ملحمة فلسطين في دوامة التراجيديا العربية
النص الكامل: 

في الزمن الصعب الذي نعيشه من دون أن نفهم كثيراً من أسراراه، أتساءل أحياناً ماذا يمكن لكاتب عربي، من المغرب الكبير، مشبع بفلسطين مثلما تلقاها منذ اللحظة الأولى، أن يفعل؟ كيف يمكنه أن يكون فلسطينياً ولو قليلاً، بعمله وتعاطفه، وأكثر، بكتاباته؟ هل يكتب رواية ليتخطى المسافات باللغة والمعاني، مثلما يرفع الجزائري البسيط اليوم العلم الفلسطيني في كل حراكه الضخم فقط ليثبت للعالم بعفويته، أو على الأقل للعالم الذي في رأسه، أن فلسطين لا تزال قضيته الأولى حتى لو يئس من إخوة الدم والتاريخ؟ في أعماقي، أحسد هؤلاء الشباب العفويين الذين لم يصبهم ما أصاب المثقف. ما أصابنا. وفي المقابل، لا يمكن لكاتب وصل إلى حالة إشباع قرائي وسياسي للحالة الفلسطينية، أن يقبل أيضاً بما يُفرض اليوم من حلول تعتبر فلسطين حالة منغِّصة، عليها أن تسير في ركب الخيارات الأميركية، وبمعنى أدق، ربما الإسرائيلية، وأن يكتب تاريخاً روائياً، ويقول تلك اللحظة الصعبة التي لم ينتبه لها الآخرون. يحلم على الأقل. لا رواية من دون تلك اللحظة الاستثنائية التي تصنع الإبداع، وإلاّ سيصبح الفعل الأدبي سيلاً من الكلمات المكررة. في الرواية التاريخية معاناة كبيرة لا توصف، والجهود المضنية تغيب وسط التاريخ نفسه واللغة المستعارة للتعبير عنه. فلا بد إذاً من أن يكون هناك عنصر ما في هذا التاريخ جعل الهزائم تتكرر باستمرار، وفي حقب متعددة، وبأشكال تكاد تكون متشابهة، كأن الزمن لم يتغير، أو كأنه يتغير بالعودة إلى الوراء؛ أو ربما هناك نقطة في مساحة دائرية، كلما ابتعد عنها، وجد نفسه فيها في دوامة تكاد تتحول إلى قدر لا يمكن تفاديه. عن أي فلسطين نتحدث؟ فلسطين التاريخ مثلما عرفناه قبل سنة 1948؟ فلسطين المقاومة التي لم تتوقف قط؟ أم فلسطين الأمر الواقع؟ ثلاث حالات تتحكم في تراجيديا الكتابة اليوم عن فلسطين. فلسطين التاريخية تغيرت كثيراً منذ قرار التقسيم الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 / 11 / 1947، ورفضه العرب متّكلين على جيش إنقاذ عجز عن إنقاذ نفسه من هزيمة قاسية. لم يعد هذا التاريخ موجوداً بعد أن نهبت إسرائيل فلسطين كلها، وحتى ما سُمي دولة فلسطين، لم يبق منه شيء كثير. دولتان في بلاد واحدة: رام الله وغزة، ومستعمرات على مد البصر تأكل آلاف الهكتارات من الأراضي الفلسطينية الخصبة. فلسطين المقاومة؟ بدأت تضمحل منذ القبول باتفاق أوسلو. انتهت الانتفاضة الأولى والثانية، والانتفاضة الثالثة أصبحت صعبة بعد المتغيرات على الأرض. ما يحدث في غزة مقاومة، لكنها معزولة ولا سند لها إلاّ الجسد الفلسطيني. فلسطين الأمر الواقع؟ هي فلسطين اليوم، عرضة لعمليات الإفناء كلها داخل اليأس العربي المعمم. مع أي فلسطين يتعامل الكاتب العربي اليوم؟ هل انغلقت سبل التحرر، أم إن هذا المثقف لم يعد قادراً على إبداع فلسطين الأُخرى؟ كيف يمكنه من داخل هذا الشتات الترابي أن يعيد ترميم وتخيُّل زمن آخر أكثر قابلية للحياة؟ يبدو الأمر سهلاً على مستوى الخطاب العام، لكن على مستوى الفعل الإبداعي، سيختلف الأمر كلياً، إذ على الكاتب تفكيك اليقينيات التي لا تقبل بالهزيمة، بل إنها تحللها وتعيد قراءتها، ثم تحولها إلى انتصارات وهمية، أو تبحث لها عن مشجب تعلق عليه هزيمتها، كأننا في فرنسا بعد هزيمتها القاسية مع النمسا، في سبعينيات القرن التاسع عشر، حين ألصقت خراب بنياتها العسكرية الداخلية بضابط يهودي اسمه دريفوس، في ظل معاداة مستفحلة للسامية. ولولا كاتب عظيم مثل إيميل زولا الذي وجّه إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، رسالة مشهورة حملت عنوان "إني أتهم"، أعاد فيها بناء الهزيمة وآلياتها التي لا دخل فيها لدريفوس، لكان هذا الضابط الشاب أُعدم بتهمة الخيانة العظمى. هذا كله يحدث في ظل دوامة الانهيار المتواتر الذي لا يفتح أي أفق على مستقبل آخر غير اليأس. يأس قد يعيدنا إلى أحجامنا الحقيقية في ظل عالم يركض بسرعة مخلفاً وراءه مَن لا يستطيع اللحاق به. هل هي اللحظة القاسية المصاحبة للسقوط النهائي المدوي؟ كيف يُطلب من عالم يتفكك، وعلى حافة الانهيار، أن يحل مشكلة عويصة مثل قضية فلسطين، وهو لا يستطيع حتى أن يجد له مكاناً في عالم آخر يملك سبل اختراقه وإجباره على الإصغاء إليه: النفط. قد يبدو الأمر مستهلكاً لكنه الحقيقة الأخيرة. يملك العربي حبل نجاته، لكنه يحتاج إلى قليل من الذكاء والابتعاد عن التبعية، وهما عنصران نادران اليوم، في العصر الذي يعيشنا بتحولاته، ولا نملك أي مسلك للدخول في أعماقه، أو لننحت لأنفسنا زاوية صغيرة نفرض فيها احترامنا عليه. خرجت اليابان منكسرة من حرب عالمية ثانية هزمتها بقنبلتين نوويتين، لكن بفضل الرغبة في الحياة والتبصر والعقل، استعادت حضورها وهي المكروهة عالمياً مثلما أراد لها الإعلام العسكري الأميركي أن تكون. الأجيال العربية المتعاقبة كلها تحمل هزائمها الخاصة بها، وتحمل جراحاتها. جيل يورث جيلاً آخر خيباته مضافاً إليها خيباته الخاصة. وفي عمق هذه الصور الرمادية كلها، تظل فلسطين حاضرة بقوة، تذكّر العرب بمأساتهم الشمولية التي تحولت فيها فلسطين إلى مؤشرهم الرمزي، في صعوده وانكساره. كلما طُرحت القضية الفلسطينية مشفوعة بالخيانات العربية، تساءلت في أعماقي: عن أي خيانة نتحدث؟ يبدو كلامي غريباً بعض الشيء، فما يسمى خيانات عربية هو في النهاية مجرد تجليات عقلية المهزوم. لا يُنتظر من المهزوم أن يحل مشكلات تتجاوزه، بل متى كان للمهزوم رأي سوى رأي السيد المنتصر والمذل؟ فهو يسير في مساراته منكّس الرأس، وينفذ ما يؤمر به. وكلما التفت وراءه وتذكّر، أو ذُكّر بالقضية الفلسطينية، صرخ قليلاً ليؤكد يأسه الكلي في عالم يعيش على هوامشه، حتى لو بدا في صلبه. نحن داخل الفجيعة من حيث لا ندري أو ندري، حيث انغلق علينا كل شيء، وأصبحنا أسرى الهزائم واليأس. نحن كمَن يستيقظ فجأة على عالم لا يعرفه مطلقاً، دُفع به نحو العزلة والموت البطيء، فلا يعرف إلى أين يتجه. حتى العلاقة مع الأرض تغيرت، فما كان له أصبح لغيره، ونفطه ليس ملكه. مهزوم في كل شيء حتى في حلمه، وعندما نُهزم في حلمنا فهذا يعني أننا خسرنا المستقبل أيضاً. على مدار أعوام كتابتي الروايات التاريخية التي تمسّ عن قرب الشأن الفلسطيني والعربي: "سوناتا لأشباح القدس"، و"رماد الشرق"، و"2048 حكاية العربي الأخير"، ظل شيء واحد يشغلني: كيف أستمر في الكتابة بلا يأس؟ كان ذلك الأمر بالنسبة إليّ رهاناً كبيراً. لم يكن في نيتي الاستسلام للهزيمة، وإنما العكس هو الصحيح، لكن كان من الصعب عليّ أيضاً تفادي عاصفة الخوف الحاملة في إثرها جميع تاريخنا الرثّ الذي حولناه إلى انتصارات، ونسينا أن الآخر العدو، يضحك، بل يسخر من قصورنا وجهلنا. كل يوم كنا ننزل تحت الحد الأدنى ونمنحه مزيداً من الأسلحة لدفننا تحت التراب إلى درجة أننا أصبحنا نقبل بأي شيء، حتى الحلول التي تسرق منا أراضينا وتحولنا إلى رقيق. لهذا لم أستغرب ممّا يسمى الخيانات العربية التي يركز عليها الإعلام العربي والفلسطيني النضالي، فكل ما يحدث أمام أعيننا ويذبحنا من الرقبة، تجليات لمرض عميق ليست فلسطين فيه إلاّ أداة لاختبار فداحة ما حدث ويحدث وسيحدث. بقدر ما يكون العرب في قوة، تكون فلسطين قوية، وبقدر ما يكونون في حالة الضعف، تتبدى فلسطين في أقصى حالات الضعف، كأنها إسبارطة بعد حرب طروادة المدمرة، التي لم تخلف فيها قائماً الشيء الكثير، بعد حصار الأعوام العشرة، وهيلينا الجميلة التي لا تدري مَن سيكون منقذها، أهو مَن سرقها (باريس) من زوجها مينيلاس، أم هو أخيل الذي جاء كي ينقذها؟ لم تكن لدى باريس القوة لمجابهة غريمه، وخصوصاً بعد مقتل هيكتور، إلاّ الحيلة والحيلة دائماً، للدفاع عن المرأة التي رافقته في رحلته حتى وجد المقتل في كعب أخيل. أي حيلة نملك نحن اليوم للخروج من يأس بدأ يتحول إلى نمط حياة، نقبل به كأنه المنتهى؟ منذ الانكسار الفلسطيني ـ العربي الأول، هزيمة 1948، خسر العرب قوة المبادرة. فقدنا قوة هيكتور التي لم تقف طويلاً أمام إصرار أخيل، ولم نملك حيلة باريس لقلب الهزيمة إلى انتصار. منذ ذلك الزمن والعرب يعيدون إنتاج الخطوط العريضة نفسها للهزيمة، بل التواطؤات نفسها التي لم تفدهم بشيء، وإنما على العكس من ذلك، بيّنت ضعفهم الجلي الذي استغله أعداؤهم وتبعيتهم. لقد آن لنا أن نعود إلى تلك اللحظة الأولى لمساءلتها ومحاولة فهمها عن قرب. كل كتابة روائية تحديداً، هي عودة إلى تلك اللحظة الفلسطينية الأولى التي ستصنع كل ما سيأتي لاحقاً. فالذي ينتصر تنفتح شهيته على انتصارات أُخرى، وخصوصاً إذا كان الذي يواجهك هو كيان اسمه إسرائيل كوّن دولة من عدم، وعلى أنقاض دولة كانت قائمة، أمّا الذي ينهزم فلا حل ثالثاً أمامه، فإمّا أن يعيد قراءة تاريخه بشكل نقدي صحيح، وإمّا أن يستسلم لقدر الهزائم المتتالية، وحتى ما يسميه انتصاراً، لم تكن نتائجه النهائية كذلك، وها هي حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 مثلاً لذلك. الأمر الأهم هو الحفر في اللحظة المؤسسة للهزيمة لتجاوزها وتخطيها. فقد كان ميدان هذه الحرب في "سوناتا لأشباح القدس" و"رماد الشرق"، بلاد الشام، وفلسطين تحديداً، وقد اشتركت فيها جميع القوى العربية في المشرق العربي التي كانت تحت المظلة العثمانية: المملكة المصرية ومملكة الأردن ومملكة العراق وسورية ولبنان والمملكة العربية السعودية. كيف يمكن رسم المشهد الدرامي القاسي الذي حولته الهزائم المتكررة إلى قدر ملعون؟ الحروب الأولى اعتمدت على المتطوعين في غياب جيوش نظامية حقيقية، كأنها نزهة، تقابلها الميليشيات الصهيونية المدربة، والمسلحة بأحدث الأسلحة الفتاكة، والمكونة من المجموعات التي سمحت لها الحرب العالمية الثانية بأن تخرج قوية من تجربتها: البلماخ والإرغون والهاغاناه وشتيرن. الجهة الصهيونية أخذت موضوعة الحرب بجدية لأن المسألة بالنسبة إليها كانت وجودية، وهذا يحتاج إلى تجنيد الطاقات الحية كلها لضمان الانتصار. نتردد في قول هذا، لكنه الحقيقة المرة. فقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947 قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، وتدويل منطقة القدس، فكان كالتالي: 56% لليهود؛ 43% للعرب؛ 1% منطقة القدس (وُضعت تحت الانتداب بإدارة الأمم المتحدة). العرب عارضوا القرار منذ إعلانه لأنه ظالم، بينما قبل به الصهيونيون. المشهد تراجيدي وقاسٍ، والظلم واضح. يفتح الفلسطيني فجأة عينيه على أرض أُخرى، ومنطق آخر، وجرح جديد سيستمر طويلاً في النزف، بلا حل في الأفق، وقوم آخرين يطالبون بحقهم في أرض لم يطؤوها في حياتهم. كان العرب، شكلياً وعددياً يبدون كأنهم سيجعلون من الصهيونيين لقمة سائغة. هذا الإحساس الذي تطور على فكرة رميهم في البحر، والذي استغلته الدعاية الصهيونية لمصلحتها بشكل ثقيل، بيّن عجزاً كلياً عن التفكير، وعن تحليل مقدرات العدو. لم يردعوا الصهيونية في آرائها المدمرة، وهي التي ألصقت تهمة معاداة السامية، بجمال عبد الناصر الذي اتضح لاحقاً أنه لم يقلها. الذي قالها في سنة 1948 هو المصري عبد الرحمن عزام باشا، الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية، فقد قال إن على اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين عن طريق البحر، أن يعودوا من حيث جاؤوا، على السفن ذاتها التي حملتهم، عبر البحر أيضاً، وشتان ما بين المفهومين. والذي فضح اللعبة هو الوزير العمالي كريستوفر ميهيو الذي اقتيد في بريطانيا إلى المحكمة التي، بعد أن استمعت إلى الأدلة، أصدرت في شباط / فبراير 1976 قرارها لمصلحة ميهيو الذي دافع عن فكرة أن جمال عبد الناصر لم يقل هذا الكلام، وأن المصرِّح به واضح، وهو ليس زعيماً عربياً. العرب ظلوا كما اليوم، في تمزقات داخلية تتحدد بمدة قربهم أو بعدهم عن بريطانيا. ففي 12 نيسان / أبريل 1948، أقرّت الجامعة العربية بإرسال الجيوش العربية إلى فلسطين، وأكدت اللجنة السياسية أن الجيوش لن تدخل قبل انسحاب بريطانيا المزمع في 15 أيار / مايو. هل بيعت حقيقة أرض فلسطين في اتفاق سري مع الإنجليز والوكالة اليهودية الذي كان يقضي بضم الضفة الغربية إلى نهر الأردن، إلى شرق الأردن، بدلاً من قيام دولة فلسطينية عليها، وفي المقابل تنسحب القوات الأردنية من الأراضي المخصصة للدولة اليهودية وفقاً لقرار التقسيم؟ في الساعة الرابعة، من بعد ظهر 14 أيار / مايو، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني قيام دولة إسرائيل. وبعد بضع دقائق اعترفت بها الولايات المتحدة، ونشر الرئيس الأميركي هاري ترومان رسالة الاعتراف بإسرائيل، بينما كان العرب في نقاشات المهزوم، بين التدخل من عدمه. قبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين بأسبوعين، حدث تغير كبير في الموقف المصري حدده التقارب مع بريطانيا، وأصبح الملك فاروق ورئيس حكومته النقراشي من المؤيدين لدخول جيش مصر الحرب. وتم ذلك بشكل ارتجالي، بلا دراسة علمية لحقائق الميدان. وفي مساء 12 أيار / مايو 1948، أي قبل إعلان انتهاء الانتداب بيومين، وافق مجلس النواب المصري على دخول الحرب. أمّا في الجهة الصهيونية فكان الأمر مختلفاً، فالوكالة اليهودية كانت تمثل القيادة السياسية اليهودية ويرأسها دافيد بن ـ غوريون، بالتعاون مع القوة العسكرية المتمثلة في الهاغاناه التي شكلت لاحقاً جيش الدفاع الإسرائيلي، وعصابتَي إرغون وشتيرن. وقد سارع هؤلاء إلى استغلال الوقت استغلالاً كلياً، بتنظيم محكم، وبخرائط حربية كانت جاهزة وتنتظر مغادرة الإنجليز فقط. تولى من الجهة العربية، الملك عبد الله مركز القيادة العليا للجيوش العربية في فلسطين، بينما كُلف اللواء المصري محمد أحمد المواوي بالقيادة العامة للقوات العربية، فضلاً عن قوة خفيفة من المتطوعين يقودها البكباشي أحمد عبد العزيز تعمل على المحور الشرقي من خط العوجة إلى بير السبع إلى الخليل وبيت لحم. وبدأ التفكير في تدبير الأسلحة بعد رفض الإنجليز، لكن لجنة حاجات الجيش لم تستطع أن تلبي الحاجات العسكرية، فظهرت بعدها فكرة السلاح الفاسد الذي قيل عنه إنه كان السبب الرئيسي في الهزيمة العربية. لا نعتقد ذلك، بل إنه ربما كان عاملاً ثانوياً، ذلك بأن الذي يدخل حرباً مصيرية قبل يومين من اندلاعها، لا يمكنه إلاّ أن يُهزم أمام عدو مصمم. انتهت حرب فلسطين بهزيمة مصر والدول العربية واستيلاء إسرائيل على أرض فلسطين كلها ما عدا قطاع غزة والضفة الغربية والقدس العربية. فحصلت على أكثر ممّا أعطتها إياه وثيقة التقسيم.   الهزيمة العربية كانت مثل القدر المحتوم إذ كان كل شيء ارتجالياً العالم التحتي الذي كثيراً ما يتفاداه التاريخ، وحدها الرواية تستطيع أن تدخله وتتوغل في تناقضاته، فهي ترى ما لا تراه الأجناس الأُخرى، باحثة داخل الخراب عن عنصر الدهشة والحقيقة الأُخرى التي لا يراها الشخص العادي. فمن نقطة السواد الأولى تبحث الرواية عن وسائط لفهم عصر عربي أصبح مرتبكاً كلياً. جميع المقاومات فشلت لأن العرب دخلوا بعقلية المهزوم أو المستهين بالعدو، فقد تشكل جيشهم الأول من المتطوعين وليس من محاربين حقيقيين، والذين ذهبوا إلى الجبهات لم يذهبوا للانتصار، وإنما للاستشهاد. جيش الإنقاذ الذي أوكلت إليه مهمة إنقاذ فلسطين، كان بلا تدريب، وكان عليه إنقاذ نفسه من هلاك كان يرتسم في الأفق. هل قلت شيئاً غير هذا في رواية "رماد الشرق" بجزأيها؟ مهما تكن النيات طيبة، فطريق جهنم مفروش بالنيات الحسنة. عدد وحدات جيش الإنقاذ كان كبيراً، لكن لم تنفع لا قيادة ولا شجاعة اللواء إسماعيل صفوت الذي كان وراءه قرابة 4000 متطوع، ولا قيادة وشجاعة فوزي القاوقجي، ولا جرأة 2500 مجاهد فلسطيني، على صناعة قدر آخر غير الهزيمة. الرغبة كانت كبيرة، لكن الفعل كان انتحارياً في النهاية. لم يكن الجيش الإسرائيلي قوياً، لكن الجيش العربي كان ضعيفاً. القادة العرب يتصرفون حتى اليوم تصرف المهزوم، فالمفاوضات عبر التاريخ ليست هي الإشكال، وإنما كيفية الدخول إليها، وبأي أوراق للضغط؟ كانت المقاومة في وقت من الأوقات هي هذه الورقة، لكنها سقطت بعد اتفاق أوسلو، وأصبح الجسد الفلسطيني عارياً. لم تكن نظرتي سوداوية على الأقل من حيث فعل الكتابة الواعي، عندما كتبت رواية "2084 حكاية العربي الأخير"، وإنما كنت أبحث في عمق هزائم هذا العربي وهو يضمحل في سكينة ويأس، باحثاً عن أي قصبة للنجاة الفردية ، هو الذي لا يملك حتى جسارة دون كيشوت الذي دخل إلى حروبه الخاسرة بشهامة الفارس. الرواية تلمس هذا الزمن العربي الصعب. لا أعتقد أن العرب عاشوا زمناً شبيهاً بما يعيشونه اليوم، فقد استُرخِص كل شيء إلى درجة أن كل ما يحيط بهم أصبح بمثابة لا حدث، بعد أن خسر العربي، أو كاد، الرغبة في الحلم والتخطي، وربما الحياة أيضاً. قيمة العربي نزلت إلى درجة لم يعد أحد منشغلاً لا بها، ولا بعدد القتلى يومياً في التفجيرات أو الإعدامات المجانية، أو الموت بالأمراض الفتاكة والأوبئة التي عادت إلى الواجهة في كثير من البلاد العربية. الدم العربي والفلسطيني، للأسف، أصبح تقريباً لا شيء، ولا يشغل الإعلام العربي والعالمي الذي تعوّد على الأرقام، كأنه لا توجد وراء الأرقام حيوات بشر ليسوا أقل ولا أكثر قيمة من غيرهم. مَن يتأمل الخريطة العربية المشتعلة يدرك بسرعة مأسوية الوضع الذي يسير نحو قدر انتحاري مسطر سلفاً، قد تكون من نتائجه المقبلة نهاية العرب كوحدة وقوة في المنطقة، وذلك بعد الاختلالات العسكرية الكلية بين العرب مجتمعين وإسرائيل. وسيعيش العرب، إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه، هولوكوستاً مدمراً كلياً. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد اختارت الرواية أن تذهب عميقاً في الهزائم العربية. فعلى الصعيد الاستراتيجي هناك تدمير لأي نواة عربية قادرة على التفكير في التحديث والتغيير الديمقراطي، لأن هذا التحول الإيجابي إذا كان يفرح الغرب الإنساني، فإنه يتناقض مع مصالح الغرب الاستعماري، لكنه سيقود في النهاية إلى انهيار الأنظمة العربية الرثة المعادية للحداثة والحياة، وإلى نشوء أنظمة جديدة تملك من العقل والحيوية ما يجعلها تخرج من دائرة التبعية المقيتة، وتملك الشرعية التي تحميها لأنها متولدة عن انتخابات ديمقراطية، وقادرة على التعامل مع أوروبا مصلحياً. أي أن المصلحة تسير في الاتجاهين، وليس في اتجاه واحد. الأنظمة العربية الحالية بصورة عامة، هي امتداد لما فرضه الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى، ولتقسيمات سايكس ـ بيكو التي انتهت إلى وضع حكام عرب على الرقع التي نتجت من هذه الاتفاقيات، وهم حكام يدينون بالولاء لمَن يوفر لهم سبل الحماية. لا يزال المنطق نفسه هو المتسيد، فلا أوروبا حادت عنه لأنه سيمنعها من التحكم في الخيرات العربية، ولا الحكام العرب أنفسهم، حادوا عنه أيضاً، لأن التقسيم وضعهم منذ البداية تحت الوصاية الاستعمارية. الأمر الذي لا نراه اليوم هو أن الاستراتيجيات العالمية التي يتم طبخها في الخفاء، قد تقذف بالعالم العربي خارج حلبة السجال، وخارج الانتماء إلى العصر الذي يعيشهم من دون أن يتمكنوا من عيشه. ولتفادي الانهيار الكلي، فإن العرب يحتاجون إمّا إلى قوة تحمي هذا التحول الممكن، وهي غير متوفرة في الوقت الراهن، وإمّا إلى الاستسلام لزمن يرميهم نهائياً في أتون الحروب الأهلية والتمزقات الطائفية والعرقية وغيرها، والعودة إلى النظم البائدة المغلقة التي تُسترخص فيها أرواح البشر، وهذا لا يحتاج إلى شيء كثير، فجميع أسبابه متوفرة اليوم، وربما يكون تنفيذه قد بدأ. ماذا تستطيع فلسطين أن تفعل داخل هذا اليأس العربي والعالمي المستشري كلياً؟ ما هي قواها المتبقية للمقاومة من أجل الوجود؟ كيف تعيد ترميم نفسها؟ من المؤكد أن الخبير العسكري له رأيه في هذا، لكن للخبير النفسي أيضاً ما يقوله بعد جميع هذه الهزائم المدوية التي تم فيها نهب فلسطين كلياً وسرقة حلمها وإرادتها. هل نعتمد مقولة إن اليأس الكبير يولّد ردة فعل التحدي الكبرى؟ فالحالة الجزائرية التي دخلت في دوامة يأس غير طبيعية، انتهت إلى فيضان شعبي مهول أسقط حكومة ورئيساً وعصابات المال التي كانت تحيط به، وليس ثمة قوة تلجمه أو تعيده إلى مواقعه الأولى التي فُرضت عليه. ومهما تكن مآلات هذا الحراك، فإنه ينبىء بعصر عربي محتمل تقوده الشعوب التي تبدو مستكينة وهي ليست كذلك، وها هو النموذج السوداني الذي على الرغم من القمع، لا يزال حياً. الفلسطيني خسر كل شيء: الأرض، والبشر، والحلم. فهل انغلق العالم كلياً في وجهه؟ التجارب البشرية التي أمامنا تدفع إلى يأس الهنود الحمر، لكنها تدفع أيضاً إلى شكل غير محسوب للمقاومة. المستعبد يُنتج وسائله الدفاعية في الخفاء. لهذا أقول دائماً، كم نحن في حاجة، عربياً، إلى عمل أدبي ملحمي كبير يقول هذا. كلنا حتى اليوم نتدرب عليه، لكني متأكد من شيء واحد: سيخرج من الخفاء كاتب، قد يكون شاباً، يستطيع أن يلملم هذا الشتات كله، وينجز النص الكبير والعظيم الذي تنتظره الأجيال، ويمنحنا فلسطين أُخرى، أكثر نصاعة وقدرة على الحياة.