حوار مع المحامية فيليتسيا لانغر أجراه في تل أبيب الصحافي في "كريستيان ساينس مونيتور" جورج موفت لحساب مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وفي هذا الحوار تقول لانغر إنها عادت غير قادرة على النظر إلى القضاة الإسرائيليين بسبب عدم اكتراثهم وفقدان الروح الإنسانية، وغير قادرة على مخاطبتهم بعبارة: "حضرة القاضي المحترم". وتشرح لانغر في هذه المقابلة الأسباب التي دعتها إلى مغادرة إسرائيل نهائياً.
في أيار/مايو 1990 أغلقت فيليتسيا لانغر، وهي التي كان دفاعها العنيد عن الفلسطينيين على امتداد ربع قرن قد جلب لها الإعجاب والعداوة معاً، أغلقت مكتبها للمحاماة وأعلنت أنها قد قبلت منصباً جامعياً في ألمانيا الغربية حيث ستلقي محاضرات في حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة والنظام القانوني في إسرائيل.
ولدت فيليتسيا لانغر في بولندا في 9 كانون الأول/ديسمبر 1930، وهربت مع عائلتها إلى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب، وهاجرت إلى إسرائيل سنة 1950. حازت على شهادة في الحقوق سنة 1965. وبعد عامين من ذلك التاريخ أصبحت أول محامٍ في إسرائيل يدافع عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وكان ارتباطها بالمئات من أهم الدعاوى المتعلقة بحقوق الفلسطينيين، وتنديدها العلني بالاحتلال الإسرائيلي قد جعلاها أشهر المدافعين الإسرائيليين عن حقوق الإنسان الفلسطيني.
وقد أجرى جورج موفت من صحيفة Christian Science Monitor مقابلة مع السيدة لانغر، بتكليف من مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في شقتها في تل أبيب في 14 حزيران/ يونيو 1990، وذلك عشية سفرها. وفيما يلي مقتطفات من ذلك الحديث.
س – بصفتك أول محام إسرائيلي، والمحامي الوحيد لبضعة أعوام عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أصبحت بمثابة مؤسسة ونوعاً من الأسطورة. ما الذي جعلك، أنتِ بالذات، تحزمين أمرك وتقررين السفر؟
ف. لانغر: أنت تعلم أنني كنت ولأعوام عديدة، أنا وأمثالي، بمثابة مضرب المثل على انفتاح النظام وليبراليته ونزاهته؛ فكانوا يقولون: "حتى فيليتسيا لانغر، مع كل اعتراضاتها، تعمل ضمن النظام." وإضفاء الشرعية على النظام كان، على شكل ما، الثمن الذي كان علي أن أدفعه للعمل داخل هذا النظام (وطبعاً، وعلى مستوى ما، وعلى الأقل فيما يختص بالمحكمة العليا، كان للنظام شرعية بالنسبة إليّ؛ وهذا أمر لا يمكن إنكاره). لكن فيليتسيا لانغر لا يمكنها بعد الآن العمل داخل ذاك النظام. فالنظام اليوم لا يُحتمل؛ إنه لا يُحتمل بالنسبة إليّ. أنا لا أستطيع احتماله بعد اليوم. هذا قرار شخصي طبعاً. فأنا لا أقول للآخرين أن يغلقوا مكاتبهم. إذ ان الناس بحاجة إلى من يمثلهم أمام القضاء، وليس في نيتي أن أقترح على المحامين إغلاق مكاتبهم ما دام الناس بحاجة إليهم.
س – ماذا تقصدين بقولك إنه أصبح لا يُحتمل؟
ف. لانغر: إنهم يتظاهرون بتطبيق العدالة في الأراضي المحتلة، حتى في هذه الأيام وخلال الانتفاضة. لكن الأمر انتهاك للعدالة في الميادين كافة. إن النظام غلط وفاسد. ومن اللافت للنظر أنه وفي غمرة المقالات التي صدرت في الصحافة العبرية عن موضوع انتهاء عملي، لم يحاول أحد أن يدافع عن النظام. إنه أمر مهم جداً بالنسبة إلي أن يتصدى المرء لهذه الأساطير، ولأسطور نظام قانوني مستقل ونزيه وعادل. ومن خلال الكف عن العمل في هذه الفترة من الانحطاط في المعايير القانونية والخلقية، لدي هدف واضح للغاية وهو ليس ترك العمل فحسب بل توضيح السبب الذي من أجله تركت، وتحقيق إنجاز ولو بسيط من خلال جلب الأنظار إلى أن النظام القانوني ليس عادلاً ولا مثالياً ولا شيئاً من هذا القبيل. لا يمكن لأي شيء أن يكون مثالياً في ظل الاحتلال. إن النظام القانوني الإسرائيلي حتى في إسرائيل نفسها قد أصابته العدوى من جراء الأمراض التي تعتري النظام القانوني في الأراضي المحتلة. أما فيما يختص بالنظام القانوني في الأراضي المحتلة، وخصوصاً في هذه الأيام، فحتى أفكار الروائي فرانز كاكفا بشأن العدالة قد تكون بالمقارنة أكثر إطراء.
س – لكنك عملت داخل هذا النظام ثلاثة وعشرين عاماً، فما الذي تغير؟
ف. لانغر: لقد تدهور الوضع بصورة خطرة منذ الانتفاضة. وكان هذا النمط من السلوك قد برز طبعاً قبل الانتفاضة؛ أعني به الاعترافات المنتزعة والتفاوض بشأن الالتماسات القانونية، وإلى ما هنالك. وفي هذا المجال، لم تكن آلهة العدالة عمياء قط؛ فهناك دوماً قانون لليهود وآخر للفلسطينيين. لكن، وبينما كانت المحاكمات تُعد بالمئات أصبحت الآن تُعد بالألوف. وأضحت المحاكم العسكرية بمثابة مصانع لإنتاج الأحكام، وكأنها تلك السلسلة من مطاعم الأكل السريع التي توزع "العدالة"، أو كأنها دكاكين تتم فيها عملية التفاوض بشأن التماسات المتهمين. أما القضاة، فهم غارقون تحت هذا السيل من القضايا؛ لذا فالأمر الأهم هو إنجاز كل شيء بسرعة وإقفال الملفات المتراكمة. ولا أظن أنني بحاجة إلى تبيان ما تعنيه "العدالة السريعة".
س – إذاً، فالأمر في الأساس مشكلة حجم؟
ف. لانغر: ليس الحجم فقط. في السابق كان ثمة مجال للمناورة. وحدث بين الحين والآخر، وفي بعض القضايا، ان كان لبعض القضاة موقف ليّن. وفي تلك الأونة، لم يكن ثمة محكمة للاستئناف. أما اليوم، فإذا صدر حكم مخفف فهو يُبْطَل فوراً إذا أراد المدعي العام أن يستأنف. وللمحاكم العسكرية الآن الهدف نفسه تقريباً كما للجيش في الميدان، أي سحق الانتفاضة. فهي تحاول سحق الانتفاضة من خلال إصدار الأحكام، ومن خلال أوضاع الاعتقال التي يتعرض المساجين لها قبل الوقوف أمام المحاكم، والعذاب الذي يتعرضون له لحملهم على الاعتراف بالتهمة. والأحكام اليوم أشد قسوة جداً، إذ بلغت قسوتها عنان السماء.
س – أليس من الممكن القول إنه، وفي هذه الأوضاع، قد ازدادت الحاجة إليك أكثر من ذي قبل؟
ف. لانغر: كلا. والسبب هو أن اليوم، وبحسب تجاربي الأخيرة، لا فائدة تُرجى من الدفاع عن الموكِّل. مَنْ الذي يأبه لذلك؟ قبل بضعة أعوام، نجحت في إعادة النظر في إحدى القضايا لأنني اكتشفت خطأ قضائياً فأُعيدت المحاكمة. لكن من يأبه للخطأ القضائي هذه الأيام؟ اليوم كل الأمور أخطاء قضائية. خلال إضرابات المحامين تنديداً بالأوضاع التي لا تُحتمل في المحاكم وبأمور أخرى خلال الانتفاضة، جرت محاكمة بعض المتهمين بلا محامين، وحكم على البعض منهم بأحكام أحسن مما لو كانوا ممثلين. لذا سألت نفسي: ماذا أعمل هنا؟ واليوم لا تكاد توجد أية محاكمات فردية، بل السائد هو المحاكمات الجماعية. وأنا لا أُحسن العمل في المحاكمات الجماعية. وعادتي أن أكرس اهتمامي الكامل لكل قضية على حدة، فأستعد لها الاستعداد التام، وأبحث عن السوابق، وإلى ما هنالك. ولم تكن أية محاكمة بالنسبة إليّ أمراً رتيباً. لكن في هذه الأحوال الجديدة، فإن كل جهودي قد ذهب سدى. فالذين أعددتُ دفاعهم إعداداً شاملاً وناضلت من أجلهم في المحاكم، كانوا هم الذين صدرت بحقهم أقسى الأحكام. أما الذين وافق محاموهم على التفاوض بشأن الالتماس، حتى عندما كان المحامون يعرفون حق المعرفة أنهم أبرياء، فقد صدرت بحقهم أحكام أقل قسوة. وها أنت ترى نفسك مكرساً حياتك لهذه المهمة؛ فالأمر بالنسبة إليّ كان بمثابة وظيفة على امتداد 24 ساعة. وحتى عندما أنام، كنت أحلم بالدعاوى. ثم ينتابك الإرهاب وأنت تسلك الطريق إلى المحاكم ذهاباً وإياباً بوسائل النقل العامة يوماً بعد يوم من تل أبيب إلى القدس، وإلى مدن أخرى في الأراضي المحتلة. المشكلة طبعاً ليست أنا، بل هي الناس الذين يحتاجون إلى مساعدتي.
لكنك تدرك أنه مهما تكن خبرتك، ومهما يشتهر "اسمك" ويُذَع صيتك، ومهما تنل من احترام في المحاكم العسكرية، فإنك وعلى الرغم من ذلك كله لا يمكنك أن تفعل شيئاً. أما عائلات موكّليك، هؤلاء الناس الطيبون البسطاء الفقراء، فهم يقولون لك إن المحامي الفلاني نجح في إصدار حكم أقل قسوة على فلان. ويقولون لك إنك كنت محامياً جيداً في سابق الأيام، فما الذي حدث الآن؟ هؤلاء الناس يأتون إلى المحاكم، وفي بعض الأحيان عشرات المرات، لأن شاهد الادعاء لم يحضر، أو أن المتهم لم يُجلب من السجن فتتأجل القضية. ولا يمكن للمتهم أن يخرج بكفالة إلا بعد الانتهاء من عمليات قانونية طويلة لا موعد زمنياً لها. ولا تفهم العائلات لماذا لا يزال ابنها في قيد الاعتقال، فتجعل منك متنفساً لإحباطها.
لكن الأمر الأهم هو أنك ترى، كمحام، أن الشيء الأفضل بالنسبة إلى موكلك هو أن تذهب معه إلى المحكمة وأن تحمله على الاعتراف بأمر لم يرتكبه، أو لم يرتكب سوى جزء منه. وهذا يتعارض مع ضميرك ومع مسؤولياتك المهنية؛ أن تنصح لأحد أن يعترف بذنب وهو في الواقع بريء. لذا لم يعد في قدرتي أن أساعد أحداً، ولا أستطيع تغيير شيء من كل هذا؛ بل إن وجودي قد يمنح هذا النظام الشرعية. فأنا أعمل كأنني ورقة تين للنظام بدلاً من أن أندد به علناً وبالتفصيل.
س – هذا، إذاً، ما حملك على المغادرة؟
ف. لانغر: نعم. طبعاً لم يكن هذا القرار فجائياً بل جاء على مراحل؛ فقد كانت محاكمة منيرة داود من قرية بيتا إحدى نقاط التحول هذه. لقد أُلقي القبض على منيرة بعد ذاك العراك المروّع حين مرت جماعة من المستوطنين بالقرية في طريقها إلى نزهة وأطلق حرّاس المستوطنين النار فقتلوا إثنين من الفلسطينيين. ثم قُتلت فتاة من المستوطنين اسمها تيرزا بورات برصاصة عُرف، فيما بعد، أنها أُطلقت بطريق الخطأ من قبل حارس بعد أن رمته منيرة داود بحجر؛ فمنيرة أخت أحد الفلسطينيين الذين قتلوا، وأُلقي القبض عليها ودُمّر منزلها. وحين أُتي بها من السجن إلى المحكمة في نابلس كانت لا تزال ترتدي ثياب الحداد على أخيها. وكانت منيرة حاملاً وهي لا تزال ترضع رضيعاً عمره ثلاثة أو أربعة أشهر، كما كان لها طفل آخر. وقد جلبتُ تقارير طبية إلى المحكمة تفيد بأنها حامل، كما جلبتُ طفلها معي وحملته بين ذراعي. وكنت أحاول أن أناشد ضمائرهم وعقولهم ليفرجوا عنها بكفالة. لكنهم لم يفعلوا، مع أنهم كانوا في الوقت ذاته يفرجون بكفالة عن كل اليهود المتهمين بقتل عرب. وانتابني شعور بالغضب الشديد والازدراء العميق للقاضي، إلى درجة أنني خفت الكلام خشية أن أقول شيئاً قد أندم عليه، وقد يسيء إلى موكلتي بعد تلك الأعوام الطويلة من المحافظة على أعصابي، والتي كان يواكبها في بعض الأحيان ألم جسدي. وأدركت حينئذِ أن ثمة شيئاً داخل نفسي قد انكسر، وأنني لم أعد قادرة على القيام بهذا العمل والنظر إلى هؤلاء القضاة ومراقبة عدم اكتراثهم وفقدان روح الإنسانية فيهم. لم أعد أستطيع أن أخاطبهم بـ"حضرة القاضي المحترم"؛ إذ لم أعد قادرة على التعبير عن احترامي نحوهم حتى لو بصورة رتيبة سطحية. كان ذلك أمراً يفوق طاقة احتمالي. فشعوري بالتعاطف والرأفة كان رائدي وملاذي لأعوام عديدة، وهو الذي جعلني استمر في العمل. أما الآن، وفي هذه الفترة، فإن هذه الحساسية بالذات هي التي بدأت تقتلني. لم يعد في إمكاني التحمل، فأنا إنسانة ليس إلا.
لم يعد في إمكاني أن أنظر إلى القضاة ومراقبة عدم اكتراثهم وفقدان روح الإنسانية فيهم. لم يعد في إمكاني أن أخاطبهم "حضرة القاضي المحترم". |
كما أنني رأيت كراهية منيرة داود. كانت تكرههم، ولا أدري فلعلها لم تكن تكرههم فحسب بل تكره الجميع. كانت كراهيتها باردة ومروّعة. لم أنجح في الوصول إليها. لم تفهم كيف كان من الممكن أن تبقى في السجن مع أطفالها، وذلك لأنها ألقت الحجارة على الذي قتل أخاها البريء.
س – بعد مراقبتك للاحتلال طوال 23 عاماً، ما الذي فعله الاحتلال لإسرائيل في رأيك؟
ف. لانغر: أرى أن التغيير كان متدرجاً إلى حد أن الذين عاشوا هنا هم وحدهم الذين يمكنهم مقابلة الوضع الآن بما كان عليه قبلاً. في البدء، كان الشعور العارم بفرح الانتصار قد أعمى بصيرة المواطنين كلياً. وسرعان ما وجدوا الكثير من المزايا في كونهم فاتحين ومحتلين. ففي المكان الأول، كان هناك المزايا الاقتصادية المهمة ليد عاملة رخيصة وأسواق واسعة للمنتوجات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. واليوم أصبح الإسرائيليون، الذين كانوا في الأمس من العمال، متعهدين لأن اليد العاملة كانت كلها فلسطينية ورخيصة ومن الأراضي المحتلة. أذكر أنني حين استخدمت لفظة "سوق العبودية" لوصف مراكز العمل، وكان ذلك سنة 1969 أو سنة 1970، هبّ الجميع محتجّين قائلين: "كيف يمكن أن تقولي مثل هذا؟ هؤلاء الناس يريدون العمل لذا فهم يأتون هنا، ونحن نبدي نحوهم كل الاحترام." أما اليوم، فلا يحرك أحد ساكناً لدى سماعه لفظة "سوق العبودية". وحتى وسائل الإعلام عندنا تستخدم هذه اللفظة. الأمور، إذاً، تدهورت بالتدريج عاماً بعد عام. وعومل الفلسطينيون العاملون في إسرائيل كأنهم عبيد على امتداد أعوام كثيرة، وأصبح الحكم العسكري للفلسطينيين أمراً رتيباً. لذا، فإن معاييرنا الخلقية بدأت تتلاشى طبعاً.
وعليه، فإن الاستبداد ليس بالأمر الجديد. فقد بجدأ سنة 1967 وأصبح قانونياً من خلال المئات من الأوامر العسكرية التي تؤثر في كل نواحي الحياة عند الفلسطينيين. كان الأمر ملائماً للغاية. ومع وجود هذا الغطاء القانوني أصبح من السهل على الناس القبول به. والأمر الذي جعل قبوله أكثر سهولة هو تلك الصور المشوهة المبسّطة التي بدأت تظهر؛ صور الفلسطينيين المقلقة تلك، والتي تصفهم بالكسل والقذارة. فهم العاملون، ومع ذلك هم كسالى. ومن سخرية الأقدار أن العرب ينظفون بلداتنا ومدننا، ومع ذلك يقال فيهم إنهم قذرون. وإذا ما اعترضوا بأية طريقة كانت على فقدانهم الحقوق الإنسانية والسياسية – فهم محرومون من حق التجمع والرأي الحر والحركة وغيرها من أنواع الاستبداد – يقال فيهم إنهم إرهابيون. ومهما نفعل بهم من أعمال، كالطرد وهدم المنازل والاستيلاء على الأراضي، فهذا أمر قانوني شرعي. ومهما يعملوا كردة فعل فإن ذلك يسمى إرهاباً أو عملاً إرهابياً - ومن هو الذي يحبذ الإرهاب؟ وظهر العديد من الكتب والأفلام يبيّن العرب أنهم خونة وكاذبون ولا يعتمد عليهم؛ فالسكين دائماً في يدهم الأخرى، وإلى ما هنالك؛ فهم ليسوا مثلنا. ومهما يَقُل العرب، وإذا ارادوا التحدي معنا أو قالوا إنهم يريدون السلام، فنحن لا يمكن لنا تصديقهم لأنهم كاذبون.
من هنا، فإن هذه الكراهية قد تصاعدت بمرور الزمن، وهي كراهية هادئة. لماذا هادئة؟ لأننا نجحنا في السيطرة عليهم. كانوا يعملون ويشترون بضائعنا، ولم يكن اعتراضهم على الاحتلال بالأمر المرعب لنا. نجحنا في تدبير الأمور، حتى لو كنا في أعماقنا نكرههم. لذا فقد كانت قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي مستعدة نفسياً لفرض شتى أنواع القمع. وعندما اندلعت الانتفاضة، كان ثمة طبقة تحتية من المحتلين يتملكها نوع من الغضب العارم والكراهية نحو الفلسطينيين.
وثمة أمر آخر. فخلال كل هذه الأعوام من الحكم العسكري كان هناك آلاف بل مئات الألوف من الجنود الإسرائيليين الذين خدموا في الاحتياط عاماً بعد عام وشهراً بعد شهر، في الأراضي المحتلة بوصفهم شرطيين. لذا، فإن المجتمع الإسرائيلي بأسره قد تأثر من جراء ذلك. فهؤلاء أناس عاديون، يعيشون في العادة وفق معايير عادية من الحق والباطل في مجتمع ديمقراطي عادي؛ وفجأة يعبرون خطاً غير مرئي ويصبحون أسياداً على الناس كافة هناك؛ وفجأة يملكون حق اعتقال البشر، واقتحام بيوتهم، ومصادرة بطاقات هويتهم؛ ولهم الحق في إلقاء القبض عليهم وضربهم. (طبعاً الضرب كان حقاً غير مكتوب، لكنهم مارسوه كل هذه الأعوام، ليس بالحجم الذي هو عليه الآن لكنهم مارسوه على الدوام. إنني لم أشهد عمليات الضرب والتعذيب مباشرة، لكن الذي رأيته فيما بعد على أجساد موكليّ يكفي). لذا فقد تلطخ الجميع من جراء دور الممثل الذي يسمح لك بأن تفعل ما تشاء لإنسان آخر، وهو بمثابة جارك – أنْ تفعل ما تشاء! فأنت تعلم أن هنالك مكاناً تشعر فيه بأنك حر في المطلق، وأن في إمكانك أن تعبر عن كل الشر الكامن في النفس كما تشاء، وأن الأمور تُسوّى في نهاية المطاف. وعندما تعود إلى منزلك يستحيل أن تبقى في داخل نفسك كما كنت في السابق؛ فتبقى "الدكتور جيكل" في إسرائيل و"المستر هايد" فقط في الأراضي المحتلة.
س – إن الصورة التي ترسمينها قاتمة للغاية.
ف. لانغر: نعم. لكن هذا ليس إلا قطباً واحداً داخل المجتمع الإسرائيلي. فثمة قطب آخر هو أولئك الناس – محط آمالنا – الذين بدأوا يفهمون مأساة الاحتلال بالنسبة إلى شبعنا أيضاً لا بالنسبة إلى الفلسطينيين فقط؛ إنهم أولئك الذين يعلمون أننا نرتكب أعمالاً مروّعة تنافي العدالة، وأن الفلسطينيين شعب وأمة يريدان الاستقلال. هذا هو القطب المضيء، وهو الوجه الآخر لشعبنا. لكن الأكثرية، مع الأسف، هي تلك التي صاغها الاحتلال عاماً بعد عام طوال تلك الأعوام العشرين.
س – كيف أثّرت الانتفاضة في كل ذلك؟
ف. لانغر: طبعاً، لقد زادت في هذا الاستقطاب، وسبّبت المزيد من الكراهية والتطرف. لماذا؟ لأن العبيد بدأوا يثورون فجأة. فالعبودية ملائمة جداً لأصحاب العبيد. لكن حين بدأ العبيد ثورتهم، استشاط غضباً ذلك الجزء من المجتمع الذي يعيش على العبودية. فتلاشت السوق؛ تلك السوق التي قوامها مليون ونصف المليون نسمة. وهي سوق كبيرة بالنسبة إلى بلد صغير كإسرائيل (ويجب أن تعلم اننا لم نسمح بتطور أية صناعة في الأراضي المحتلة، ولم نمنح أية رخصة أو إجازة لبناء أية صناعة قد تنافس الصناعة الإسرائيلية). لذا، فإن هذه السوق؛ هذا المنجم من الذهب لم يعد موجوداً. وطبعاً استشاط الناس غضباً. وعندما تلاشت الآمال بإمكان القضاء السريع على الانتفاضة، ازداد القطب المتطرف من المجتمع الإسرائيلي تطرفاً وميلاً نحو اليمين. لكن حجم هذا التطرف، وانعدام الإحساس، ونزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ اندلاع الانتفاضة، كلها أمور حتى أنا لم أتوقعها ولم أتوقع أن تبلغ ما بلغت من حجم. نحن نعلم بشأن القتلى، لكننا لا نعلم الكثير فيما يتعلق بالجرحى. إن النسبة المئوية من الجرحى تفوق المقاييس كلها. فهناك 800 قتيل و150,000 جريح. وهؤلاء هم الذين أُدخلوا المستشفيات، وهناك العديد من الذين لم يدخلوا المستشفيات. فعدم التلاؤم بلغ حجماً جعلني أشك في أن الجنود يجرحون الناس عمداً لأنهم يعلمون أن الجروح لا تستدعي حتى تحقيقاً صورياً، أو ما يسمونه تحقيقاً يقومون به بعد عملية قتل.
لكنْ ثمة قسم آخر من الشعب الإسرائيلي، وهو أولئك الناس الذين قد لا يؤيدون بحزم قيام دولة فلسطينية أو حق الفلسطينيين في تقرير المصير، لكنهم مع ذلك مصابون بالهلع جراء ما يجري، وهؤلاء الناس يميلون نحونا، أي نحو جماعتنا التي ترى أن الحل الوحيد يكمن في دولة فلسطينية تقوم إلى جانب إسرائيل. وهذا القطب قد أصبح مرئياً وواضحاً للغاية، لكنه ليس كافياً في نظري بل عليه أن يتحد أكثر فأكثر وأن يعمل أكثر. لكنني لو قابلت الوضع اليوم بما كان عليه أواخر الستينات، حين كنا نحن النشيطين في عصبة حقوق الإنسان الإسرائيلية نشعر بأننا صوت صارخ في البرية، لوجدت الأمر مشجعاً جداً. هذا العدد الكبير من الناس الذي لا يمكنه تحمل الوضع بعد الآن، هو بمثابة شعاع يلمع في الظلام بالنسبة إليّ.
س – ما هو بعض الدعاوى البارزة خلال تلك الأعوام الثلاثة والعشرين من عملك محامية؟
ف. لانغر: هناك العديد منها، بل الألوف. من الصعب فعلاً استثناء بعض القضايا الفردية، وخصوصاً لأنني أعقد أهمية بالغة على كل قضية بمفردها. في المحاكم العسكرية كان ثمة قضية مهمة سنة 1975، هي قضية بشير البرغوتي. وتكمن أهميتها على الأخص لأنه حصل على البراءة. كان البرغوتي رئيس تحرير "الطليعة"، وقد اتهم بالتجسس. وأحكام البراءة نادرة جداً في المحاكم العسكرية. وكانت هذه القضية فعلاً وحيدة من نوعها. وكما أسلفت، فقد استحصلت على إعادة محاكمة مرة بسبب خطأ قضائي، وهو أيضاً أمر لم يُسمع بمثله.
كيف يتعايش الأميركيون مع أنفسهم بعد أن مارسوا حق النقض ضد قرار يدعو إلى حماية الفلسطينيين... فحتى تقرير وزارة الخارجية الأميركية بشأن حقوق الإنسان... يبين حدوث القتل المتعمد والتشويه واستعمال الغاز. |
لقد عالجت دعاوى تتعلق بشتى نواحي الحياة في الأراضي المحتلة، مثل: الاعتقال الإداري، وهدم المنازل، ولمّ شمل العائلات، والطرد، وقضايا الأرض والتعذيب والرخص والإجازات للشركات (كشركة كهرباء القدس)، ومؤخراً تحقيقات تتعلق بحالات الوفيات. وقد حاولت أن أعالج دعاوى لها تطبيقات عامة أو أهمية، لأنني كنت أرى أن دوري لربما له فعالية أكبر في مثل هذه الحالات. وبالنسبة إليّ، كان من المهم أن أثبّت أي نوع من أنواع السابقة القانونية، لذا فقد ثابرت على العمل. وكان لديّ إيمان بالقضاة كبشر، وبحكمتهم وضميرهم. كنت واثقة بأنني أدافع عن الحق، وهو في الواقع حق من أبسط الحقوق، وأنه لا بد من أن يُعترف به. حاولت أن أعمل على أفضل وجه، وعندما كنت أفشل في الإقناع كنت أستحصل على آراء الخبراء والمشاهير في القانون الدولي. لكنني فشلت في هذه القضايا كافة. لذا، فقد تغير الهدف لدي وأصبحت أطلب الرادع فأقول لنفسي: "سأذهب إلى المحكمة العليا، فلعلهم يتراجعون قليلاً." وفي بعض الأحيان، كانوا يتراجعون؛ فمثلاً، كانوا يرفضون تمديد فترة الاعتقال الإداري لأحدهم، أو يؤجّلون طرده. لاحظ: يؤجلون، لكنهم لا يلغون. وفي إحدى القضايا الكبرى التي تسلمتها، وهي طرد رؤساء البلديات في الضفة الغربية، القواسمة وملحم سنة 1980، نجحت في الحصول على رأي مخالف من أحد القضاة، وهو حاييم كوهين الذي قام تماماً أن المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة مُلزمة وتمنع بوضوح أي نوع من الطرد من الأراضي المحتلة. إذاً، فقد حصلت على الأقل على حكم واحد في قضية مهمة، وهو حكم سيجري تعليمه في الجامعات. كما أننا نجحنا في منع طرد بسام الشكعة، وبعد حملة اعتراض طويلة شملت أرجاء البلد سُمح له بالبقاء في وطنه. لكن الإرهابيين اليهود وضعوا قنبلة في سيارته سبّب انفجارها بتر ساقيه، فقلت له: "نجحنا، لكننا خسرنا." فقال لي: "كلا، بل أُفضّل أن أكون في هذا البلد، في وطني، من دون ساقين."
س - هل الفرصة أفضل للفلسطينيين في المحكمة العليا؟
ف. لانغر: طبعاً، لا يمكن مقابلة عمل المحاكم العسكرية في الأراضي المحتلة بعمل المحكمة العليا. فخلال تدريبي القانوني، كان من المسلم به على الدوام أن المحكمة العليا هي النور المضيء في النظام القضائي الإسرائيلي بعد كل ما ورثناه عن القانون الإنكليزي من أحكام. حقاً أن المحكمة العليا هي المؤسسة الوحيدة التي قد يلجأ الفلسطينيون إليها: هي الوحيدة. صحيح أنهم يحصلون على محاكمة أكثر عدالة بقليل في تلك المحكمة. وكان ثمة بعض الدعاوى حيث ساعدتْ المحكمة فعملتْ بمثابة رادع. لكن، ومع ذلك، لم تنصفهم هذه المحكمة ولم تمنحهم الحكم العادل.
ويمكنك أن ترى بوضوح كامل، وخصوصاً بعد الانتفاضة، أن المحكمة العليا لا تريد أن تتدخل وأنها تمنح الحاكم العسكري حرية تامة تقريباً. والأمر، في الأساس، هو أن "الخط الأخضر" [أي الخط الذي يفصل إسرائيل عن الأراضي المحتلة] هو خط أحمر بالنسبة إلى المحكمة العليا لا تريد المساس به. خذ، مثلاً، حكمها بأن نسف البيوت لا يشكل عقوبة جماعية. أنْ يُنسف بيت لأسرة بكاملها وليس هناك أية فكرة إطلاقاً عما فعله الابن أو الأخ أو الشخص المعتقل من أفرادها – حتى أن هذا الشخص لم يمثل أمام المحكمة بعد، لكنه سيحاكم ويُعتبر مسؤولاً عن أعماله. لكن ما علاقة أفراد الأسرة الباقين بما جرى؟ إذا كان هذا الأمر ليس عقوبة جماعية، فأنا لا أعرف كيف يمكن وصفه. ومع ذلك، فهم يتكلمون في روعة نظامنا هذا قياساً بالأنظمة الأُخرى! إنه لأمر مثير للتقزز! حتى في جنوب إفريقيا لا يلجأون إلى نسف البيوت، وحتى الإنكليز لم يفعلوا ذلك خلال الانتداب حين كانت الحركة اليهودية السرية تقتل جنودهم. خلال إحدى الدعاوى المتعلقة بنسف البيوت، سألت القاضي لماذا لم تُنْسَف بيوت أعضاء الحركة اليهودية السرية (على الرغم من أنني ضد النسف إطلاقاً، وقلت ذلك أمام المحكمة) فقال إنني أقابل بين أمرين مختلفين تماماً من وجهة النظر القانونية. وحين سألته عن وجهة الاختلاف هذه لم يعطني جواباً لأنه لم يكن لديه ما يقوله. وهكذا، فإن المحكمة العليا تتجاهل آراء مشاهير الخبراء بالقانون الدولي فيما يختص بجمع شمل العائلات، وهو أمر فرضته اتفاقيات هلسنكي، بحجة أن المحكمة لا يمكنها في زمن الحرب هذا أن تتدخل في القرارات السياسية للجيش الإسرائيلي. أو خذ مثلاً عمليات الطرد: فالمحكمة لا تعتبر أن الحظر المطلق للطرد في القانون الدولي ملزم بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي. لذا، فمن الواضح أن المحكمة العليا الإسرائيلية ليست المكان الذي يأمل الفلسطينيون فيه بالحصول على أية عدالة قانونية في أهم القضايا التي يواجهونها.
س – بوصفك أحد الذين عارضوا النظام بقوة خلال هذه الأعوام كافة، ماذا كانت ردة الفعل نحوك في إسرائيل؟ أين وجدت من ينصرك؟
ف. لانغر: كان الأمر صعباً جداً لأعوام عديدة؛ فقد كنت أعمل وحدي تقريباً. ولأعوام عديدة، وباستثناء اليسار الإسرائيلي وعصبة حقوق الإنسان، كنت منبوذة من المجتمع؛ فلم أجد من ينصرني في مجتمعي. كان الأمر بمثابة حظر تام وعزلة تامة. كنت عدو الشعب رقم واحد، "محامية الإرهابيين"، وشخصاً غير مرغوب فيه في وسائل الإعلام الإسرائيلية. وقد وصل هذا الانطباع السائد عني إلى حد أن كان هناك أناس يظهرون بوضوح صدمتهم، في بعض الأحيان، عندما كنت أُقدَّم إليهم: "ماذا؟ أحقاً أنتٍ فيليتسيا لانغر؟!" وكان لدي حتى وقت قريب حرّاس شخصيون على مدار الساعة بسبب التهديدات بالقتل. كما هوجم منزلي ومكتبي في القدس. لا أريد أن أعطي هذه الأمور أكثر مما تستحق من الأهمية لأن ما حدث لي لا يقاس بما حدث مع موكّلي. أنا لست الضحية بل أنا المدافعة عن الضحايا. ومع ذلك، فقد جوبهت بكراهية شديدة، وكان الأمر صعباً للغاية.
س – ما الذي حملك على المثابرة؟
ف. لانغر: لأنني كنت أؤمن إيماناً عميقاً بأن العمل الذي قمت به عمل عادل وصادق، وأنه واجب، وأن الزمن ملائم للقيام به. وكان هناك طبعاً الشعور بالحب والامتنان من قبل الفلسطينيين الذين دافعت عنهم، ومن قبل غيرهم أيضاً. وهذا ما كان يعزّيني بعض الشيء طوال تلك الأعوام الكثيرة.
وكان ثمة أيضاً شعور بالواجب الخلقي؛ فهذه الانتهاكات المروعة للعدالة أصابت الفلسطينيين على يد بني قومي، فهم الذين يقومون بمثل هذه الانتهاكات. لم أحاول قط أن أصبح فلسطينية، إذ كنت دوماً يهودية إسرائيلية تدعى فيليتسيا لانغر. لذا، فالذي كنت أفعله بطريقة ما هو بناء جسور المستقبل بين شعبينا. كنت أبيّن الوجه الآخر لشعبي. ومن دون تنميق للكلام، ربطت حياتي بطريقة ما بالفلسطينيين لا من أجل الدفاع عنهم فحسب، بل أيضاً لمحاولة إنقاذ روح شعبي أنا. كان البعض يفهم هذا الأمر، وكان هناك بعض التعاطف المعنوي والمحبة. وبعد حرب لبنان بدأ المزيد من الإسرائيليين يتفهم ما أقوم به من أعمال. لكن لا يمكنك أن توازن المحبة بكل هذا الإزدراء والكراهية.
س – حين تنظرين إلى الماضي، هل ينتابك شعور بالندم على أنك كرّست أفضل أعوام حياتك لمهنة لم تكد تغيّر شيءاً من النظام القانوني الإسرائيلي، وذلك على الرغم من تضحياتك كلها؟
ف. لانغر: كلا. لست نادمة ولا على دقيقة واحدة مما فعلت. لم أهدر دقيقة واحدة من الوقت. كنت أُسجل كل لحظة وكل حركة، وكتبت الكثير عما رأيت. لقد نشرت خمسة كتب حتى الآن، وقد أنهيت للتو سيرة ذاتية بعنوان "الغضب والأمل"، وهي قصة حياتي لكنها أيضاً ومنذ سنة 1967 بمثابة طريق الآلام للشعب الفلسطيني؛ أي أنها مفكّرة تروي عذاباتهم طوال ثلاثة وعشرين عاماً كما جرت في المحاكم والسجون. لذا، فقد سجّلت عذاب الفلسطينيين ووصفته. كما أنني تنبأت بالعاصفة المقبلة، أي الانتفاضة؛ إذ كنت أعلم علم اليقين أن الفلسطينيين لن يرضخوا أبداً للاحتلال. وسجلت التدهور الخلقي عند شعبي. ونجحت أنا وآخرون، وخصوصاً في عصبة حقوق الإنسان، في فضح جرائم كانت مستورة. وقد كسرت حاجز الصمت بشأن التعذيب حين لم يكن أحد يصدق أن في وسعنا، نحن الإسرائيليين، أن نمارس التعذيب؛ فبدأت بالحديث عن الأمر والكتابة عنه. وفيما بعد أصدرت صحيفة Sunday Times اللندنية تقريراً خاصاً بشأنه. وكنت أول من قدم التماساً إلى المحكمة العليا في قضية تتعلق بالتعذيب. وبعد هذا ببضعة أعوام لم يعودوا ينفون الاستخدام الرتيب للتعذيب خلال التحقيقات. لم يكن في إمكاني أن أمنع الذين مارسوا التعذيب، لكنني استطعت على الأقل أن أفضح هذا الأسلوب. وأرى أن هذا الأمر كان في غاية الأهمية في الزمن الذي كانت الدعاية الإسرائيلية تزعم، وبنجاح، أن الاحتلال هو "الأكثر ليبرالية".
حين أنظر إلى عملي في الماضي أستطيع أن أقول إنه كان فعلاً يستحق ما بُذل من أجله. فمن المستحيل فضح هذا النظام القانوني والتنديد به من الخارج، إذا لم تعرفه من الداخل. وكنت، إلى حد ما، جزءاً من ذاك النظام – جزءاً من الدفاع طبعاً، لكنني مع ذلك جزء منه. لذا، فقد نجحت في لفت الأنظار إلى ما كان يجري؛ أي إلى حقيقة الأمر.
طبعاً، إنني آسفة لأنني لم أستطع، في كثير من الأحيان، أن أشاهد النتائج الملموسة لما قمت به من أعمال؛ كان بودي أن أشاهد أحد المعذِّبين يمتنع من ممارسة التعذيب؛ كان بودي أن أرى جندياً يمتنع من إطلاق النار. لربما كان ثمة مثل هؤلاء المعذِّبين أو الجنود، وأنا لا أعرفهم. ولربما كانوا قتلوا أو عذبوا أو شتموا أو أهانوا عدداً أكبر من الناس، لولا ما قمت به من أعمال. لعل وعسى. لكنني واثقة بأنني منحت الناس الذين خضعوا للتعذيب قوة. إنني واثقة بأنني منحتهم الحب والتعاطف والتفهم في لحظات مهمة جداً من حياتهم. وأنا أعرف ذلك لأن الكثيرين من موكليّ، هم الآن من أصدقائي، بل أكثر من أصدقاء – إنهم بمثابة عائلتي. لقد مروا بهذه التجارب، وأخبروني فيما بعد ماذا كان يعني لهم ذاك الالتزام. كان لي مرة موكّل يدعى سليمان نَجَب كاد يموت تحت التعذيب. لقد رأيته بعد ذلك وكان المنظر... رهيباً. وقال لي، فيما بعد، إن الأمر الذي جعله يصمد هو أنه كان يعلم إنهم لا يستطيعون قتله لأنهم يعرفون إنني موجودة، وأن أصدقائي موجودون.
لذا، فقد مرت بحياتي لحظات رائعة كثيرة من خلال عملي. والأمر الذي خفف من ألمي هو شعوري بأنني لربما ساهمت في تخفيف آلام الآخرين، ولربما في تخفيف وقع الصدمة عليهم. ولعل هذا الأمر ليس ملموساً، فأنت لا يمكن أن تحسبه أو أن تتبع آثاره، لكنه موجود في كل حال. فهناك حقيقة، وهي أنهم يعلمون أن ثمة إنساناً في الخارج، كلب حراسة اسمه فيليتسيا لانغر، وأنها لن تصمت بل ستملأ المكان صراخاً وعويلاً وتجلب الانتباه. لذا، فأنا لا أشعر بأن الأمر قد ذهب سدى.
س – وعلى الرغم من ذلك فأنت تتركين، بل تغادرين إسرائيل أيضاً.
ف. لانغر: نعم، ولعدة أعوام. فلقد اكتفيت الآن. لقد استهلكت كل إمكانات العون والنفع المتاحة لي. آن الأوان كي تتدخل الأمم المتحدة فتؤلف لجنة لتأتي وتراقب الأمور. إن الفلسطينيين من دون أية حماية على الإطلاق. لا أعرف كيف يمكن للأميركيين أن يتعايشوا مع أنفسهم بعد أن مارسوا حق النقض ضد قرار يدعو إ لى حماية الفلسطينيين. فالقرار لم يكن موجهاً ضد أحد، بل كان يدعو إلى إنقاذ البشر، إلى إنقاذ الحياة البشرية. حتى تقرير وزارة الخارجية الأميركية بشأن حقوق الإنسان، الذي جرى طبعاً تعديله، كما قد نقول، كي لا يضرّ الإسرائيليين كثيراً – حتى هذا التقرير يبيّن للقارىء المدقق حدوث القتل المتعمد والتشويه واستعمال الغاز. ثمة خطر على الشعب بأسره. عندما اندلعت الانتفاضة كنت أهرع من مستشفى إلى آخر لتسجيل الاعتراضات، ثم أسرع إلى المحكمة العليا. كنت أُعلل النفس بأن في استطاعتي إيقاف القتل، لكنني رأيت أن لا فائدة ترجى من ذلك. لذا فقد آن الأوان لقرع جرس الإنذار ولحشد القوى، وللعمل على جلب الناس من كل الشعوب من أسرة الأمم، ليأتوا ويروا ويحاولوا المساعدة.
لكنني أنا طبعاً لن أتخلى عن النضال. ومن أجل المحافظة على صحتي ومواردي، وكي لا أنهار جسدياً وفكرياً، عليّ أن أخلع ثوب المحاماة في الوقت الحاضر. لكنني لن أتخلى عن مهمتي فقد أصبحت جزءاً من حياتي. ولسوف أستمر في أداء المهمة بلا كلل، لكن عبر قنوات أخرى.