بداً من الاستجابة لهذا السعي، والقبول بالأرضية والإطار اللذين حددهما الأميركيون لهذا المؤتمر، من دون أن يكون لمعظم هذه الأطراف الحق في مناقشة تلك الأرضية وذلك الإطار. وعليه، فإن جيمس بيكر بقدر ما كانت الزيارات المكوكية التي قام بها شاقة وصعبة، كان يجد الطرق غير مغلقة في كل العواصم التي زارها، بل كان يجد هذه العواصم – في أغلب الأحيان – مفتوحة وقابلة للاستماع والاستجابة، وأحياناً كثيرة للقبول من دون نقاش.

إن الأوضاع التي شرحناها، والتي كانت قائمة قبل المبادرة الأميركية، قد فرضت نفسها على أجواء عواصم الشرق الأوسط، فسهلت كثيراً مهمة بيكر، وقدمت له أسباب النجاح الذي حققه فيما بعد.

وإذا كانت الأسباب التي قادت الولايات المتحدة إلى السعي نحو مؤتمر السلام من الأهمية بمكان، فإن الإطار الذي عقد هذا المؤتمر فيه يبدو أكثر أهمية من الأسباب، الأمر الذي يعطيه زخماً ومصداقية قد يؤديان إلى نتائج إيجابية تعكس نفسها على المنطقة.

ومن أبرز العناصر التي وردت في هذا الإطار، وجود ممثلي الشعب الفلسطيني أول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي جالسين إلى طاولة المفاوضات قبالة الإسرائيليين. وقد ينظر البعض إلى هذا الأمر أنه تحصيل حاصل، مع أنه هو الحدث الأكبر الذي يوازي عقد المؤتمر نفسه، إنْ لم يَفُقْه. ونحن نعرف أن العنصر الفلسطيني مستبعد تاريخياً بإلحاح إسرائيلي وبموافقة غربية، وبتواطؤ من بعض الجهات العربية. وبحجة أن القضية قومية، هذا الشعار الفضفاض، أُتيح للدول العربية أن تنطق باسم القضية الفلسطينية، لكن لم يتح للشعب الفلسطيني مجرد المشاركة، مشاركة هذه الدول في ذلك. وكان ما يسمونه "الورقة الفلسطينية" ينتقل من دولة إلى أخرى بحسب موازين القوى، وكثيراً ما كان الصراع العربي يقع بشأن هذه الورقة وبشأن المساومة فيها، لأن من يمتلكها يستطيع أن يساوم كثيراً، وأن يبتز أكثر.

في هذا المؤتمر عادت الأمور إلى نصابها، ولكن ليس النصاب الكامل لأن آثار الماضي ما زالت قائمة. فقد جاء التمثيل الفلسطيني ناقصاً من حيث الشكل والرسميات، بحيث استُبعدت نظرياً منظمة التحرير الفلسطينية، إلا إنها كانت هناك بشكل حاسم وقوي من الناحية العملية. وهكذا، وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت نتائج الوجود الفلسطيني في هذا المؤتمر ظهوراً واضحاً وملموساً.

والعنصر المهم الآخر هو هذا الحشد الدولي المقحم في المؤتمر، سواء على الصعيد العربي إذ تشارك بصورة عملية ست عشرة دولة، هي الدول الخمس المعنية مباشرة بالصراع، ودول مجلس التعاون الخليجي الست، ودول الاتحاد المغاربي الخمس، أو على الصعيد الدولي إذ تشارك المجموعة الأوروبية والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة والأمم المتحدة.

إن مثل هذا الحشد الضخم يعطي الانطباع القوي بأن النيات الطيبة تتوفر لدى منظمي هذا المؤتمر، تجاه تحقيق أهداف إيجابية من ورائه. وإلا، فإن من غير المقبول أن تضع الولايات المتحدة وكل هذه الدول سمعتها في الميزان وتخوض مغامرة غير محسوبة النتائج، أو غير متوقعة النتائج. ومع ذلك، فالاحتمالات كلها ممكنة.

إن حساسية منطقة الشرق الأوسط وأهميتها الدولية تجعلان الجميع يتوجس خيفة من استمرار الصراع فيها. وفي اعتقادي أن الضجة الكبرى التي أُثيرت عالمياً بشأن مؤتمر السلام تعود، في الأساس، إلى هذا السبب. وإذا أردنا أن نقابل هذا الحدث بأحداث كثيرة مماثلة لمناطق توتر عالمية أخرى، لوجدنا الفارق الضخم بين ردات الفعل العالمية فيما يتعلق بهذه الأحداث. ومن المصادفات الطريفة، أن مؤتمراً بشأن كمبوديا كان يعقد في باريس في مرحلة عَقْد مؤتمر مدريد نفسها، إلا إنه مرّ من دون أن يلفت الأنظار إليه على الرغم من أن مشكلة كمبوديا تعتبر من المشكلات الدولية المستعصية، كما تعتبر كمبوديا بؤرة من أكثر بؤر التوتر في العالم حدة.

إن مثل هذه المقدمات التي تفترض أن يصل المؤتمر إلى شاطىء النجاح، لا يعني أبداً  أن النجاح أمر محتوم، ولا يعني أن الأطراف التي لا تريد السلام يمكن أن تستسلم بسهولة لهذا الضغط العالمي كله. ولا يعني هذا أننا لا نتوقع مفاجآت سيئة تعكس نفسها على مسار المؤتمر، وربما على مستقبله ونتائجه.

كذلك فإن نجاح المؤتمر يعتمد، إلى حد كبير، على الأداء العربي ومستواه، وعلى الرغبة العربية الجماعية في التوصل فعلاً إلى حل للمسألة الفلسطينية. وإذ أردنا أن نعتبر المناخ العربي الحالي – على الرغم من التطور الذي حدث فيه مقياساً للتضامن العربي، فإننا يجب ألا ننظر إلى النتائج بكثير من التفاؤل، لأن آثار وانعكاسات حرب الخليج ما زالت تضرب بجذورها في قلب هذا التضامن. ناهيك بأن الموقف العربي في الأساس، وقبل حرب الخليج، لم يكن صحياً كفاية لمواجهة مسألة من هذا النوع.

لقد ظهرت بوادر آثار التفكك في الموقف العربي في مدريد، عندما تبين أن الدول العربية لم تنسق مواقفها من تحديد مكان وموعد عقد المؤتمر بعد جلسات الافتتاح؛ بحيث ظهر الموقف السوري وتبعه الموقف اللبناني في اتجاه، وموقف الآخرين في اتجاه مخالف. وقد أتاح هذا التناقض لإسرائيل فرصة المناورة، واللعب على الحبال، وربما يهيىء لها في المستقبل فرصة الإفلات من المؤتمر إفلاتاً نهائياً.

إن هذا الامتحان الأول للتضامن العربي لا يبشر بالخير، ويجعل الإنسان يتحسب لأمور أكثر تعقيداً في المستقبل، وخصوصاً أن الحل المزدوج المطروح – أي حل المرحلتين – يجعل إمكان الانفراد العربي بحلول إقليمية سهلة أمراً وارداً، في الوقت الذي ستبقى مسألة الأراضي الفلسطينية وكذا العربية المحتلة تراوح مكانها؛ وهذا الأمر سيفقد زخمه، وسيخرج معظم الدول العربية من دائرة الصراع، ليبقى في النهاية الشعب الفلسطيني وحيداً في الميدان، أعزل من كل الأسلحة المتمثلة في الأصوات الدولية والعربية الموجودة معه حالياً.

إن الموقف العربي السليم يتطلب أن يعلق تطبيع العلاقات الإسرائيلية – العربية بشرط رئيسي هو أن يتم حل المسألة الفلسطينية من جوانبها كافة، وإلا فإننا سنجد أنفسنا وقد تطبعت العلاقات بين إسرائيل ومعظم دول العالم العربي، وبقي سبب الصراع قائماً من دون حل.

لو تُرك الأمر لإسرائيل – رغبة وإرادة – لاختارت الأمر الواقع لأنه أكثر ملاءمة لها، وخصوصاً أنها باتت وبلا نزاع أقوى دولة في المنطقة، واستطاعت "بفضل" سياسة البيريسترويكا أن تستجلب مئات الألوف من المهاجرين الذين كانت في أمسّ الحاجة إليهم لملء الفراع في المستعمرات الخالية وبناء مستعمرات جديدة؛ وبالتالي، استكمال ابتلاع ما تبقى من الأرض الفلسطينية، والتمهيد لعملية الطرد الجماعية لبقية الفلسطينيين تنفيذاً لسياسة يتبناها الكثيرون من المشاركين في الحكم في إسرائيل.

قلت.. لو تُرك لإسرائيل لاختارت الأمر الواقع. غير أن السياسة الأميركية اتخذت منحى آخر، لتثبت مصداقيتها بأنها تتعامل مع قرارات الأمم المتحدة بالحماسة والاهتمام أنفسهما، ولتثبت ايضاً أنها أصبحت الزعيم الذي لا منافس له في العالم، ولتؤكد أنها قادرة على حل أية مشكلة مهما تكن مستعصية، ولتضمن لزعامتها المطلقة نوعاً من الهدوء والاستقرار، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مستوى الاعتماد على إسرائيل كشرطي في هذه المنطقة قد انخفض كثيراً.

لكن هذه الحيثيات لا تكفي إقناع إسرائيل بضرورة البحث عن السلام، لأن السلام – من حيث المبدأ – ليس في مصلحة إسرائيل. وهي، لأسباب داخلية وخارجية، حريصة دائماً على أن يكون الجو المحيط بها مشحوناً بالتهديدات والتخويفات والرعب، ولو بصورة مفتعلة أو غير جدية، كما كان – وربما ما زال – يحدث من الدول العربية التي تطلق التهديدات الوهمية ضد إسرائيل، فتحولها هذه إلى حقيقة ملموسة كي تحافظ باستمرار على اللحمة بين أبناء إسرائيل الذين تفصل بينهم التناقضات الدينية والعرقية والحضارية والاجتماعية. وكما يقول عضو الكنيست الإسرائيلي آرييه إلياف: "إن الأسمنت المسلح الذي يربط بين أبناء إسرائيل هو الإحساس الدائم بالخطر الخارجي."

أما الأسباب الخارجية فتتعلق بضرورة استمرار إظهار إسرائيل أنها الدولة الصغيرة المحاطة بجو عدائي متربص بها، ينتظر الفرصة المؤاتية لينقض عليها ويفترسها، لا ذنب تقترفه سوى أنها واحة الديمقراطية في صحراء العالم العربي، وأنها بؤرة الحضارة والتقدم في محيط ينضج بالتخلف والرجعية والأحقاد.

وهناك سبب عقائدي يرتبط بصلب الفكر الصهيوني، ذلك الفكر المبني أساساً على ما يسمونه "اللاسامية"؛ إذ يقول تيودور هيرتسل: "إن العداء للسامية هو محرك للصهيونية، وعلينا اختراعه دائماً." وهذا ما يفسر باستمرار الصورة التي يقدمها الصهيونيون عن أنفسهم بأنهم مضطهدون من الأقوام الأخرى، أو أنهم في طريقهم إلى الاضطهاد، كي يستمر هذا الإحساس، وتلك النظرية.

وأخيراً هناك سبب الأسباب، وهو أن إسرائيل على الرغم من المتاعب التي يسببها لها احتلالها للضفة الغربية والقدس، فإن هذه المتاعب لا توازي الخسارة التي ستُمنى بها جراء الانسحاب من الأراضي المحتلة، وجراء إقامة كيان فلسطيني  يقع في خاصرتها ويسبب لها مشكلات لا حصر لها؛ منها أنه يذكرها كل يوم بأنه النقيض والبديل والمستقبل، وخصوصاً أن الإسرائيليين جميعاً يشاهدون في كل لحظة ما يذكرهم بأن هذه الأرض التي بنوا دولتهم عليها كانت تخص أناساً آخرين.. وما زالوا أحياء، وما زالوا يطالبون بالعودة إليها. ولذلك، فإن غولدا مئير عندما كان تقول "أين هم الفلسطينيون.. أنا لا أعرف أناساً بهذا الاسم"، فإنها كانت تقول ذلك لتقنع نفسها والآخرين بنظرية هيرتسل التي أُطلقت في عصره: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

لهذه الأسباب فإن الحكومة الإسرائيلية، برئاسة شمير وعضوية أعضاء الليكود وتسومت وموليدت وغيرهم من المتطرفين، قد تعمل على إحباط جهود السلام من خلال البحث عن ذرائع وأسباب تحول دون الاستمرار في هذه العملية.

وفي اعتقادي أن الحكومة الإسرائيلية ستعمل على استغلال أية عقبات تقع في مؤتمر السلام للانسحاب من المفاوضات، سواء أكانت هذه العقبات شكلية أم موضوعية.

من جهة أخرى، فإن هذه الحكومة ستتصيد أية أخطاء يقع فيها الفلسطينيون على أي مستوى، وفي أي اتجاه، لتعتبر أن مثل هذه الأخطاء لن يساعد في استمرار المفاوضات، ولتنسحب منها.

وإذا لم يحدث هذا أو ذاك، فإن الحكومة ستعمل على إسقاط نفسها والدعوة إلى انتخابات عامة، وبالتالي سيجري تعطيل المفاوضات؛ إذ إن الحكومة لن تكون قادرة، في ظل الدعوة إلى الانتخابات، على اتخاذ قرارات أو إجراءات مصيرية.

وفي الأحوال كافة، فإن الحكومة الإسرائيلية ستعمل على صرف الأنظار عن القضية الفلسطينية للدخول في تفاصيل تطبيع العلاقات بالدول العربية، أو السعي لحل المشكلات السهلة والأقل سهولة، مثل مسألة لبنان أو الحدود الأردنية أو غيرهما، وربما وصولاً إلى الحديث الجدي عن هضبة الجولان.

لقد قبلنا المشاركة في مؤتمر السلام. وقد تولّد الانطباع بأن الشروط مجحفة، وبأن المواصفات أقل كثيراً من الحد الأدنى المطلوب. وبمعنى آخر: فقد طلبنا استبعاد وجود رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما قبلنا تأجيل حضور ممثلي القدس إلى المؤتمر، بالإضافة إلى ممثلي الشتات. وبالإضافة إلى هذا وذاك، فقد قبلنا أن يذهب الفلسطيني في إطار وفد مشترك أردني – فلسطيني، وإنْ دل هذا الطلب على شيء فإنما يدل على أن الوقت لم يحن لقبول الوجود الفلسطيني المستقل.

غير أن ما جرى في مدريد على أرض الواقع، قلب كثيراً من الموازين، وغيّر كثيراً من المفاهيم، ووضع الأمور في نصابها شبه الصحيح. وظهرت الشخصية الفلسطينية واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وذلك عندما استمع العالم إلى كلمة فلسطين، وشاهد رئيس الوفد الفلسطيني يجلس على كرسي الرئاسة؛ كل هذه المشاهد أزال الشبهات عن ماهية الوفد الفلسطيني وطبيعته، والمكانة التي يتبوأها، والصفة التي يتمتع بها.

وكانت مشاهد مدريد الرد الأول على أولئك الذين ابدوا الخشية والحرص على منظمة التحرير الفلسطينية والتمثيل الفلسطيني المستقل، واكتشفوا – متأخرين – أنهم أخطأوا في معارضتهم؛ هذا إنْ كان هذا الموضوع فقط هو سبب هذه المعارضة، مع الإشارة إلى أننا ونحن نتقدم إلى القيادة الفلسطينية بمشروع متكامل يتضمن أسباب المشاركة في مؤتمر السلام، كنا نصادف معارضة عارمة عنيفة لهذا المشروع. إلا إن أولئك الذين يرفعون لواء المعارضة لن يتقدموا ببدائل ملموسة مقنعة يمكن الاستناد إليها، أو الاعتماد عليها، أو اعتبارها حججاً كافية لرفض دخول عملية السلام.

  • لقد تحدثوا عن المعارضة ورفض السلام بالاختفاء في باطن الأرض والعودة إلى العمل السري، ناسين أو متناسين أو جاهلين أن الثورة منذ انطلاقتها لم تكن مخفية تماماً عن كل الأنظمة، بل أنها كانت معروفة بكثير من تفاصيلها في سوريا مثلاً، كما كان بعض رموزها معروفاً في دول الخليج العربي.
  • ثم تحدثوا عن استنهاض حركة التحرر الوطني العربية، وتجاهلوا أن هذه الحركة بحاجة إلى من يدعمها وينفخ فيها الروح كي تتمكن من أن تقف على قدميها بعد عقد أو عقدين من السنين – هذا إنْ أفلحت.
  • كذلك تحدثوا عن الاستفادة من مواقف بعض الدول الأوروبية التي يتصورون أنها تتميز من موقف الولايات المتحدة، وبالتالي يتهيأ لهم أن في الإمكان الوصول إلى تناقضات بين أوروبا والولايات المتحدة، يمكن الاستفادة منها في كبح جماح الهيمنة الأميركية على العالم.
  • وأخيراً قالوا: لا بد من تخريب مؤتمر السلام، وهذا المؤتمر لا يمكن أن يعقد إذا نحن رفضناه لأننا نحن الرقم الصعب في المعادلة، مع أن دولاً عربية كثيرة أعطت موافقتها قبل أشهر من الموعد الذي أعطت منظمة التحرير فيه موافقتها، وبعد أن تركتها وحدها تواجه الإدارة الأميركية.

إن المعارضة الفلسطينية، أو بعض هذه المعارضة، التي كانت تعتبر مجرد الحديث عن المؤتمر الدولي خيانة وطنية، راحت تنادي به مطلباً وهدفاً، وأصرت على أن المؤتمر الذي تبرز مواصفاته في مشاركة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وأطراف النزاع، هو المؤتمر الأمثل والأفضل والمقبول. وغاب عن بالها كل المعطيات الدولية الجديدة التي طرأت منذ أربعة أعوام حتى الآن.

              كنا نعرف منذ البداية أن هناك عقبات في طريق عقد مؤتمر السلام، وأنه إذا عُقد فقد لا يستمر، وإذا استمر فقد لا يثمر شيئاً. ومع ذلك، قررنا أن نخوض التجربة إلى نهايتها، وأن نتعامل مع الأوضاع والوقائع المتاحة، لا مع الطموحات، لأن المسؤولية تجاه شعبنا وأهلنا، وتجاه الانتفاضة، وتجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي مرت بشعبنا في إثر حرب الخليج؛ إن هذه المسؤولية تفرض علينا أن نكون على مستواها، على الرغم من الاتهامات التي يمكن أن تلصق بنا، وعلى الرغم من الفشل الذي يمكن أن يكون مصيراً لمؤتمر السلام.

إن الولايات المتحدة الأميركية تتحدث بجدية تامة عن حل عادل ودائم في الشرق الأوسط، وترى ضرورة تطبيق الشرعية الدولية المتمثلة في القرارين 242 و338، وكذلك تطبيق مبدأ الأرض في مقابل السلام، على أن يتم في مؤتمر السلام الوصول إلى الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني، وإلى الأمن والسلام لدولة إسرائيل. فهل يتحول الحديث الأميركي الجدي إلى مساع أميركية جدية، وإلى رغبة أميركية جدية في البحث عن السلام؟ إن السلام في الشرق الأوسط يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال. 

السيرة الشخصية: 

محمود عباس: عضو اللجنة التنفيذية ورئيس دائرة العلاقات العربية والدولية في منظمة التحرير الفلسطينية.