يهدف هذا المقال إذاً إلى إعادة تحليل وقراءة بعض الأحداث البارزة التي أساء الإعلام قراءتها محاولاً ربطها بكلّ العناصر التي يتألف منها الصراع العربي - الإسرائيلي. فيتحدّث عن معركة بيروت سنة 1982 وعن الحروب العربية - الإسرائيلية، عن "المآزق المتعددة" التي مرّت بها "الغزوة الصهيونية لفلسطين"، وعن الهجرة السوفياتية إلى إسرائيل وعن التفاعل الحالي للقضية الفلسطينية في الجانب العربي. مقدماً في الختام عدداً من المقترحات التي من شأنها أن تقوّي المواقف العربية وتخدم مصلحة العرب ومصلحة القضية الفلسطينية
الإعلام والوقائع
يتبدى الصراع العربي – الإسرائيلي من خلال أحداث بارزة تقع بين الحين والحين، فتدور في شأنها الأخبار والأفكار، ويتركز الإعلام عليها. وبما أن من طبيعة الإعلام أن يضخم الأمور القابلة للتضخيم، ويعطيها نكهة الإثارة والمسرحة، فإن من واجب التحليل أن يقف وقفة متأنية عند تلك الأحداث، ويحاول ربطها بكل العناصر التي يتألف الصراع منها.
ولا بد من الإقرار بأنه عندما يجري الحديث عن صراع قائم، فإن الالتزام الموضوعي ينخفض إلى حد كبير، وتعلو عليه اعتبارات التأثير المرتجى، سياسياً ونفسانياً، بل عسكرياً أيضاً. فمن المؤكد أن من أهم "الأسلحة" التي تستخدم في أي صراع سلاح التأثير النفساني، شحذا لهمة وتثبيطاً لأخرى، أو إشاعة للثقة، أو نشرا للوجوم والتشاؤم. إذ إن كل صراع يحتاج في النهاية إلى تصميم، ومثابرة، وصبر؛ وتلك كلها "حالات" نفسانية تتأثر، إلى حد كبير، بالتفسير المقبول للأحداث الجارية. وللإعلام دور أساسي في طبع هذا التفسير.
كذلك، يشكل العرض الإعلامي لأي موضوع انعكاساً لمواقف وسياسات، صريحة أو ضمنية، بشأنه. فالإعلام "الوجومي" السائد في "الوسائط" العربية منذ عقد ونصف العقد، يعكس القرار أكثر مما يعكس واقع الحال، ويتناقض حتماً مع منجزات مهمة أحرزها الجانب العربي، وربما يعكس أيضاً رغبة في تجنب التأثيرات التي سوف تحدثها صورة إعلامية أكثر توازناً.
ولا بد من الإقرار أخيراً بأن العدو يملك قدرة مرموقة على استخدام السلاح النفساني؛ فلا بد، بالتالي، من أن تكون الوقفة عند تحركات عناصر الجبهة النفسانية أكثر تعمقاً. فنحن نتحدث كثيراً عن الأخطاء التي نرتكبها في الجبهتين العسكرية والسياسية، لكن قلما نتأمل أخطاءنا في الجبهة النفسانية. ولعل أبرز الأمثلة لذلك، أن الإعلام العربي لم يكد يروي حكاية النصر الذي تحقق في معركة لبنان سنة 1982، وبالأخص معركة بيروت الكبرى، وركّز بدلاً من ذلك على انسحاب المقاومة الفلسطينية من بيروت، ثم صوّر هذا الانسحاب بالذات أنه هزيمة. وهكذا بدت معركة لبنان التي ربحناها أنها معركة خسرناها. ولا وَقَفَ الإعلام العربي عند عجز إسرائيل عن فرض معاهدة صلح مع لبنان، على الرغم من ضعفه وتفككه وانغماسه في حرب أهلية طاحنة، وعلى الرغم من التصدي الدولي لفرض مثل هذه المعاهدة، بل وقف عند موضوع "الحزام الأمني". فالحادث الأول يظهر ضعف إسرائيل، أما الثاني فيظهر قدرتها.
ومن الأمثلة الحديثة لهذه الظاهرة، الطريقة التي يعالج بها موضوع هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، من خلال منظور إعلامي لا يكاد يتناول جوانب هذا الموضوع المتعددة. بل يختار جانباً واحداً من دون محاولة التعرف إلى وقائعه الأساسية وأرقامه وإمكاناته الحقيقية. ولئن قيل أن القصد هو استحفاز العرب واستثارتهم، فيجب ألا يغي عن البال أن هنالك جانباً آخر للتأثير الإعلامي، وهو وقع هذا الإعلام على معنويات النضال الفلسطيني المتمثل الآن في الانتفاضة، وعلى معنويات الشعب الفلسطيني في كل مكان؛ وهذا أمر مهم للغاية باعتبار أن القضية الفلسطينية قد عادث تتمحور حول الشعب الفلسطيني.
موضوعات الساعة وحقائق كل ساعة
إن موضوعات الساعة التي تطرحها الأحداث ويتناولها الإعلام تتغير بسرعة كبيرة. وقد يبرز عدد منها في وقت واحد، فيتنقل الإعلام من واحد إلى آخر من دون التعمق في أي منها. وهكذا تبقى المعالجات سطحية من ناحية، وغير مرتبطة بالعوامل التي ترسخت على مدى أطول من الزمن، ولا بالصورة البعيدة المدى للصراع العربي – الإسرائيلي ومقرراته ومتغيراته.
فإعلام اليوم يتحدث عن وطن بديل للفلسطينيين يخشى أن يكون في الأردن. وإعلام ما قبل اليوم تحدث عن وطن بديل للفلسطينيين، زعم أنه سيكون في لبنان. وكأن الأوطان البديلة أثواب تبدل بين لحظة وأخرى، وتخلع على ممثل مسرحي لتعطيه هيئة بعد أخرى. وقد يردد الإعلام تهديداً إسرائيلياً بتهجير العرب من الضفة والقطاع، ويهوله كأنه أمر سيقع غداً أو بعده.
وقد يكون حادث اليوم هو حادث مهاجمة الحافلة الإسرائيلية على طريق الإسماعيلية – القاهرة. فيتفجر الحادث من دون ربط له بأي مظهر، أو واقع من وقائع القضية الفلسطينية، أو خيار من خيارات النضال الفلسطيني.
وتظل الانتفاضة موضوعاً إعلامياً لكن إذا استثنينا المحاولة الإبداعية التي تتجلى في تهيئة صفحة كاملة أسبوعية تنشر في عدد كبير من الصحف العربية في وقت واحد، ويساهم في كتابتها نخبة من الكتّاب العرب، لوجدنا أن الإعلام قد أخذ يبرز الانتفاضة من خلال إحصاءات تجريدية يمكن وضع القياسات المسبقة لها وتوقع أرقامها من دون أن يكون لهذه الأرقام وقع خاص، بل يضاف إلى تجردها الإيقاع التكراري لها، والذي يكاد يطمس معالم الحقيقة والبطولة والنضال والتضحية فيها.
وفي المقابل، فإن المشهد الإسرائيلي السياسي قد أصبح، هو الآخر أيضاً، موضوعاً إعلامياً. فالأزمات الوزارية، والاجتماعات الحكومية الأسبوعية، والاتصالات الإسرائيلية – الأميركية، كلها تعتبر من الموضوعات البارزة للإعلام العربي. لكن لا يكاد أحد يدرك مدى تأثير الأسلوب الإعلامي في التعامل مع هذه الأمور على تطبيع النظرة إلى إسرائيل، في الوقت الذي يفتش الصراع عن مجالات جديدة. وربما يغلب على هذه المشاهد الطابع العابر منها، من دون أن توصل بالعمق الخلفي لها، حيث أن النتيجة تبدو في النهاية منفصلة عن واقع هذه التحركات وعمقها ومعناها.
العقل العربي وإسرائيل
ما زال العربي يتعامل مع إسرائيل من منطلقات الدينامية الإسرائيلية التي تبدت في تأسيس دولة إسرائيل وتوسعها منذ سنة 1948؛ بل لنقل قبل ذلك، منذ مطلع الأربعينات، عندما سلك اليهود سبيل العنف الإسرائيلي والإرهاب والحرب في سبيل تحقيق مآربهم.
وقد تركت الحروب الإسرائيلية – العربية الثلاث، وهي حرب 1948 – 1949، وحرب 1956، وحرب 1967، انطباعاً هزّ العقل العربي، وربما وجّهه في النهاية إلى نمط محدد من التفكير، فيما يتعلق بإسرائيل والصهيونية والعالمية والصراع العربي معهما.
ولم تنجح حرب 1973 في تغيير هذه الصورة، على الرغم من الإنجاز المصري الكبير في المراحل الأولى من الحرب في معركة العبور. لكن الحرب انتهت إلى هزيمة سياسية عربية، تجلت في المفاوضات بين مصر وإسرائيل التي تكللت باتفاق كامب ديفيد سنة 1978، والمعاهدة المصرية – الإسرائيلية سنة 1979.
لكن الواقع أن تغيراً كبيراً قد طرأ على الساحة والمشهد، يمكن إيجازه بعبارة واحدة هي أن جميع الانتصارات العسكرية الإسرائيلية، ومن دون استثناء، كانت نتيجة اختلال فادح في الموازنة النفسية بين الطرفين. فالإسرائيليون لم يكادوا يخوضون معارك ميدانية حقيقية لأنهم كانوا في كل مرة يحدثون اختراقات نفسية، قبل المعركة، تؤدي إلى انهيار الجبهة المقابلة بمجرد حدوث التحرك العسكري. وكان هذا الواقع يتبدى في تصرفات الجيوش، وفي مدة القتال، وفي الالتجاء المبكر إلى آليات وقف إطلاق النار.
لكن الميزان النفساني قد تغير في حرب 1982، حين "استفردت" إسرائيل بالقوات الفلسطينية النظامية وغير النظامي الموجودة على أرض لبنان والمتحالفة مع القوى الوطنية اللبنانية، وحاولت إسقاطها بـ"الضربة المعنوية القاضية"، مستخدمة "لجنة الإنقاذ اللبنانية" كآلية لتحقيق الاستسلام المطلوب من الفلسطينيين. غير أنه عندما لم تحدث الضربة المعنوية أثرها في شل الإرادة القتالية العربية، أُصيب العدو نفسه عسكري شامل، ففشل في إدارة معركته العسكرية، وارتد الوهن النفسي إليه أول مرة. ويمكن القول إن العرب لم يتوقفوا توقفاً كافياً أمام هذا الحدث الكبير.
ولئن كنا لا نزال نسمع الكثير عن احتمالات اندفاع إسرائيلي عسكري، فعلينا أن نتذكر أمرين: أولهما أن إسرائيل نفسها ستفكّر ألف مرة قبل الإقدام على مثل هذا الاندفاع. وثانيهما أن وسائل إحباطه والقضاء عليه هي الآن في متناول أيدينا مهما يكن زخمه عند البداية، إذا صمدنا نفسياً أمام ضرباته الأولى. وفي هذه المرة، فإن الأمر سيختلف من حيث وجود قدرات لهجوم عربي معاكس، بينما شلت قدرات المقاومة الفلسطينية على القيام بهجوم معاكس سنة 1982، ولم تستعد هذه القدرة إلا بعد وقت، ومن خلال تدرج فوّت عليها فرصة استغلال الأثر المعنوي الكبير الذي حققته في معركة بيروت الكبرى.
إسرائيل الكبرى وإسرائيل الصغرى وإسرائيل الكبرى
تحدث وزير الخارجية الأميركية أمام القيادات اليهودية الأميركية، وفي رحاب اللجنة الإسرائيلية الأميركية للشؤون العامة "إيباك" (AIPAC) في بداية تسلمه مهماته في منصبه كوزير للخارجية الأميركية، فذكر أن حلم إسرائيل الكبرى لم يعد واقعياً. وكانت هذه أول إشارة أميركية مستندة إلى هزيمة إسرائيل سنة 1982، باعتبار أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي اندفع في اتجاهات ثلاثة على الساحل وفي الجبال وفي البقاع بمحاذاة الحدود السورية، كان يهدف في الحقيقة إلى تحقيق انهيار عربي عسكري على غرار انهيار سنة 1967، ويمهّد الطريق لاحتلال أراض عربية وضمها، والانتقال من جبهة إلى جبهة، تماماً كما حدث سنة 1967. وربما ما كانت الجبهة المصرية ذاتها لتسلم على الرغم من "كامب ديفيد"، لو تحققت أهداف الضربة العسكرية النفسانية التي خططتها إسرائيل ونالت موافقة أميركا (ألكسندر هيغ، وزير خارجية أميركا) على تحقيقها.
فالفشل العسكري النفساني كان فشلاً إسرائيلياً – أميركياً مشتركاً. ولقد حاولت أميركا آنذاك أن تغطيه بإنزال "المارينز" إلى بيروت. لكنها هي الأخرى تلقت ضربة أحدثت تموجات نفسانية اضطرتها إلى الانسحاب السريع. ولم تستخلص درسها كاملاً إلا في خطاب بيكر عن لاواقعية إسرائيل الكبرى. ولعل تصريح بيكر هذا أيضاً شكّل الافتراق الوحيد عن سياسة ريغان – شولتس، وإنْ بدا مثقلاً باحتمالات ذات أهمية.
ومن الواضح أن اليهود الأميركيين وإسرائيل والقوى اليهودية العالمية لم تقبل هذا التفسير الذي تقدم بيكر به، لأنه لو تحقق لكان بداية المسار العكسي لإسرائيل انتقالاً من تصور "إسرائيل الكبرى" إلى "إسرائيل صغرى" وإلى "إسرائيل أخرى".
ولئن كان خطاب بيكر أمام "إيباك" (AIPAC) إحدى الظواهر التي تعكس المأزق الذي كانت إسرائيل قد وصلت إليه في مطلع سنة 1989، فإن لهذا المأزق مظاهر أخرى لا بد من استيعابها؛ فهو في الحقيقة ليس مجرد تعبير عن الضمور العسكري لإسرائيل وما استتبعه من ضمور الأحلام المبنية على الافتراضات العسكرية، بل هو يعكس أيضاً تغيرات مهمة حدثت على الساحة الإسرائيلية والساحة الفلسطينية معاً.
فعلى الساحة الإسرائيلية، نشاهد ثلاث حقائق بارزة: أولها الهجرة المعاكسة التي أصبحت ظاهرة طبيعية في إسرائيل منذ منتصف السبعينات، وتكاثرت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. ومن المؤكد أن الإحصاءات الإسرائيلية المنشورة لا تبرز حقائق هذه الهجرة بل بالعكس تحاول إخفاءها وتخفي معالمها إذا أمكن. لكن المؤشرات الخفية تبين أنها مرتفعة وربما تكون قد بلغت رقماً يقارب مائة ألف مهاجر سنوياً. ويذهب هؤلاء المهاجرون، في معظمهم، إلى أميركا ويغلب أن يحتفظوا بجنسيتهم الإسرائيلية إلى جانب الحصول على حقوق الإقامة في أميركا. ومن الطبيعي أن تكون هذه الهجرة هجرة شباب متطلعين إلى فرص أكثر للعمل والترقي والثراء. ولا نعرف دراسة لهذه الظاهرة، سواء لناحية أعدادها أو لناحية الحوافز التي تكمن وراءها، والتي إذا استمرت ستظل محرّكة لها إلى أمد لا يمكن تحديده. ومن المؤكد أن هذه الهجرة، في جانبيها الكمي والنوعي، قد أثرت في تركيبة القوات المسلحة الإسرائيلية وبالأخص القوات البرية، كما أصابت في الصميم مفهوم الاحتياط الذي كان دوماً يشكل محوراً أساسياً في التعبئة العسكرية الإسرائيلية، وفي التنظيم اليوم للتدريب ولنواحي الحياة كافة. ولقد أصبحت القوات البرية الإسرائيلية الآن أكثر اعتماداً على الفتيان من طلبة الصفوف الثانوية العليا بعد أن دمجت منظماتهم – "الغدناع" و"الناحل" – في القوات البرية. وقد أثبت هؤلاء الفتيان عجزاً ظاهراً في أثناء اجتياح لبنان سنة 1982، وشكلوا عبئاً على القوات البرية. والظاهر أن التكون العمري للسكان لم يعد يسمح بتجميع قوة برية ذات سوية عمرية متلائمة ومتوازنة، وتبدو هذه نقطة ضعف قاتلة. ومن هنا، فإن إسرائيل تكاد تعتمد اعتماداً كلياً، في "ردعها العسكري، على القوات الجوية، لكن ضعف القوات البرية قد قلّم قدراتها الهجومية. وربما كانت هذه من أهم الحقائق التي دعت بيكر إلى التنويه بلاواقعية إسرائيل الكبرى. أما الضعف الثاني الذي تعانيه إسرائيل فهو التآكل في تركيبة إسرائيل الاقتصادية، سواء لناحية طغيان القطاع الاشتراكي (قطاع الهستدروت)، أو لناحية ارتفاع الأكلاف، أو لناحية صغر حجم المنشآت، أو لناحية الانقطاع عن الأسواق العربية، أو لناحية الاعتماد على أسواق دول متفوقة تكنولوجيا في الوقت الذي تنتقل إسرائيل إلى محاولة لإنتاج السلع ذات التكنولوجيات العالمية، أو لناحية اضطراب السياسات الاقتصادية الداخلية وارتفاع الضرائب. وليس سراً، مثلاً، أن حزب العمل الإسرائيلي لم يشارك في الحكومة الائتلافية إلا من أجل استلام وزارة المال، وما كان ذلك من أجل ترشيد السياسات المالية بل لإنقاذ قطاع الهستدروت بعد الانهيار الذي تعرض مجمّع "كور" له. وأما الضعف الثالث الذي تشكو إسرائيل منه، فهو تباهت الزخم العقائدي وتفتح الرغائب التي تسود العالم في الحصول على مستوى معيشي أرغد في أوضاع أفضل من السكن وتوفر السلع نوعاً وكماً.
هذه العوامل أثارت قلقاً عميقاً في إسرائيل ولدى يهود أميركا. ولقد قامت إسرائيل بمحاولات محمومة لسد الثغرات، مثل استجلات يهود الفلاشا لملء فراغ سكاني. لكن أكثر ما اعتمدت عليه هو الإيهام النفسي بقوتها وثباتها وصمودها.
المآزق المتعددة والجواب الواحد
لقد مرت الغزوة الصهيونية لفلسطين بمآزق متعددة كانت تتخلص من كل واحد منها بأسلوب واحد متكرر. فأول هذه المآزق كان نجاح النضال الفلسطيني في الحصول من الحكومة البريطانية على "الكتاب الأبيض" لسنة 1939. وقد أجابت إسرائيل عليه بالتوجه العنفي ضد بريطانيا ما بين سنتي 1940 و1945. ثم كان المأزق الثاني حين فكر الرئيس ترومان سنة 1948 باستبدال الاندفاع الأميركي نحو التقسيم إلى محاولة لبسط وصاية دولية على فلسطين، بعد أن ظهرت خشية من الموقف العربي المعاكس، وبعد أن أبدى السفراء الأميركيون في الشرق الأوسط تخوفهم من الاندفاع وراء سياسة خلق دولة يهودية. لكن حاييم وايزمن نجح في الحصول على مهلة لإسكات الأصوات والمواقف العربية وإسقاطها. فكانت المعارك التي جرت في نيسان/ أبريل 1948، والتي أصيب العرب الفلسطينيون فيها بهزائم كبيرة وفقدوا بها الجانب الأهم من بلدهم. وفي سنة 1956. وفي سنة 1956، ظهرت مشكلات داخلية في إسرائيل بعد انتهاء الاستيعاب الكامل لموجة الهجرة، وتفريغ مستودعات الوجود اليهودي الجاهزة للهجرة، وبرزت في إسرائيل دعوات إلى الصلح مع العرب، وبالأخص مع مصر التي بدت في شكل خطر يهدد وجودها. لكن حرب 1956 كانت الجواب على هذا الوضع. وفي سنة 1967، واجهت إسرائيل مأزق "المياه" لكنها خرجت منه بالحرب التي انتصرت فيها تلك السنة. وبعبارة أخرى، فإن الجواب الإسرائيلي هو دائماً الحرب للخروج من أي مأزق، ولتحقيق التوسع وصولاً إلى إسرائيل الكبرى. فهل في إمكان إسرائيل أن تشن حرباً جديدة من هذا النوع؟ هذا ما تخشاه دول عربية كثيرة، وهذا هو التفسير لسياسة التوازن الاستراتيجي لسوريا، ولتركيز الأردن على بناء قواته المسلحة، ولقبول مصر بوجود قوات دولية على أرض سيناء حاجزاً بينها وبين إسرائيل، فضلاً عن صلح كامب ديفيد. إلا إن قدرة إسرائيل الهجومية يجب أن تدرس في ضوء الأحداث والتغيرات التركيبية التي جرت في عقد الثمانينات، وهي لا توحي بوجود قدرة هجومية إسرائيلية قادرة على تحقيق انتصارات سريعة ومؤثرة، بل بوجود خطر من تكرار هزيمة 1982 على نطاق أكبر وأشد حسماً.
الهجرة السوفياتية إلى إسرائيل
كانت أعين الصهيونية العالمية مركزة منذ سنة 1967 على اليهود السوفيات، بوصفهم "الأمل السكاني" لإسرائيل. وفي سنة 1974 تقدم كيسنجر، في إطار "الانفراج" (Détante)، باقتراح إلى الاتحاد السوفياتي يتضمن فتح ائتمانات تجارية وإقامة تعاون تقني بين الاتحاد السوفياتي وأميركا لقاء سماح الاتحاد السوفياتي بهجرة يهوده إلى فلسطين. وقد انهارت المحادثات أمام هذا الشرط لأن الاتحاد السوفياتي كان ينظر إلى الصهيونية في بلاده كحركة انفصالية داخلية. لكنه، منذ أن حزم أمره على التساهل مع التطور "الانفصالي" للجمهوريات والقوميات، مما قد يعني عدم الممانعة في تفكيك الامبراطورية السوفياتي، لم يعد يرى سبباً للإصرار على الممانعة في هجرة اليهود بوصفهم قومية أخرى تريد لنفسها مستقبلاً منفصلاً.
وما زال موضوع هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل موضوعاً مغلفاً بضباب إعلامي، بحيث يصعب التوصل إلى استنتاج دقيق في شأنه. ومن حق العرب أن يخشوا هذه الهجرة، وألا يركنوا إلى العوامل المتفاعلة سلباً وإيجاباً وضغطاً وجذباً. ومن حق الفلسطينيين أن يذكّروا الدول العربية بأن الخطر الإسرائيلي الذي ربما يكون قد تناقص في إثر الانتصار الفلسطيني سنة 1982، يمكن أن يعود على شكل أكثر خطورة. فالهجرة السوفياتية جواب مقنع على اختلال التوازن السكاني في إسرائيل، وليس من شأن السياسة أن تسأل ما إذا كان هذا الخطر سيتعرض لعوامل الانحلال نفسها التي عصفت بموجات الهجرة السابقة. لكن لا بد من نظرة متوازنة إليه تزيد في التصميم العربي الفلسطيني، وتحرك العمل السياسي، وتخلق اتجاهات إبداعية جديدة في النضال. ومن الأخطار التي يُلوح بها في هذه المناسبة، بل حتى قبلها، خطر تهجير الفلسطينيين. ونحن أيضاً لا نستبعد هذا الخطر استبعاداً كاملاً، لكننا نعتبره بعيد المنال، ونرجح أنه يدخل في عداد الأوراق الإعلامية الإسرائيلية أكثر كثيراً مما يدخل في عداد الأوراق التنفيذية.
المشهد الساكن والمشهد المتحرك
تتفاعل القضية الفلسطينية حالياً – في الجانب العربي – في إطار من مشهدين: أحدهما ساكن، ولا نقول متفرج، والثاني متحرك. فأما المشهد الساكن فيتألف من مجموعة المواقف الرسمية لحكومات العربية. ولئن كان هذا المشهد في السابق يتميز بأنه "رد فعلي"، فإنه قد وصل الآن إلى نقطة هي أقرب إلى السكون التام تقريباً. ولئن كانت القضية الفلسطينية في السابق تحرك كلاً من الحكومات والشعوب فياتجاهات فاعلة، فإن أثرها التحريكي الآن أصبح محدوداً للغاية، ولا يكاد يتجاوز البيانات السياسية والدعوة إلى اجتماعات طارئة أو غير طارئة، والإعراب عن الاستعداد لبذل الأموال دعماً للعمل الفلسطيني في شتى أشكاله، إلى جانب التحرك في المحافل الدولية. وربما تقوم دولة عربية بمهمة وساطة، أو إبلاغ أو استلام رسالة تتعلق بالقضية.
لكن المشهد الساكن يتضمن موقفاً رسمياً استقر الأمر عليه؛ وهذا الموقف يفرّق تماماً بين التعاطف والتأييد العربي الرسمي الأكيد والدائم للقضية الفلسطينية، وبين السياسات التي تنتهجها تلك الحكومات مع العالم الخارجي إزاء هذه القضية. ويمكن تلخيص ذلك بأن الحكومات ترى أن مصالحها ذات أولية تفضيلية على القضية الفلسطينية، وأنها تسير بمعزل عما تفعله الحكومات الأخرى في شأن تلك القضية. وقد فهمت الحكومات المختصة هذا الموقف بأنه يعطيها الفرصة لاتخاذ أي قرار يتعلق بالقضية الفلسطينية، مهما يكن ضرره، من دون أن تتوقع أي رد عربي عليه، يتجاوز إبداء الرأي أو إظهار الاستياء.
ولقد كانت من نتائج ذلك أن أصبح المشهد المتحرك من القضية الفلسطينية مشهداً فلسطينياً فحسب. ويتمثل هذا المشهد الآن في الانتفاضة الفلسطينية في الداخل، وفي التحركات الدبلوماسية في اتجاه تشكيل وفد فلسطيني لمفاوضات تشارك إسرائيل فيها، وتمهد أو لا تمهد لمؤتمر دولي بشأن القضية الفلسطينية.
إن هذه الظاهرة جديرة بالدرس المتعمق والتحليل لاستخلاص النتائج التي تساعد في "ربط الانفكاك" الذي جرى بين القضية الفلسطينية والمواقف الرسمية العربية.
إن التوازن القائم حالياً بشأن القضية كان متركزاً كله حول العوامل الطبيعية البعيدة المدى، الفاعلة والمؤثرة في القضية الفلسطينية في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ولقد أضاف الجانب الفلسطيني ثقلاً إلى هذه العوامل، وهو الانتفاضة. وأضاف الجانب الإسرائيلي ثقلاً معاكساً هو هجرة اليهود السوفيات. لكن لدى العرب أوراقاً كثيرة يمكن أن تحرك في مصلحة القضية، لو حدث قدر من الوفاق العربي وبُني مستوى من الثقة بين الحكومات العربية. إذ إن "الانفكاك العربي" ليس راجعاً إلى تحول عن القضية الفلسطينية، بقدر ما هو راجع إلى انحسار في مفهوم التضامن العربي وواقعه، وأن الدول العربية هي أكبر متضرر، بل المتضرر الوحيد من انحسار مفهوم التضامن. ونعتقد أن على العمل الفلسطيني، إذ يتحرك في الاتجاهات الدبلوماسية، بعد أن أبدى استعداده للتخلي عن العنف، أن يرفد سعيه هذا بتقدم نحو تثبيت فكرة التضامن العربي. ونرى أن الوقت ملائم لوضع وثيقة جديدة تضاف إلى ميثاق جامعة الدول العربية، وإلى ميثاق الدفاع المشترك العربي، تدعى ميثاق التضامن العربي. ويمكن لهذه الوثيقة أن تحدد المستوى الذي لا غنى عنه من التضامن بين الدول العربية، كأساس لا بد منه لأي عمل مشترك في أي اتجاه اقتصادي أو سياسي أو عسكري. وفي غياب مثل هذا الميثاق، سيبقى الوضع العربي في حال من الفوضى المائعة لأي تحرك جماعي حقيقي، سواء على المستوى الشمولي أو الإقليمي أو الثنائي. فإذا تحقق قدر من التضامت فإنه يمكن توظيفه سياسياً لمصلحة التحركات السياسي للقضية الفلسطينية. ذلك لأن العمل من أجل القضية الفلسطينية قد انحصر الآن في الإطار السياسي، وسيبقى في هذا الإطار وقتاً ما. وعلى الدول العربية، التي تعودت أن تنظر إلى القضية الفلسطينية من خلال المفاهيم الجفاعية والاستراتيجية والعسكرية، أن تنتقل إلى النظر إليها من خلال المفاهيم السياسية والاقتصادية. ونعتقد أن لدى الدول العربية هنا قدرات تستطيع أن تحركها ليصبح المشهد الرسمي أيضاً مشهداً متحركاً ورافداً للمشهد الفلسطيني.