مقتطفات من مقابلة أُجريت في القدس، في 2/5/1991. ومما جاء فيها: المحاولة الأميركية لإرضاء إسرائيل والدول العربية وتجاهل الفلسطينيين فشلت؛ لا نستطيع فرض حل، لكننا قادرون على إحباط أي حل لا يتجاوب مع مصالحنا؛ في يدنا مفتاح التسوية ومفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط.
المحاولة الأميركية لإرضاء إسرائيل والدول العربيةوتجاهل الفلسطينيين فشلت.
- لا نستطيع فرض حل، لكننا قادرون على إحباط أي حل لا يتجاوب مع مصالحنا.
- في يدنا مفتاح التسوية ومفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط.
س – أين هي الانتفاضة اليوم بعد حرب الخليج؟
ف. الحسيني: إذا قلنا إن العام الأول من الانتفاضة كان من أجل معركة تغيير الرأي العام الفلسطيني، ووضع استراتيجية فلسطينية جديدة – وهو ما نجحنا فيه من خلال قرارات المجلس الوطني الأخير سنة 1988 – وإذا كان العام الثاني عام الرأي العام الدولي الذي حققنا أيضاً تقدماً فيه، وكان العام الثالث – في بدايته – عام معركة من أجل الرأي العام الإسرائيلي، وقد حقق نجاحاً معيناً في النصف الأول منه، ثم تلاه انهيار في هذه الجبهة في النصف الثاني من العام الفائت؛ أعتقد أن حرب الخليج أخرجتنا إلى نوع جديد من المعارك أسمّيه معركة البناء. أعتقد أن العام الرابع، وربما الخامس أيضاً، يجب أن يشهدا إعادة البناء داخل المجتمع الفلسطيني وداخل الانتفاضة.
الانتفاضة الآن في مرحلة إعادة تقييم وإعادة دراسة مدى النجاح الذي تحقق والأمور التي لم تحقق نجاحاً بل سجلت نقاطاً ضدنا. هناك معركة البناء الاقتصادي وإعادة البناء الاجتماعي والتعليمي. كثير من مؤسساتنا مهدد الآن لا من ناحية الشكل وإنما من ناحية المضمون، مثل التعليم المهدد جداً وعلينا معالجته بجدية. هذا يتم الآن من خلال حشد الكفاءات وتأليف لجان متخصصة بالموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، والتي نأمل بأن يكون لها أيضاً نوع من التنظيم المماثل في الخارج، بحيث تكون مثلاً وزارة التربية والتعليم يتبعها كل المدارس والمؤسسات التعليمية، بغض النظر عن أية مؤسسات تنشأ، أكانت خيرية أم حكومية أم وقفية إسلامية. يفترض أن يكون الجهاز التعليمي كله مرتبطاً بجهة واحدة هي التي توجهه، وليس كما يجري الآن.
فعاليات الانتفاضة يجب أيضاً أن تعمل وتساعد وتوجه نحو بناء جديد، أو إعادة بناء للبنية التعليمية. هذا لا يكون إلا من خلال تأليف لجان متخصصة.
في مجال آخر من العملية النضالية، أعتقد أننا بجاجة إلى إعادة تأليف لجان الأحياء واللجان الشعبية. وعندما أقول لجان أحياء لا أقصد القوى الضاربة وإنما أقصد تلك اللجان التي عملت في بداية الانتفاضة على خدمة الهيئة الاجتماعية الموجودة في ذلك المكان، إنْ كان مخيماً أو قرية أو حياً أو مدينة. المطلوب لجان شعبية تعمل على تغطية الحاجات الاجتماعية لأهالي ذلك الحي؛ أن تعمل على تطوير أساليب الاقتصادين المنزلي والمحلي، في الزراعة والحدائق وخطوات من هذا القبيل التي عمل الاحتلال على إحباطها ونحن أيضاً تورطنا في موضوع معين عندما خلطنا ولم نفرق بين شيء اسمه اللجان الشعبية وشيء اسمه اللجان الضاربة.
حتى الآن، الدعوات إلى تأليف هذه اللجان كانت مقتصرة على البيانات التي تصدر عن القيادة الموحدة للانتفاضة، وفي محاولة لأن تقوم أجسام تابعة لأجهزة الانتفاضة بهذا العمل. وهنا حدث الخلل إذ حاولت الأجسام النضالية أن تنشىء وتبني هذه الأجسام بشكل ذي طابع نضالي مواجه. وهذا أدى إلى اقتصار العمل في هذه اللجان على العناصر القادرة على عملية المواجهة، وبالتالي ابتعدت عنها عناصر وقطاعات وشرائح من الجماهير التي نحن بأمس الحاجة إليها لتكون في لجان الأحياء.
الآن نحن دخلنا مرحلة جديدة، فتح فيها باب النقاش الداخلي ونأمل بأن يكون هذا النقاش منفتحاً ومتعدداً أكثر، وفي أماكن أكثر، بحيث نبدأ من خلاله بتلمس النبض أكثر من السابق وأن تبدأ الأحياء ولجان الأحياء بإعطاء رأيها وتصوراتها وتجربتها وانتقاداتها، بحيث تصل إلى قيادة الانتفاضة، وتوضح البرامج بصورة ملائمة أكثر لمتطلبات الجمهور وقدراته وإمكاناته.
المطلوب الآن أن تبدأ هذه اللجان بالعمل ضمن عملية خدمة المواطن في الداخل، إنْ كانت مؤسسات لجان حماية المستهلك التي يمكن أن يكون لها أكثر من دور مثل مراقبة الصناعات المحلية، وتشجيع هذه الصناعات، وإخراج المصنوعات الأجنبية من السوق من خلال الضغط في اتجاه تحسين نوعية الصناعة المحلية، وعدم ترك الأمر كما حدث في الفترة السابقة. يمكن للجان حماية المستهلك أن يكون لها دور في تحديد إيجارات البيوت والمحلات والمحافظة عليها. نحن بحاجة إلى مزيد من هذه اللجان. مثلاً، أيضاً، لجان الخدمة الاجتماعية، والخدمات الصحية، والخدمة الاقتصادية؛ كلها يمكن أن يتم تأليفها بأسلوبين: أحدهما ينطلق من الأحياء نفسها والآخر عن طريق تأليف اللجان التخصصية والتي تحاول إيجاد التقاء بينها وبين الأولى. وكي لا تتحول لجان الأحياء إلى قوى ضاربة، يجب أن تتألف من عناصر ذات طبيعة مختلفة، مثل ربات بيوت، وأصحاب مصالح، ومحامين، وأطباء، وشرائح معينة من المجتمع هي المستفيدة وهي المتأثرة بنوعية ما يطرح من بضائع. وهكذا مثلاً تتم مقاطعة البضاعة الأجنبية والإسرائيلية لا بدافع الخوف من القوى الضاربة وإنما عن قناعة. أعتقد أن الجماهير الآن مستعدة للتجاوب مع هذه الأشياء، خصوصاً لأنها بدأت تلمس الخلل الذي يهدد استمرار الانتفاضة. وما لم يقم كل فرد بدوره فإن المستقبل سيكون مظلماً.
طبعاً، أن أحد أوجه الانتفاضة هو المواجهة مع قوات الاحتلال. وأنا أعتقد أن من حق أي شعب في ظل احتلال أن يستخدم جميع الأساليب للمواجهة. وعادة تبدأ هذه الأساليب بقضايا مواجهة عنف، قد تبدأ بأفراد ثم تتحول إلى مجموعات على نمط أضرب واهرب، ثم تصل إلى مرحلة تكون فيها قوات الثورة مسيطرة على الجبال في الليل وفي النهار يسيطر الجيش، ثم نبدأ بالسيطرة عليها طوال النهار والجيش يسيطر على المدينة في هذا الوقت، ثم ندخل مرحلة نسيطر على المدينة في الليل والجيش في الصباح، وفي مرحلة معينة عندما نصل إلى هذا الوضع ويبدأ الشعب يشعر بانتصار الثورة تبدأ الجماهير كلها بالعمل ومساندة الثورة بصورة كاملة، وعندها نصل إلى الانتقال من مرحلة حرب العصابات إلى الحرب الشعبية ثم إلى المواجهة الشعبية؛ أي عندما لا يكتفي الإنسان بأن يوفر المأوى للمقاتل، وإنما عندما ينزل هو بنفسه إلى الشارع بيديه العاريتين ليواجه الجيش. ما جرى عندنا خلال الاحتلال هو أننا منذ سنة 1967 كنا نقاتل في المرحلة الأولى من النضال الفلسطيني في ظل الاحتلال. لو أني أردت أن أقول أن نضال أية أمة يستمر 60 دقيقة، فأقول إننا منذ سنة 1967 حتى سنة 1987 قاتلنا في ربع الساعة الأولى للمعركة. لم نصل إلى مرحلة الانتقال من المناوشات هنا وهناك إلى مرحلة حرب العصابات، ناهيك بالحرب الشعبية. ثم فجأة، ونتيجة تراكمات عديدة، قفزنا من ربع الساعة الأولى للمعركة إلى ربع الساعة الأخير منها، والذي يتسم بنزول الجماهير الشعبية إلى الشارع؛ وهذه مرحلة عليا. إلا إنه بقي لدى الجمهور نفسياً أننا لم نخض معركة النضال المسلح كما خاضتها الشعوب الأخرى. فنشأ شعور بأنه يجب أن نخوض تلك المعركة. في حين أنا أعتقد أننا تخطيناها ودخلنا مباشرة مرحلة الثورة الشعبية.
هذا التشوق إلى استخدام السلاح وإلى النضال المسلح كان موجوداً باستمرار. لكن ما دامت الحركة الجماهيرية قادرة على فرض نفسها كان هذا التشوق خامداً، أو جمراً تحت رماد. في اللحظة التي بدأنا نشعر بأن الحركة الجماهيرية في تراجع، وبأن القمع الإسرائيلي يشتد، بدأت هذه العناصر التي تشعر بأننا لم نخض المعركة، بدأت تفرز إفرازات معينة بعيدة عن أي تنظيم أو أي ترتيب، وبالتالي وجدت حرب السكاكين والتي تتم في معظم الأحيان بشكل لا يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال، سواء استخدم ضد مدنيين إسرائيليين أو ضد فلسطينيين متهمين بالعمالة أو سواها. أعتقد أنه تم استخدامها بشكل غير ناضج على الإطلاق، وفي مرحلة أخيرة بدأت للأسف تأخذ طابعاً لا أستطيع أن أضعه إلا ضمن تقييم إجرامي كحادث طعن سائحة فرنسية في مطعم في بيت لحم. لا أستطيع أن أبرر هذا العمل إطلاقاً إلا بأن الاحتلال قد أفرز أمراضاً معينة أصابت مواطنين فلسطينيين بدأوا يتصرفون تصرفات لا يمكن أن أطلق عليها أي شيء سوى أنها تصرفات مريضة. هذا الشكل من التعامل مرفوض، والانتفاضة هي في أساسها حركة شعبية لا حركة عسكرية، وتهدف كما تهدف المعركة العسكرية إلى تحقيق أهداف سياسية معينة، وبالتالي محظور علينا أن نقوم بأية عمليات تضر بالتوجه السياسي الذي نسير فيه.
ما نراه حتى الآن هو نتيجة أجواء يأس وغضب وقهر يشعر بها أفراد من الشعب الفلسطيني، وبالتالي يتصرفون وهم لا يملكون زمام أنفسهم. المطلوب من العناصر الواعية في الشعب الفلسطيني أن توجه هذا الشعب، وتوضح بصورة لا تقبل أي لبس، حقيقة موقفنا من أحداث كهذه. لا يمكن أن أقبل، بأي شكل من الأشكال، أن يكون مثل هذه التصرفات تحت شعار النضال الفلسطيني، إذ إنها تصرفات خارجة عن كل مفاهيم النضال الفلسطيني وعن كل مفاهيم الشعب الفلسطيني، وبالتالي فهي مدانة ومرفوضة. وعلينا أن نقول ذلك بصراحة وجرأة، وألا نترك جماهيرنا تتوه وتضيع ما بين الصحيح والخطأ.
هناك أيضاً الوضع التنظيمي للانتفاضة والعلاقة بين الفصائل وحركة حماس. لقد وضعت حرب الخليج القوى العلمانية والقومية والإقليمية والإسلامية في بوتقة واحدة، وأشعرت كل هؤلاء بأنهم يواجهون خطراً معيناً. أعتقد أن عملية مراجعة النفس ومحاولة التعامل مع الأحداث والسياسات والبرامج المطروحة من داخل المجتمع الفلسطيني وخارجه. بدأت تدخل مرحلة أكثر نضجاً. وأنا أعتقد، بخلاف ما يعتقده آخرون، أن المرحلة المقبلة ستشهد تطوير العلاقة بين حركة حماس وأفراد القيادة الموحدة، كأحد عناصر البناء وفي اتجاه إيجابي.
س – هل لديك شعور، بعد اللقاءات مع بيكر، بأن هناك تصوراً أميركياً لحل نزاع الشرق الأوسط؟
ف. الحسيني: التصور الأميركي كان ضمن تطبيق القرار 242 ومبدأ "الأرض في مقابل السلام". وأعتقد أن في ذهنهم أيضاً نوعاً من شرق أوسط آخر يكون قادراً على أن يشكل ركيزة للولايات المتحدة في المنطقة من ناحية اقتصادية، وأن يصبح نوعاً من السوق المفتوحة في هذه المنطقة. أعتقد أن مصلحة الولايات المتحدة تتطلب استقراراً معيناً في الشرق الأوسط، لكنهم لا يصرون للأسف على فرض هذا الشيء، وخصوصاً أن الجانب الذي سيُفرض عليه هو إسرائيل. وما زالت الولايات المتحدة ضمن قناعات معينة تتعامل مع إسرائيل على أنها جزيرة الديمقراطية في المنطقة، وبالتالي تعتبر هذه الحكومة حكومة منتخبة ديمقراطياً لا يجوز الضغط عليها لأن ذلك يعني الضغط على الشعب، وهي كما تقول لا تضغط على الشعب وإنما على حكومات، ضمن هذا التصور الذي أعتقد أنه تصور مشوّه، إذ يرى في الديمقراطية هدفاً بحد ذاته في حين أنا أراها من جهتي وسيلة لتحقيق مجتمع أفضل. ومجتمع محتل يضطهد الآخرين، لا يمكن أن نقبله كمجتمع ديمقراطي في ظل أي وضع من الأوضاع.
حرب الخليج أوضحت نقاطاً معينة فقط، مثل أن إسرائيل ليست ذلك الحليف الاستراتيجي الذي يقوم بحماية المصالح الأميركية في هذه المنطقة بقدر ما أصبح عبئاً على الولايات المتحدة. النقطة الثانية التي ثبتت هي أن الأرض، وضمن التكنولوجيا الجديدة والمسافات، لا تحقق أمناً. وثالثاً، أن القوة العسكرية مهما تبلغ في حرب كونية لم تعد تجدي إذ يمكن مشاهدة الحرب وإدارتها من مركز معين. هناك فجوة تقنية عالية جداً بين الولايات المتحدة والدول الأخرى تجعل من هذه القوة العسكرية مجرد لعبة أو ألعاب يمكن التحكم فيها في أية لحظة من اللحظات.
الآن، بداية التحرك الأميركي كانت تحت انطباع خطأ، هو أن نتيجة حرب الخليج والتحالفات الجديدة التي نشأت تمكّن من تخطي بعض ما كانت تعتبره عقبات مثل منظمة التحرير الفلسطينية، فبدأت التحرك تحت تصور أنه يمكن إرضاء إسرائيل، وإرضاء الدول العربية، وتجاهل الفلسطينيين لأنهم أصبحوا أضعف من أي وقت مضى. وهذا ما كنا ننبه أنه لن يكون، وأن الموقف الفلسطيني والعامل الفلسطيني يبقيان عاملاً قوياً. وأعتقد أن هذا ما ثبت للولايات المتحدة خلال الأسابيع الماضية، وهي تقف اليوم أمام مأزق إذ لا تستطيع أن تسير من دون إرضاء الشعب الفلسطيني، كما لا يمكن إرضاء الشعب الفلسطيني ما دامت حكومة شمير هي المتحكمة في مفاتيح التسوية السياسية.
س – محاولات القفز من فوق منظمة التحرير التي تُكَرَّر، كيف تنظر إلى الرهان على القيادة البديلة؟
ف. الحسيني: الثقة بالنفس، الثقة بأن المنظمة هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، الثقة بأن الشعب الفلسطيني وقياداته أينما وجدت هي جزء من منظمة التحرير، وهي قادرة على أن تقوم بمهمة المواجهة والتحدي في كل الأماكن، إنْ كان على المستوى الميداني أو على المستوى السياسي. الحلم الأميركي والإسرائيلي، والعربي نوعاً ما، بإيجاد بدائل من منظمة التحرير الفلسطينية لم تنته ولم يقض عليها إلا بفعل المواجهة التي جرت هنا على المستوى الميداني وعلى المستوى السياسي.
على المستوى السياسي، عندما خرجت مجموعات من الأراضي المحتلة وبقرار من منظمة التحرير وواجهت الأميركيين بالرسالة الفلسطينية القوية أن لا تحرك من دون المنظمة ولا تحرك يسمح به يتم من خلاله تخطي الثوابت أو الأهداف الفلسطينية المعروفة. هذه المرة كان التحدي جيداً، وأعتقد أنه كان مثمراً، وخصوصاً أنه لم يكن مواجهة شعارات وإنما مواجهة مضامين. بمعنى أن كلمة الفلسطينيين لم تكن من خلال "لا" بل من خلال "لماذا، متى، أين، وكيف". ومن خلال أسئلة من هذا النوع، كان الجانب الفلسطيني يقود الأميركيين إلى الاعتراف بأن الاقتراحات الإسرائيلية لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة بل إلى فضح وتعرية الأهداف الإسرائيلية، ووضع الأميركيين في موضع لا يستطيعون منه أن يدافعوا عن المنطق الإسرائيلي. هذه العملية ما كانت لتتم بنجاح لو أن موقفنا كان هو ذاته الموقف القديم، أي "لا" من دون أن يكون لدينا كيف ولماذا وأين ومتى؟
وفي اللحظة التي اعتقد البعض أن وضع منظمة التحرير في الداخل هو أضعف ما يمكن، خرج مارد المنظمة ليفرض نفسه على كل الأطراف في ظل هذه الأوضاع. وهذا المارد خرج من القمقم الموجود هنا، ليقول لا لتخطي منظمة التحرير الفلسطينية، وليجد نقطة ارتكاز جديدة قديمة للمنظمة، على الآخرين أن يقضوا عليها من أجل البحث عن قيادة بديلة.
الوضع الآن بهذا الشكل: لدينا بناء هو الذي أفرزته الانتفاضة وهو الذي يحافظ على وحدانية الشعب الفلسطيني ويحافظ على هذه العلاقة الجسدية الواحدة المترابطة بين الداخل والخارج. وبالتالي هنا على الطرف الآخر أن ينهي هذا البناء لإيجاد بناء آخر مكانه. كانوا يأملون بأن يوجدوا بناء ونقوم نحن بمحاولة إزاحة هذا البناء. أنا أشبّه هذا الوضع بالنتائج القانونية التي تنتج عندما يذهب شخص إلى بيت غير بيته فيفتحه ويجلس داخله. وعندما تتم الشكوى يكون الحكم أن يبقى هذا الإنسان في هذا البيت إلى أن يكسب الطرف الآخر القضية بإخراج هذا الشخص من البيت، وبالتالي يصبح صاحب الحق في الشارع والمعتدي داخل البيت، إلى أن يتم إثبات عكس ذلك. ما قمنا به هو أن صاحب البيت أصر على أن يبقى داخله، والمعتدي بقي في الخارج. هذا ما فرضناه نحن عندما اتخذت منظمة التحرير قراراً بأن تكون جزءاً من هذه المسيرة، وبالتالي جزءاً داخل هذا البيت، وعلى الآخرين أن يثبتوا أننا لسنا الممثلين، ورفضنا أن نكون في وضع آخر هو أن يجلبوا هم ممثلين، علينا نحن أن نثبت أنهم ليسوا كذلك.
س – محاولات تجاهل وحدة الشعب الفلسطيني، وفرض حلول تأخذ بعين الاعتبار فلسطينيي الأراضي المحتلة وتتجاهل فلسطينيي الشتات، ما هي فرص نجاح هذه المحاولات وكيف يتم التصدي لها؟
ف. الحسيني: أعتقد أن كيفية التصدي لها هي من خلال ما يجري الآن، أي التأكيد باستمرار أننا نرفض أن تتم مخاطبتنا على أي أساس آخر سوى أننا شعب واحد. نحن نرفض أن نكون سكان مناطق معينة في هذا العالم كما تريد إسرائيل. نحن نرفض أن نكون أقليات كما يحاول بعض الجهات تصويرنا. نحن نرفض أن نكون قضية لاجئين كما كان مطروحاً في مرحلة معينة. نحن شعب كامل، وبالتالي فإن أية خطة يخطوها أي جزء من شعبنا في أي مكان هي خطوة تتم من خلال قنوات واضحة هي قنوات منظمة التحرير الفلسطينية. ما جرى هنا، على سبيل المثال، من لقاءات مع بيكر تم من خلال قنوات المنظمة. هذا الأمر واضح تماماً للولايات المتحدة ولبيكر ولإسرائيل. كانوا يتحدثون مع مبعوثي المنظمة ليس إلا. وهذا وضع واضح جداً وجريء إعلامياً ورسمياً وعملياً. في اللحظة التي نسمح نحن بأن تكون العلاقة على نحو غير ذلك، عندها يمكن أن تبدأ القوى الأخرى تسجل نقاطاً ضدنا، ولو أني واثق تماماً في النهاية بقدرة الشعب على إسقاط أية محاولة من هذا النوع، لكن ربما عندها سيكون الثمن مرتفعاً.
لقد أثبتنا للولايات المتحدة وسواها أننا ربما أضعف من أن نفرض حلاً معيناً، إلا إننا نمتلك قوة كافية تجعلنا قادرين على إحباط أي حل لا يتجاوب مع مصالحنا. هذه نقطة القوة الأساسية لدينا، علينا أن نفهمها وأن نكون واثقين بها وأن نتعامل من موقع الند للند، حتى في مواجهة كل الدبابات الإسرائيلية وطائراتها، وكل التكنولوجيا الأميركية وقدراتها، وكل الضغوط الخارجية وتأثيراتها. من خلال هذه النقطة. في يدنا نحن فقط مفتاح التسوية، وفي يدنا نحن فقط مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط.
من هنا إصرارنا باستمرار على أن أي مخطط أو مفاوضات يجب أن تكون خاضعة لقوانين معينة ولمرجعية قانونية. والسؤال الذي وجهناه إلى بيكر هو: ما هي قوانين اللعبة الجديدة؟ فأنا غير مستعد لممارستها إذا لم تضع لي قوانينها. إذا كانت قوانين اللعبة هي الشرعية الدولية، فلنر ما هي الشرعية الدولية وماذا يحكمها. وبالتالي، أي مؤتمر يجب أن يكون ضمن هذا الإطار وخاضعاً له. نحن نرفض أن نخوض أية لعبة أو مسيرة لا تكون خاضعة لهذه الشرعية. لهذا السبب نحن دخلنا وجلسنا إلى الطاولة، لكن الحديث يتعلق بالسقف الذي ستتم تحته هذه المسيرة. من جهتنا، نحن نشترط أن يكون هناك دور فعال لأوروبا، ودور فعال للأمم المتحدة، وأن يكون العنوان الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة. في هذا النطاق، نحن كفلسطينيين وكمنظمة تحرير نمتلك القوة. في حين أن الآخرين يريدون أن يطرحوا علينا صيغة أخرى تتحكم فيها لا الشرعية الدولية وإنما قدرة وتأثير كل طرف من الأطراف ميدانياً. وهنا سيكون الميزان في مصلحة إسرائيل. هم لا يستطيعون أن يخوضوا هذه اللعبة من دوننا، ونحن لن نخوضها إلا ضمن شروطنا.
نحن لا يمكن أن نقبل إلا أن نذهب إلى مفاوضات من دون شروط مسبقة، وعندها فإن الجسم الوحيد القادر على الذهاب إلى هناك هو منظمة التحرير، وبصورة علنية. وبالتالي، فالموضوع يتعلق بكل الشعب الفلسطيني. أو إذا هم أرادوا البدء بفترة انتقالية، فيجب أن تكون ضمن صفقة شاملة، وضمن جدول زمني معروفة بدايته ونهايته. قد يأتي من يقول لي: خلال 15 عاماً ستكون لك دولة مستقلة مع تعريف كل خطوة مسبقة ومدتها. عندما نتحدث عن علاقة بالشعب الفلسطيني ككل، عندها أنا مستعد أن أخوض هذا الأمر وأسأل لماذا 15 عاماً لا 15 شهراً. أما أن يقول لي هناك مرحلة انتقالية مدتها 3 أعوام وبعدها ننظر ماذا نفعل، فهذا أمر مرفوض. نحن نرفض أي حل لقضية الاحتلال بمعزل عن بقية الشعب الفلسطيني في الشتات.
مثلاً عندما قال بيكر إنكم ستحصلون على شيء أقل من الدولة وأكثر من حكم ذاتي، كان جوابنا: نحن لا نريد أن نتحدث عن شعارات وإنما عن مضامين. هل في إمكان هذا الكيان الذي تتحدث عنه أن يعطي حق العودة للفلسطينيين الموجودين في الكويت ولبنان أو أي مكان آخر يتم اضطهادهم فيه؟ لأنه، في هذه الحالة، يمكن أن نتحدث عن حل من هذا القبيل لأنه يربط الداخل بالخارج.
إننا نرفض كياناً، حتى لو أطلقوا عليه اسم دولة، إذا لم يكن يتيح لفلسطينيي الخارج حق العودة.
س – ما هو، في رأيك، خطر الهجرة اليهودية الحالية على مصير القضية الفلسطينية، ومستقبل الشرق الأوسط؟
ف. الحسيني: واضح جداً أن معركتنا هي بالدرجة الأولى الأرض والإنسان. وخطر الهجرة اليهودية بالنسبة إلينا هو عندما تتعرض للأرض والإنسان، أي الاستيلاء على الأراضي وتغيير الواقع الديموغرافي القائم. هذا هو خطر الهجرة اليهودية الرئيسي. أية هجرة يهودية مهما يبلغ حجمها لا تتعرض للحقائق الديموغرافية ولا للأراضي والمياه ليست، في رأيي، هي الخطر الذي يجب أن ننظر إليه بكل هذه الحساسية. بمعنى أن هجرة يهودية ينجم عنها، كما يحدث الآن، توسيع مستعمرات في القدس وتوسيع مستعمرات في الضفة الغربية وقطاع غزة، واستخدام مياهنا، وتدمير بنيتنا الاقتصادية، حتى بالنسبة إلى فلسطينيي الداخل عن طريق الاستيلاء على أراضيهم، هي قضية خطرة جداً لا لأن هناك مهاجرين يهوداً وإنما لأن هؤلاء المهاجرين يؤثرون في الطبيعة الديموغرافية وفي الطبيعة الجغرافية على الأرض. وكل قضية السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وكل المستقبل الذي يمكن أن يبنى الشرق الأوسط عليه، يمكن أن ينهارا نتيجة هذه السياسة الإسرائيلية في استخدام واستغلال قضية هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل. بكلام آخر: هجرة يهود سوفيات يواكبها بقاء الفلسطينيين في الداخل، وحقوق كاملة، عندها لن أنظر إليها بتلك الخطورة.
إن وصول كذا مليون يهودي إلى إسرائيل خلال سنوات سيؤدي إلى عدم تحقيق المسيرة السلمية؛ سيؤدي إلى مزيد من المخاوف الفلسطينية والعربية تجاه هذه الهجرة، وسيخلق لدى الجمهور الإسرائيلي والسياسيين الإسرائيليين الآمال بما سبق أن وضعه بعضهم جانباً، أي "إسرائيل الكبرى". ففي ظل حجم القدرات العلمية والعسكرية المتطورة، ستبدأ هذه الأحلام بالنمو وتبدأ النظرة الإسرائيلية تتخطى نهر الأردن إلى أماكن أبعد من ذلك. وسيسود عاملان: عامل الخوف والشكوك العربية، وعامل الأحلام القديمة، يدفعان بالشرق الأوسط إلى أن يكون منطقة همها الأول والأخير الاستعداد للحرب المقبلة.
إن فشل إسرائيل في استيعاب هذا العدد من المهاجرين قد يشكل علامة على الطريق تثبت للإسرائيليين أنه كما كان للقوة العسكرية في فترة من الفترات حد معين لم تستطع تخطيه، كذلك لقضية الهجرة حد معين لا يمكن أن تتخطاه.
* مقتطفات من مقابلة أجرتها ربى الحصري في القدس في 2 أيار/مايو 1991، ونشرت في:
Revue d’études palestiniennes, No. 40.