العطش
التاريخ: 
10/07/2018
المؤلف: 

في هذا اليوم، السادس عشر من تموز/يوليو 2017، يكون قد مضى على مسيرة العطش والموت التي دُفع إليها سكان مدينة اللد تسعة وستون عاماً وثلاثة أيام. إنه زمن لا يقاس بالوقت، كأنه الأمس أو اليوم. فزمن العطش لا يمضي، ليس لأن ذاكرتنا قوية، بل لأن عطش النكبة له مذاق خاص ينحفر في الروح ولا يمحي. ففي اللد التي خرج منها إسماعيل شموط، ماشياً تحت شمس رصاصية لا ترحم، لا يزال العطش مرسوماً بحبر الصمت الذي سوّر حياة الناجين، الذين مضوا إلى مجهول التيه، تاركين وراءهم الجثث مكدسة في جامع دهمش والبيوت المهجورة، وفي الوعر الذي ابتلع الضحايا.  

لم أفهم لوحات شموط الصارخة في واقعيتها إلا عندما قادتني الحكاية إلى اللد، وفي اللد اكتشفت عطشي إلى الكلمات السجينة في الغيتو الذي سوره الإسرائيليون الغزاة بالأسلاك الشائكة. تحول الغيتو إلى تمرين على العطش والصمت، عطش إلى الماء وعطش إلى الحياة. أما الذين وصلوا إلى نعلين، فحملوا معهم ميراث العطش إلى أقاصي المنافي. هذا ما تعلمته من رجائي بصيلة، الذي روى في مذكراته (صدرت باللغة الانكليزية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية) حكاية مسيرة الموت اللداوية، التي تلخص حياة شعب وجد نفسه محكوماً بوحشية التاريخ.

إسماعيل شموط لم يبق في الغيتو، بل مشى في مسيرة التيه والذل، حيث مشى عشرات الألوف من سكان المدينة واللاجئين إليها تحت الرصاص، وفي تلك المسيرة الرهيبة، مات من مات وهو ينحني على عطشه، أما الذين نجوا فحملوا معهم ذاكرة العطش إلى كل الينابيع التي نضبت في أرض العرب.

لا أدري إذا كان إسماعيل شموط قد التقى بجورج حبش في تلك المسيرة، لكن ما أعرفه هو أن حكاية اللد مرسومة على جبين كل من عبرها إلى تيه اللجوء والمنافي، وأن إسماعيل شموط، وهو يلون لوحاته كان يرسم هذا العطش، الذي صار عنوان حياة اللاجئين، وهم يبحثون عن ماء رمى به جندي إسرائيلي أرضاً، أو لوث قميص لاجئ سقط في بركة شبه جافة. 

كان شموط، وأنا هنا أستعير كلمات الفنان الفلسطيني كمال بلاطة، "الموهبة القائدة لجيل انطلق من المخيمات، وصارت أعماله نموذجاً لجيل كامل من الفنانين اللاجئين الذين علموا أنفسهم بأنفسهم". 

 حين روى شموط عن النكبة أخبرنا قصة وعاء الماء الذي أمره الجندي الإسرائيلي برميه أرضاً، وحين رسم مسيرة الموت، رسم العطش في أشكال مختلفة، لعل أكثرها تعبيراً هو مشهد القميص المبلل الذي يتحلق الناس من حوله ليشربوا ما علق به من فتات ماء.

واقعية شموط كانت جزءاً من عمل ثقافي تأسيسي أراد تحويل النهاية إلى بداية. هذه هي لعبة الفلسطينيات والفلسطينيين مع نهايتهم. عام 1948 عندما اجتاحت الهاغاناه والبلماح اللد، وفي سكرة الموت والوحشية التي صنعتها مذبحة المدينة، وهي المذبحة الأكبر التي جرت عام 1948، اعتقد الإسرائيليون أنهم كتبوا النهاية بحبر الجريمة. لم يكتفوا بالقتل والطرد، بل حولوا الطرد إلى مكان للانتقام والموت، وجعلوا من مثلث الجامع الكبير والمستشفى والكنيسة غيتو للفلسطينيين، يعلن أن الإسرائيليين حولوا الفلسطينيين إلى يهودهم.

لكن هذه النهاية كانت بداية.

والبداية كان لها اسمان: العطش والصمت.

في العطش رسم إسماعيل شموط، ومن بعده توالت أجيال الفنانين الفلسطينيين الذين جعلوا من الألوان والأشكال مياهاً ترتوي حين تروي.

وفي الصمت تفتق الكلام، وكتبت سميرة عزام وغسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا، ومن تجاويف الصمت ولدت الحكاية من جديد، لا لتخبرنا عن الماضي فقط، بل لترسم أفقاً يجعل من النكبة حكاية تصلح لكل المضطَهدين.

في ثنائي العطش والصمت رسمت النكبة حكايتها، وهي حكاية عن الحياة وليس عن الموت، فالحي يولد من الميت، والبداية ترتسم في النهاية.

أيها السيدات والسادة،

مشكلتكم مع إسماعيل شموط أنه ليس هنا، ففي رحلة الألوان والأشكال كان الرجل يرسم طريقه من اللد وإليها.

لذا لن تجدوا في لوحاته سوى معالم الطريق إلى المدينة المنكوبة.

وأؤكد لكم أنكم لن تلتقوا به، إلا إذا ذهبتم إلى هناك، إلى اللد، كي تلتقطوا الأنين الذي لا يزال يحوم حول البيوت، وتمسحوا الدماء والأوجاع عن وجه المدينة المنتهكة بالاحتلال، والممحوة في تجاويف لغة المستعمرين التي لا تستطيع أن تتهجى أحرف زيتونها وزيتها وليمونها وبرتقالها، وهناك ستكون أيقونة الخضر منتصبة كشاهد على الجريمة، وسنستمع إلى تمتمات متصوفها ذي النون المصري التي تهمس بها الشوارع.

أعرف أن العطش الذي احتل اللد يحتلنا جميعاً، ليس في فلسطين وحدها، بل أيضاً في هذا العالم العربي المحكوم بالمستبدين والقتلة، لكن ما أعرفه هو أن عطشي الذي ولد مع النكبة لن يرتوي إلا حين يلتقط إسماعيل شموط وعاء الماء ويشرب، عندها فقط تستعيد اللد اسمها ويستعيد المنفيون ماءهم وحكاياتهم.

 

أُلقي هذا النص في الندوة التي نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومؤسسة عبد المحسن القطان، بالشراكة مع بلدية رام الله يوم 17 تموز/يوليو 2017، حول أعمال وسيرة الفنان إسماعيل شموط، في المسرح البلدي لبلدية رام الله، لمناسبة إطلاق كتاب الفنانة تمام الأكحل "اليد ترى والقلب يرسم"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الذي يروي سيرتها الذاتية وزوجها الراحل إسماعيل شموط.