معضلة "التنمية" في الأراضي الفلسطينية المحتلة
كلمات مفتاحية: 
التنمية
التنمية الاقتصادية
الأراضي الفلسطينية المحتلة
نبذة مختصرة: 

يتناول التقرير مسألة التنمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويستعرض بإيجاز مفهوم التنمية بشكل عام، لينتقل بعد ذلك إلى عرض إمكانات التنمية في ظل الاحتلال، وواقع هذه التنمية وآثارها الإيجابية والسلبية، ثم واقع التنمية في ظل الانتفاضة والتي أثبتت أن بالإمكان القيام بعملية التنمية من أجل التحرير. وينتهي التقرير إلى المطالبة برفع شعار: "التنمية من أجل التحرير" بدلاً من "التنمية من أجل الصمود"، وهو ما يتطلب القيام بمراجعة شاملة للمرحلة الأخيرة، بالإضافة إلى ضرورة إعداد خطة فلسطينية تنموية شاملة للأراضي الفلسطينية المحتلة، ومحاولة ضبط مسارات الدعم المختلفة وتحديد قنواتها.

النص الكامل: 

تهدف هذه المقالة القصيرة إلى إثارة الاهتمام الفلسطيني وفتح باب نقاش ضروري وصريح ومُلِح بشأن قضية قديمة – جديدة نعتقد أنَّها ذات طبيعة وأبعاد إشكالية، لما تنطوي عليه من تأثيرات في مسار حركة النضال الوطني الفلسطيني داخل الوطن المحتل، وخصوصًا خلال المرحلة الحالية الحيوية والدقيقة. والقضية التي نتوخَّى وضعها تحت المجهر تتعلَّق بما أصبح يعرَّف تجاوزًا بين أوساط "التنمويين" في الضفة والقطاع بـ "التنمية"، ويُعرَف في الواقع في الأوساط الشعبية الفلسطينية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلَّة بـ"دكاكينية التنمية".

 التنمية مفهوم شامل

إنَّ تنمية المجتمع، أي مجتمع، عملية مجتمعية مستمرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا باستخدام المجتمع وتطويره الدائم للجانب المادي من المعرفة الإنسانية التراكمية، واستغلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها إيجابيًا لتحقيق تقدمه بصورة مستمرة.(1)  وفي المحصلة، يقاس تقدم المجتمع  بمقدار قدرته الذاتية على التحكم في إدارة شؤونه ضمن شروطه الخاصة، والتي تنبثق طبعًا من قدرته على وضع استراتيجيته الذاتية الشاملة التي تقوم بتحديد سلم أولوياته، وتتضمن توسيع مجال خياراته بصورة عامة. فالتنمية، إذًا هي عملية شاملة لمختلف جوانب حياة المجتمع، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية. وكي تنجح هذه العملية، يحب أنْ تتم في إطار تكاملي بين مختلف هذه الجوانب، بحيث يتم تطويرها بتناسق يقلِّص من حدة التوترات المجتمعية التي لا بد من أنْ ترافق عملية التغيير الملازمة لعملية التنمية. واختزال هذه العملية على جانب واحد من حياة المجتمع، كما يفعل الكثيرون من الذين يعتبرون أنَّ التنمية عملية اقتصادية بحتة، لا يعرض إمكان نجاحها للخطر فحسب، وإنَّما يهدد استقرار المجتمع أيضًا. فالتطور الأحادي الجانب لا بد من أنْ يحدث خللًا في التوازنات القائمة بين مختلف أوجه نشاطات المجتمع.

إنَّ الطبيعة الشمولية التي يتطلبها نجاح عملية التنمية تفرض على المجتمع الذي يقرر القيام بها أنْ يتبنَّى "أيديولوجية تطويرية" ذات نظام قيم متكامل، ومتماسك، وداعم للتغيير.(2)  وتبنِّي مثل هذه الأيديولوجية أمر ضروري لدرء الانفصام والازدواجية بين قيم المجتمع بين قيم المجتمع ومسلكياته، وأساسي لإِعادة قولبة وتشكيل نظرة المجتمع إلى الحياة بأكملها، بحيث تنعكس نتائج النظرة الجديدة على مجرى الحياة الفعلي لأغلبية أعضاء المجتمع، وعلى معتقداتهم وقوة تفاعلهم مع البيئة من خلال التطوير الذاتي للمعرفة المادية ووسائل الإنتاج. فلعملية التنمية الجدية مولِّدها الخاص المنبثق من واقع المجتمع الذي يقوم بها، ولا يمكن أنْ يكتب لها النجاح إنْ هي بدأت بقوة مولِّد يعمل بطريقة "التحكم عن بعد". وخلافًا لعملية التحديث التي تتم وفقًا لتقليد نموذج أجنبي يعمِّق تبعية المجتمع الناقل للمجتمع المنقول عنه، تتسم عملية التنمية بكونها عملية خلاقة ترتكز على مبدأ الإبداع الذاتي لاستخلاص الطاقة القصوى لإمكانات المجتمع وتوظيفها لتحقيق أهداف محددة وفق خطة مبرمجة.

 الأراضي الفلسطينية المحتلَّة و"التنمية"

إنَّ عملية التنمية، في أفضل الأوضاع العادية لمجتمعات العالم الثالث، عملية طويلة وشاقة يتطلب نجاحها بذل الكثير من الوقت والجهد والتضحيات. وهي تتطلَّب، بعد اتخاذ قرار واع بخوض غمارها، تخطيطًا متأنيًا ودقيقًا يحدد الأولويات المجتمعية ضمن نسق متكامل من التغيرات الإنتاجية والحياتية والفكرية. وبما أنَّ المعوقات الداخلية والخارجية كثيرة، والتوقعات الذاتية بسرعة الرخاء كبيرة، فإنَّ العديد من هذه المجتمعات ينزلق إلى اختزال عملية التنمية المستقلة المبرمجة بعملية تحديث نقلي تشوه المجتمع وتكرس تبعيته للغير. ونتيجة لهذا الاختزال، يقع عدد كبير من المجتمعات النامية في خضم أزمة حضارية حادة تفتت جهود أهلها، وتشرذم طاقاتهم، وتشغلهم بذاتهم عن مواكبة مسيرة التطور الإنساني، فيتناسل التخلف ويزداد عمقًا ورسوخًا.(3)

أمَّا في الأوضاع الاستثنائية، كوقوع مجتمع تحت الاحتلال، فتصبح عملية التنمية غاية في الصعوبة؛ فإلى جانب العوائق الذاتية والخارجية الاعتيادية التي من المتوقع أنْ تواجهها عملية تنمية المجتمع القابع تحت الاحتلال، تضيف السلطة المحتلَّة إلى هذه العملية بعدًا سلبيًا هائل الأثر. وتغدو معوقات التنمية في هذه الحالة مفروضة على المجتمع بوعي وتصميم السلطة المحتلَّة التي تكرس سياساتها للقضاء على جميع فرص تقدمه. وفي الواقع يسلب الاحتلال، بطبيعته، المجتمع المحتل إمكان التحكم في إدارة جميع شؤونه ضمن شروطه الخاصة. وتتعقد، نتيجة ذلك، إمكانات المجتمع لوضع وتطبيق استراتيجية تنموية شاملة تتضمن تحديد سلم أولويات لخطة مبرمجة. فالمجتمع الخاضع للاحتلال يفتقد أهم ركيزة للقيام بعملية تنموية شاملة ومبرمجة، وهي السلطة الوطنية المركزية التي تقوم عادة بالتخطيط لهذه العملية وإدارتها وتقويمها وتوفير الأدوات والوسائل اللازمة لتنفيذها.

ويصبح التساؤل في هذه الحالة عن إمكان وجدوى خوض عملية تنمية المجتمع في ظل الاحتلال تساؤلًا مشروعًا. فهل هناك حقًّا إمكان وجدوى لتنمية مجتمع يقبع تحت وطأة الاحتلال؟

تتضمن الإجابة عن هذا السؤال، من الناحية النظرية، حقيقتين أساسيتين: الأولى هي أنَّ إمكان تنمية مجتمع محتل يبقى محدودًا في نهاية المطاف بالإطار الذي تسمح سلطة الاحتلال به. وعلى هذا الأساس، فإنَّ تنفيذ أي برنامج تنموي شمولي، حتى لو كان مبنيًا على خطة محددة ذات أولويات وأهداف واضحة، يواجه بصعوبات استثنائية، ويستلزم مواجهة سياسات وخطط وممارسات الاحتلال العسكري الموجهة ضد المجتمع القابع تحت الاحتلال.

أمَّا الحقيقة الثاني، فهي أنَّ محدودية إمكان تنمية المجتمع في ظل الاحتلال يجب ألَّا تقف حائلًا، بحد ذاتها، أمام السعي المتواصل الحثيث لاستغلال الثغرات المتاحة كلها، وممارسة جميع الضغوط الممكنة على السلطة المحتلة، لتحصيل أقصى إمكان تنموي متاح في ظل الأوضاع الاستثنائية. وفي هذه الحالة تصبح عملية التنمية ذات أهمية قصوى، وتكتسي أبعادًا سياسية واضحة. وباختصار، فإنَّ عملية تنمية المجتمع في ظل الاحتلال تصبح واجبًا وطنيًا ملحًا بصورة خاصة. ويجب أنْ تبرمج ضمن خطة أكثر إحكامًا في أولوياتها وبدائلها من حالات التنمية الاعتيادية، منعًا لإمكانات التسيب والانفلاش، ودرءًا لكل ما يكتنف الاحتلال من صعوبات وأخطار.

فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلَّة، تم خوض نقاشات مستفيضة بشأن مسألة "التنمية" في ظل الاحتلال.(4)  فالاحتلال الإسرائيلي احتلال استيطاني إحلالي يهدف إلى تقويض البنية المجتمعية الفلسطينية تقويضًا مبرمجًا وكاملًا ونهائيًا. وعليه، فقد دأبت السلطة المحتلة الإسرائيلية، منذ بداية الاحتلال، على العمل لحسر الإمكانات الفلسطينية؛ فبدأت بالسلب القاضم للأرض والموارد الطبيعية، وقامت بتشجيع الهجرة، وحرمت الفلسطينيين حقهم في العودة للعيش والعمل في بلدهم. كما نفذت العديد من الإجراءات لضمان تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، فوضعت القيود على الاستيراد والتصدير، ومنعت إقامة صناعات أساسية تحسبًا لإِمكان منافسة الصناعات الإسرائيلية، وفرضت الضرائب التعسفية على كثير من النشاطات الاقتصادية، وعملت بصورة منظمة لشل وتدمير البنية التحتية في مجالات الصحة والتعليم والطاقة والمياه. ولم يفت السلطة المحتلة القيام بحملة مستمرة لتقويض القيم المجتمعية الإيجابية، وتكريس الجوانب السلبية التي يعانيها المجتمع الفلسطيني، ليسهل عليها تفتيته واختراقه.

في ظل هذه الزعطيات تم التساؤل فلسطينيًا عن إمكانات التنمية تحت وطأة الاحتلال. وبرز خلال الأعوام الماضية ثلاثة اتجاهات محددة: الأول، وكان السائد، دعا إلى دعم صمود الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة كخطوة على طريق التحرير. واستهدف الدعم الذي تجسد في مساعدات مالية الحفاظ، قدر المستطاع، على الهوية الفلسطينية المميزة للأرض والبنى والإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان من مضامين الموقف الداعي إلى دعم الصمود تبني القيام بمشاريع ذات صبغة تنموية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى هذا الأساس، تلقى العديد من المؤسسات المحلية (والأفراد) دعمًا ماديًا خلال الأعوام الماضية للإِنفاق على ما اعتبر أنَّه مشاريع "تنموية".(5) 

وانتقد الاتجاه الثاني التوجه نحو الصمود المعلب بقوالب جاهزة ومستوردة من الخارج، معتبرًا المؤسسات التي عالجت الموضوع محليًا مؤسسات ذات صبغة سلطوية ونخبوية. وشدد هذا الاتجاه على ضرورة الاعتماد على الذات، والتوجه نحو ترسيخ مبدأ الاكتفاء الذاتي جماهيريًا، وتطبيق مبادىء الاقتصاد المنزلي، وذلك في سبيل تحرير الاقتصاد الفلسطيني – وبالتالي المجتمع – من الارتهان والتبعية للاقتصاد الإسرائيلي.(6) 

أمَّا الاتجاه الثالث، وكان أكثر الاتجاهات تشاؤمًا، فادَّعى أنَّ ارتباط الأرض المحتلَّة بإسرائيل أصبح ارتباطًا عضويًا ومتكاملًا إلى درجة استحالة إمكان الفصل بينهما. وقد أدَّى هذا الادِّعاء ببعض الذين أخذوا به إلى اقتراح ضم الأراضي الفلسطينية المحتلَّة إلى إسرائيل رسميًا كوسيلة لتحقيق المساواة السياسية لفلسطينيي الأراضي المحتلَّة، ثم العمل لتقويض النظام السياسي الإسرائيلي "ديمقراطيًا" من داخله.(7)

واقع "التنمية" تحت وطأة الاحتلال

منذ منتصف السبعينات، استقرَّ الموقف الفلسطيني في الخارج على دعم "صمود" الأهل في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة بهدف تثبيتهم فيها وشد أزرهم لمواجهة مخططات الاحتلال وسياساته الرامية إلى اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم منها. وتضمن مفهوم الصمود من الناحية العملية توفير الدعم المادي للأراضي المحتلَّة، متمثلًا في توفير موارد مالية وإيجاد آلية ملائمة للإنفاق. وتترجم الموقف والمفهوم الفلسطينيان خلال مؤتمر قمة بغداد سنة ١٩٧٨. فمن ناحية، اتخذ المؤتمر قرارًا بتخصيص مبلغ ١٥٠ مليون دولار سنويًا ولمدة عشرة أعوام لدعم صمود الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلَّة. ومن ناحية ثانية، انبثق من هذا القرار تأليف اللجنة الفلسطينية – الأردنية المشتركة لتنفيذ السياسة العامة لدعم الصمود وترجمتها إلى برامج تنفيذية. وبدأت اللجنة عملها بصرف القروض والمساعدات لتطوير قطاعات الخدمات، والزراعة، والإسكان، والأشغال العامة، والصناعة.

لم يقتصر تقديم الدعم المادي إلى الأراضي المحتلة على إطار اللجنة المشتركة، بل تعداه إلى مصادر أخرى. فقد كان لجهات خارجية متعددة غايات وأهداف سياسية خاصة بها في الأراضي المحتلَّة. وكما هو معروف، يشكل الدعم المادي أحد أهم وسائل التأثير في سبيل تحقيق الغايات والأهداف السياسية. من هذا المنطلق، وبالإضافة إلى نشاط اللجنة المشتركة، كان هناك دائمًا تنافس مستتر بين الجانبين الفلسطيني والأردني على تقديم الدعم المادي المباشر إلى الأراضي المحتلة. ووصل هذا التنافس إلى ذروته، وخرج إلى حيز العلن بعد تدهور العلاقات الفلسطينية – الأردنية سنة ١٩٨٦، حين أعلنت الحكومة الأردنية برنامج "الخطة الخمسية الأردنية لتطوير المناطق المحتلَّة اقتصاديًا واجتماعيًا للفترة ١٩٨٦ – ١٩٩٠."(8)

وعلاوة على التعاون والتنافس الفلسطيني – الأردني في مجال الدعم المادي للأراضي المحتلَّة، قام بعض الدول العربية وصناديق التمويل العربية والإسلامية بتقديم مساعدات مباشرة إلى الأراضي المحتلَّة. وفي هذا المجال، لم يغب عن بال جهات أجنبية ضرورة أنْ يكون لها تأثير سياسي وموطىء قدم داخل الأراضي المحتلَّة. فبالإضافة إلى المساعدات التي كانت هيئة الأمم المتحدة تقدمها من خلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، زادت الولايات المتحدة الأميركية في مساعداتها من خلال المنظمات الطوعية الخاصة التي كانت تعمل في الأراضي المحتلَّة بتمويل من وكالة التنمية الدولية الأميركية. كما قامت الدول الأوروبية أيضًا بتقديم مساعداتها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، على نحو منفرد ومباشر، أو من خلال المجموعة الاقتصادية الأوروبية وبعض المؤسسات الخاصة.

ومثلما تعددت مصادر الدعم والتمويل الخارجي للأراضي الفلسطينية المحتلَّة منذ نهاية السبعينات حتَّى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، تعددت في الداخل الجهات والمؤسسات الفلسطينية التي تلقَّت حصصًا من هذا الدعم لتوظيفه وإنفاقه على المشاريع "التنموية" التي تعزز الصمود الفلسطيني في الوطن المحتل. وانقسمت هذه الجهات والمؤسسات المتلقية للدعم قسمين أساسيين: قسم كان قائمًا أصلًا قبل اتخاذ القرار بدعم الصمود، وقسم أُقيم لاحقًا نتيجة ذلك القرار.

بالإضافة إلى الهيكل المؤسساتي الرسمي في الأراضي المحتلَّة، والذي وقع تحت السيطرة المباشرة الكاملة لسلطة جيش الاحتلال الإسرائيلي (ثم إدارته المدنية)، تمثلت المؤسسات التي كانت قائمة أصلًا قبل اتخاذ قرار دعم الصمود، في المجالس المحلية البلدية والقروية، وفي الجمعيات التعاونية العاملة في مجالي الزراعة والإسكان، والجمعيات الخيرية العاملة في مجالات الصحة والتدريب والخدمات الاجتماعية، والغرف التجارية. وإلى جانب هذه المؤسسات ذات الطبيعة العامة، برزت أيضًا مؤسسات خاصة عملت في مجالات متعددة كالزراعة والصناعة والسياحة. ومع بداية تحسس تدفق أموال الدعم والمساعدات الخارجية من مصادر التمويل المختلفة، بدأت المؤسسات القائمة – كل في مجال عمله – بضبط واقعها وحاجاتها واهتماماتها لزيادة النشاط "التنموي"، سعيًا لتأمين الحصول على أكبر قدر من الدعم والتمويل الخارجيين. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى شروع الكثيرين في الداخل في تأسيس وإنشاء أعداد كبيرة من المؤسسات الجديدة بهدف المشاركة في استيعاب التمويل المتوقع، ونيل نصيب من المساهمة في المشاريع الممولة إمَّا مباشرة وإمَّا من خلال العمل "كمؤسسات متخصصة محلية وسيطة"، لتأمين توصيل المساعدات الخارجية إلى المؤسسات المحلية القائمة أو المستحدثة.

ففي القرى التي لم يكن لها مجالس قروية تم تأليف العديد من اللجان الخاصة للإشراف على عملية تنفيذ المشاريع المحلية، مثل تعبيد الشوارع الداخلية، وتمديد شبكات الماء والكهرباء، بما يتضمنه ذلك من متابعة عملية تمويل هذه المشاريع، والإشراف على تنفيذها وتشغيلها وصيانتها. وفي مجالي الزراعة والإسكان، تزايد عدد الجمعيات التعاونية تزايدًا ملحوظًا نظرًا إلى أنَّ التعاونيات أصبحت قنوات التمويل المفضلة. كما أُلِّف العديد من "اللجان الزراعية"، وأُقيم عدد من المشاريع الخاصة في إطار استصلاح الأراضي وتربية المواشي والصناعات الزراعية. وفي القطاع الصحي أيضًا، تزايد بصورة بارزة تأسيس الجمعيات الخيرية التي تبنَّت إقامة مشاريع متفاوتة الحجم بين مستشفيات ضخمة وعيادات محلية صغيرة. كما تم تأسيس عدد من الجمعيات الطبية و"اللجان الطبية"، وتكاثرت مشاريع صناعة الأدوية تكاثرًا لافتًا. وفي مجال الصناعة، بدىء محليًا بإعداد "دراسات جدوى" تتعلق بمشاريع صناعية جديدة لتقديمها إلى مصادر التمويل المختلفة. وبدأت الصناعات القائمة تقديم طلبات المساعدة لدعم صمودها أمام المنافسة الإسرائيلية الشديدة. وفوق هذا كله، قام العديد من المجموعات بتأسيس مراكز و"شركات" محلية لتلقي المساعدات المالية من مصادر التمويل الخارجية وإعادة توزيعها وإنفاقها داخليًا.

ولقد اتسمت عملية الدعم الخارجي الموجه إلى الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، منذ نهاية عقد السبعينات حتى اندلاع الانتفاضة، بإيجابيات كان في مقدمها تعزيز بناء البنية التحية والمؤسساتية. وعلى الرغم من أنَّه يمكن اعتبار إقامة منشآت مثل هذه البنية، بحد ذاتها، هدفًا يساهم في تعزيز صمود المواطنين في الضفة والقطاع المحتلين، فإنَّه لا يمكن – في اعتقادنا – اعتبار ذلك نهاية المطاف. فوجود منشآت البنية ضروري للإنتاج المتوخى منها، لكنه غير كاف وحده لضمان نجاعة هذا الإنتاج وفاعليته. والتنمية، كما بيَّنا سابقًا، هي في الأساس عملية إبداع إنتاجي ذاتي لا عملية نقل ظاهري لرموز الحداثة العصرية.

إلى جانب الإيجابيات البنيوية الأساسية الناتجة من تدفق الدعم المادي إلى الأراضي المحتلَّة، ترك تعدد مصادر الدعم الخارجية ومؤسسات التلقي الداخلية آثارًا سلبية في المجرى الفعلي لعملية تنمية الصمود الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال.(9)  ويمكن إيجاز هذه الآثار بخمسة إشكالات رئيسية:

أولًا، غياب الخطة الشاملة والأولويات المحددة. فتعدد مصادر التمويل واختلاف غاياتها وأهدافها جعلا لكل منها خطة ذات أولويات محددة، وفي بعض الأحيان متضاربة مع خطط المصادر الأخرى وأولوياتها. وقد أدَّى هذا الأمر، فعلًا، إلى تعذر وجود خطة تنموية مركزية شاملة ذات أولويات مقننة وأهداف محددة. وأدَّى غياب الخطة المركزية إلى عدم وجود مرجعية عليا للتنسيق بين أعمال تنفيذ المشاريع الممولة من مصادر مختلفة. ونجم عن غياب مثل هذا التنسيق التكاملي ضعف في شبكة المعلومات المتوفرة لمصادر التمويل المختلفة، وهو ما أدَّى في بعض الأحيان إلى ازدواجية غير مبررة في تمويل مشاريع متشابهة. كما أدَّى غياب خطة مركزية محددة الأولويات والأهداف إلى خضوع مصادر التمويل الخارجية، بحكم بعدها عن الموقع، لأولويات المؤسسات المتلقية، والتي تقوم كل واحدة منها عادة بعرض أولوياتها كأنَّها التعبير الأفضل عن الأولويات الوطنية. ولا شك في أنَّ غياب التخطيط المركزي الشمولي يعتبر أحد أهم عوائق نجاح العملية التنموية. فالتنمية، كما ذكرنا آنفًا، مفهوم شامل ويحتاج إلى تخطيط شامل.

ثانيًا، غياب التنسيق وتزايد التنافس بين المؤسسات المتلقية.(10)  فقد أدَّى عدم توفر مرجعية عليا للتخطيط التنموي الشمولي والتنسيق بين مصادر الدعم، وعدم تبلور خطة مركزية للتنمية، إلى بروز ظاهرة "تكاثر الفطر" في عملية الاستحداث المتماثل للمؤسسات والهيئات والجمعيات واللجان المتلقية، وإلى حدوث ازدواجية خطرة في نشاطاتها ومشاريعها، وقيام تسابق تنافسي حاد على الاستئثار بالدعم الخارجي. وقد أدَّى التنافس، وكان بعضه مستندًا إلى خلفية الفئوية السياسية أو الاجتماعية والبعض الآخر إلى أسس جغرافية مناطقية، إلى ضخ نسبة عالية من موارد الدعم في بعض النشاطات والمشاريع المتشابهة، وإلى تقليص الاهتمام والموارد فيما يتعلق بنشاطات ومشاريع أخرى شديدة الحيوية لكنَّها لا تخضع لأحكام أولويات التنافس الفئوي.

ثالثًا، التسرع في اتخاذ القرارات التنفيذية. فغياب الخطة التنموية الشاملة، وتعدد مصادر التمويل الخارجية، وانحكامها بضرورة صرف المخصصات السنوية لتبرير تجديد الميزانيات وزيادتها، كل ذلك أدَّى إلى قيام هذه المصادر – من ناحية – بإقرار الكثير من اقتراحات المشاريع المقدمة لها من دون خوض تقويم جدي ومستفيض لـ"دراسات الجدوى" المقدمة من المؤسسات المتلقية. ويجب الانتباه إلى أنَّ مصلحة المؤسسات المتلقية تقضي أحيانًا بتضخيم تكلفة مشاريعها المقترحة، وهو الأمر الذي أدَّى إلى العديد من حالات التسيب والانفلاش في أموال الدعم المقدمة. ومن ناحية أخرى، كانت نتيجة التسرع وقوع مصادر التمويل الخارجية في الفخ الذي نصبته سلطة الاحتلال لها. فبما أنَّ القيام بمشاريع تنموية حيوية يحتاج في نهاية المطاف إلى موافقة سلطة الاحتلال، فقد استخدمت هذه السلطة موافقتها وسيلة لابتزاز مصادر الدعم في تمويل مشاريع خدماتية لا إنتاجية، في الكثير من الحالات. وبذلك أصبحت مشاريع تمديد خطوط المياه والمجاري والكهرباء وتعبيد الشوارع، وهي المشاريع الخدماتية التي تقع مسؤولية تنفيذها على كاهل السلطة المحتلَّة، من المشاريع المتلقية للدعم الخارجي. وهكذا، أُزيح عن كاهل السلطة المحتلَّة عبء توفير الدعم لمثل هذه المشاريع الأساسية، فأصبح الاحتلال أقل تكلفة بالنسبة إليها. ونتيجة هذا التسرع لم يجر توظيف جميع الوسائل الممكنة لاستغلال الثغرات الكامنة في القوانين المطبقة في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، لإجبار هذه السلطة على السماح بإقامة أكبر عدد من المشاريع التنموية الإنتاجية. وبهذا، فقدت عملية التنمية المقصودة الكثير من هدفها الأساسي.

رابعًا، صعوبة المتابعة والتقويم. فقد أدَّى وجود بعض مصادر التمويل بعيدًا عن مواقع تنفيذ المشاريع الممولة من قبلها، وخصوصًا في حالة مصادر التمويل الفلسطينية والعربية، إلى ضعف حاد في إمكان متابعة مراحل هذه المشاريع وتقويم خطوات تنفيذها. وتلجأ هذه المصادر عادة إلى اعتماد مندوبين محليين عنها للإشراف وإرسال التقارير التقويمية عن حسن تنفيذ مشاريعها، أو إرسال مندوبين من الخارج بين الفترة والأخرى لزيارة مواقع المشاريع والاطلاع على حسن سير العمل فيها. لكن بما أنَّ استمرار وظيفة هؤلاء المندوبين، محليين كانوا أو زائرين، رهن باستمرارية تدفق الدعم للقيام بمثل هذه المشاريع، فإنَّهم يميلون عادة إلى إرسال التقارير التي تضمن استمرار هذا التدفق. وهو ما أدَّى، في حالات محددة، إلى استمرار دعم عدد من المشاريع الفاشلة.

خامسًا، تغليب تحديث المظهر على تنمية المضمون. فقد نجم عن التسرع في اتخاذ قرارات التمويل، وغياب الخطة التنموية الشاملة، زيادة التركيز على تطوير وتحديث المنشآت على حساب تنمية ذهنية تنموية لدى الإنسان. فتحديث المنشآت أسهل وأسرع كثيرًا من تطوير وزرع أيديولوجية تطويرية ذات نظام قيم شمولي ومتماسك وداعم للتغيير في ذات الإنسان. وعليه، أخذت المظاهر التحديثية المرافقة لشراء ومحاولة استيعاب "التكنولوجيا المعلبة"،(11)  مجراها في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة بمعزل عن دخول معترك إحداث تغيير نمطي إيجابي في طريقة حياة المجتمع ومعتقداته وقدرته على التفاعل مع البيئة من خلال التطوير الذاتي للمعرفة المادية ووسائل الإنتاج. ولذلك، بقيت العشائرية والمحسوبية والاتكالية أنماطًا سائدة في مجرى العملية "التنموية". وفوق ذلك، أدَّى توفر مصادر الدعم الخارجي إلى اعتبار بعض الفلسطينيين داخل الأرض المحتلَّة "الاعتماد على الغير" قيمة مجتمعية إيجابية تغني عن ضرورة "الاعتماد على الذات" لإنجاح عملية التنمية المنشودة.

 الانتفاضة والتنمية

عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية كان الوضع "التنموي" في الأراضي المحتلَّة بحاجة إلى عملية تقويم جذرية ومحاسبة جدية لضبط مظاهر التسيب ومعالجة السلبيات وتصحيح المسار. لكن تحول "الصمود" إلى "المقاومة الفاعلة"، وما تضمنه من تغير عام في مجرى العمل الفلسطيني وتوجهاته والاهتمامات المحيطة به، أدَّيا إلى إسدال الستار – الذي لم يرفع بعد – على إجراء المراجعة النقدية للمحاولات "التنموية" في الضفة والقطاع المحتلين.

وفيما يتعلق بموضوعة التنمية في الأراضي المحتلَّة، حملت مرحلة الانتفاضة في طياتها أمرين على غاية من الأهمية: الأول، ويعتبر مهمًا من الناحيتين النظرية والعملية معًا، هو تأكيد قدرة المجتمع القابع تحت الاحتلال على القيام بعملية تنمية ذات أبعاد مستقلة واستقلالية في آن واحد. فعدا عن ضرورة تنفيذ عملية "التنمية من أجل الصمود"، أثبتت الانتفاضة أنَّ في الإمكان فعلًا القيام بعملية "التنمية من أجل التحرير". فالانتفاضة أظهرت، فيما أظهرت، محدودية قدرات السلطة المحتلَّة على التحكم في مقدرات المجتمع الرازح تحت وطأة احتلالها. فإذا كانت السلطة المحتلَّة تستطيع أنْ تفرض القيود بالجملة على مثل هذا المجتمع، فإنَّها لا تستطيع فعلًا أنْ تحد بالكامل من حركته نحو التحرر، ولا سيما عندما يتخذ هذا المجتمع قرارًا بتحقيق التحرر.

لقد أثبتت المرحلة الماضية من الانتفاضة أنَّ في استطاعة المجتمع الفلسطيني القابع تحت الاحتلال "خلخلة" تبعية الاقتصاد الفلسطيني الكاملة للاقتصاد الإسرائيلي. وفعلًا تم تحقيق هذه "الخلخلة" على عدة صعد واتجاهات خلال المرحلة الماضية، لكن بنسب متراوحة. كما بينت مرحلة الانتفاضة أنَّ في وسع الفلسطينيين في ظل الاحتلال اتخاذ قرارات ذاتية وتنفيذها على مستويات متعددة بصورة مستقلة عن جميع إجراءات السلطة المحتلَّة، وعلى الرغم من هذه الإجراءات. كما أظهرت مرحلة الانتفاضة الماضية وجود قدرات وطاقات كامنة داخل المجتمع الفلسطيني القابع تحت الاحتلال يمكن لها، إنْ وُظِّفت بعناية وفاعلية، أنْ تسرِّع عملية التحرير، وأنْ تساهم مساهمة إيجابية جوهرية في تشكيل مرحلة ما بعد التحرير.

والأمر الثاني، وذو البعد الاتجاهي الآخر، الذي حملته المرحلة الماضية من الانتفاضة فيما يتعلق بموضوعة التنمية، هو استمرار وجود "خلخلة" في التطبيق "التنموي" الحالي، وهي من مخلفات مرحلة "التنمية من أجل الصمود". فعلاوة على عدم حل إشكالات تلك المرحلة، والتي أسقطت بواقع الحال تبعياتها على لاحقتها، أدَّت حالة "الطوارىء" التي أوجدتها الانتفاضة على عدَّة صعد ومستويات، وخصوصًا على صعيد الخارج، إلى فسح المجال أمام إمكان تنامي وتكاثر بعض المظاهر والممارسات "التنموية" السلبية المتبقية من المرحلة السابقة. فالقمع الإسرائيلي الشديد للفلسطينيين خلال مرحلة الانتفاضة، وما رافقه من معاناة فلسطينية ظهرت معالمها أمام العالم بوضوح أشد، أدَّيا إلى تبلور حالة "الطوارىء" عند العديد من الجهات الفلسطينية، والعربية، والأجنبية المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني. وقد تُرجمت حالة "الطوارىء" عند هؤلاء باستعداد جهات عديدة، ومنها جهات جديدة، لتقديم الدعم والمساعدات المادية السريعة.

وبسبب السرعة التي اقتضتها متطلِّبات "رفع المعاناة" قدر الإمكان عن الفلسطينيين في ظل الاحتلال، والمساهمة إيجابيًا في توطيد دعائم الانتفاضة من جهة، ولعدم وجود خطة تنموية مركزية شاملة من جهة ثانية، ولزيادة وتعدد المصادر الممولة وإقامتها قنوات اتصال مباشر بفلسطينيي الأرض المحتلَّة من جهة ثالثة، أصبحت الأموال تُنفق بيسر أكثر من ذي قبل. ويجب ألَّا يغيب عن البال في هذا السياق أنَّ بعض الجهات الأجنبية راح، في هذه المرحلة بالذات، يزيد في حجم مساهماته المادية للأرض المحتلَّة تحت غطاء التنمية، وذلك في محاولة جدية لكسب مواقع نفوذ سياسي في موقع الحدث.

وقد أدَّت السهولة النسبية في عملية تحصيل الدعم غير المشروط إلى محاولة البعض انتهاز الفرصة السانحة وتحصيل حصة سريعة، ربما لتحقيق ثروة سريعة أو لبناء قاعدة نفوذ محلية، أو على الأرجح لتحقيق كليهما معًا. وفي أية حال، بدأت "دراسات الجدوى" تتكاثر وتأخذ أبعادًا لاتنموية. وارتفع عدد المؤسسات غير المنتجة، وارتفعت معه أعداد الشريحة الطفيلية. وفي أوساط هذه الشريحة، والتي ما زالت مع تناميها تشكِّل نسبة ضئيلة جدًّا من المجتمع الفلسطيني في ظل الاحتلال، تفشت عقلية "الدكاكين" التجارية وأصبحت تفرض ذاتها على السلوك والمواقف.

ومما لا شك فيه أنَّ هذه المجريات تحمل في طيَّاتها إمكانات توليد نتائج سلبية. فعلى المستوى الداخلي، سيكون لها أثرها في إضعاف الروح المعنوية التكافلية بين أعضاء المجتمع الفلسطيني في ظل الاحتلال، وخصوصًا ضمن صفوف النخبة من جهة، وبين صفوف النخبة والعامة من جهة أخرى. وعلى المستوى الخارجي، سيكون لها بين المصادر الممولة في المدى البعيد تأثير سلبي في مصداقية جميع المؤسسات المتلقية للدعم – ومعظمها يقول بعمل جدي ومثمر – الأمر الذي قد يؤدِّي في نهاية المطاف إلى تزعزع الثقة المتبادلة، وبالتالي إلى شح موارد الدعم الضرورية فعلًا لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني وبناء استقلاله.

 "التنمية من أجل التحرير"

أصبح من الضروري، في هذه المرحلة بالذات، رفع شعار "التنمية من أجل التحرير" عوضًا من "التنمية من أجل الصمود"، والقيام بكل ما تستلزمه عملية ترجمة النقلة النوعية عمليًا. فكي يكون شعار "التنمية من أجل التحرير" ذا فاعلية يجب، أولًا، القيام بمراجعة نقدية جذرية لمرحلة "التنمية من أجل الصمود"، والتعرض موضوعيًا للذهنية التي خلفتها. وثانيًا، يجب القيام فلسطينيًا بإعداد خطة تنموية شاملة للأراضي الفلسطينية المحتلَّة لتترجم قرار الاستقلال فعلًا، وتحدد الأولويات وفقًا لجدول الأعمال الفلسطيني. والتخطيط الفلسطيني المركزي داخل الأراضي المحتلَّة وخارجها ضرورة قصوى يتطلَّبها وجوب تحرير الذات من الوقوع في خطر التبعية لأولويات مصادر التمويل المختلفة، وخصوصًا الأجنبية منها، ذات الغايات والأهداف المتعددة. وثالثًا، يجب القيام فلسطينيًا بمحاولة جدية لضبط مسارات الدعم المختلفة وتحديد قنواتها كي يتم التنفيذ وفقًا للأولويات المحددة من جهة، وبما يحافظ على المصداقية مع مصادر الدعم من جهة ثانية، ويضمن تكاتف المجتمع الفلسطيني في ظل الاحتلال من جهة ثالثة.

إنَّ "التنمية من أجل التحرير" عملية ممكنة وضرورية وملحَّة في هذه المرحلة بالذات. ويجب ألَّا يفوتنا الوقت قبل أنْ نستعدَّ لها الاستعداد الكامل.

 

(1)   علي الجرباوي، "نقد المفهوم الغربي للتحديث"، "مجلة العلوم الاجتماعية"، المجلد 14، العدد 4 (شتاء 1986)، ص 40.

(2)   لاستيضاح مفهوم "الأيديولوجية التطويرية" الذي يربط عملية التنمية المجتمعية بعملية توالي "الحضارات الرائدة"، راجع: علي الجرباوي، "العرب والأزمة الحضارية"، "المستقبل العربي"، السنة السابعة، العدد 4 (نيسان 1985)، ص 5-10.

(3)  علي الجرباوي، "العالم العربي بين واقع التحدي وهدف التخطي"، "دراسات عربية"، السنة 24، العددان7/8 (أيار/ حزيران 1988)، ص3-9.

(4) من أفضل الأمثلة التي توضح هذه النقاشات المؤتمر الذي عقده الملتقى الفكري العربي في القدس تحت عنوان "مؤتمر التنمية من أجل الصمود" (تشرين الثاني / نوفمبر 1983). يمكن مراجعة وثائق المؤتمر التي قام الملتقى بتوثيقها ونشرها.

(5)  راجع، على سبيل المثال، الدراسات الواردة في: جورج العبد (محرر)، "الاقتصاد الفلسطيني: تحديات التنمية في ظل احتلال مديد" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989).

(6)  محرم البرغوثي، "تنمية بمفهوم مختلف"، "الكاتب"، العدد 78 (تشرين الأول 1986)، ص 42-51.

(7)  يعتبر ميرون بنفنستي المنظر الرئيسي لهذا التوجه. راجع تقريره الصادر سنة 1987 عن مركز معلومات الضفة الغربية (بالإنكليزية) ص 66-80. أمَّا البعد السياسي لهذا التوجه فقد كان سري نسيبة المعبِّر عنه قبل اندلاع الانتفاضة. راجع مساهمته في صحيفة "الفجر" المقدسية (9/8/1987 بشأن استمرار الوضع الراهن.

(8)  لم ينجح الأردن في جمع الأموال اللازمة لتنفيذ هذه الخطة، كما حالت التطورات السياسية المتلاحقة دون تطبيقها.

(9) راجع: عبد الستار قاسم (محرر)، "مصادر تمويل التنمية في الأراضي المحتلَّة"، وهي مجموعة وثائق ندوة مصادر التمويل التي عقدت في القدس بتنظيم الملتقى الفكري العربي (12/9/1986).

(10) إبراهيم الدقاق، "واقع التنسيق ومشكلاته"، ورقة النقاش التي قدمها في الندوة التي عقدها الملتقى الفكري العربي في القدس (4/2/1990) عن موضوعة "التنسيق والأولويات في العملية التنموية". كذلك، راجع معالجة عادل سمارة لأطروحات الدقاق في المقالة التي نشرها الأول تحت عنوان "المطلوب تنمية جذرية لا تنمية مصالح التكنوقراط"، "قضايا"، العدد الثالث (أيار 1990)، ص 77-93.

(11) التعبير لجورج قرم، "التنمية المفقودة: دراسات في الأزمة الحضارية والتنموية العربية" (بيروت: دار الطليعة، 1981)، ص 14.