قصة الموارنة في الحرب: سيرة ذاتية
بقلم جوزيف أبو خليل.
بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1990.
قصة علاقة... لم تكتمل فصولاً
نقتطع من رواية جوزيف أبو خليل، هنا، ما عنى العلاقات بإسرائيل فقط. وعلى الرغم من أن المؤلف يعلن بداية أنها رواية تعتمد على الذاكرة بعد مرور ثلاثة عشر عاماً (ص 55)، فإنها تظل شهادة مهمة، تضيء جوانب لم تكشف من قبل في أمر هذه العلاقة، وتضيف إلى ما نشر في شأنها معلومات ووقائع مفيدة.
بداية "التعامل" كما يحددها أبو خليل، كانت في آذار/مارس 1976 "مبادرة، بل مغامرة شخصية لم يسبقها قرار سياسي" (ص 55)؛ فقد توجه إلى إسرائيل بحراً لتوفير الحاجة الملحة إلى الذخيرة لدى مقاتلي الكتائب يومذاك، بعد "التداول مع بشير الجميل" و"إبلاغ بيار الجميل بالأمر". وفي إسرائيل اجتمع أبو خليل إلى مسؤولين إسرائيليين، وخصوصاً شمعون بيرس وزير الدفاع الذي وعد بتقديم مساعدة من الذخيرة والسلاح.
لم يكن للعلاقة بإسرائيل – يقول أبو خليل – آنذاك أي طابع سياسي، بل أسلحة وذخيرة وتدريب. وبعد دخول القوات السورية المناطق المسيحية سنة 1977، بدأت العلاقات بسوريا تسوء، والعلاقات بإسرائيل "تزداد وثوقاً" (ص 71)، حتى جاء وقت كان المسيحيون فيه "يحلمون بتدخل إسرائيل في لبنان" بما يتجاوز تقديم السلاح والذخيرة والتدريب.
ويتحدث أبو خليل عن لقاء بشير الجميل – رفائيل إيتان رئيس الأركان الإسرائيلي (من دون أن يحدد التاريخ)، على ظهر طرّاد إسرائيلي قبالة مرفأ جونيه، حيث عرض إيتان على الجميل تسلم المنطقة التي "تم تطهيرها من الفلسطينيين"، ذلك بأن إيتان يعتقد أن من الجنوب يتم تحرير لبنان من الهيمنة الفلسطينية، وتكون مساعدة إسرائيل أجدى. أي أن يكون الجنوب منطلقاً للكتائب في اتجاه الداخل اللبناني. اقتنع بشير بالأمر وأرسل 300 مقاتل إلى الناقورة، لكن بيار الجميل أمر بإعادتهم (ص 75).
في إبام عملية الليطاني (14/3/1978)، زار بشير الجميل إسرائيل لاستطلاع حدود العملية. وفي حرب المائة يوم مع السوريين، التي بدأت في تموز/يوليو 1978، كان بشير يعتمد على استدراج تدخل إسرائيلي ضد السوريين (ص 84). أصبحت سوريا هي العدو، كما الوجود الفلسطيني، و "لم يبق إلا إسرائيل نستعين بها" عليهما معاً (ص 89). غير أن بيار الجميل وابنه أمين كانا متحفظين إزاء العلاقة بإسرائيل (ص 90). وكان على بشير الانتظار حتى ربيع سنة 1981، حين تحقق سعيه لحمل إسرائيل على التدخل ضد السوريين في معركة زحلة (28/4/1981). وكان على بشير أيضاً أن ينتظر إلى صيف هذه السنة ليحمل الإدارة الأميركية على الاعتراف به فيدعى إلى زيارة الولايات المتحدة (30/7/1981). إذ كان يسعى لمثل هذه العلاقة كي تحميه من "الارتهان" لإسرائيل. كما كان يتطلع إلى أن يصبح لبنان، في نظر الولايات المتحدة، في مستوى إسرائيل من حيث الأهمية والموقع والدور (ص 183).
ومنذ ذلك الوقت، لم يعد بشير يخطو خطوة في مباحثاته مع الإسرائيليين إلا بعد التشاور مع الأميركيين – فيليب حبيب أو معاونيه (ص 183).
ومع شارون في وزارة الدفاع الإسرائيلية، تبدأ مرحلة توجه إسرائيل من الاهتمام بالشريط الحدودي فقط، إلى التطلع لإقصاء م. ت. ف. عن لبنان كله. وقدم شارون وأركان حربه من عسكريين ومدنيين إلى بيروت "ليبلغنا قرار حكومته بتوجيه ضربة عسكرية إلى م. ت. ف. لا تقوم بعدها لها قائمة" (ص 185).
وتوجه أبو خليل، مع كريم بقرادوني وجورج سعادة، إلى دمشق "نسأل السيد عبد الحليم خدام الرأي فيما تلوح به إسرائيل فقال: لا نستبعد ردة الفعل الإسرائيلية لكننا لا نتصورها أكبر من عمل تأديبي لياسر عرفات محدود ومتواضع" (ص 188).
حزيران/ يونيو 1982: الاجتياح. "لم يطلعنا الإسرائيليون على خططهم، ولم نطلب ذلك، وصارحنا شارون وإيتان وغيرهما بألا يطلبوا من القوات اللبنانية التدخل في المعركة الآتية لأننا لا نريد الظهور بمظهر من يقاتل السوريين والفلسطينيين إلى جانب الإسرائيليين" (ص 197). وكانت الكتائب والقوات ترغب في أن تتم العملية الإسرائيلية قبل انتخابات رئاسة الجمهورية، إذ كان قرار ترشيح بشير قد اتخذ. وقبل الغزو تم تأليف لجان محلية من الأهلين لتساعد في مد سلطة القوات اللبنانية إلى كل رقعة تدخلها القوات الإسرائيلية (ص 199). وكان يفترض أن تتوج العملية الإسرائيلية، بالصلح بين لبنان وإسرائيل (ص 199– 200).
23 آب/ أغسطس 1982: انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية بحماية الإسرائيليين. ولم تمض أيام على ذلك، حتى جاء موعد الاستحقاق الذي تنتظره إسرائيل: معاهدة السلام (ص 221). وكان اللقاء في نهاريا (ليل 1/9/1982) بين بيغن وبشير "الرئيس المنتخب"، حيث طلب بيغن موقفاً علنياً من "الرئيس بشير" في أقرب وقت يؤكد فيه عزمه على تحقيق السلام مع إسرائيل (ص 223). وقد اشترط بشير السرية التامة للاجتماع، لكن أجهزة الإعلام كشفته. وكان رد بشير: "سأعهد إلى رئيس الحكومة العتيدة بأمر مفاوضتكم على الانسحاب من لبنان وشروطه وأثمانه. وما يوافق عليه رئيس الحكومة المسلم أوافق أنا عليه..." (ص 224). وعقدت خلوة بين بيغن وبشير لم تؤد إلى تفاهم. وانقطع بشير عن الاتصال بالإسرائيليين مدة 12 يوماً انتهت بزيارة شارون لبشير في بلدته بكفيا، حيث اجتمعا مطولاً لإزالة سوء التفاهم. ولم يعرف ما تم بينهما، فقد اغتيل بشير بعد يومين من الاجتماع (ص 224).
وينتقل أبو خليل إلى متابعة الرواية مع بطل آخر: أمين الجميل الذي انتخب رئيساً في أعقاب اغتيال شقيقه. و "من منطلق الحذر المتبادل وسوء الظن المتبادل أيضاً بدأ التعاطي بين الرئيس أمين الجميل والجانب الإسرائيلي. فلا هو كان من أنصار المشروع الذي ساهم شقيقه في صنعه، ولا إسرائيل كانت ترى فيه ما تراه في الشيخ بشير، كصديق أو حليف" (ص 234). وراح أبو خليل يقوم بدور "الوسيط بين الرئيس الجميل والجانب الإسرائيلي، وبينه وبين القيادة الجديدة للقوات اللبنانية" التي حل فيها فادي إفرام محل بشير الجميل. وقد ازدادت العلاقة بين القوات اللبنانية وإسرائيل وثوقاً، لكن محاولات التوفيق بين أمين والإسرائيليين باءت بالفشل (ص 236).
17 أيلول/سبتمبر 1982: مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان الغرض منها تهجير ما تبقى من الفلسطينيين عن العاصمة وضواحيها. والمرجح أنها تمت بالتفاهم والتعاون بين بعض الضباط الإسرائيليين وبعض القياديين في القوات اللبنانية (ص 237). وقد أوفد الإسرائيليون رفول إيتان والجنرال أمير دروري ليطلبا من الكتائب إذاعة بيان تنسب فيه العملية إلى "عناصر غير منضبطة" من الحزب (ص 238).
وفي ما تلا من أيام، يرصد أبو خليل "تبدلاً خطيراً" في الخطط الإسرائيلية، تلوح تباشيره في تصرفاتهم في إبان حرب الجبل. "إذ عندما تبين لإسرائيل أن لبنان الواحد عاجز عن الدخول في صلح معها، بدت كما لو أنها تستعيض عن هذا الصلح بصلح منفرد مع كل طائفة من الطوائف اللبنانية، على حدة". "وقد لاحظت شخصياً أن محدثينا من الجانب الإسرائيلي بدأوا يكثرون الكلام على نظام الكانتونات كبديل من النظام الوحدوي" (ص 243).
وفي هذا التوجه، توسط وفد نيابي إسرائيلي بين الكتائب والدروز "من زاوية الاقتناع الكامل بحق هؤلاء في أن يكون الجبل الشوفي منطقة نفوذ لهم كما كسروان، مثلاً، بالنسبة إلى الموارنة" (ص 243). و"بدا واضحاً أن الجانب الإسرائيلي، وقد ضمن الصلح مع المسيحيين، يخطط لصلح مماثل مع الدروز في الجبل ثم مع الشيعة في الجنوب بحيث يصبح الجبل كله مع الجنوب منطقة أمن وسلام بالنسبة إلى إسرائيل، مقسمة إلى كانتونات..." (ص 243).
وعلى الرغم من أن المسيحيين، "بانسياق عاطفي وغريزي" (ص 257)، كانوا يريدون من الرئيس أمين الجميل توقيع اتفاق 17 أيار/مايو، فإنه رفض ذلك وفهمه على أنه "انحياز كامل لإسرائيل" يضع المسيحيين ومناطقهم تحت حمايتها.
وبعد تهجير مسيحيي إقليم الخرّوب وشرقي صيدا في اتجاه "المناطق الشرقية" و"الشريط الحدودي"، تأكد للمؤلف أن الغاية مما يحدث هي خلق أمر واقع جديد يتمثل في ثلاثة كانتونات كما جاء أعلاه (ص 270). وليس مصادفة أن يكون محور "طريق الشام" هو الفاصل بين الحضورين السوري والإسرائيلي (ص 272). وينسجم هذا التوجه مع ما تطالب القوات اللبنانية به من نظام فدرالي يجعل من جبل لبنان "دولة محايدة إقليمياً ودولياً" (ص 300).
ويرى المؤلف أن الخطوط الحمر الإسرائيلية تقسم لبنان إلى دويلات، وأن إسرائيل ملتزمة حماية هذه الخطوط التزامها أمن حدودها الشمالية (ص 336). كما يرى أن خطة تهجير المسيحيين في اتجاه الحدود تهدف إلى خلق منطقة عازلة وحرس حدود لإسرائيل، كما تهدف في المقابل إلى تهجير الشيعة من الجنوب نحو الشمال، وكذلك السنة من صيدا نحو الشمال (ص 342).
ويعتقد المؤلف أخيراً أن إحياء لبنان كدولة يتوقف على "إقفال الجرح المفتوح في خاصرته – في الجنوب" (ص 437). "ولو يدري الذين فتحوا النار على إسرائيل من جنوب لبنان عام 1969 أي خطيئة يرتكبون لكانوا اليوم ينتحرون. فما فعلوه في ذلك الحين هو أنهم كانوا يقدمون لدولة إسرائيل الفرصة لتصحيح الحدود... وما يسمى بالمنطقة الأمنية ليس إلا مشروع تصحيح الحدود المشتركة مع لبنان..." (ص 438).
على الرغم من أن رواية جوزيف أبو خليل غير موثقة وتعتمد غالباً على الذاكرة، وفيها الكثير من الثغرات، وعلى الرغم من محاولاته – الساذجة وغير الموفقة أحياناً – إلغاء أو تمويه حقائق تاريخية معروفة، وبصرف النظر عن الآر اء الشخصية المبثوثة هنا وهناك في صفحات الكتاب، ولا مجال الآن لتفنيدها، فإن هذه الرواية تبقى شهادة مهمة غنية بالمعلومات عن فترة دقيقة لا من تاريخ لبنان وحربه فحسب بل أيضاً من تاريخ المنطقة العربية كلها الذي لخصته هذه الحرب، ولا تزال تلخصه وتسوقه فيما تشتهي إسرائيل وتطمح إلى تحقيقه.
وفي ضوء رواية أبو خليل يمكن وضع الكثير من أحداث تلك الحقبة في سياقها التاريخي، بل يمكن إضاءة الكثير مما لا يزال يحدث على المسرح اللبناني ويتصل اتصالاً عميقاً بجوهر الصراع مع إسرائيل والمخططات الأميركية – الإسرائيلية لصوغ مستقبل المنطقة، وأدوار القوى الإقليمية والمحلية في ذلك.