حزب الشعب الفلسطيني: محطات على الطريق
التاريخ: 
11/02/2019
المؤلف: 

في هذه السنة، يكون قد مرّ 100 عام على ظهور أول نواة "شيوعية" في فلسطين، تشكّلت على أيدي بعض الثوريين اليهود الذين قدموا إلى فلسطين في إطار الهجرات الصهيونية.

تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني وتطوره

سعت النواة "الشيوعية" الأولى التي ظهرت في فلسطين في تشرين الأول/أكتوبر 1919، وحملت اسم "حزب العمال الاشتراكي"، إلى الانضمام إلى الأممية الشيوعية (الكومنترن)، فاشترطت عليها هذه الأخيرة أن تقوم بتبنيّ سياسة "التعريب"، على صعيد العضوية، بحيث تتحوّل إلى حزب عربي-يهودي، وعلى صعيد التوجّه، بحيث تركّز على استقطاب العمال والفلاحين العرب وتدعم نضال الحركة الوطنية العربية، وأن تقوم بتغيير اسمها وتقطع صلاتها بتيارات "الصهيونية الاشتراكية". وبعد صراعات شديدة، أُعلن رسمياً في التاسع من تموز/يوليو 1923 عن تشكيل "الحزب الشيوعي الفلسطيني"، وعن موافقة قيادته على شروط الانتساب إلى الكومنترن، الذي أصدر تقريراً، في 26 شباط/فبراير 1924، أفاد بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني صار يُعتبر "فرعاً رسمياً للكومنترن".

عارض الحزب الشيوعي الفلسطيني بحزم الحركة الصهيونية ومشروعها، وهو ما تجلّى لدى زيارة اللورد بلفور إلى فلسطين في نيسان/أبريل 1925، إذ أدان الحزب تلك الزيارة بشدة، ورأى فيها "مظاهرة إنكليزية ضد النهضة الوطنية العربية"، وساهم بنشاط في تنظيم المظاهرات والإضرابات التي اندلعت في المدن الفلسطينية احتجاجاً على تلك الزيارة. والواقع، أن الحزب الشيوعي الفلسطيني تميّز، في عشرينيات القرن العشرين، بوقوفه الحازم ضد الاحتلال البريطاني ومناداته باستقلال فلسطين، وانتقاده السياسات المهادنة لبريطانيا التي كانت تتّبعها قيادة الحركة الوطنية العربية، ممثّلة في اللجنة التنفيذية العربية.

وعلى الصعيد الاجتماعي، دعا الحزب الشيوعي الفلسطيني العمال العرب واليهود إلى التوحد في النضال من أجل حقوقهم الاجتماعية، وسعى إلى سلخ العمال اليهود عن جسم الحركة الصهيونية، وذلك عبر تشجيعهم على تصعيد نضالاتهم المطلبية وتطوير حركتهم الإضرابية. كما سعى إلى تنظيم العمال العرب ورفع مستوى وعيهم الطبقي، ودعاهم، في البدء، إلى الانضمام إلى صفوف النقابات التابعة لاتحاد نقابات العمال اليهود (الهستدروت)، بغية تحويل هذه النقابات من "منظمات قومية" يهودية إلى "منظمات أممية". وعلى الرغم من نجاح الشيوعيين، في مطلع سنة 1926، في تشكيل حركة عمالية يهودية-عربية تحت اسم "حركة إيحود" (حركة الوحدة)، فإن "التناقض القومي" بين العمال العرب واليهود بقي طاغياً على المصلحة الطبقية الواحدة، وظلت الأغلبية الساحقة من العمال اليهود مرتبطة بالمشروع الصهيوني. ومن ناحية ثانية، أعار الحزب الشيوعي الفلسطيني اهتماماً كبيراً للمشكلات التي كان يعانيها الفلاحون العرب، ومن أهمها مشكلة طردهم من الأراضي التي يعملون فيها بعد أن يقوم المتمولون الصهيونيون بابتياعها من كبار الملاك العرب، وما كان ينجم عن عمليات الطرد تلك من صدامات بين الفلاحين العرب والمستوطنين اليهود، كالصدامات العنيفة التي اندلعت في قرية العفولة في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1924.

في الأسبوع الأخير من آب/أغسطس 1929، شهدت فلسطين، في إطار ما سمي بـ "هبة البراق"، صدامات عنيفة بين المواطنين العرب والمستوطنين اليهود في عدة مدن فلسطينية، سقط فيها عشرات القتلى والجرحى من الجانبين، وتخللتها اشتباكات مع قوات الشرطة البريطانية. وقد فاجأت تلك الأحداث قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، التي كانت تتكوّن من الأعضاء اليهود، وجعلتها تتخذ، في البدء، موقفاً سلبياً منها، بذريعة أنها اكتست طابعاً "دينياً" و "عنصرياً"، الأمر الذي دفع السكرتاريا السياسية للجنة التنفيذية للكومنترن إلى انتقاد هذا الموقف، وإرجاعه، في القرار الذي أصدرته في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1929 "حول حركة الانتفاضة في عربستان"، إلى عجز قادة الحزب الشيوعي الفلسطيني عن سلوك نهج واضح باتجاه تعريب صفوفه وتوظيف نشاطه الرئيسي في اتجاه العمال والفلاحين العرب. وقررت قيادة الكومنترن، في ضوء ذلك، إنهاء فترة دراسة بعض الكوادر العربية في "الجامعة الشيوعية لكادحي شعوب الشرق" في موسكو وإرجاعهم إلى فلسطين، وكان من أبرزهم محمود الأطرش. وعقب عودتهم، بدأت حملة واسعة للتحضير لمؤتمر حزبي جديد، انعقد في مدينة القدس في النصف الثاني من شهر كانون الأول/ديسمبر 1930، وانتقد مندوبوه "الأخطاء السياسية" التي ارتكبتها القيادة السابقة للحزب، وانتخبوا لجنة مركزية جديدة ضمت، لأول مرة، أغلبية من الشيوعيين العرب، وانبثق عنها سكرتارية حزبية من ثلاثة أعضاء هم نجاتي صدقي، ومحمود الأطرش وجوزيف بيرغر. وفي سنة 1934، وبناءّ على توجيهات جديدة من قيادة الكومنترن، تسلّم رضوان الحلو، وهو أحد الموفدين العرب ما بين سنتَي 1930 و 1933 إلى موسكو، منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني.

بعد اندلاع الإضراب العام والثورة الكبرى، تبنت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، في ضوء توجهات المؤتمر العالمي السابع للكومنترن في صيف 1935، سياسة "الجبهة الشعبية الموحدة"، وأصدرت، في 5 حزيران/يونيو 1936، العدد الأول من صحيفة "الجبهة الشعبية" التي نشرت، في 7 آب/أغسطس 1936، مبادئ ميثاق الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهي: "النضال الثوري التحريري ضد الاستعمار والصهيونية؛ العمل لاستقلال فلسطين استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية؛ مصادرة أراضي الشركات الصهيونية وأراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين الفقراء توزيعاً عادلاً؛ تأهيل المعامل والفبارك والمواصلات البرية والبحرية والجوية ووضعها تحت سيطرة سلطة الشعب؛ ومصادرة كل أملاك وعقار المهاجرين البعيدين". وعقب قيام الحكومة البريطانية بتشكيل لجنة تحقيق ملكية في الأحداث الفلسطينية برئاسة اللورد بيل، رأت قيادة الحزب في هذه اللجنة "خدعة استعمارية"، ودعت الشعب الفلسطيني إلى أن يرد على هذه السياسة الاستعمارية البريطانية باللجوء إلى التعبئة العامة، وطالبت الشيوعيين بالانخراط في مجموعات الثوار المسلحة، معتبرة أن الحركة الوطنية العربية في فلسطين "لا يمكنها أن تقتصر في نضالها على الإضراب العام، كشكل نضالي وحيد، خصوصاً وأن إضراب الشعب العربي في فلسطين لن يكون شاملاً، كما في سوريا، بسبب الدور التخريبي الذي يلعبه الصهاينة".

الانقسام القومي في صفوف الحزب

تسبب موقف قيادة الحزب هذا من الثورة وقيادتها في بروز خلافات سياسية بين أعضائه العرب واليهود، اتخذت بعداً جديداً بعد قيام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني بتشكيل هيئة تنظيمية باسم "القسم اليهودي"، لا سيما بعد أن تعزز، في ظروف الثورة، الاستقلال الذاتي، السياسي والاقتصادي، لليهود في فلسطين. وشيئاً فشيئاً، صارت الروابط تضعف بين قيادة الحزب وبين سكرتارية "القسم اليهودي"، الذي راح ينتهج سياسة مغايرة للسياسة العامة التي أقرتها لجنة الحزب المركزية. ففي صيف سنة 1937، أقرت سكرتارية "القسم اليهودي" مبدأ انخراط الشيوعيين اليهود في نشاط المنظمات الصهيونية بغية سلخ "العناصر الثورية" منها، ودعت إلى إقامة "جبهة شعبية" مع بعض القوى والأحزاب الصهيونية "المعتدلة"، معتبرةً أن التجمع الاستيطاني اليهودي "الييشوف" لا يمثّل تجمعاً متجانساً. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، اشتدت الخلافات داخل قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني حول الموقف من الأقلية اليهودية في فلسطين، إذ اعتبر أعضاء القيادة من اليهود أنه راحت تنشأ في فلسطين وضعية ثنائية القومية، وصارت تبرز، إلى جانب القومية العربية، "قومية يهودية" في طور التكوين. وفي كانون الأول/ديسمبر 1939، ساهم القرار الذي اتخذته لجنة الحزب المركزية بحل "القسم اليهودي" في تكريس الانقسام القومي داخل صفوفه، وهو الانقسام الذي أفضى بعد سنوات، ولا سيما بعد صدور قرار حل "الكومنترن" في موسكو في أيار/مايو 1943، إلى انشقاق الشيوعيين العرب وقيامهم بتشكيل تنظيم يساري عربي جديد باسم: "عصبة التحرر الوطني في فلسطين"، بينما بقي الحزب الشيوعي الفلسطيني مقتصراً على أعضائه من اليهود.

عصبة التحرر الوطني في فلسطين 
أدّت الحرب العالمية الثانية إلى تحويل فلسطين إلى محتشد للجيوش البريطانية وإلى قاعدة لتموينها في المنطقة، ما دفع الحكومة البريطانية إلى إقامة العديد من المعسكرات والمشاغل وإلى تشجيع قيام العديد من الصناعات المحلية، وهو ما ساعد على زيادة عدد العمال واختفاء ظاهرة البطالة بين صفوفهم، وانتعاش حركتهم العمالية النقابية. وترافق هذا التطور مع ظاهرة تنامي الاتجاهات التقدمية والديمقراطية بين صفوف الطلاب والمثقفين العرب، الذين شكّلوا، في أيلول/سبتمبر 1941، "رابطة المثقفين العرب في فلسطين". وبدأت تظهر في مدن فلسطين الرئيسية العديد من النوادي الاجتماعية والسياسية، كنادي "شعاع الأمل" ونادي "الشعب". كما راحت تتشكّل مجموعة من الحلقات والخلايا الماركسية. 
وهكذا، كان قد تشكّل في فلسطين، عشية وقوع الانقسام القومي في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، تيار وطني يساري ديمقراطي عريض يبحث عن الأشكال التنظيمية الملائمة لتوحيد قواه وتأطير نضالاته. وقد اضطلع الشيوعيون العرب بهذه المهمة، وأُعلن رسمياً، في شباط/فبراير 1944، عن ولادة عصبة التحرر الوطني في فلسطين. ومع أن العمال والمثقفين شكّلوا القاعدة التي قام عليها تنظيم عصبة التحرر الوطني، إلا أن استنادها إلى هاتين الفئتين الاجتماعيتين لم يحل دون سعيها إلى طرح برنامج سياسي متجاوب مع مصالح كل الشعب العربي الفلسطيني، الذي كان، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، مهدداً في وجوده بفعل تسارع وتيرة تنفيذ المشروع الصهيوني، المدعوم من الاحتلال البريطاني.
حاولت عصبة التحرر الوطني، منذ تأسيسها، أن ترسم حدوداً واضحة بين الصهيونية، من جهة، والسكان اليهود في فلسطين، من جهة ثانية، إذ رفضت ادعاءات الصهيونيين بأنهم يعبّرون عن مصالح كل اليهود، وأكدت أن الصهيونية تتعارض مع مصالح اليهود أنفسهم، وانتقدت، في هذا السياق، مواقف القيادة الوطنية العربية التقليدية التي كانت تعلن دوماً أنها "لا يمكن أبداً أن تعيش بسلام مع السكان اليهود في فلسطين، وأن تؤمن لهم أي حق ديمقراطي من حقوقهم، أو الوصول إلى تفاهم معهم"، محذرة من مخاطر هذه "السياسة غير العملية"، تجاه السكان اليهود في فلسطين، والتي قد تقود إلى تقسيم فلسطين. وفي المذكرة التي وجهتها إلى هيئة الأمم المتحدة، في آب/أغسطس 1947، دعت العصبة إلى إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وسحب الجيوش الأجنبية منها وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة، تضمن حقوقاً متساوية لجميع سكانها من العرب واليهود.
وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين الدولي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، جابهت عصبة التحرر الوطني أوضاعاً شديدة التعقيد. فباستثناء البند المتعلق بإنهاء الانتداب البريطاني، لم ينطوِ قرار التقسيم، في نظر قادتها، على الحل الأمثل للقضية الفلسطينية بل ألحق إجحافاً كبيراً بالشعب العربي الفلسطيني وحقوقه الوطنية فوق أرضه. وبقيت العصبة تعارض قرار التقسيم إلى شهر شباط/فبراير 1948، عندما قررت غالبية مندوبي الكونفرانس الذي عقدته في مدينة الناصرة، وانسجاماً مع الموقف السوفياتي المؤيد لذلك القرار، الموافقة عليه وتعزيز النضال في سبيل قيام الدولة العربية الفلسطينية، معتبرة، في بيان أصدرته بعنوان: "والآن... ما العمل؟" وتوجهت به إلى الشعب العربي الفلسطيني، إن قيام هذه الدولة العربية "هو الطريق إلى إنقاذ المشردين [الفلسطينيين] من تشردهم، وهو الطريق للاحتفاظ بحدود فلسطين ضمن وحدة اقتصادية ثابتة ومنع تجزئتها وإضاعة معالمها إلى الأبد، وهو الطريق لأن يحكم الشعب [الفلسطيني] نفسه بنفسه". وبعد اندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية في 15 أيار/مايو 1948، نظّمت عصبة التحرر الوطني حملة واسعة لإقناع الفلسطينيين بالبقاء فوق أرضهم وعدم النزوح عنها، وعارضت دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، ووجهت في تموز/يوليو 1948 "نداء إلى الجنود [العرب]" تدعوهم فيه "إلى العودة إلى أوطانهم وتوجيه ضرباتهم إلى المستعمر المحتل وإلى أذنابه"، ثم أكدت في بيان وجهته "إلى الشعوب العربية" في تشرين الأول/أكتوبر 1948، بالاشتراك مع الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوري والحزب الشيوعي اللبناني، أن حكام الدول العربية "لم يعلنوا الحرب لمنع التقسيم، كما زعموا، بل لتنفيذ التقسيم كما تريده بريطانيا". أما الحركة الصهيونية، فقد استغلت حرب فلسطين "لتوطيد حكمها والتوسع في القسم العربي، ولتبرر ارتمائها في أحضان الاستعمار الأميركي وفتح المجال لتغلغله الاقتصادي والعسكري في أراضي الدولة اليهودية وفي كل فلسطين".
 

الشيوعيون في الأردن وفي قطاع غزة

نتيجة تمزق الكيان الفلسطيني بعد النكبة وتوزع الشعب الفلسطيني على مواقع مختلفة، كان من الطبيعي أن ينضوي الشيوعيون من أعضاء العصبة في أطر تنظيمية مختلفة. فإلى جانب الحزب الشيوعي الأردني، الذي تأسس في أيار/مايو 1951 وصار يضم أعضاء العصبة في الضفة الغربية وعدداً من الماركسيين في الضفة الشرقية، توحّد أعضاء العصبة العرب الذين بقوا فوق الأراضي التي قامت عليها دولة إسرائيل، في تشرين الأول/أكتوبر 1948، مع الشيوعيين اليهود في إطار الحزب الشيوعي الإسرائيلي، بينما شكّل أعضاء العصبة الذي بقوا في قطاع غزة، في آب/أغسطس 1953، الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة.

رفض الشيوعيون إلحاق الضفة الغربية بشرقي الأردن وقاطعوا الانتخابات النيابية في نيسان/أبريل 1950، وناضلوا ضد مشاريع الأحلاف الاستعمارية التي هدفت إلى ربط الأردن بها، ونجحوا، مع القوى الوطنية الأخرى، في إفشال مشروع ضم الأردن إلى حلف بغداد، ثم في تعريب الجيش الأردني. كما نجحوا، خلال الانتخابات النيابية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 1956، في إيصال نائبين إلى البرلمان، هما فائق وراد عن رام الله والدكتور يعقوب زيادين عن القدس، ودعموا حكومة سليمان النابلسي الوطنية التي تشكّلت في أعقاب تلك الانتخابات. وبعد انقلاب نيسان/أبريل 1957، تعرض الشيوعيون في الأردن لحملة قمعية واسعة، وكانت الفترة 1957-1965 فترة عصيبة عليهم، إذ أمضى القسم الأكبر من قادة الحزب الشيوعي الأردني وكوادره تلك الفترة في السجون.

وفي قطاع غزة، دعا الشيوعيون إلى النضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وفقاً لقرار التقسيم الدولي رقم 181، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وتعويضهم وفقاً للقرار الدولي رقم 194، كما دعوا إلى مقاومة مشاريع توطين اللاجئين وإسقاطها، وخصوصاً مشروع التوطين في سيناء، وشاركوا بنشاط في آذار/مارس 1955 في تنظيم تظاهرات حاشدة، رفعت شعارات "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان.. العودة العودة حق الشعب"، نجم عنها استشهاد عدد من المتظاهرين، وكان من نتائجها سقوط مشروع سيناء، وقيام القوات المصرية باعتقال عدد من الشيوعيين الذين بقوا معتقلين حتى مطلع تموز/يوليو 1957. وكان الشيوعيون قد شاركوا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة في خريف سنة 1956، وفي تشكيل الجبهة الوطنية، وفي إفشال مشروع تدويل القطاع. لكنهم عادوا وتعرضوا لحملة اعتقالات واسعة في سنة 1959 ولم يُفرج عن آخر دفعة منهم سوى في ربيع سنة 1963.

وفي سنة 1964، أيّد الشيوعيون بعث الكيان الفلسطيني وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، لكنهم انتقدوا بعض تصريحات رئيسها أحمد الشقيري و"أساليب عمله الفردية".

بعد مرور شهرين على العدوان الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1967، أصدر الحزب الشيوعي الأردني برنامجاً مرحلياً، قدّر فيه أن صمود جماهير الأرض المحتلة سيشكّل المرتكز للنضال من أجل إرغام المحتلين الإسرائيليين على الجلاء وتبنى شعار "الصمود في أرض الوطن، الموت ولا النزوح"، معتبراً أن المهمة الرئيسية هي النضال من أجل "تصفية آثار العدوان"، بحيث يفرض على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها "بما يضمن الحفاظ على الكيان الأردني ووحدة الضفتين، وبما يحفظ للعرب حقوقهم المشروعة في فلسطين وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم على أساس مقررات الأمم المتحدة". ومنذ سنة 1968، تشكّلت في الضفة الغربية المحتلة لجان شبه علنية عُرفت باسم "لجان التوجيه الوطني"، ضمت ممثلين عن الشيوعيين والقوميين العرب والبعثيين، ثم اتسعت قاعدتها لتضم ممثلين عن النقابات والهيئات النسائية والمجالس البلدية وبعض الوجهاء. ثم أسس الشيوعيون مع قوى وشخصيات وطنية أخرى، في سنة 1969، "جبهة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية".

وفي قطاع غزة، شكّل الشيوعيون، مع البعثيين وفرع جبهة تحرير فلسطين (ج.ت.ف)، فضلاً عن بعض الشخصيات الوطنية الديمقراطية، "الجبهة الوطنية المتحدة" التي أُعلن عن قيامها في مطلع آب/أغسطس 1967، ودعوا سكان القطاع إلى التقشف والكف عن استخدام الكماليات لمواجهة الضائقة الاقتصادية وتحقيق الصمود الاقتصادي والسياسي من خلال شعارات: "البقاء على أرض الوطن تحت كل الظروف"، "الهجرة خيانة وطنية"، "لن نتحول إلى لاجئين من جديد"، كما أقروا، في أواخر سنة 1967، التحضير لممارسة الكفاح المسلح، خلافاً لرفاقهم في الأردن الذين لم يحسموا أمرهم ويتخذوا قراراً بممارسته سوى في مطلع سنة 1970 عندما أصدروا، في 3 آذار/مارس من ذلك العام، البيان التأسيسي لـ "قوات الأنصار" كي تشكّل "رافداً من روافد المقاومة"، وذلك بالتعاون مع الأحزاب الشيوعية في لبنان وسورية والعراق.

وعقب صدامات أيلول/ديسمبر 1970، ثم خروج قوات المقاومة الفلسطينية المسلحة من الأردن في صيف 1971، أدرك الشيوعيون أن صعوبات كبيرة باتت تعترض استعادة وحدة الضفتين وعودة الأوضاع في المناطق الفلسطينية المحتلة إلى ما كانت عليه قبل الرابع من حزيران/يونيو 1967، ورفضوا، من هذا المنطلق، مشروع "المملكة العربية المتحدة" الذي طرحته الحكومة الأردنية في آذار/مارس 1972. وكانوا قد أشاروا، منذ آذار/مارس 1971، إلى حق الشعب في تقرير مصيره على أراضيه التي احتلت سنة 1967، ثم تبنوا، بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 وتداعياتها، هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم على أساس القرار الدولي رقم 194، وصاروا يعتبرون، بعد طرح فكرة المؤتمر الدولي للسلام أن هذا الإطار هو الإطار الأمثل للتوصل إلى حل سياسي شامل للصراع العربي-الإسرائيلي.

وفي أواسط آب/أغسطس 1973، وبعد أن شكّلت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الرئيسية فروعاً لها في المناطق الفلسطينية المحتلة، ساهم الشيوعيون في توحيد القوى الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة في إطار "الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأرض المحتلة" التي دعت في برنامجها إلى تأمين الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وفي مقدمها "حقه في تقرير مصيره على أرضه والعودة إلى دياره"، وعززت شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. كما شاركوا بفاعلية في التحضير للانتخابات البلدية في الضفة الغربية، التي جرت في نيسان/أبريل 1976 وحققت فيها القوائم الوطنية المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي عدادها عدد من الشيوعيين، فوزاً كبيراً.

إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني

في سنة 1973، قررت اللجنة القيادية لفرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية تغيير تسميات منظماتها الجماهيرية، فتم، على سبيل المثال، تغيير اسم "اتحاد الطلبة الأردني في الضفة الغربية" إلى "اتحاد الطلبة الفلسطينيين". وفي مطلع كانون الثاني/يناير 1974، تشكلت "منظمة الشيوعيين الفلسطينيين في لبنان" من شيوعيين كانوا على علاقة بالحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة. وكان قد تشكّل، في سنة 1972، "التنظيم الفلسطيني في الحزب الشيوعي السوري". وجرى الاتفاق، في سنة 1974، على تشكيل لجنة تنسيق بين الحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة، وراح يدور، منذ ذلك الحين، نقاش حول مسألة إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني الشامل. وكخطوة تمهيدية على طريق إقامة هذا الحزب، تبنّى فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية، في أواخر تموز/يوليو 1975، اسم "التنظيم الشيوعي الفلسطيني في الضفة الغربية" ، كما تشكّل من فرع الحزب نفسه في لبنان، في أواخر شباط 1980، "التنظيم الشيوعي الفلسطيني في لبنان". وفي 10 شباط/فبراير 1982، أُعلن عن إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني المستقل، الذي اعتبر مؤتمره الأول، الذي انعقد في سنة 1983 بمثابة مؤتمر تأسيسي، وأصدر برنامجه السياسي. ونتيجة خلافات سياسية، انشق عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، بعد تأسيسه بفترة وجيزة، عضو مكتبه السياسي عربي عواد وشكّل، مع مجموعة من الأعضاء، الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري.

وكان الشيوعيون قد دعوا إلى تمثيلهم في هيئات منظمة التحرير الفلسطينية بعد قيامهم بتشكيل "قوات الأنصار" في سنة 1970، بيد أن قيادة منظمة التحرير ظلت ترفض تمثيلهم لاعتبارات مختلفة، علماً بأن عدداً منهم، وخصوصاً من بين المبعدين من الأرض المحتلة، انضم في النصف الأول من السبعينيات في إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني. ولم يتم الاعتراف بالحزب الشيوعي الفلسطيني كفصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وتمثيله في اللجنة التنفيذية للمنظمة من خلال عضو مكتبه السياسي سليمان النجاب، سوى في الدورة التوحيدية الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر في نيسان/أبريل 1987.

من الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى حزب الشعب الفلسطيني
عندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في المناطق الفلسطينية في كانون الأول/ديسمبر 1987، انخرط الحزب الشيوعي الفلسطيني بنشاط فيها، خصوصاً وأنها كانت منسجمة مع سياسته التي تنظر إلى المقاومة الشعبية باعتبارها الشكل الأنجع لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وشارك ممثلوه في قيادتها الموحدة. وخلال أحداث تلك الانتفاضة، التي تحوّلت سريعاً إلى معركة لجميع طبقات الشعب الفلسطيني، وتطبّعت بطابع ديمقراطي عميق، وفي ضوء الآمال التي عُقدت آنذاك على "البيروسترويكا" السوفياتية، شرعت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني في عملية مراجعة نقدية، تمخضت، في كانون الثاني/يناير 1990، عن مبادرتها إلى طرح مشروعَي برنامج سياسي ونظام داخلي جديدين، أُقرا، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1991، في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي قرر تغيير اسم الحزب ليصبح "حزب الشعب الفلسطيني". وقد رفض عدد من أعضاء الحزب في الضفة الغربية هذا التغيير وحافظوا على اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني.

وفي الأسبوع الأول من آذار/مارس 2008، عقد حزب الشعب الفلسطيني مؤتمره الرابع، في رام الله وغزة وسوريا ولبنان، تحت شعار "اليسار طريقنا نحو التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية". وأشار، في وثائقه الختامية، إلى أن حزب الشعب الفلسطيني "باعتباره، في هذه المرحلة، حزب التحرر والاستقلال الوطني، يمثّل امتداداً لتاريخ الحركة الشيوعية الطويل في فلسطين"، و"يناضل، على المدى البعيد، من أجل دولة اشتراكية التوجه، بالوسائل السلمية والديمقراطية وعلى قاعدة احترام الإرادة الشعبية". 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الواقع أن تاريخ حزب الشعب الفلسطيني يتداخل، في محطات عديدة، مع تاريخ الحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الإسرائيلي. وأذكر، في هذا الصدد، أنني عندما طلبت، في سنة 1989، من قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي الاطّلاع على الأرشيف الخاص بفلسطين في محفوظات الكومنترن السرية في موسكو، طُلب مني، قبل فتح هذا الأرشيف لي، الحصول على موافقة ثلاثة أحزاب هي: الحزب الشيوعي الفلسطيني، والحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهذا ما كان.
 
المصادر
الشريف، ماهر، الأممية الشيوعية وفلسطين (1919-1928)، بيروت، دار ابن خلدون، 1980.
--- ، الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948، بيروت، مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1981.

--- ، في الفكر الشيوعي الفلسطيني: الشيوعيون وقضايا النضال الوطني الراهن، دمشق، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1988.

--- ، (جمع وتقديم)، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، دمشق، دار المدى، 2004.

--- ، من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين 1924-1936، رام الله، مركز فؤاد نصار، 2011.

عوض الله، عبد الرحمن، تاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين، رام الله، منشورات المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية، 2016.

 Budeiri, Musa, The Palestine Communist Party, 1919 – 1948: Arab and Jew in the Struggle for Internationalism, United States: Haymarket Books, 2010.