يتناول هذا التحقيق مسألة خيار الحكم الذاتي لفلسطينيي 1948 كحل وسط بين خياري الاندماج والانفصال، وذلك في ضوء المجزرة التي نفذها جندي إسرائيلي بحق عمال فلسطينيين في ريشون ليتسيون في أيار/ مايو1990، والتظاهرة المؤيدة للمذبحة والتي حظيت بموافقة أعلى هيئة قضائية في إسرائيل. ويستعرض التحقيق بشكل موجز وضع عرب 1948 والمعاملة التمييزية التي تمارسها بحقهم الدولة الإسرائيلية والتي تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، في ظل أوضاع باتت تهدد وجودهم. ثم تستعرض البديل من الحكم الذاتي الذي عُرض كفكرة للنقاش في مقال في صحيفة "العربي" الصادرة في الناصرة، وردات الفعل التي أثارتها هذه الفكرة في الأوساط السياسية والحزبية والصحافية الإسرائيلية والعربية.
أودت الرصاصات المجرمة التي اغتال بها جندي إسرائيلي سبعة من العمال الفلسطينيين وجرح ستة عشر آخرين في مدينة ريشون لتسيون (عيون قارة) في العشرين من أيار / مايو الماضي، بما تبقى من النزعة الاندماجية التي سعت طوال أربعين عامًا لإيهام فلسطينيي الداخل بأنَّهم جزء من مجتمع الدولة العبرية. وهناك من ذهب إلى حد اعتبارها المسمار الأخير في نعش هذا النهج، الذي جثم على صدور أقلية قومية طوال أربعة عقود مضت، ليحرمها التمتع بالاعتراف بها كأقلية قومية لها حقوقها ولها امتدادها القومي والحضاري خارج حدود الدولة اليهودية، وباتت عرضة لتمييز عنصري يشمل كل مناحي الحياة قانونيًا وعمليًا.
وإذا كانت معاناة الحاضر الدامي جرَّاء تفاقم سياسة التمييز والقهر القومي وجرائم الاحتلال في الأراضي المحتلَّة، وآلام الماضي الناجمة عن سياسات حكومات إسرائيل منذ قيامها إذ دمرت ورحلت سكان عشرات القرى في الجليل والمثلث والنقب طمعًا في الأرض وطمعًا في تخفيف الكثافة السكانية للعرب، وما تبعهما من طرد وتشريد ضمن سياسة التهويد التي ترتب عليها تدمير الاقتصاد الزراعي والاقتصاد المنزلي الفلسطيني عن طريق دعم الزراعة اليهودية وتحريم المزروعات على الفلاح العربي (مثل البطاطا والجزر)، وأصبحت مثلًا تكلفة إنتاج البيضة ولتر الحليب ورغيف الخبز... إلخ أغلى منها في السوق. وكان هدف هذه السياسات، وما زال، إبعاد العربي عن أرضه تمهيدًا لمصادرتها، وربطه بذيول عجلة الاقتصاد الإسرائيلي ليبقى تابعًا لها.
وإذا كان هذا هو واقع الأمور في الحاضر الدامي والماضي الأليم، فإنَّ السؤال عن المستقبل ارتقى إلى صدارة جدول الأعمال اليومي... وإنْ كان بخطى بطيئة وبأصوات خافتة خشية سياط وقمع السلطات التي تتيح لها إقامة "الدولة اليهودية النقية". وترتب على السؤال عن المستقبل الأسود الذي ينتظر الفلسطينيين عامَّة وأبناء الداخل خاصَّة، إعادة النظر في عقدة "الفلسطيني مواطن إسرائيلي"؛ هذه الصفة التي حاول فلسطينيو الداخل من خلالها التوفيق بين كونهم جزءًا لا يتجزَّأ من الشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته مواطنين في دولة إسرائيل. ويعزو البعض بدايات السؤال إلى نتائج هزيمة حرب حزيران / يونيو ١٩٦٧، التي فتحت الحدود من الداخل بين شطري الشعب الفلسطيني على شكل هزيمة نكراء لحقت بالعرب لتضيع ما تبقَّى من فلسطين. إلَّا أنَّ آخرين يعزون نهوض الشعور الفلسطيني إلى يوم الأرض الأوَّل سنة ١٩٧٦، حين استشهد ستة من أبناء الداخل دفاعًا عن الأرض، ولكنَّهم يجمعون على أنَّ الانتفاضة الفلسطينية الراهنة هي صاحبة الفضل الأكبر في صقل الشخصية الفلسطينية الأصلية وتعزيزها على حساب شعور المواطنة الزائفة في دولة إسرائيل.
فهناك نوعان متميزان من المواطنة في دولة إسرائيل: المواطنة لليهودي، والمواطنة للعربي (غير اليهودي). وهذا يعني فقط أنَّ اليهودي هو المواطن الكامل والمتساوي، أمَّا العربي فمواطن بحسب العَرَض القانوني القابل للتغيير والتبديل. وهذان المعنيان للمواطنة مشتقَّان من تعريف دولة إسرائيل بأنَّها دولة يهودية، دولة لليهود وأينما وجدوا، مثلما ينص عليه قانون العودة الذي سنَّه الكنيست سنة ١٩٥٢.
ولا يعترف سادة إسرائيل، على اختلاف مشاربهم السياسية، بالعرب أقلية قومية، لإدراكهم أنَّ مجرَّد الاعتراف بمثل هذا الأمر ينطوي على الاعتراف بإسرائيل ثنائية القومية، بكل ما يعنيه ذلك من حق المشاركة في مسألة السيادة والقرارات السيادية. ولهذا فالعرب في إسرائيل، في نظر أحزابها وحكوماتها، هم "أقليات دينية" (مسيحيون، مسلمون، بدو، دروز.... إلخ)، وفلسطينيو الداخل يواجهون أغلبية تحتكر الموارد بقدر ما تحتكر السياسة وهم خارج الائتلاف وخارج المعارضة.
إنَّ طغيان هذه الأكثرية التي تتزايد قسرًا بصورة غير طبيعية على شكل الهجرات اليهودية، يجد تعبيره الصريح في "قانون العودة" الذي جعل العربي غريبًا على أرضه، واستحال عليه الحصول على المواطنة الإسرائيلية إلَّا إذا اعتنق الديانة اليهودية. وهذا القانون هو "التعبير الواضح والصريح للصهيونية التي هي روح الدولة، وما لم يقبله العرب ويعترفوا به فعليهم أنْ لا يأملوا بحوارنا واعترافنا بهم"، بحسب تفسير زفولون هامر، وزير الأديان الحالي، في مقالة نشرها في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 7/٣/1990. وكان هامر بذلك يحذِّر العرب قاطبة من رفض الهجرة اليهودية السوفياتية إلى إسرائيل.
الموت للعرب
إنَّ هامر ليس الوحيد في هذا المضمار الذي يطلب فيه من الضحية الرقص طربًا على دمائها. فالمنادون بقتل العرب لمجرد كونهم عربًا يزدادون من يوم إلى آخر، وليس هناك ما يبشر بأنَّ المؤسسات الرسمية، بجهازيها التشريعي والتنفيذي، تسعى لاجتثاث الفاشية المتفاقمة. وقد تكون إسرائيل الدولة الوحيدة التي توافق فيها أعلى هيئة قضائية على السماح بإجراء تظاهرة مؤيِّدة لمذبحة نفذت ضد أناس بسبب انتمائهم القومي. هذه التظاهرة جرت في ٢٨ أيار / مايو في مدينة ريشون لتسيون وأعلن قادتها أنَّهم يدعون إلى قتل العرب، وساروا وهم يهتفون "الموت للعرب".
ويجد العربي أنَّ مسألة وجوده باتت في خطر، وأنَّ خياره الوحيد الذي تتركه له المؤسسة الحاكمة هو الموت أو الطرد. فبعد أربعين عامًا يتبين أنَّ ليس للعربي شيء في هذه الدولة. وقد أثبت النموذج الاندماجي فشله، ولم يبق سوى النموذج الانفصالي وله وجهان: إمَّا انفصال العرب وهو في شكله المتطرف يعني الاستقلال، وإمَّا الطرد الجماعي وهذا مستحيل حتَّى الآن. فإفلاس النموذج الاندماجي تم وبصورة رسمية في إثر ما حدث مع النواب العرب في الكنيست في إبَّان محاولات شمعون بيرس زعيم حزب العمل تأليف حكومة برئاسته، إذ قيل لهم إنَّ ليس لكم علاقة لا بالائتلاف ولا بالمعارضة، وذلك بغض النظر عن انتمائهم السياسي – الحزبي، لكنْ لمجرَّد كونهم عربًا. إنَّ العرب ليسوا شركاء في السلطة. وفي هذه اللحظة كان هذا النموذج في قمة إفلاسه. وتأكد أنَّه عندما يحين الجد فليس هناك مكان للعرب. أضف إلى ذلك وضع السلطات المحلية العربية المفلسة، واستثناء العرب من العمل والمساهمة في المرافق العامة على اختلاف أنواعها، وطرد العرب وفصلهم من أماكن العمل لمصلحة المهجّر السوفياتي، إذ عندما يأتي طبيب جاهز من الاتِّحاد السوفياتي يجب عزل طبيب عربي وتعيينه بدلًا منه.
وقد أثبت ذلك أنَّ العرب كانوا ضحية مؤامرة الأخوة والتعايش؛ فقد فشل هذا النموذج وأبقى المشكلات على حالها، ناهيك بأنَّ العربي لم يعد يقبل أنْ يكون حطابًا أو سقاء ماء. فقد تكوَّنت عبر السنوات قدرات عربية جديدة، وهذه القدرات لنْ تقبل السكوت مثل أسلافها والعمل في الزراعة التي ضربتها السلطة بمصادرة الأراضي وفي المقابل دعم الزراعة اليهودية على حساب الزراعة العربية، أو العمل في مرافق البناء لمصلحة المهاجرين السوفيات الذين يخطفون لقمة العيش من فم حاضر العرب ومستقبلهم.
الحكم الذاتي كحل وسط
وبما أنَّ البدائل الثلاثة غير قابلة للتنفيذ في الأوضاع الطبيعية، فالمخرج هو حل وسط بين الاندماج والانفصال. وقد يكون الحكم الذاتي أو أحد أشكاله هو الحل.
وقد طرح الدكتور سعيد زيداني الأمر أوَّل مرة في صحيفة "العربي" الصادرة في عكا في نهاية كانون الأول / ديسمبر الماضي، على شكل "فكرة للنقاش"، واضعًا نصب عينيه مستقبل العرب في إسرائيل؛ وذلك في تحليل تعاقبت فيه الفلسفة وعلم المنطق، مع التذكير بألم الماضي وقتامة الحاضر وسواد المستقبل.
وتصدَّى الحزب الشيوعي للفكرة واستشاط مئير فيلنر، الأمين العام، غضبًا عندما علم بأنَّ شبَّانًا من حزبه مرتاحون إلى هذه الفكرة وتبادلوا أطراف الحديث في شأنها. وعلى الرغم من أنَّ الحزب لم يتخذ موقفًا رسميًا، فإنَّ صحيفة "الاتِّحاد" نشرت عدة مقالات كتبها كبار محرريها، هاجمت الفكرة ووصفتها بأنَّها فكرة خطرة وسابقة لأوانها، ويعتبر الحزب الشيوعي أنَّ المساواة هي سقف مطاليب العرب في إسرائيل إضافة إلى الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويعلل الحزب ذلك بالسلام المنشود والموعود بين إسرائيل ودولة فلسطين التي تقوم في جوارها أو ترتبط فدراليًا أو كونفدراليًا بالأردن. وهذا يشكل المفتاح السحري لتحقيق شروط المواطنة المتساوية بين العرب واليهود داخل دولة إسرائيل، وهو موقف تؤيِّده حركات سياسية أخرى مثل: الحزب العربي الديمقراطي، والحركة التقدمية للسلام.
ولم يَحل ذلك دون طرح الفكرة على جدول الأعمال الجماهيري في الداخل تارة على شكل مناظرة عن مستقبل العرب في إسرائيل، وأخرى تحت عنوان "فكرة الحكم الذاتي". وشهدت الجامعات، بصورة خاصة، مناظرات دعي إليها ممثلو التيارات السياسية والباحثون العرب إلَّا أنَّ السلطة سارعت من جهتها إلى تحريم عقد هذه المناظرات إذ منعت مناظرة في هذا الصدد دعت إليها جامعة حيفا بتاريخ ١٧ أيار / مايو ١٩٩٠، ودعي إليها أعضاء كنيست وباحثون عرب. وقد شهدت الساحة تحريضًا ضد العرب من قبل الجهات اليمينية والمخابراتية.
لكنَّ هذا أيضًا لم يمنع مواصلة النقاش على مستويات مختلفة، كان آخرها يومًا دراسيًا تحت عنوان "هل إسرائيل دولة لكل مواطنيها ولاجئيها"، بدعوة من مركز الجليل للأبحاث، والذي جرى في الناصرة بتاريخ ٢٦ أيار / مايو، وشارك فيه خمسة من الباحثين العرب الذين تناولوا جوانب سياسية التمييز التي تمارسها السلطات ضد العرب. كما حضر أكثر من ١٥٠ مندوبًا مثَّلوا التيارات السياسية.
وبينما يشهر الحزب الشيوعي الإسرائيلي رفضه للفكرة، فإنَّ حركة أبناء البلد تميل على ما يبدو إلى تبني الفكرة التي تحظى بنقاشات مستفيضة بين صفوف الحركة. وقد نشرت صحيفة "الميدان" لسان حال "أبناء البلد" مقالات مؤيِّدة. إلَّا أنَّ الفئات السياسية العربية الممثلة في الكنيست لم تجرؤ بعد على طرح موقفها، علمًا بأنَّ مؤشرات كثيرة تؤكد أنَّ قفزة فكرية قد طرأت على عقول بعضها التي آمنت بأنَّها جزء من المؤسسة الإسرائيلية ولم تتبين حقيقة الأمر إلَّا بعد أنْ تأكد لها بصورة قاطعة أنَّ لا مكان لها في هذه المؤسسة. وهناك شائعات مفادها أنَّ وشوشات تجري بين بعض الأكاديميين اليهود بشأن فكرة شكل من أشكال الحكم الذاتي ومستقبل العرب. وقد شهد معهد ترومان في الجامعة العبرية مناقشة في هذا الخصوص أشار فيها المشاركون إلى خطورة الوضع. وأوجزت صحيفة "عال همشمار" في مقالة بتاريخ ١٣ أيار / مايو المناقشة، وخلصت إلى القول إنَّه "إذا استمر الوضع في الوسط العربي واستمر التوتر، فإنَّ الانتفاضة ستكون لا شيء قياسًا بالانفجار المتوقع في العلاقات بين العرب واليهود."
ويقال إنَّ شمير بعد أنْ قرأ المقالة وزعها على وزرائه للفت نظرهم إلى خطورة الموقف.
هل كانت الهبّة الجماهيرية غداة مجزرة عيون قارة بداية هذا المشوار الطويل؟ هذا ما ستثبته الأيام. إلَّا أنَّ المؤسسة الإسرائيلية سارعت، وعبر أجهزتها الإعلامية، إلى تحذير فلسطينيي الداخل من خطورة رفع سقف مطاليبهم، لأنَّه سيترتب على ذلك تضييق الخناق عليهم والمسّ بحقوقهم، وبينها حق التصويت للبرلمان.
وفي هذا السياق حذر زئيف شيف، المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، في مقال غداة الهبّة الجماهيرية يوم الحادي والعشرين من أيار / مايو قائلًا: إنَّ "على العرب في إسرائيل أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر في طرح مطاليبهم وإنْ كان شعورهم بالتمييز والاضطهاد صحيحًا، لأنَّ من شأن ذلك أنْ يجعل معسكر اليمين يدَّعي أنَّ المعركة هي على كل شيء"، مشيرًا إلى أنَّ أصواتًا ما زالت ضعيفة حتَّى الآن تعتقد أنَّ تجربة الاندماج قد فشلت، وأنَّ الضرورة تحتم منح العرب في إسرائيل مكانة رسمية داخل الدولة العبرية كمقدمة للحكم الذاتي.
ويبقى السؤال الراهن والمستقبلي: هل ستنمو هذه الفكرة أم أنَّها ستموت في أروقة الجامعات وفي خضم حوارات الأكاديميين والسياسيين؟