روزين وهمرمان. "الشعراء لن ينظموا قصائد: جنود في أرض إسماعيل أحاديث وشهادات" (بالعبرية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

             "ليس في إمكان الشعراء أن ينظموا قصائد عن الجنود الإسرائيليين الذين جابهوا الانتفاضة، وأطلقوا النار على الأطفال والنساء. ليس ثمة 'كل الاحترام'. ولأن أحداً لا يفهم ذلك، ولن يعالجه، فإنه لا يمكن الانتصار هنا. ومثلي الآن مثل من يشهر مسدسين، ويشهر طفل عمره خمسة أعوام [سلاحه] في وجهي؟ إمَّا أن يطلق النار علي، وإمّا أن أُطلق النار عليه. وأنا خاسر في الحالتين." من هذه الكلمات التي قالها الرقيب يونثان، استوحت إيلينا همرمان عنوان هذا الكتاب، الذي نعرضه هنا.

يتكون متن الكتاب الأساسي (كما تقول همرمان) من روايات اثني عشر جندياً، تحدثوا إلى رولي روزين. أي أننا أمام نصوص وثائقية ترصد واقعاً حقيقياً. ومع ذلك، فإنها مادة "مشغول بها"، ذلك بأن أقوال الجنود، التي جاءت أصلاً ضمن أحاديث بينهم وبين روزين، عُرضت هنا على هيئة حوارات داخلية ("مونولوجات")، كما أنه جرى اختصارها. ولذلك، فهي إلى حد ما "مونتاجات" لمقتطفات، وهي بالتالي أدبية الطابع. وتحدد همرمان جوهر طبيعة المحاولة التي يمثلها الكتاب بأنه نقض الافتراض الشائع بوجود انفصال نوعي واضح بين نص خيالي وآخر واقعي. و"المونولوجات" هنا تتغذى من زخم أساسها الواقعي، إذ ليس فيها جملة أو كلمة أو برهة صمت لم ترد في أحاديث الجنود.

وإضافة إلى "المونولوجات" (إلى جانبها وضمنها)، يتضمن الكتاب نصوصاً من نوع آخر، أدبية – نظرية وثائقية، ترتبط إلى أحاديث الجنود بروابط متنوعة. وبسبب تجاور النصوص مع "المونولوجات"، في الصفحة نفسها أحياناً، فإنها تقطع انسياب القراءة الاعتيادية وتشوشه بهدف إضاءة "المونولوجات" من الزوايا كافة وبشتى السبل: من الجانب الوثائقي والجانب الأدبي، من جانب المضمون وجانب الشكل، من جانب التنافر وجانب التكامل. وبين تلك النصوص، بصورة خاصة، مقتطفات طويلة من قرارات المحكمة في قضية الجنود التي أطلقت وسائل الإعلام عليها اسم "غفعاتي أ" و"غفعاتي ب". وكانت الصحف نشرت في حينه فقرات من هذه القرارات. "عندما قرأتها كاملة، من أجل إعداد هذا الكتاب، لم أصدق ما رأته عيناي: لم يكن قد بقي في ذاكرتي ووعيي أي أثر تقريباً للأشياء الرهيبة أو القاسية التي تتضمنها، وأنا افترض أنها لاقت المصير نفسه لدى قرّاء كثيرين. ومع ذلك، لا شك عندي في أنها تتضمن قوة تستطيع تقزيم أية رواية خيالية تحاول أن تنافس مواد واقعية من هذا النوع." (النص الكامل للجزء الذي تتحدث همرمان فيه "عن الكتاب"، ص 219 – 226).

تقدم شهادات الجنود، في هذا الكتاب، نماذج متنوعة من شخصياتهم، وسلوكهم في مواجهة الانتفاضة، ومواقفهم منها، وتأثيراتها فيهم. وسنعرض فيما يلي لمحة عن بعض هذه النماذج.

الرقيب يوسي تلقى دعوته إلى الاحتياط باهتياج وحماسة، وقال لأصدقائه: "إذا سمعتم أن عربياً مات في غزة، فاعلموا أن يوسي هو من قتله." وكان ذلك طبيعياً بالنسبة إلى شخص مثله من أنصار الليكود. لكن تجربته مع المعتقلين الفلسطينيين في معتقل أنصار 2، جعلته يتغير "من النقيض إلى النقيض": بدأ يشعر بأنه جندي نازي تماماً، وتوصل إلى استنتاج أنه لا يريد أن يكون في هذا "البلد". ولم يكن هذا التغيّر سهلاً. ويتحدث يوسي في إحدى مشاهداته عن شاب معتقل رفض المحققون تحويله إلى المستشفى قبل استكمال التحقيق، على الرغم من آلامه الشديدة الناجمة عن إصابته بجروح بالغة. "... طوال الوقت كان يصرخ ويبكي، يصرخ ويبكي، ومن كثرة ما بكى لم أستطع أن أظل واقفاً هناك... قلت لنفسي: ما هذا، أهذا هو جيشنا، هكذا ثقّفونا في جيشنا؟" (نص شهادة يوسي، ص 27 – 38).

وفي المقابل، فإن الملازم أول إيلان تحول شطر اليمين. كان يشارك في الاعتقالات الليلية، وكان ذلك صعباً للغاية عليه في البداية، إذ كان يذكّره ببيوت أصدقائه العرب. لكنه الآن يعزل نفسه نهائياً عن مشاعره. "أنا هكذا، كالحجر، عندما أقبض على شخص ما." وعندما يُسأل عما إذا كان يمكن أن يشارك في ترحيل سكان قرية عربية، نراه يتردد ويراوغ، لكنه ينتهي إلى القول: "ممنوع القيام بذلك، ممنوع الوصول إلى مثل هذا الوضع. لكن إذا حدث ذلك، فإنه يمكن  عندها أن أقتنع بضرورة طرد سكان القرية. وسأفعل ذلك." (النص، ص 45 – 58)

أما الرقيب يونثان، فيمثل نموذج المسالم السلبي، ويقدم نفسه على هذا الأساس، ويعتبر نفسه الاستثناء. وهو يشعر بالغربة: "فجأة كل الآخرين يضربون.. وأنا لا." ومع ذلك يختلف عن الآخرين بأنه يتصرف "بسلبية معينة، سلبية عاطفية أو حتى جسدية." ينتقد ممارسات زملائه الذين "يتحولون فجأة إلى حيوانات"، لكنه يلوذ بالصمت، ولا يجد ما يتحدث عنه معهم. وهو لا يعرف كيف سيتصرف إذا تلقى أمراً عسكرياً قاسياً (طرد السكان، مثلاً): لم ينصاع للأمر، ولن يتمرد عليه. لا يستطيع التمرد، لكنه يمكن أن يتمرد. "لا أعرف.. يجب أن أكون هناك حتى أعرف." (النص، ص 65 – 75).

ويمثل الرقيب موشيه، الذي ذهب إلى الخليل متطوعاً، نموذج اليميني، المهووس بالإثارة (الـ "آكْشِنْ"). يؤمن بـ"الترانسفير" و"أرض إسرائيل الكاملة. يحتقر العرب، ويرى فيهم "وجوهاً تدعوك إلى صفعها." يعتقد "أن العرب لا يفهمون. وعليك أن تشرح لهم الأمور بالقوة أو بالصراخ..." – وهو، بذلك، يرجع صدى لاعتقاد صهيوني راسخ لم يبدأ مع جابوتنسكي ولن ينتهي مع شمير. تعلم من العربية الكلمات التي يحتاج إليها فقط، ولم يتعلم كلمات مثل: "من فضلك"، عفواً". إلى ذلك، فهو لا ينتقد الجيش الإسرائيلي بسبب ممارساته المتشددة، بل بالأحرى بسبب تساهله إزاء الانتفاضة. (النص، ص 79 – 89).

في شهادة الملازم أول نوعام، تصل الأمور إلى درجة "العبث"، على حد تعبيره: أحد الضباط يطارد شخصاً، ويمسكه. يأتي جندي لم يشارك في المطاردة، ويحاول أن يضرب العربي، فيرفع الضابط يده مدافعاً عنه، عن "فتاة"، وتصيبه ضربة الهراوة وينكسر إصبعه. وبعدها يوبَّخ الجندي. "لكنني لا أعتقد أنهم توقفوا عن ضرب الفتيان في ذلك اليوم. وربما بدأوا يراعون، أكثر من قبل، ألاّ يزعجوا الضباط." ونوعام لا يعتبر مثل هذه الممارسات من قبيل التجاوزات أو الاستثناءات الشاذة: حتى الجنود "اليساريون يتخلون عن أفكارهم" وهم يواجهون الانتفاضة. وتدفعه تلك الممارسات إلى أن يبعث برسالة إلى رئيس هيئة الأركان. وصلت الرسالة، و"لم يحدث شيء". لكن نوعام نفسه يقر بأن دافع الرسالة لم يكن "خُلُقياً"، بل كان منع إلحاق الضرر بسمعة الجيش؛ وهي أيضاً "رسالة تطهير للذات، أرخص من استشارة طبيب نفساني." (النص ص 94 – 103)

*   *   *

              تقول إيلينا همرمان، في تقديمها لهذا الكتاب:

              "كثيراً ما قرأنا مثل هذه الروايات والنصوص في الصحف، وسمعناها من المذياع، وشاهدناها على شاشة التلفاز – إلى درجة أننا كففنا عن رؤيتها وتوقفنا عن سماعها." (ص 225).

              أمّا شريكة همرمان في إعداد الكتاب، فقدمت شهادة خاصة بها، ورد فيها نقد للكتاب نفسه:

              "يطلقون النار ويبكون، أجل.. نحن نطلق النار – نحن، كلنا، لأننا جزء من هذا المجتمع.. كلنا نطلق النار... وبعد ذلك نبكي.. مثلاً نكتب كتباً كهذا الكتاب، ونفخر بذذلك أيضاً. نقول: 'كم هو رائع أن نستطيع كتابة مثل هذه الكلمات، كم نحن رائعون لأننا نبكي أيضاً..'." (ص 159)