فلسطين في ''ربيع تونس''.. وما بعد
النص الكامل: 

  وأنا أتابع ما أسفرت عنه الاحتجاجات الشعبية في تونس في مطلع سنة 2011، تساءلت وقد غمرتني الدهشة عن قدرة التظاهر السلمي في الشارع العربي على التأثير في الواقع السياسي، ودوره في تحقيق إرادة الشعوب. ومع تردد أصداء الحدث التونسي في الجوار العربي، وتدفّق الناس إلى الساحات في مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، بدا كأن ثمة وعياً جديداً ينهض في داخلي جعل مني ذلك المتحمس لفكرة التغيير الاجتماعي، والمنكبّ على متابعة الأحداث السياسية المتلاحقة، والمهتم بمعرفة وفهم ما تقوله وسائل الإعلام والمقاربات النظرية بشأن ما يجري. في تلك الأثناء كنت أرغب في الرحيل عن قطاع غزة؛ المكان الذي كنت أعيش فيه. فمنذ سنة 2000 أخذ مناخ قاتم يلقي بظلاله على المشهد العام هناك؛ إذ فجّرت هبّة الأقصى الأحداث المدمرة للانتفاضة الثانية في خريف السنة نفسها، وانتهى الاقتتال الدموي بين حركتَي "فتح" و"حماس"، في صيف سنة 2007، بسيطرة الثانية على القطاع بالقوة، ثم سحق جيش الاحتلال الإسرائيلي السكان بهجومه العسكري في شتاء سنة 2009.. حتى باتت غزة أشبه بقرية نائية: مظلمة ومنسية، جعلتها القوى السياسية معزولة عن العالم، أمّا رؤية العالم داخلها، فضلاً عن العيش فيه، فأصبحا أقوى من أي قدرة لي على الاحتمال. هكذا تقاطع وعيي الناشىء بفعل الحراكات الشعبية للربيع العربي مع تأجج رغبتي في الرحيل عن قطاع غزة في لحظة استثنائية في نهاية سنة 2011، ليغدو السفر إلى تونس فكرة ملائمة لاحتمالين ممكنين: الأول، إشباع الفضول والإثارة اللذين ألقتهما في نفسي رياح التغيير في المنطقة، ليس فقط بالاقتراب من حقيقة ما جرى في إحدى دول الربيع، بل أيضاً بمعايشته ومساءلته واختباره والبحث عن دور ما فيه؛ الثاني، إيجاد أفق للحياة والمستقبل بعيداً عن غزة. وكان ضرباً من المقامرة أن أرحل عن المدينة التي عشت فيها أربعة عشر عاماً تاركاً ورائي رعونة الشباب، ومسرات الجامعة والحب والعمل والزواج والكتابة وشجونها، إلاّ إن الثورات كانت دفعة الشجاعة التي احتجت إليها للامتثال لصوتين صدحا في أعماقي قبل الحدث ومعه وبفضله: "أريد أن أذهب من هنا"، "أريد أن أكون جزءاً ممّا يحدث هناك." بعد المهجر، لم أكن قد عشت من قبل في فلسطين ما وراء حدود القطاع، وكان من شبه المستحيل بالنسبة إلى غزاوي فعل ذلك، لذا كان الحدث التونسي جسراً عبرته كي أصبح "خارج المكان"، ذلك بأنه على الرغم من عودتي من المهجر الذي ولدت فيه إلى الشطر الصغير المتاح لي من الوطن في سنة 1997، ومن الدور الذي أدته غزة في صقل شخصيتي وتشكيل وعيي بذاتي وبالعالم وجعلي كائناً سياسياً بجدارة، فإني اختبرت فيها خفوت البريق الأول لامتدادي العائلي، وتململت طويلاً من تقاليد مجتمعها، وضقت ذرعاً بالوضع العام الآخذ في التأزم فيها.. لتبطل تجربتي الافتراض الذي تبنّيته قبل مجيئي إليها، وتعطيني الأسباب كلها للانسلاخ عنها، ثم أتت اللحظة التونسية كقطعة متبقية من أحجية سأحمل بها معي، وابتداء منها، فلسطين التي أعرفها، في كل مكان بعيداً عن فلسطين. هل ستنجح الثورة في تونس؟ لم أكلّف نفسي عناء الإجابة وأنا أستمتع بالأفق الصحراوي البرتقالي الذي امتد بلا نهاية في طريقي من العريش إلى القاهرة. ثمة فرح يأتي من فراغ هائل ليلفح الوجدان، لا يشعر به إلاّ مَن رأى ختم الخروج من غزة على جواز السفر في معبر رفح. لقد جسدت المدينة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تدهور الحركة الوطنية الفلسطينية، وتفسّخ علاقة الفلسطينيين بعضهم ببعض، وأضحت نموذجاً للاستعصاء السياسي وتأبيد الوضع الواقع القائم، الأمر الذي جعلها بيئة مواتية لخنق السكان وتنغيص حيواتهم اليومية وكسر إرادتهم في أن يكونوا جزءاً طبيعياً من هذا العالم.. هذه فلسطين التي تسنّى لي أن أعرفها وأحملها معي آنذاك، بينما كان غيرها من البلاد في نظري عالماً قريباً بعيداً، مجهولاً وصعب المنال، حفنة من صور وأصوات مشوشة في الأخبار وتمثيلات ناقصة في الكتب، عالماً متخيلاً لا معاشاً. وبينما كان نجاح التجربة التونسية يعني لي في المقام الأول تحسين شروط حياة الناس هناك، ولا سيما إقرار الحريات وحمايتها بالقوانين والممارسة، اعتقدت أن هذا سيكون كفيلاً بفتح آفاق واسعة أمامهم للتحرك في السياسة والاجتماع والصناعة والتجارة والفن والثقافة والابتكار.. وكانت محصلة هذا الاعتقاد هي انفتاح الشعب التونسي على نفسه أولاً، وانفتاحه بالضرورة نتيجة ذلك على العالم، ثم ماذا ؟ هل أقول "تحرير فلسطين؟"؛ "إنقاذ عملية السلام؟"؛ "تحقيق المصالحة بين 'فتح' و'حماس'؟". لم يدُر في خلدي شيء من هذا القبيل وأنا أتخيل سيناريو النجاح في تونس؛ فلسطين التي عشتها وحملتها معي، هي تلك "الفلسطين" التي كان يمكنني أن أتذكرها، وأوجّه أنظاري إليها، وأرمي حجراً في بحرها الراكد فيما لو استطعت أن أقتنص نجاحاً صغيراً لي من نجاح الثورة التونسية الأوسع، وكان هذا بالنسبة إليّ نجاحاً كافياً لثلاثتنا معاً، ونجاحاً صغيراً لفلسطين الكبيرة. احتفاء ومستقبلون وصور تذكارية؛ إرهاق وارتباك؛ هواء نقي وحركة مرور منسابة وطنين ثقيل في الأذن.. أنا في تونس لأول مرة في مطلع سنة 2012؛ أقلّب كل ما استطعت التقاطه من أشياء حولي باهتمام بالغ كطفل ذكي وساذج، "هذه المدينة تشبه مكاناً أريد أن أعيش فيه"، قلت لنفسي وأنا في الطريق من المطار إلى مركز العاصمة متأملاً الشوارع والطبيعة والمساحات، لكن كان عليّ أن أجد حلاً لقسوة برد الشتاء التي لم أشهدها من قبل، وأن أنصت جيداً إلى الكلمات التي ينطقها مستضيفونا التونسيون بانفعال وطلاقة وأسأل عن معانيها المقصودة كل مرة، إذ بدت كلغة أجنبية عليّ أن أتعلمها بالتدريج. وقد أخذت زيارتي في الأيام الأولى شكل جولة من الأنشطة الثقافية نظمتها إحدى المؤسسات في بعض المدن لمناصرة الثورة وتأكيد مطالبها، فقد شاركتُ ناشطين وطلبة احتفالاتهم بالذكرى الأولى للحدث الكبير، وقابلت آخرين فيما بعد في مناسبات متنوعة في المقاهي والمسارح والفاعليات الأدبية والفنية. وكانت ردات أفعال الشباب تتغير عندما يعرفون أني فلسطيني، ويتزايد ترحابهم واهتمامهم، كما كانوا يلحّون عليّ بأن أطلب منهم المساعدة إذا احتجت إليها، وكنت أشعر بجديتهم في تقديمها ما إن أطلبها منهم. كانت القضية الفلسطينية قبل الثورة، ووفقاً لهؤلاء الشباب، من القضايا القليلة التي يتسامح النظام مع إثارتها أو حتى التظاهر من أجلها، ووجدت أن مَن التقيتهم ليسوا بحاجة إلى أن يصطفوا مع الثورة أو يتحفظوا عليها أو يقفوا ضدها لتكون فلسطين حاضرة في وعيهم بقوة، فقد شهدتُ وقوفهم جميعاً خلف المقاومة والتحرير ورفضهم المشروع الصهيوني وتقديرهم لمعاناة الفلسطيني التاريخية، كما لمست تأثيراً لغسان كنفاني وناجي العلي ومحمود درويش فيهم، وألفيت مشاعرهم الصادقة وهم يسردون وقائع القصف الجوي الإسرائيلي على مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية واغتيال خليل الوزير على أرضهم، الأمر الذي ولّد انطباعاً لديّ بأن القضية جزء راسخ في مخيالهم الجمعي. وعندما كنا نتحدث عن المستقبل كانوا يعبّرون عن آمالهم بالسفر إلى فلسطين لمقابلة رجال المقاومة الذين يكنّون لهم كثيراً من الاحترام، ورؤية غزة والقدس والمسجد الأقصى، وأذكر أننا تدارسنا مع عدد منهم ترتيب زيارة لفلسطين للتعرف إليها والقيام بأنشطة ثقافية فيها، لكن عندما باشرنا العمل على تحقيق هذه المبادرة صُدمنا بالتعقيدات الرسمية التي جعلت منها أمراً مستحيلاً، وأُجهضتْ في النهاية تلك الرغبة لدينا. وفي نقاشات أُخرى كنتُ أجد شباباً يتوافقون على الانحياز إلى المقاومة بشكلها المسلح على الرغم من مساندة كل منهم تياراً سياسياً مناهضاً للتيار الذي يسانده الآخر، وكان خوض نقاش مع أحدهم عن موقع الواقعية من هذه المسألة يمكن أن يؤدي إلى خلافات تفسد جوّ النقاش وتضرّ بعلاقة المتحاورين. واللافت في الموضوع هو الحماسة الطاغية لدى الشباب لتحويل الحديث عن مناهضة التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من الهمس إلى العلن بعد الثورة، واكتسابه زخماً كبيراً منذ ذلك الحين، الأمر الذي أظهر أن ذلك الاستعداد لديهم، فضلاً عن دعمهم لحركة المقاطعة الدولية BDS، يمكن أن يكونا منطلقاً للتعاون، إذا ما اقتضت الحاجة إلى تحرك عابر للحدود لدعم القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من الرصيد الفلسطيني المهم الذي وجدته لدى الشباب التونسي في مختلف اللقاءات، فإنني شعرت بأننا نحتاج إلى مزيد من الوقت لتعميق التواصل، وذلك للانتقال من التوافق على تبنّي المواقف التقليدية الموروثة عن الجيل السابق، إلى بحث التغيرات والوقائع التي تتالت على فلسطين في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي فرضت نفسها على كل فلسطيني بشكل مختلف، فقد كان واضحاً أن هناك كثيراً من الجهد المطلوب بذله لجسر الهوّة بين "نسختي" من فلسطين التي حملتها معي ـ فلسطين الخاصة والمحدودة بتجربتي المعاشة ـ فضلاً عن غيرها من النسخ النظيرة لها، وبين فلسطين المتخيلة ـ الكبيرة الواحدة التقليدية ـ التي وجدتها عند الشباب في تونس، فهل كان هذا ممكناً؟ شيئاً فشيئاً تلاشت النقاشات الصاخبة والارتحالات بين المدن التي جمعتنا في الأشهر الأولى، ووجدنا أنفسنا نبتعد عن الاهتمام بقضايا الشأن العام ونذوب في شؤوننا الخاصة، وبات سياق الثورة بكثافته الأولى شيئاً يشبه الذكرى، ولم نعد نعرف على وجه الدقة كيف تشتتت الصداقات التي انبثقت منه، وضاع هاجس التغيير الذي كان موضوعه الأبرز، فيما بدا أنه تحوّل إلى اشتباك من نوع آخر مع الواقع كان على كل منا أن يختبره بمفرده، ويواصل كتابة الحكاية الخاصة به بمعزل عن أي علاقة جامعة.. فعلى امتداد الأعوام السبعة الماضية غرق المشهد العام في مخاضات عسيرة اختبرها التونسيون بلا هوادة، وعلا ضجيجها على كل شيء غيرها، بدءاً من المسار البطيء والمعقد لمرحلة الانتقال الديمقراطي، مروراً بالاضطرابات الاجتماعية المستمرة، وانتهاء بالتحديات الأمنية والاقتصادية التي انفجرت في وجوه الجميع وألقت بوطأتها الثقيلة على كاهل الجميع. وبمقارنة بسيطة لمآلات الربيع التونسي بانتكاس المسار السياسي للثورة في مصر، أو بالاحتراب الأهلي والتدخل الإقليمي والدولي في ليبيا وسورية واليمن والبحرين، أو بمقتل واعتقال وتشريد عشرات آلاف المدنيين وتدمير مدنهم وقراهم هناك، استطعت أن أنتبه إلى هامش المناورة المتاح لي، وأنظر بعيون هادئة إلى فسحة الإمكان الصغيرة التي يشعر المرء بوجودها في مكان ما بعد أن يخبو اشتعال الخيبات في روحه، وأمضي قدماً في الدرب الذي اخترته بإرادتي ووجدت نفسي فيه وحيداً في نهاية المطاف. أمّا الفلسطينيون الذين لم يجدوا متسعاً للتفاعل مع حراكات التغيير السلمي، وأمسوا محاطين بأقاليم موحشة وأنظمة مضطربة، وظل وضعهم السياسي يدور حول نفسه في قلب الأحداث، فظهروا كالخاسر الأكثر بؤساً من ترنح الربيع العربي وإفراغه من مضمونه والتشكيك في مقاصده، ذلك بأن الوطنية الفلسطينية التي وُلدت أصلاً من صدمة أبنائها بضياع قيمة الحرية، والتي صارت كامنة في روح الثورات وأصبح من التناقض أن تنأى بنفسها عن سياقها، ستظل تعيش في عالم متغير سِمة التحولات فيه من سمة النظم والقوى والظروف التي صدرت عنها، ولن تكون والحال هذه مفصلة على مقاس "القضية" وسرديتها وتطلعاتها؛ لذا فإن أبناءها باتوا مدفوعين إلى تعلّم كيفية الرهان على قواهم الذاتية والتوقف عن لعب دور المتفرج وانتظار تبدل توازنات العالم للاستثمار فيها. لقد وعد الربيع العربي بأفق أكثر اتساعاً من الأفق الذي كان متاحاً لي، وأعطاني الضوء الأخضر لخوض تجربتي الشخصية الأكثر فرادة، كما أنضج وعيي الفكري والسياسي بما يدور حولي في المنطقة والعالم، وجعلني أهتم بالمشاركة والتأثير في الحياة العامة، وأبحث عن دور لي في المجال الفلسطيني العام، فكان تأسيسي لمشروع أدبي موضوعه القضية الفلسطينية أحد المقترحات التي عملت عليها في سعيي لأداء ذلك الدور.. وقد أصبح الحدث العربي في هذا المعنى، حاضراً في حاضري ومصيري، وستبقى مدنه الحالمة وأبناؤه الغاضبين وهزائمه وانتصاراته مرجعاً لإلهام مَن يملك إرادة البحث عن مستقبل أفضل في منطقتنا.