تجيب الروائية الفلسطينية سحر خليفة في هذه المقابلة عن عدد من الأسئلة التي تتعلق بالأدب والسياسة والمرأة الفلسطينية ودورها وتأثيرها في الانتفاضة. وترى خليفة أن الواقع الثقافي مثل الواقع السياسي، وأن السياسة لا تخلق الفنان، لأنه إذا لم يكن الفنان موجوداً ومتعايشاً مع الزمن الذي يعيش فيه فلا يمكن أن يصبح فناناً كبيراً. وتشير إلى وجود كتّاب قدموا أدباً يبشر بمواهب كبيرة، لكن السياسة جرفتهم (مثل ماجد أبو شرار وحكم بلعاوي). كما تتحدث خليفة في المقابلة عن نشاطها في الحركة النسائية ودورها مع عدد من صديقاتها في تأسيس مركز شؤون المرأة الذي يعنى بدراسة الأوضاع السياسية، الاجتماعية والجنسية التقليدية.
أجرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" الحوار التالي مع الروائية الفلسطينية سحر خليفة عن الأدب والسياسة والمرأة الفلسطينية ودورها في الانتفاضة.
للكاتبة سحر خليفة عدة روايات، منها: "الصبار" و"عباد الشمس". وسيصدر لها قريبًا "باب الساحة".
س – ثمة سؤال مؤرق.. كم المسافة بين الواقع كما هو والواقع كما يعكسه الأدب العربي بعامة، والفلسطيني بخاصة. وهل استطاع أنْ يرتقي إلى زمن الانتفاضة، أم ترين أنَّه بحاجة إلى انتفاضة، هو نفسه؟
س. خليفة: لا طبعًا، الانتفاضة معقدة كثيرًا، وعادة الأدب الروائي يأخذ فترة حتى يتم تمثل التجربة فيه. وتجربة مثل تجربة الانتفاضة ضخمة صارخة صاخبة من هذا النوع، لا يمكن أنْ تجمع خيوطها بشكل مكثف ومعمق بدون المباشرة الصحفية قبل مرور فترة من الزمن. طبعًا يبرز سؤال عن كيفية كتابتي لروايتي، وسيرى القارىء لهذه الرواية أنَّني ركزت على بؤرة صغيرة من الانتفاضة هي العملاء وقتلهم وبالتحديد كان السؤال: من المسؤول؟ هذا ما أستطيع أنْ أفعله في هذه المرحلة، من حيث تغطية جزء ولو بسيط من الانتفاضة. أمَّا الانتفاضة كمسرح كبير (scope) فهذا يحتاج سنين طويلة ليعيد الكتاب صياغته بصورة كاملة. حتمًا لم يصل الأدب إلى مستوى الحركة السياسية.
س – هل المسألة تقف عند حدود اختمار التجربة، وهو أمر مشروع، أم تتعدَّاه إلى أنَّ الأدب أضيق من أنْ يحتوي مثل هذه التجربة "الانتفاضة"؟
س. خليفة: الواقع الثقافي مثل السياسي. يمكن أنْ تبرز عبقرية سياسية في غير وقتها، ويكون الوضع السياسي غير ناضج وبالتالي تموت لأنَّ الواقع المعاش لا يستطيع متابعة القفزة النوعية التي يمثلها (مثل عبد الناصر). ويمكن أنْ يكون العكس. أي أنَّ الواقع الاجتماعي عظيم دون وجود قائد عظيم يفجر الشحنة الموجودة. فإذا لم يجتمع العنصران ستكون التجربة الثقافية فقيرة. فإذا وجدت شخصية ذات موهبة في واقع ثقافي ضحل لن تتمكن من العطاء الكبير. وإذا استعرضنا الأسماء في الداخل والخارج لا نجد إلَّا القليل ممَّن قدَّموا أشياء جديدة. لا يكفي أنْ يكون لدينا مشروع كاتب مهم ويعطي معظم وقته للعمل السياسي. وفي مرحلة معينة، ربما يضطر كاتب أنْ ينخرط كليًّا في العمل السياسي نتيجة "لاذاتيته" المفرطة، بحيث لا يبقى لديه وقت ينتج فيه أدبًا. وهذا يؤثِّر على عطائه.
من الصعب في جو غني حياتيًّا وسياسيًّا بهذا الشكل، بأسماء معدودة، أنْ تصدر أعمال أدبية مهمة. السياسة لا تخلق الفنان. إذا لم يكن الفنان موجودًا ومتعايشًا مع الزمن الذي يعيش فيه، لا يمكن أنْ يصبح فنانًا كبيرًا.
س – إذًا، العمل السياسي يستغرق الكل في الداخل، الكاتب والمثقف والسياسي؟
س. خليفة: التجربة في الداخل تستوعب الجميع في العمل السياسي.
س – هل يقوم الكاتب والأديب إذن بدور القائد السياسي؟
س. خليفة: دعنا نتحدث في الواقع بعيدًا عن النظريات. فإذا أخذنا كاتبًا يعيش في الخارج مثل يحيى خلف حين أصدر روايته "نجران تحت الصفر" قلنا سيكون كاتبًا عظيمًا. إلَّا أنَّ السياسة استهلكته وامتصَّت دمه، فقلَّما يصدر عملًا إبداعيًّا بالحجم الذي كنَّا نتوقعه منه بحسب الإمكانيات الإبداعية المتوفرة في شخصيته. أعتقد أنَّه لو كرَّس حياته للأدب أكثر مما هي للسياسة، كان يمكن أنْ يكون أكبر من عبد الرحمن منيف مثلًا.
أنا دائمًا أواجه سؤالًا يخلق صراعًا في داخلي: إلى أي مدى أريد أنْ أكون سياسية، وإلى أي مدى أريد الاحتفاظ باستقلاليتي وأجوائي الخاصَّة حتَّى لا أغرق في تفاصيل الحياة السياسية التي تدفع إلى تسطيح الكتابة الأدبية وتحويلها إلى لون صحفي. وهي قضية يعانيها كل المبدعين فيما أعتقد، حيث السياسة تضرب الأدب حين يغرق الأديب في السياسة.
وأنا لا أقصد أنْ ألقي اللوم على السياسة التي تبدو كأنَّها تسرق الأدباء، إلَّا أنَّ الحقيقة هي أنَّنا لم ننضج إلى الحد الذي يصبح لدينا عدد كبير من الكتاب، حتَّى لو أخذت السياسة بعضهم بقي آخرون. أو أنَّ لدينا كتَّابًا قدَّموا أدبًا يبشِّر بمواهب كبيرة، غير أنَّ السياسة جرفتهم (ماجد أبو شرار مثلًا، حكم بلعاوي..) ولكنْ إذا اعتبرنا أنَّ الأديب يبني حضارة بأدبه، كما يبني السياسي حزبًا أو تنظيمًا، فإنَّ هذا يبرِّر للأديب ابتعاده إلى حدٍّ ما عن الواقع. دورنا كفنانين ومثقفين مواكب للحزبي. فنحن بحاجة – إلى جانب طرح الأسئلة اليومية – إلى من يطرح أسئلة كبيرة استراتيجية. وهذه مهمة الفنان. روايتي "باب الساحة" الجديدة، تدور حول شابة جرفها التيار الذي كان منتشرًا قبل الانتفاضة، وهو الذي أدَّى إلى التفجير السياسي الاجتماعي (الانتفاضة). نزهة ربيبة بيت مشبوه يتعامل مع المخدرات والدعارة والتجسس. وهذه البيوت كانت منتشرة وشجعتها المخابرات الإسرائيلية. في نابلس "المحافظة أبًا عن جد"، كان فيها عدَّة بيوت من هذا النمط. وحين صرتم تسمعون عن قتل العملاء بالعشرات كان ذلك حقيقيًّا، حيث اشتغل الاحتلال خلال عشرين عامًا على بناء شبكة من بيوت الدعارة. أنا سلَّطت الضوء على بيت مشبوه من خلال نزهة. يدخل عندها شاب جريح من جرحى الانتفاضة، يتعامل معها بتحقير وقرف واتِّهام وفوقية. ولكنْ حين يدخل في تفاصيل وتضاعيف حياتها، يبدأ بكشف طبقات حياتها فتتكشف عن رمز لكل المجتمع الذي تعيش فيه. ويصير السؤال: من هو المسؤول؟ فهذه الفتاة نتاج أسرة، والأسرة نتاج نابلس، ونابلس نتاج مجتمع أكبر واحتلال وقيادة خارجية وداخلية و... إلخ. ويكبر السؤال. ودور الفنان هو طرح السؤال الشرط: إذا كانت نزهة ستحاكم، إذن يجب محاكمة الجميع. وهنا، على مستوى الانتفاضة يمكن أنْ يكون هذا السؤال هامشيًّا. أمَّا على المستوى الحضاري الاستراتيجي فهو سؤال هام. أين العدالة؟ وكيف يمكن الدخول إلى تفاصيل الحياة الداخلية لمجتمعنا؟ فهل إذا قتلنا نزهة نكون قد قتلنا العمالة. والمشكلة ليست مشكلة عميل، وإنَّما الأرضية القابلة لخلق هذا العميل. ومن المسؤول؟ هنا ينبغي أنْ يكون التوازي ما بين الفنان والسياسي. السياسي يتعامل مع ما هو تكتيكي لحل المشاكل اليومية، والفنان يتناول ما هو جوهري ولا يلتفت إلى ما هو يومي. والمعضلة هي في أنَّ السياسي إذا لم يقتل عددًا من العملاء فلنْ يرتدع الباقون منهم. فالمفروض أنْ يعمل السياسي والفنان معًا. المأساة هي أنَّ الفنانين لا يدركون أهمية دورهم ويشعرون بتقصيرهم على مستوى الحدث السياسي المعاش، فينخرطون في العمل السياسي. كما أنَّ السياسي الذي يفترض أنَّه مثقَّف يعمل على تدجين المثقفين ولا يعود يجد مثقفًا يعترض طريقه. لا بد للفنان أنْ يكون واعيًا سياسيًّا، ولكنْ بشكل لا يلزمه بقرار تكتيكي ينسيه البعد الاستراتيجي.
س – هذه العلاقة المعقدة بين السياسي / اليومي والفني / الحضاري، لا بد أنْ تكون قد وجدت لها حلًا في الأرض المحتلَّة؟
س: خليفة: لو أنَّ هذه المعضلة قد حلت، لَمَا كنَّا نتحدث الآن عن هذا التعقيد في العلاقة.
س – ليس المطلوب أنْ نوجد الفنان المبدع. المطلوب أنْ يكون للفنان دور سياسي، وأنْ يكون للسياسي دور في فتح المجال أمام الفنان لكي يبدع. كيف ترين هذه العلاقة ضمن ما هو واقع. وكيف يمكن أنْ نطوِّر علاقة إيجابية بين ما هو سياسي وما هو فني؟ وكيف تخدم السياسة الثقافة، وكيف تخلق قيمًا ثقافية لدى المجتمع؟ وكيف تخلق إنسانًا قادرًا على وعي واقعه والتعامل معه بطريقة أكثر إيجابية وفاعلية في المجتمع، بخاصة وأنَّ السياسي هو صاحب الدور الأساسي في تحريك المجتمع؟
س. خليفة: هذه معضلة لا حل لها. قضية الفن والإبداع. لا ندري إلى أي مدى يساهم النظام في خلقها. ما الذي جعل أم كلثوم بمثل هذه الأهمية. هل لأنَّها جاءت في عصر عبد الناصر، أم لأنَّها صوت أراد أنْ يتفجَّر. يمكن أنْ تساهم الظروف في تسويقها. إلَّا أنَّ لا أحد يعرف سببًا لظهور موهبة إبداعية في مرحلة وعدم ظهور مواهب في مرحلة أخرى. بالطبع ثمَّة دور للنظام السياسي في خلق مناخات ثقافية حين تتوفر الحريات وإمكانيات النشر.. وهذا يخلق مناخًا للإبداع. لكنَّه لا يخلق الإبداع والمبدعين، هذا بحاجة لعوامل عدَّة.
س - معضلة المثقف، هل تعتقدين أنَّها أكثر حدَّة عند الفلسطيني من غيره، بسبب وضعه؟ وإذا قبلنا مقولة "المثقف ضمير الشعب" – وأنا أقبلها من حيث قدرته على الاستشراف، وعلى تحسس هموم الشعب أكثر من السياسي – هل ثمة ما يميز المثقف في الداخل عنه في الخارج، حيث المثقف الفلسطيني في الخارج يعمل في مؤسسات تنتج عطالة ثقافية، بينما هو في الداخل، إذا كان قادرًا على استشراف المستقبل، وليس رصد أحداث الانتفاضة فحسب، فهو أكثر حرية في التعبير نسبة إلى مثقف العالم العربي؟
س. خليفة: صحيح. المثقف في الداخل لديه حرية تعبير هذا صحيح. على الأقل من حيث أنَّه يهاجم أي نظام ويهاجم إسرائيل. لكنْ حتَّى في الخارج، ليس كل المثقفين استطاعت المؤسسات استيعابهم. دعنا نأخذ محمود درويش، أحسن فنان فلسطيني على مستوى الشعر، حين وضع في السياسة، وجدناه لا يضيف للعمل السياسي شيئًا. وكان يعاني من هذا الوضع كونه فنانًا يطلب منه أنْ يكون سياسيًّا. والآن صحيح أنَّه في موقع سياسي وصاحب منصب، لكنَّه في رأيي واجهة فقط. بينما هو كفنَّان ما زال يبدع.
أنا شخصيًّا ما زلت أعاني من السؤال عن دور المثقف في العمل السياسي، هل ينخرط أم يبتعد؟ أنا لست سياسية. فالسياسة تتطلَّب التنازلات والمهادنة. الفنان لا يتنازل لأنَّه لا يستطيع أنْ يكون عمليًّا دائمًا. السياسة هي فن الممكن، بينما الفن يطالب بما سيكون.
س – هذه السياسة. أما الثورة فهي فن التغيير، تغيير الواقع.
س. خليفة: أي تغيير، لأي واقع؟ كل يريد أنْ يغير حسب رأيه. والواقع ليس جامدًا.
س – لنعد إلى السياسي والثقافي في الأرض المحتلَّة. من وجهة نظر فنانة تعايش الواقع...
س. خليفة: أنا أيضًا نشيطة في مجال الحركة النسائية التي لا أراها منفصلة عن الحركات الأخرى.
س – هذا باب لحديث حول واقع المرأة السياسي والاجتماعي، وما الذي فعلته الانتفاضة بشكل خاص والمواجهة مع العدو الصهيوني بشكل عام في هذا الجانب، في العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني، مع التركيز على دور المرأة في الصراع؟
س. خليفة: لو كان هذا الحوار قد تم قبل عامين، لقلت إنَّ الحركة النسائية بألف خير. أول انفجار الانتفاضة عملت الحركة النسائية وأطرها عملًا عظيمًا. المرأة العادية كانت تعمل عملًا غير عادي. أنظر إلى الصور وعمليات الرصد التوثيقي للجماهير النسائية التي كانت تخرج إلى الشوارع، كان شيئًا لا يصدَّق. كانت الحركة النسائية في غليان وفوران لا مثيل لهما. أمَّا الآن، بعد بروز التيار الرجعي الذي يستشري وبشكل سلطة رادعة في مواجهة المنظمة، فرض على المرأة وعلى الواقع السياسي بعامة، جوًّا مخيفًا. وحدُّوا من مظاهر تحرر المرأة، بحيث صارت المرأة تحاسب على مظهرها الخارجي وتصرفاتها وفرضوا إرهابًا بقصد دمج المرأة كفرد وكمجموع، لأنَّ المرأة لا تستطيع أنْ تتحرر بدون دعم الوسط الذي تعيش فيه. فحين يكون كل من حولها يتبنون الفكر الرجعي الآخذ بالانتشار، فإنَّ هذا سيحد من حركتها، لأنَّها نتاج بيئتها. وإذا لم نحاول مواجهة هذا الإرهاب ببرامج مخطط لها، كما يخططون، لن نستطيع عمل شيء. نحن كتقدميين نعيش على إنجازات الأمس، دون الالتفات إلى المتغيرات اليومية السريعة التي تحدث في ظل الوضع المتفجر الذي يحتاج إلى مواكبة يومية. نحن نتغنَّى بالجماهير النسائية التي نزلت إلى الشوارع مع بداية الانتفاضة، ولا نرى المآسي الاجتماعية والمعيقات في وجه الحركة النسائية كحركة تقدمية تحررية اليوم، ولا نرصد الإيجابيات لتطويرها.
س – تحدثت عن مركز شؤون المرأة.
س. خليفة: قمت أنا وبعض الصديقات ذوات الاهتمام المشترك بتأسيس هذا المركز منذ أيار/ مايو ١٩٨٩، ويعنى بدراسة الأوضاع السياسية الاجتماعية الجنسية التقليدية. نقوم بنشاطات مثل استقبال وفود من الخارج وإطلاعهم على وضع المرأة الفلسطينية. نقوم بترجمة أدبيات الحركة النسائية العالمية، وتسجيل سير ذاتية لنساء ذوات إنجازات معينة. ولكنَّ التركيز يتم على ما نريده كحركة نسائية سياسية، وليست مسألة المرأة فقط، بل مسألة تحرُّر المرأة والرجل والمجتمع والعالم العربي... إلخ. ندرس المرأة من خلال المجتمع والمجتمع من خلال المرأة. وهذه طريقة ذكية لدراسة الواقع السياسي/ الاجتماعي بدون أنْ تتعرض لمخاطر العمل السياسي المباشر. والدراسات التي نعمل على إنجازها تقدم للفنان وللسياسي والمثقف ولكل الفئات معلومات وتحليلات تساعد في فهم الواقع.
س – هل أصدر المركز دراسات؟
س. خليفة: ما زلنا في دور تأسيس الكوادر. لدينا في نابلس ٣٦ شابة يتدرَّبن على أساليب البحث العلمي وينتجن أبحاثًا ميدانية ننتظر أنْ تصدر في مجلة سنصدرها في المستقبل (بعد شهور). من ناحية نحن ندرب كوادر للبحث العلمي ونوفر فرص عمل لشابات لا يجدن عملًا.
بدأنا المشروع في نابلس ثم انتقلنا إلى غزة، ولدينا فيها حوالي ٣٢ شابة. ونسعى إلى توسيع المشروع لنفتح في كل مدينة فرعًا.
لا ندعي أنَّنا سنقيم الدين في مالطا. لكنَّنا نقوم باختراقات غير تقليدية. نتعاون مع بعض المؤسسات وبخاصة مع الجامعات، ونحاول أنْ نحتفظ بجهد الباحثات بحيث لا ينسب إلى غيرهنَّ بعد تعب شهور وهنَّ يبحثن في المخيمات ويسجِّلن الملاحظات ويقمن بالتحليل...
س – من خلال أبحاثكن، هل يمكن أنْ نعطي صورة عن وضع المرأة في نابلس ودورها في الانتفاضة الآن؟
س: خليفة: في بحث أُجري في مدينة نابلس، وهي من أكثر المدن حدَّة في المواجهة، بعد غزة، تمَّ أخذ مجموعة كبيرة من ربات البيوت لدراسة مدى مشاركتهنَّ في الانتفاضة. كانت الصورة مذهلة في سلبيَّتها. وأنا لا أقلِّل من دور المرأة، وليس من مصلحتنا كحركة نسائية أنْ نقلِّل من دورها. ولكنْ لا بدَّ من نقل الواقع كما نراه. واقعنا هزيل وبحاجة إلى تطوير مشاركة المرأة حسبما تظهر استمارات البحوث.
س – ألا يمكن أنْ يساهم الظرف الاحتلالي في إخفاء الصورة الحقيقية لجهة الخوف من قول الحقيقة.. في ظل ظروف ليس فيها حرية كاملة، يمكن للناس أنْ لا يثقوا بالباحث؟
س. خليفة: بالطبع، تواجه الباحثة مثل هذا الظرف، لكنَّ الاستمارة تكون تحت إشراف أستاذ جامعي، يشرف على كل خطوة من خطوات البحث. ثمَّة أسئلة تشمل الكثير من الجوانب تستطيع محاصرة المرأة واستخلاص أقصى ما يمكن بطرق مختلفة حول مشاركتها أو عدمها. وجدنا أنَّ نسبة الوعي متدنِّية جدًّا. فكيف أراهن على هذه المرأة؟
نقوم بتقسيم المرأة إلى قطاعات ودراسة كل قطاع على حدَّة، ثم رسم صورة للمشهد كله. الواقع النسائي الذي درسناه حتَّى الآن مختلف جدًّا. وهذه دعوة لتطوير هذا الواقع وليس تشاؤمًا. فلو أخذنا إحصائية بالأرقام، نعرف أنَّ الثورة لم تستطع استقطاب أكثر من ٢٥٪ من الناس المؤطرين، في تنظيمات أو جمعيات، يمكن عند غربلتهم ألَّا يبقى نصف في المائة. وهذا يوضح مدى التقصير سياسيًّا واجتماعيًّا.
س – هذا في مدينة مثل نابلس. هل يمكن أنْ نتحدث عن فوارق طبقية؟
س. خليفة: نعم. المرأة في المخيمات تشارك بزخم أكبر بكثير مما هي في المدينة والأحياء الراقية بخاصَّة. حيث المرأة في المخيم لا تختار المواجهة، بل تضطر إليها. فالجندي الإسرائيلي يداهم بيتها. وهي مضطرة عندها للدفاع عن ابنها المعرض للاعتقال أو الضرب أو الاثنين معًا، وللدفاع عن نفسها. في غزة، مثلًا، معظم الإجهاضات تحدث بسبب الصدام بين المرأة وجنود الاحتلال، أو بنتيجة الغاز الملقى على الأحياء الفقيرة. فالمرأة هناك تجعلنا نطرح السؤال: فيما لو لم تفرض عليها المواجهة، هل تبادر هي للقيام بذلك؟ فماذا عن مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني؟ هل ستخرج ضد النظام الرجعي لتطالب بحقوقها: حقها في الانتخاب والمشاركة السياسية، وتطالب بالحضانات والمؤسسات؟
هذه المرأة التي تفرض عليها المواجهة فرضًا لا يمكن المراهنة على أنَّها ستخرج لتطالب بحقوقها بعد التحرر الوطني كما كانت تخرج في وجه الإسرائيليين. صحيح أنَّها تقدم تضحيات، لكنْ هذا لا يكفي. ونشعر بالتقصير سواء على مستوى الوضع الراهن في مواجهة الصهاينة أم على مستوى المواجهة الاجتماعية.
س – عودة إلى "باب الساحة". هي تطرح سؤال "من المسؤول" وهو موضوع مقلق. هل اكتفيت بطرح السؤال أم لمّحت إلى الإجابة؟
س. خليفة: أنا أعطيتك الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية السياسية التي تترك مجالًا للعملاء ليصبحوا عملاء. فهي توضيح للنظام السياسي الاجتماعي.
س – ولكنْ، هل ثمَّة إدانة لعملية قتل العملاء؟
س. خليفة: ليس ثمَّة إدانة. فأنا أدرك دوري السياسي، وأعرف أنَّنا بحاجة لاتِّخاذ قرار تجاه فتاة مهمتها مراقبة الشباب من الشباك. فالسياسي مرغم على ممارسة القتل للتخلُّص من هذا الخطر الذي تمثله.
لكنْ على المستوى الحضاري، لا أستطيع ككاتبة أنْ أهمل طرح السؤال بأبعاده السياسية الاجتماعية الاقتصادية على المدى البعيد حتَّى لا تبقى هذه الفجوة بدون ردم.
الرواية تقول بشكل واضح فاضح إنَّ نزهة ليست وحدها المسؤولة، وإنَّما ثمَّة نظام كامل عُهّر بحكم الاحتلال.
س – في الأرض المحتلَّة ٦٧، ما هي الأسماء التي تعطي بشكل يبشر بأدب جديد، وما هو المطلوب من الأدب في الأرض المحتلَّة، وما شكل الانتفاضة التي يفترض أنْ يخلقها الأدب هناك لتستطيع السير مع الانتفاضة. بمعنى آخر، ما هي الجوانب التي يفترض تطويرها في الأدب؟
س. خليفة: لا شك أنَّ هناك مؤسسات لتجميع الفنانين (بكل ألوان الفن: التشكيلي، الأدبي، ..) لكنْ هل تخلق هذه التجمعات إبداعًا؟ يمكن أنْ تقيم ندوات ولقاءات، وهذا كله لا يخلق أدبيًّا. ونحن كشريحة يمكن أنْ نساهم في خلق مناخ، لكنْ ليس في خلق إبداع.
س – لكنْ ثمَّة أسماء بدأت تبرز، المتوكل طه وعبد الناصر صالح في الشعر مثلًا، زكي درويش ومحمد وتد في الرواية..
س. خليفة: كل ما كتب حتى الآن لا يرقى إلى مستوى الطموح. وحتى الآن لم نر أعمالًا بحجم التجربة. لماذا؟ ربما لأنَّ شعبنا لم يفرز المواهب اللامعة التي تأتي نتيجة تراكم حضاري. ثمَّة مواهب قليلة، بعضها يتذبذب بين الأدب والسياسة والوظيفة والعائلة.
أذكر أنَّني أول ما بدأت أكتب، أطلعت الأستاذ الفنان اسماعيل شموط على بعض كتاباتي، فقال لي كلمة ما زلت أذكرها. قال "الموهبة وحدها لا تكفي"، وهذا صحيح ومعروف، إذ لا بد من وجود الظرف المناسب لتطوير الموهبة.
س – ما لم يكن للأديب دور إبداعي، فهل ثمَّة دور جماهيري للأديب وللفنان والفِرَق الفنية؟
س. خليفة: أنا أحب أنْ أفصل بين مسؤولية الفنان في مخاطبة الجماهير، ومسؤوليته في نقل الأداة الفنية إلى الجيل الجديد. إذا كنَّا سنبقى نتحدث عن دور الفنان الجماهيري، فهذه فكرة رومانسية ترجع إلى عصر شيلي وكيتس وبايرون الذين كانوا يؤمنون بأنَّ الشاعر يقف ويخاطب الجماهير. الآن لم يعد الجمهور ينتظر من الشاعر أنْ يحركه. يمكن أنْ يسمع منه شعرًا ويمضي. أمَّا حين ينفجر الشارع فهو لا ينفجر بفعل قصيدة أو خطبة.
أما القرَّاء، فمن هم الذين يقرأون، كم نسبتهم؟ أنا حين أنزل إلى الشارع لا أحد يعرفني. كما أنَّ كتبي محاصرة. منذ عشر سنوات لا توجد كتبي في السوق الداخلي. حتى أنَّ القرَّاء العرب في العالم العربي يعرفونني أكثر مما يعرفني الجيل الجديد في الداخل.
ثمَّة مسألة مهمة وعملية أقوم بها بعد أنْ أصبحت أحتل موقعًا في الحركة الأدبية. وهي مهمة إعطاء (كورسات) لنقل الأداة الفنية التي امتلكها لمن هم في سن الشباب من أصحاب المواهب. أي أساعدهم في تنمية مواهبهم. وهذا في رأيي يمكن أنْ يثمر. وأثناء عملي في كلية بير زيت شكَّلنا عددًا من الفرق الفنية أفرزت عازفين وملحنين لم يكن بإمكانهم أنْ يصلوا إلى ما وصلوا إليه بدون دعمنا، ولم يكن واردًا أنْ يصبحوا موسيقيين ربما. وقد بذلت جهدًا كبيرًا لإقناع جامعة بير زيت كي تتبنَّى فرقة فنية ضمن نشاطاتها الفنية.
وهكذا أقوم بتقديم تجربتي إلى الكاتبات والكتَّاب أصحاب المواهب الجديدة لخلق جيل من الكتَّاب الجدد. فلو أنَّ كل كاتب تبنَّى مجموعة من المواهب وقام بمساعدتها في عملية صقل موهبتها، لخلقنا جيلًا مبدعًا.
س – فيما يخص الحركة المسرحية النشطة في الأرض المحتلَّة، والتي تمثلت في نشاطات فرقة "بلالين" و "الحكواتي"، نلاحظ أنَّ نشاطاتها قد تراجعت، هل للانتفاضة دور في ذلك؟ بمعنى أنَّ الانتفاضة تحتاج إلى الفعل المقاوم في الحياة أكثر ممَّا تحتاج إلى الفن؟
س. خليفة: لا أعتقد ذلك. فالحركة المسرحية بدأت تتراجع قبل انطلاق الانتفاضة وتفجرها، وذلك لأسباب إدارية تتعلَّق بدور القوى السياسية التي أرادت أنْ تفرض إرادتها وبرامجها على فرقة الحكواتي مثلًا. والفنان إنْ لم يكن حرًّا لا يستطيع أنْ يعطي عطاء جيدًا.
س – جانب آخر من المشهد الثقافي للانتفاضة، وهو ما يعرف بالتعليم الشعبي، حيث جرى حديث طويل حوله. لماذا حصل التلاشي في هذا الجانب، هل بسبب عودة المدارس، المترافق مع سياسة العصا والجزرة، هل هو خمود تدريجي؟ بدون أنْ نسقط تجارب أخرى على تجربة الانتفاضة، يمكن استلهام التجربة التي خضتها أنتٍ في مجال البحث الذي يمكن أنْ يسهم في خلق قيم ثقافية من ناحية وطاقات خارج الأطر التي يحاول الاحتلال أنْ يحصرها فيها. فهل يمكن تعميم هذه التجربة، حتَّى في ظل فتح المدارس والجامعات؟
س. خليفة: في بداية الانتفاضة انطلقت العديد من المبادرات الشعبية الجماهيرية على مستوى لجان للحي، لجان للمدينة، لجان تثقيف، لجان تدريس، لجان للمرأة، لجان اقتصاد منزلي. أمَّا الآن، فأقول، وبمنتهى الألم، أنَّ الانتفاضة قد سارت في طريق آخر ولا أقول تم تنفيسها. وحتَّى لا نظل نكرِّر مآسينا من خلال النفخ في الإيجابيات حتى تنفجر ونشعر بالهزيمة، أقول الانتفاضة تمر في وضع حرج لأسباب منها انتشار سلطة التيَّار الرجعي وغياب سلطة وطنية قادرة على الحد من سلطته. ثم إنَّ الأطفال الذين نموا في ظل الانتفاضة لم يعد بالإمكان ضبطهم، ثمة مشاكل اجتماعية نخشى أنْ ندرسها بعمق...
لاحظنا أنَّ اللجان الشعبية قد ضُربت. الاقتصاد المنزلي بعد انطلاقته القوية أخذ يتراجع إلى حد الموت. التدريس الشعبي نفس الشيء. نواجه أسئلة على المستويين الفردي والجماعي. الانتفاضة قائمة بالأساس على الإضراب اليومي. استمرَّ الإضراب المنقطع النظير في التاريخ ثلاث سنوات. كم سنة ستبقى الانتفاضة لتحقِّق أهدافها؟ وهل يكفي أنْ نظل نقوم بالإضراب دون أنْ يحس العدو بهذا الإضراب؟ المجتمع الإسرائيلي يحس بآلامنا. كيف يمكن التأثير على الشعب الذي تطالب أنْ تأخذ حريتك منه دون ضغط عليه؟ الضغط كله علينا. أضرب يا تاجر، العامل مطلوب أنْ لا يذهب للعمل في إسرائيل. إضرابات ليوم ويومين وثلاثة أيام إنْ لم يكن طوال أسبوع. وإنْ لم يكن هناك إضراب، فهناك حداد. تغلق المدينة. آلية الانتفاضة أصبحت تعمل ضد شعبنا، ولا يحس بها الإسرائيليون. السؤال الآن للقيادة السياسية سواء في الداخل أم في الخارج: كيف تضغط على المجتمع الإسرائيلي لتنتزع مطالبك من بين أسنانه. هل يكفي أنْ تبقى تضرب نفسك في الداخل. لم يحدث في تاريخ الثورات أنْ تحصل على شيء دون ضغط على الجانب الآخر. نحن ندفع تضحيات دون حق. التجار يفلسون، العمال بلا عمل، المزارعون ضُربوا، الطلاب، الأطفال في الشوارع، النساء تحجبت، تضحيات، تضحيات.. يجب أنْ يحس الشارع الإسرائيلي بالألم أيضًا.
س – يجب أنْ ترسل يوميًّا نعوش؟
س. خليفة: أنت قلت ذلك، أنا لم أقله.
س – نعم وأنا أقولها، ثمَّة تجربة قريبة. في جنوب لبنان، لم تكن لتخرج إسرائيل من لبنان لولا ضحاياها. أنا لا يهمني أنْ يجلس كم مثقف في مقهى في نتانيا ويرأفوا لحالنا.
أجرى الحوار
عمر شبانه
عمان – حزيران/ يونيو ١٩٩٠