يعرض هذا المقال دور وأهداف "أيام فلسطين الثقافية" أي اللقاء الثقافي الذي يعقده بعض المثقفين العرب في القاهرة بتنظيم من منظمة التحرير الفلسطينية. كما يحاول إبراز أهمية هذا اللقاء في تحفيز المشاركين فيه حتى بعد إنتهائه وأهمية الإنتفاضة الفلسطينية في إعادة بعث الثقافة الفلسطينية (ومن خلالها الثقافة العربية) وفي صوغ أسئلة الثقافة العربية إنطلاقاً من الأفق الذي تفتحه، مقترحاً في الختام أن يكون هذا اللقاء مترجماً لحقيقة الثورة الفلسطينية وأن تلعب تجربة فلسطين دور الوسيط في مجال إعادة صوغ أسئلة الثقافة وبلورة الممكنات.
كان هناك طابع حميمي يميز "أيام فلسطين الثقافية" في القاهرة (10 – 16 كانون الثاني/ يناير 1990) التي نظمتها دائرة الثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. عدد لا بأس فيه من الأدباء والمثقفين الفلسطينيين والعرب يلتقي تحت شمس القاهرة الساطعة (على الرغم من فصل الشتاء) وقد أصبحت، من جديد، صلة وصل بين من يعيشون داخل فلسطين المحتلة أو في المنافي، وبين المثقفين المصريين والوافدين من أقطار عربية أخرى. وكان طموح منظمي اللقاء فتح الطريق أمام تطارح قضايا حساسة وكثيرة، تمسّ الثقافة والأدب والسينما والمسرح والغناء، انطلاقاً من تحربة فلسطين الماثلة أبداً في عمق السؤال الثقافي العربي.
لقد ساهمتُ، شخصياً، بمداخلة عن "فلسطين" و "السؤال الثقافي العربي"، وشاركت في مناقشة بعض العروض، واستمعت إلى آراء الزملاء والأصدقاء، وصفّقت للّحظات البهيجة والمؤثرة من العُرس الثقافي الفلسطيني.. لكنني أحس الآن، بعد مضي ثلاثة أسابيع على ذلك اللقاء، بأن هناك أشياء كثيرة تستحق التأمل ومعاودة التفكير فيها؛ فلم يكن اللقاء مجرد فرصة يسجل المثقفون من خلالها مساندتهم لقضية فلسطين، وإنما هو تحفيز للمشاركين من أجل مجابهة بعض الأسئلة المسكوت عنها: هل تقتصر تجربة فلسطين وثورتها على الجانب السياسي؟ أم أن أهمية حضورها وقوة إشعاعها تعودان، أساساً، إلى الأبعاد الثقافية الكامنة في مختلف الطروحات والممارسات المواكبة للفعل الفلسطيني منذ انطلاق رصاصات سنة 1965 الأولى؟
ليس هنا مجال تحليل مختلف التصورات والمستويات الثقافية التي وجّهت الصراع الفلسطيني في مرحلته الجديدة، من سنة 1965 إلى قيام الانتفاضة. ولا شك في أن التحليل سيبرز معالم مشتركة بين الخلفية الثقافية الموجهة للثورة الفلسطينية وبين الخلفية الثقافية العربية العامة، بحكم التفاعل القائم بين الجزء والكل، وبحكم كثير من السمات المشتركة داخل الحقل الثقافي العربي.. لكن هناك خصوصية ثقافية فلسطينية تشكّلت ملامحها في ضوء الفعل المقاوم، ومواجهة الاستيطان الصهيوني المهدِّد للهوية والكيان والذاكرة والثقافة. وجاءت الانتفاضة منذ عامين لتبرز وتؤكد أن رهان الثورة الفلسطينية هو، في الأساس، رهان ثقافي بالمعنى العميق: الثقافة بوصفها هوية وانتماء إلى العصر، تراثاً وتأصيلاً، تمثُّلاً للتاريخ وإبداعاً لصيغة حياة، تحريراً للأرض والذاكرة وتجاوزاً لسلبيات الماضي.
هكذا تعود الثقافة الفلسطينية (ومن خلالها الثقافة العربية) إلى رحمها الخلاّق داخل مشاهد الانتفاضة الملحمية: يصبح الفعل السياسي – كي يكتسب مصداقيته – محكوماً عليه بأن يتجسد على أرض الواقع والصراع مع العدو، مشخِّصاً لقيم ثقافية وسلوكية عارية من جميع الغلائل الأيديولوجية الحاجبة لجوهر الصراع.. لا يعود الخطاب معوِّضاً للفعل، ولا الفعل تبريراً للانتماء الأيديولوجي.. بل يستعيد الثقافي والسياسي جدليتهما، ويُصبح تَمَفْصُل المعرفي والأيديولوجي لحظة رافدة للفعل السياسي القادر على تحقيق انتصارات وتغييرات.
وهذه الوضعية الفلسطينية تسمح بممارسة ثقافية جديدة، وتحثنا جميعاً على أن نعيد صوغ أسئلة الثقافة العربية انطلاقاً من الأفق الذي تفتحه أمامنا انتفاضة كانون الأول/ ديسمبر 1987. وأعتقد أن من أهم ما يستحق التحليل والتأمل، ذلك الوضع "الامتيازي" لفلسطين التي تعيش تجربتها التحريرية وكفاحها في سبيل الاستقلال خلال ربع قرن ملآن بالتحولات العربية والعالمية، العلمية والأيديولوجية.. تعيشها من خارج الإطار الدَوْلتي (étatique) السلطوي، القُطري، المجسِّد لهيمنة المجتمع السياسي القسرية، وإخصاء المجتمعات المدنية العربية.. إن أهمية تجربة فلسطين، ثقافياً، تتجلى في مجموعة من الشروط تتيح لها أن تعيش التجربة الثقافية بحرّية وفي ظل حِواريّة ديمقراطية، بعيداً عن التسخين والتكلس والتعصب اللاّهوتي..
وهنا يكمن حظ الثقافة العربية..
وهذا بالضبط ما أريد تأكيده، وما أودّ قوله بعد لقاء القاهرة:
يجب ألا تتحول هذه المبادرة إلى "تقليد" رتيب تنظمه دولة فلسطين للتعريف بالثقافة الفلسطينية وإنجازاتها وإضافتها.. مثلما تقتضي ذلك مستلزمات الدولة ونشاطاتها.. وإنما يجب أن يكون هذا اللقاء مترجماً لحقيقة الثورة الفلسطينية، أي لرهانها الثقافي – الحضاري الذي هو مدخل لكل حوار ثقافي عربي ملتصق بالملموس، ومتطلع إلى نقد الممارسات والفكر وصيغ الحياة.
هذا، بطبيعة الحال، لا ينُوب عن المثقفين في مجموع العالم العربي، ولا يعوض من دورهم الخاص، كل في قُطره.. وإنما أريد للسؤال الثقافي العربي أن يأخذ حجمه وتأثيره عبر السؤال الثقافي الفلسطيني المتميّز – لتوافُر شروط معينة راهناً – بهدف الخروج من حلقة الأسئلة المفرغة، ومن نطاق العلموية ونموذجية "الآخر"..
وأظن أن تجربة فلسطين مهيأة لأن تضطلع بدور الوسيط الحافز في مجال إعادة صوغ أسئلة الثقافة وبلورة الممكنات. وما ننتظره من دولة فلسطين هو أن تجعل الثقافة – بالمعنى المشار إليه – في طليعة الاهتمامات وضمن الإضافات التي تستحق التحليل والتأمل والأخذ على العاتق.
الرباط، 7/2/1990