(مونودراما عن المأساة الفلسطينية) لماذا نعود إلى عايدة؟ منذ عشرين عاماً، وقفت الممثلة والكاتبة التونسية الكبيرة جليلة بكّار على خشبة "مسرح بيروت"، كي تلتقي بعايدة. كان ذلك في سنة 1998، حين نظّم "مسرح بيروت" مجموعة من الأنشطة الثقافية والفكرية والفنية من أجل إحياء الذكرى الخمسين للنكبة، تحت عنوان: "50 نكبة ومقاومة". هذه الاحتفالية الكبرى التي دامت ثلاثة أشهر متواصلة، في قاعة المسرح المكتظة بالناس الذين أتوا ليعبّروا عن عطشهم إلى فلسطين، وسط ذلك التصحر الثقافي والسياسي الذي عاشته بيروت، كانت رسالة حب إلى فلسطين وإلى الفلسطينيين. عبّرنا عن حبنا عبر كسر جدار الصمت الذي لفّ المخيمات بالمذابح والحصار والحروب الوحشية. في لحظة بدت أشبه بالسحر عادت بيروت عاصمة للثقافة العربية، والتفّت كوكبة من الفنانين والمثقفين العرب واللبنانيين حول الاسم الفلسطيني الذي أعطى العروبة فكرتها الجديدة بصفتها رؤيا للحرية والتحرر من الاحتلال والاستبداد. جاءت جليلة بكّار التي عرفها جمهور "مسرح بيروت" في مسرحية "فاميليا" التي أخرجها الفاضل الجعايبي. في "فاميليا" أدهشتنا هذه الممثلة التي نجحت في تحويل تعابير وجهها وجسدها إلى مرآة للزمن، ودخلت في متخيلنا نموذجاً لقدرة المسرح على التحول إلى ملعب للرؤيا، وفسحة للتأمل والمتعة وإعادة النظر في الكيفية التي نرى من خلالها العالم. مسرحية "عايدة" التي هي مونودراما من إخراج الفاضل الجعايبي، احتلتها ممثلة وحيدة تبحث عن عايدة الفلسطينية لتجدها في داخلها. هذا التزاوج بين جليلة وعايدة، وبين العامية التونسية والفصحى، يعطي هذا النص بُعده الفني والسياسي والأخلاقي، وهو بُعدٌ متعدد المستويات يعلن أن فلسطين هي شعبها الذي يدافع عن حقه في الحياة، وهي مقاومة لم تتوقف منذ سبعين عاماً في مواجهة نكبة صنعتها الآلة الصهيونية العنصرية التي لا تشبع من التهام الأرض، ولا ترتوي من دماء الفلسطينيات والفلسطينيين. وقفت الممثلة وحيدة مع صمتها ولغتها، كي تعيد المعنى إلى المعنى، وتأخذنا إلى أسرار البحث عن الحرية. عندما عدت إلى قراءة هذه المسرحية التي صدرت في سنة 2002 عن دار الجنوب للنشر في تونس، مع مقدمة كتبها المخرج السينمائي الفلسطيني نصري حجّاج، أحسست بأن هذا الملف من "مجلة الدراسات الفلسطينية" سيبقى ناقصاً من دون "عايدة". فجليلة تضيف إلى الأعمال المسرحية الرائعة، مثل مسرحية "الاغتصاب" لسعد الله ونوس التي أخرجها جواد الأسدي، وأعمال روجيه عساف، وجلال خوري، نكهة تونسية خاصة، فهي تروي فلسطين كي تروي تونس أيضاً. كتب حجّاج في تقديمه: "تحضر فلسطين في هذا النص ليس للبكاء، وإن كانت تحمل وجعاً لا نستطيع أن نتداركه، ولكنها تحضر مثل ضوء ساطع يكشف الغطاء عن الوهن والشحوب في البنى السياسية." هذا الضوء بهر عيوننا، ليثبت مرة أُخرى أن المسرح التونسي يشكل علامة أساسية في مشهد البحث الثقافي العربي عن الجديد والمعبّر. أعمال الجعايبي وبكّار وتوفيق الجبالي ورجاء بن عمّار وبقية الكوكبة التونسية الجميلة، يجب أن تكون في زمن "الربيع العربي"، مركز الاهتمام الثقافي الذي ينهض على الرغم من كبواته. نقرأ "عايدة" من جديد، كي نكتشف ومض الحرية الذي يمتد من تونس إلى فلسطين، ونستعيد جزءاً حياً من ذاكرة الحرية. إ. خ. المدخل إمرأة في السادسة والأربعين من عمرها في يدها ملف تدخل كأنها تبحث عن شخص تحدق في المتفرجين تقف أمام منصة عايدة... عايدة جيت على خاطرك نحب نراك... نشوف ملامحك نسمع صوتك... ضحكتك ما زلت تعرف تضحك؟ نظرتك ما زالت حادة حيّة وإلاّ طفات شعرك... طويل... قصير... مسرّح... مسيّب وإلاّ محجوب عن الأنظار آش بيك ما تحبّش تقابلني بالك تظن جيت لهنا باش نمثّل لا.... جيت وحدي... بقدّي ... بلا قناع ماني مختفية وراء أي شخصية مسرحية ... نحب نقابلك ... نراك... نحكي معاك... العين في العين جيت على خاطرك عايدة تتوجه نحو الخروج ثم ترجع تتساءلون لماذا أبحث عنها هنا؟ لأنني أعرف أنها هنا وكيف أعرف أنها هنا لأنها تعلم أنني هنا بديهي... لا؟ لعلها خرجت من هنا إلى مكان آخر مجهول عايدة عايدة... علاش ما تحبش تقابلني؟ صارت حاجة قلّقتك؟ عايدة نعرفك هنا علاش ما تجاوبنيش تحبهم يقولوا عليّ مجنونة تحكي مع مجهولة لا عايدة ماكش مجهولة صورتك دابغة هوني نغمض عيني نراك نحلهم تغيب مهلة منذ أن تعرفت عليك لم أتخلف ولو مرة على موعد معك عايدة عايدة... كم كنت سعيدة قبل أن أسمع عنك وأن أتعرف عليك وقبل أن أدرك أنه توجد في هذه الدنيا أرض اسمها فلسطين الموقف I تحمل الملف تقرأ عايدة جئت لأتذكر معك الذاكرة شيء جميل رائع وقاسٍ في نفس الوقت صور... روائح... أصوات... أحاسيس... حتى لو حاولنا فسخها... فهي تبقى غصباً عنّا... عايدة... أعرف أعرف أنه عندما كانت عائلتي ومدرستي تعلّماني أنه شيء أساسي وطبيعي أن تكون لنا أرض أن يكون لنا وطن بيت يحمينا نعيش فيه أسياداً كنت أنت منذ أعوام تعيشين السنوات الأولى للمأساة... عايدة كم كان سنك في ذلك اليوم من أفريل 1948؟ ثلاث سنوات؟... ماذا كنت تفعلين؟ تلعبين؟ ترقصين؟... تضحكين؟ تغنين جاهلة ما كان يحدث عايدة أتتذكرين؟ أتتذكرين خوف أمك وجدّتك أمام القصف اليهودي على يافا، مدينتك؟ أتتذكرين خوف أبيك... عندما رجع في الصباح الباكر بعد ليل قضّاه في الدفاع عن يافا ضمن جيش الإنقاذ؟ أتتذكرين صوته وهو يحاول إقناع أمك وجدّتك بالهروب على متن باخرة ستبحر إلى بيروت؟ أتذكرين استسلامه أمام رفض جدّتك مغادرة المدينة التي ولدت فيها والتي دُفن فيها زوجها؟ أتتذكرين موافقته على اقتراح أمك الانتقال بكم إلى بيت أخيها في حي العجمي حتى تهدأ الأمور... أتتذكرين؟ تقعد على الكرسي وسط الرُّكح [1] نعم... أعرف أنك تتذكرين تتذكرين كل هذه الأصوات والوجوه وأنت بينهم تحدقين في وجه ثم وجه متسائلة متى... ستستطيعين اللجوء إلى الشاطئ أمام البيت لتلعبي وتبحثي عن الصَّدف حتى تكملي العقد الذي بدأت جدتك صنعه لك تتذكرين تتذكرين قبلة أبيك المبللة بالدموع ودهشتك أمامها إذاً الرجال أيضاً يبكون!!... تتذكرين رائحته.. وهو يضمك إليه عرق... مسك... عطر فوّاح... وترينه ترينه يخرج ترينه لآخر مرة... صمت وترين أمك تأخذ حقيبة وتملأها ملابس وحاجيات يومية.. وترين جدتك تنظر إليك ثم تمسك بيدك وتضمّ قائلة لك "اتبعيني... اتبعيني..." فتدخل بك إلى الغرفة الأولى وتقول لك "أغمضي عينيك أغمضي واستنشقي... عطر... رطوبة بقايا برتقالة..." ثم تأمرك بفتح عينيك "انظري... انظري... إلى الحيطان وإلى السقف إلى المفروشات والصور... الكراسي والستائر انظري وسجّلي سجّلي كل ما ترينه يا ابنتي ولا تنسي شيئاً..." وتتجول بك من غرفة إلى غرفة ثم تخرج بك إلى البستان الصغير المزروع ليموناً وبرتقالاً وتهمس لك "استنشقي رائحة البحر ممزوجة بأريج أزهار البرتقال سترجعك إلى يافا أينما كنت... انظري إلى بيتنا بيتنا من حجر وسقفه قرميد..." ثم تقفل الباب وتسلّم المفتاح إلى أمك كانت آخر مرة تشاهدين فيها بيتكم في حي الرشيد... في يافا في يوم من أيام أفريل 1948". صمت الموقف II الممثلة تتنقل تنزع كبوطها تعلّقه تقاف قدام طاولة تهز كتاباً قديماً تُخرج منه تصويره مستصغرة تورّي التصويرة 48... أنا ما زلت ما تخلقتش أمّا خال أمي... خالي عبد الرزّاق تطوّع مع آلاف التوانسة... يحب يدافع على فلسطين قطعوا ليبيا ووصلوا للحدود المصرية وقفوهم وسجنوهم... قالوا له "روح حرر بلادك... بلا فلسطين..." ترجّع الصورة في الكتاب خالي عبد الرزّاق الله يرحمه مات من غير ما يفرح بفلسطين أمّا تونس تحررت... عام 56 وقتها أنا تعرفت على اليهود... يهود تونس عرفتهم قبل ما نعرفك... عايدة قرون متعاشرين مع العرب بعدما هربوا من الأندلس وحتى قبل هجّوا مشاوْا من تونس واللي قعدوا قلايل يهود تونس نحكيوْ عليهم في فرصة أُخرى. الموقف III تبعد عن الطاولة تقاف وراء الطاولة اليهود الذين تعرفت عليهم أنت جاؤوا من بولندة.. تقاسموا معكم بيت خالك في حي العجمي حي العجمي الذي قضيتم فيه عشرين شهراً فُقد خلالها أبوك ووُلد أخوك ناصر عايدة أتتذكرين يوم رحيلكم إلى أريحا...؟ أتتذكرين أين سكنتم؟ في غرفتين من طين في أحد البساتين بعيداً عن يافا بعيداً عن البحر ترجع للمنصة تقاف قدامها أريحا أول مدينة فلسطينية نسمع بيها في مارس 1965 حتى القدس كنت نظنّها في السعودية قرب مكة أريحا، زيارة بورقيبة وخطابه بورقيبة تتذكروه؟... دفنتوه ونسيتوه أنتو ما زاده؟ مارس 65... وقتها عرفتك... عايدة قداش كان عمرك عشرين سنة... طالبة، آش كان وعيك؟ حضرت على الخطاب؟... كنت من بين اللي سبوه... وشتموه؟ وإلاّ من بين اللي سمعوه... إحنا في تونس سمعناه... إحنا معناها أمي وبابا وأنا قدّ الشِّبر نسمع ونتساءل الإذاعة التونسية تشكر وتمجد في الشجاعة الأسطورية وفي الرأي السديد للمجاهد الأكبر... وصوت العرب في القاهرة تسبّ وتشتم في الخائن الأكبر للقضية وللأمة العربية... عميل الإمبريالية... والصهيونية والزبدة المرحيّة وأنا داهشه آش نية فلسطين؟؟ وبابا يشرح... "بلاد عربية افتكّوها احتلوها لنا اليهود وواجبنا نحرروها... كيف ما حررنا تونس والجزائر" تقاف قدام الكرسي إحنا؟ إيه إحنا! إحنا التوانسة؟ لا... إحنا العرب! آه... وأمي متعاركة مع جمال عبد الناصر أيامها كرهته آش بيه عربي أكثر منا؟ كل واحد ورأيه الفايدة موش في الكلام والخطابات الرنانة الفايدة في الفعل المصارية [المصريون] معروفين فراعنة... ما يحبوا كان كلمتهم اللي تمشي خالي عبد الرزاق موش طردوه عام 48 وقالو له "روح حرر بلادك، بلا فلسطين" وإحنا إنفجموهم[2] اليهود؟ كان جاو وحدهم يمكن أمّا معاهم الأنقليز والفرنسيس باش يمسحوا ذنوبهم معاهم هداولهم بلاد العرب... ملاّ غلب.!! تبعد عن الكرسي ربّي معانا ربي علاش معانا وموش معاهم أمي؟ على خاطرنا مسلمين العرب موش الكل مسلمين هاو مسيو صابا Monsieur Saba جارنا عربي سوري من حلب وأستاذ عربية وحامل صليب على صدره هو ومرته بكل صفة الفلسطينيين مسلمين جاوبها بابا: فيهم المسيحيين... سكتته: عرب... فلسطين عربية تدور تبعد تقاف الموقف IV تمشي للطاولة تاخذ سيكارو تشعله عايدة علاش ما حبّيتش تْجِي؟ علاش ما حبّيتش تسمعني؟ تعرف؟ كل ما عشته أنت عشته أنا معاك بقرة قوية... وبغل كبير... كيفاش تحبني ننسى هاك الصباح الأظلم... صباح 5 جوان 1967...؟ الهزيمة... الخيبة نكسة أُخرى لجيل آخر من العرب أنا راقدة وأمي تفيِّق فيّ وتبكي... قوم... قوم... الحرب... الحرب وين... عندنا...؟ إيه هجموا على مصر وسورية والأردن الدنيا وقفت... الإذاعة تبكي... تبث في أناشيد وطنية... "يا شباب العرب يا أهل الحميّة هبوا للطلب بقلوب قوية يوم الاتحاد فلنكن جميعاً ننادي لتحيا الأمة العربية وقولوا لتحيا... الوحدة العربية" وأنباء من المصادر العسكرية النفس مقطوع نحسبو في أعداد الموتى... المجاريح... المفقودين... الأسرى جيش عرمرم مسلّم بسلاحه وبعتاده للصحراء هارب حافي... الطلبة خرجوا يتظاهروا ضد الصهيونية والإمبريالية... ووحدة من الجيش التونسي يقودها الضابط الشابي ابن أبو القاسم الشابي الشاعر اللي كتب فعولن فعولن فعولن فعول "إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. ... فلا بد... أن يستجيب" فعولن فعولن فعولن فعول الوحدة كانت تستعد للالتحاق بالجيوش العربية الأُخرى أمّا عمرها ما عدّات الحدود التونسية الوقت ما كفاهاش ستة أيام... ستة أيام برك وتهزمت الجيوش العربية ستة أيام... الوقت اللي مكّن الرب الأعلى من خلق العالم حسب التوراة والإنجيل واليوم السابع ما ارتاحوش تقبلوا تهاني العالم المنبهر أمام معجزة ها الجيش الصغير اللي محق جيوش منطقة كاملة David ضد Goliath David وقف وتكسّل مد ذرعانه وتوسع ولمّ على الكل حتى القدس... صمت قصير تطفي السيكارو ويقولولي اِنسَ ظلام عايدة أعرف لماذا ترفضين الاستماع إليّ لأنه في ذلك الوقت عندما أدركت أنا عمر الحب الأول ورسائل الغرام عشت أنت أشياء كثيرة في تلك الفترة... ماتت جدتك ودُفنت في أريحا ودخلت أنت المقاومة... وتعرفت على "سيف" "سيف" حبك الأول والأخير... معه وقفت... ومعه قاومت... وصمدت... ومعه حلمت... ومعه دافعت... ومعه قاتلت... ومعه قلت... أريد... أريد شيئا آخر يرجع الضوء تقعد على الكرسي ومعه خرجت من فلسطين من فلسطين إلى عمّان وفي مخيم البقعة.. تزوجت... في شبه بيت... لم تكن فيه شجرة برتقال ولم تكن فيه ولو زهرة واحدة... لكن أمك أهدت لك المفتاح وقالت: "لا تخافي يا ابنتي إننا لراجعون إلى بيتنا... وسأعطيك غرفتي وتختي... وجهازي... وستخلّفين بنتاً وتزوّجينها تحت شجرة البرتقال... لا تنسي بيتنا من حجر وسقفه من قرميد..." أخذت المفتاح... ومنذ ذلك اليوم... وكل صباح... أينما كنت... قبل أن تفتحي عينيك.... تفتحين باب بيتكم في يافا وتتجولين فيه من غرفة إلى أُخرى... تتلمسين الحيطان تتكئين على التخت... تفتحين الخزائن والشبابيك لكي تخرج رائحة الرطوبة... تطوين الشراشف تمسحين صورة أبيك وأمك... يوم زفافهما وتقبّلين صورة جدتك... ثم تقفلين البيت بالمفتاح وتفتحين عينيك... لتواجهي يوماً جديداً آخر من أيام التشرد والضياع... الموقف V ترجع للطاولة تعبّي كأس ماء تشرب سنة 70 ناصر مات وأمي بكات علاه يا أمي؟... على خاطر مات مغلوب... والمغلوب انقلب على المغلوب وكان سبتمبر الأسود... ودخلت التلفزة للبيوت... وصرنا نشوف... والمخبّي صبح مكشوف... يهود تمحي في آثار العرب تبني وتشيد على أراضيها وعرب تتقاتل عن بكرة أبيها... ترجع للمنصة ما عاد فاهمة شيء... وما عاد نحب نفهم حتى شيء "لا... يلزمك تفهم من واجبك إنت تفهم" الرفاق قالوا 72 – 73 ... اليدين مرفوعة الطلبة تتظاهر على كل شيء مقتنعة أنه في إمكانها تغيير الأوضاع يكفي أنها تخرج وتقول لا... لا... لا... "نحن هنا وموجودون والتاريخ لن يُكتب بدوننا" هذا ما قاله الشباب في ميونيخ في ألمانيا ألمانيا وماضيها القريب الألعاب الأولمبية... رياضة وسلام وغرب متناسي حامل نظارات سوداء... صرخ وقال... "ما هذه الوحشية... أيقتلون يهوداً مسالمين... تباً لعديمي الإنسانية" كم كنت معتزة عايدة بتلك الوحشية عايدة... كان تعرف قداش حبيتك وقتها... قداش اشتهيت نضمك ونقبلك إنت وأصحابك ما كنتش معاهم... وين كنت؟ من مخيم إلى مخيم من بلد عربي إلى آخر ومن حرب إلى حرب من مخيم البقعة في عمّان لمخيم اليرموك في الشام ثم إلى بيروت الموقف VI تبعد عن المنصة عايدة... عايدة تعرف اللي أول مرة كدنا نتقابلو فيها سنة 73 كانت في لبنان أنا جيت في أوت وإنت بعد حرب أكتوبر كان أول جواز سفر ليّ... أول سفر... وأول عرض خارج تونس في مهرجان "دير القمر" بمسرحية "جحا أو الشرق الحائر" سمعت بيها؟ الشرق البعيد... القريب... وانت كنت حامل ببنتك "جفرا" اللي ولدتها في 7 ديسمبر 73 سيف سماها... على أمه كان مجنون بيها وإنت أحلى ثلاث سنوات قضيتهم رغم كل شيء... وخاصة رغم الحرب حرب لبنان... حرب الجنون إيه... جنون تخاطب القاعة ربما هم في لبنان لهم تفاسير منطقية... دينية... طائفية موضوعية... سياسية... استراتيجية تاريخية... جغرافية لنوعيات التحالف والتعادي أمّا إحنا في تونس كيفاش تحبنا نْتَبّعو... بالنسبة لينا لبنان جن... جن... وجنونه يَتَّم "جفرا" ورَمَّل "عايدة" لم تعرفي من أين أتت الرصاصة لكنها أتت... أهي من قناص مجنون أم من عدو مهزوم أم من حليف مأمور..؟ الموقف VII عايدة تونس إحنا زادة في تونس ما كنّاش عايشين في جنة ما ثمّاش حرب أمّا صعيب تدافع على رأي... وتتمسك بموقف أمام ضغوطات وتناقضات الحاكم، تخاذل المثقف وانتهازية الأغلبية ترجع للمنصة سبتمبر 82 باخرة قادمة من بيروت إلى أرض الوطن باخرة قادمة من بيروت إلى تونس لم يُطردوا من بلادهم فحسب بل من المنطقة كلها كان أخوك ضمنهم جاء إلى تونس... وترك زوجته وأبناءه وأمه أمّا أمك فقد فضلت البقاء في بيروت تركهم أخوك كلهم في صبرا وشاتيلا... صمت ليس لي أي تعليق الهواء قَلّ الكلام ثقل... ما عاد عنده معنى جالسون أمام تلفزاتنا... نرى ونسمع تعاليق التلفزات الغربية كان الغرب متأثراً... متأثراً... متأثراً... فقط... وبكت جفرا وبكت جفرا على جدتها وبكت جفرا على جدتها وعلى أبناء خالها فاحتضنتها عايدة وقالت لها "لا... لا تبكي... انظري المفتاح عندي... مفتاح بيتنا في يافا... بيتنا من حجر وسقفه قرميد وحوله بستان فيه شجر ليمون وبرتقال ستكبر ابنتي وسأزوجها تحت شجرة البرتقال وستخلّف أبناء يملأون البيت ضحكاً وصياحاً يلعبون في الشاطئ... يصطادون السردين... ويبحثون عن الصدف" كتبتُ "لام" عام 82 ولم تُقدّم في الصيف مُنعت المهرجانات الصيفية حداداً... إثر الاجتياح ولم تقدم إلاّ يومين بعد وصول باخرة الفلسطينيين ترجع للطاولة تأخذ الكتاب تونس 82 الجرح معفّن واليأس مسيطر والغضب طالع غضب ضد العدو الغاشم ضد الحاكم السلطة اللي سكرت علينا البيبان ضد جيلنا اللي سَلَّم وغرق في عركات جزئية ثانوية وعقيمة ما العمل؟ وقفة على ركح مسرح صيحة... المسرح منّعنا[3] المسرح أعطانا رقعة نتنفس فيها فكانت لام للمسرح الجديد لام تناغم على ألف لام ميم ومنها ألم ومنها أمل ومنها مال ومنها لام لامَ يلومُ لوماً وانتحر لام مسرحية تنبّئية تحكي الهزيمة أسود قاتم خطاب متشائم في غرفة سوداء وطفل في الثالثة عشرة من عمره يقطع لسانه ويكتب بدمه على المرآة "الهواء قلّ والكلام ثقل ما عاد عنده معنى" تحمل الكتاب تقرأ ويقول قبل ذلك "يا ناس.. يا أحبابي عرفتكم أحرار ريتكم تتظاهروا شفتكم تجريوا العين نار الذراع يتوعد الريق ناشف والكلام جهار شفتكم تبكيوا على الرجال المغلوبة النساء المحجوبة اليدين المضروبة الحقايق المقلوبة الأرض المغصوبة والآمال المصلوبة فينكم يا أصحابي؟ آش صادكم يا ناسي؟ آش بيه حسّكم قل؟ آش بيه ذراعكم مَلّ؟ آش بيه راسكم ذَلّ؟ آش بيه شرابكم يا أحبابي آش بيه شرابكم.. خَلّ؟..." الموقف VIII تونس تونس اللي أصبحت منذ سنوات قليلة المقر الرسمي للجامعة العربية بعد ما مشى السادات للكنيست وجلس بين بيغن وموشيه ديان بعد ما صافح وقَبّل وإحنا نتفرجوا باهتين دم شهداء 67 شربته الصحراء... وتنسى... تونس اللي عاشت أيام صعيبة بين أحداث 26 جانفي 77 تصادم فيها البوليس والجيش مع النقابيين وأحداث الخبز في جانفي 83 تونس أصبحت قبلة الزائرين ومفترق ثنايا من اللي احتضنت منظمة التحرير أكتوبر 85 العاشرة صباحاً انفجار الإذاعة التونسية: "علمنا أن طائرات حربية مجهولة الهوية قد قامت بقصف جوي على منطقة حمام الشاطئ" طائرات مجهولة الهوية؟ مجهولة الهوية حتى آخر العشية! أمّا التلفزة الإيطالية من الصباح خبرت آش كونهم منين جاوا وكيفاش وجاوبت على بعض تساؤلات التوانسة أسئلة... أسئلة... رسمياً بلا أجوبة أسئلة أسئلة ابتلعناها وأخفيناها لكي لا تؤدي بنا إلى شعور جديد لم نعرفه من قبل... الشعور بالذنب... لكن هذا الشعور وجد طريقاً جديدة ولجت مشاعري وسكنت أحلامي نمت ليلة فحلمت بنفسي حاملاً جنين في بطني... له كل الصفات التي تمتلكها اللغة العربية فكانت عرب مسرحية أُخرى للمسرح الجديد سنة 87 مسرحية تحكي الهزيمة ترفض الأمر المقضي والحاضر المر تقول فيها حورية الحبلى من سيف المقاوم الفلسطيني اللي استشهد في بيروت تقول لـ خليل صاحبه التونسي المهزوم والمسلّم "إنت ما تؤمن بشيء وأنا نؤمن بتوّه.. بغدوه ببعد غدوه نؤمن بهذا" تضع يدها على بطنها "لو كان نخمم لحظة اللي باش يطلع لي كيفك مهزوم... مسلّم... نفرّي كرشي حالاً نفقسه في سطل ماء نحبّه حر كيف بوه يسوى ألف من بوه يكبر لي شوكته واقفة أنيابه تشرّق غليظ... شديد... مقدام... منتقم... رابح... منتصر... معزّ... قوي... محارب... مجاهد... صامد... عاشق... عالم... فالح... ذكي... سخي... طيب... حليم... نولده بعيد عليكم معشر الخاسرين" يجاوبها خليل "هذا موش بطل هذا هو المهدي المنتظر" صمت الهزيمة أصبحت شيئاً عادياً يعايشنا يواكبنا في كل حين الخاتمة تغيب وترجع بجنب الطاولة حتى اندلعت شرارة أولى لأمل جديد في 7 ديسمبر87... عندما مسك أول طفل فلسطيني من مخيم جباليا في غزة أول حجرة ورجم بها أول جندي يهودي فوقفنا وراء هذا الطفل معتزين بهذا الجيل الجديد... جيل ابنتك وابنتي... لكنهم أتوا إلى هنا إلى تونس في أفريل 88 أتوا في عتمة الليل واغتالوا أبو جهاد لكي يطفئوا شرارة أوشكت أن تكون ناراً حارقة كيف أتوا؟ كيف وصلوا إليه؟ ألم يكن تحت حماية سيدي بوسعيد الباجي؟ أسئلة أُخرى أسئلة... أسئلة وأجوبة... لم تكن مقنعة وأدّت هذه الشرارة إلى المصافحة مصافحة 13 سبتمبر 93 فغابت عني أخبارك... عايدة لماذا؟... أين أنت؟ حاولت الاتصال بك عدة مرات جئتك إلى بيروت عام 94 بمسرحية "فاميليا" مسرحية حول الذاكرة جئتك متقمصة شخصية عجوز تشبه أمي وجدّتي... لكي أعرّفك بهما... ولم تأتي... ورجعتُ في 95... بمسرحية "عشاق المقهى المهجور" ولم تأتي رجعتُ لأعرّفك بأمّ جزائرية تعيش مأساة أُخرى وقدّمنا عرضاً لنساء فلسطينيات جئن من صيدا... ولم تأتي لماذا...؟... أين اختفيت؟ أين كنت؟ في برج البراجنة؟ في النهر البارد؟ لماذا لم تأتي إلى بيروت؟ عايدة... أين أنت؟ كيف أصبحت؟ أما زلت صامدة؟ أم استسلمت كالكثيرين هنا وهناك؟ شكّوا... فاكتفوا بالدفاع عن مصالح شخصية نسوا أوطانهم ودفنوا القضية.. لا.. عايدة.. لا لست مثلهم رأيتك عايدة أخيراً رأيتك رأيتك على حافة قرن يحتضر تقولين له انتصفت ولم تُنْصِف فلن تخرج من غير أن تعدل هذه المرة لن تكون شرارة بل ناراً تتلظّى لم تعد تكفي أسطورة الحجر رأيتك وسط شباب مجنّد رأيتك تعطين بندقية رأيتك تسعفين جرحى رأيتك تحملين طفلاً رامي حجر رأيتك تواسين أمّاً تنعي ابناً درّة عين رأيتك بجانب فتاة تصرخ في وجه جندي مدافعة عن بيت الشرق رأيتك مع الذين جرفوا منازلهم واقتلعوا زياتينهم رأيتك محبوسة داخل حدود قرروها ويحاولون أن يثبّتوها ورأيتك جدة تحت قصف المروحيات والطائرات ماسكة يد حفيدتك ابنة جفرا تروين لها قصة بيت من حجر قالوا ضاع واندثر فتقولين لها اغمضي عينيك وما ترين إلاّ ما أصفه لك فتصوّرين لها الغرف والأثاث الألوان والروائح بهرة الصباح وانعكاس أشعة الشمس على الستائر ظلمة الليل وانزلاق القمر على الوسادة وتصفين لهم طعم حلوى الجَدَّة وعذوبة صوت الأم مذ كانت تغني ثم تهمسين لها انسي رائحة النار والدمار واستنشقي إنها رائحة البحر ممزوجة بأريج أزهار البرتقال إنها رائحة يافا لا تخافي إننا لعائدون إليها عائدون ثم رأيتك ترفعين رأسك وتحدقين في وجهي قائلة أنا وحدي مع شعبي وأين أنت؟ أبالبكاء نحرر الأراضي؟ أبالأحلام والأشعار نمنع قتل الأطفال؟ أبالكلام نسترجع حقاً سلبته منّا الأفاعي؟ ماذا فعلتِ؟ أين أنت يا من أنشدت لي "وينكم يا أصحابي آش صادكم يا ناسي آش بيه حسّكم قلّ آش بيه ذراعكم ملَ آش بيه راسكم ذلّ آش بيه شرابكم يا أحبابي آش بيه شرابك خلّ" فترينني أُمَهْمِهُ حائرة ما العمل؟ مددت يدي فقطعوها أهديت دمي فهدروه صرخت فأضاعوا صوتي في غوغاء خطاباتهم فاكتفيت بعدّ الموتى والتصدي للنسيان أعترف يا عايدة أنك أصبحت بطلة مسلسل تلفزيوني أعترف لكن ما العمل؟ ما الحيلة للوصول إليك؟ كيف أنسى خوفي وأتجاوز جبني؟ كيف أتحمل العيش بعد فقد موتاي وأتحدى الموت مثلك؟ عايدة يا عاشقة الحياة لا تديري وجهك عني ولا تيأسي مني فأنت نجمتي التي تهديني للطريق خاصة اليوم اليوم والأرض فيه ترتعش تحت أقدام عملاق متجبر وغاضب أصابوه في عينيه فهدد وتوعد مَن لم يسانده ووعد بأرض لمَن يسكت لكنك لن تسكتي تريدين يافا ولا شيء غير يافا وستصلين إلى يافا .................. أبعدوك وتناسوك قالوا لك لست من هنا ولا حق لك في العودة لكنك صامدة عايدة البيت لك والمفتاح عندك ............ عايدة... لو كنتُ عصفورة لأخذتك على جناحيّ وطرت ولرفرفت بك على أرض فلسطين محلِّقة فوق سهولها وتلالها جبالها وحقولها تينها وزيتونها من حيفا إلى نابلس ومن القدس إلى يافا ولوقعت بك على غصن شجرة البرتقال في بستان بيتكم... في حي الرشيد في يافا ...... عايدة شُكّي في كل شيء... إلاّ في العودة حياتنا قصيرة أمّا الزمان طويل لو كان موش إنت جفرا ولو كان موش جفرا بنت جفرا المفتاحُ عندك ولا تنسي بيتك من حجر وسقفه قرميد وحوله بستان مزروع ليموناً وبرتقالاً وأمامه البحر [1] خشبة المسرح. [2] نقدر على. [3] أعطانا مِنْعة. فاميليا للإنتاج. الإخراج: الفاضل الجعايبي؛ التوضيب: نرجس بن عمّار؛ توضيب الإنارة: أحمد الحاج محمد؛ إدارة الإنتاج: الحبيب بالهادي. الشكر والامتنان إلى: قيس رستم؛ نصري حجّاج؛ هشام الشيرشي؛ إدارة فضاء مدار قرطاج.