فلسطين: عود على بدء
النص الكامل: 

  في زيارتي الأخيرة لبغداد في شباط / فبراير ٢٠١٩، وفي أثناء حوار ضمن فاعليات معرض بغداد الدولي للكتاب، سُئلت عن انشغالي بالعراق، ولماذا تتمحور رواياتي كلها حوله، مع أنني هاجرت منه في سنة ١٩٩١، وعن سرّ الاستمرار في الكتابة باللغة العربية. فذكرت أمثلة لبعض الأدباء العراقيين الذين هاجروا من العراق أو هُجّروا منه، وظلوا يكتبون عنه لعقود طويلة حتى موتهم، وباللغة العربية، وكان اسم الروائي العراقي سمير نقّاش (١٩٣٨ ـ ٢٠٠٤) بينهم. ذكّرت الجمهور بتعلّق نقّاش، الذي كان يهودياً، بالعراق وببغداد، وإصراره على الكتابة بالعربية، حتى بعد تهجيره إلى فلسطين في سنة ١٩٥٠، في مؤامرة تواطأ فيها النظام الحاكم في العراق آنذاك (والذي يتغنّى به الليبراليون هذه الأيام) مع الصهيونيين وجواسيسهم، وكيف جاهر هذا الروائي بمعاداته للصهيونية، وظل يعرّف عن نفسه كيهودي عربي، وحاول أن يهرب ويعود إلى العراق، لكن تم القبض عليه. استوقفني شاب عراقي بعد الحوار وقال لي: "أريد أن أشكرك لأنك قلت 'فلسطين' ولم تقل (إسرائيل)، فكثيرون هذه الأيام يقولون 'إسرائيل' ولا يذكرون فلسطين. لكن فلسطين، بالنسبة إلينا، ستبقى فلسطين." أردت لهذه الواقعة البسيطة أن تكون مدخلاً للحديث عن موضوع فلسطين عربياً، وعراقياً، لأنها تقول كثيراً عن واقع الحال والمآل. أفرحني موقف الشاب العراقي، طبعاً، وزاد في منسوب التفاؤل الذي ينقصني منه كثير في معظم الأيام، لأنني متشائل بطبيعتي، ولأن ثمة ما يرفع منسوب التشاؤم، بل اليأس، هذه الأيام، فعلى سبيل المثال لا الحصر: الخراب الهائل الذي يعمّ عدداً من دول المشرق العربي، وسقوطها في حروب أهلية مدمرة مزّقت نسيجها وشوّهته، وطمرت وطمست كثيراً من معالمها، محولة إياها إلى ساحات مفتوحة لصراعات إقليمية وعالمية تستخدم الطائفية السياسية كوقود لحروبها؛ استمرار الأنظمة الاستبدادية، بجميع نُسَخها، في اضطهاد الإنسان ومسخ معنى الانتماء وهدر الثروات؛ الغزل المحموم الذي كان خجولاً وسرياً، فيما مضى، وأصبح الآن معلناً، بين الأنظمة والنخب العربية، وبين إسرائيل. فبعد عقود وجهود حثيثة من جانب المنظومات الإعلامية الرسمية التابعة لهذه الأنظمة، أو المنصات والبؤر الإعلامية الخاصة المصطفة مع أنظمتها أيديولوجياً، بات هناك أصداء قوية وحضور مكثّف للخطاب الرسمي المتصهين في ساحات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. ومع أنه خطاب متهافت، ومنسوخ من الخطاب الرسمي الصهيوني، إلاّ إن مفرداته وآلياته تستغل تاريخ الأنظمة العربية ومتاجرتها بقضية فلسطين لعقود طويلة، وتربط بين سقوط تلك الأنظمة و / أو تخريبها للبلاد التي حكمتها، وبين مواقفها المعلنة من فلسطين. كما يعوّل هذا الخطاب على الاستشراق الذاتي وكره الذات ورُهاب الإسلام، فيوظّف مفردات وآليات خطاب الحرب على الإرهاب ويُسقطها على القضية الفلسطينية، فيصبح الدفاع عن الأرض والنفس ومقاومة الاحتلال العسكري (وهو حق مشروع) عملاً إرهابياً، في الوقت الذي ينزّه إرهاب دولة الاحتلال العنصرية (في فلسطين التاريخية كلها) ويصوره على أنه دفاع شرعي، وليس هجوماً وحشياً. وأخطر ما في خطاب الصهيونيين العرب هو إعادة تدوير، بل ترسيخ، الرواية الصهيونية لتاريخ فلسطين والنكبة، وترسيخ مفردات ومصطلحات الاحتلال، وجغرافيته التي تلغي الداخل الفلسطيني (مناطق 48) وتقسّم القدس وتفتّت وتبتلع فلسطين. وبينما أنا أكتب هذه الأسطر غرّد واحد من أبواق نظام عربي، وهو روائي معروف، قائلاً أن لا جدوى من النواح على الجولان والقدس لأنهما إسرائيليتان. وهناك كثيرون مثله، يشتركون معه في الانبهار بالصهيونية وبدولتها، ويصفقون لانتصاراتها وتغوّلها، في موقف يجمع بين السقوط الأخلاقي والتحول إلى بوق رخيص لنظام استبدادي وحشي لا يتورع عن ذبح مواطنيه. ولأمثال هؤلاء حضور ومنصّات تساهم في تشويه العقول واحتلالها. لكن، في المقابل، هناك دائماً ما يدعو إلى التفاؤل. فهناك شباب ناشطون في دول الخليج العربي يقفون بشجاعة ضد مشاريع الصهينة العربية، ويتصدون لفضح مبادرات التطبيع الأخطبوطية التي يتم تمريرها تحت شعارات الانفتاح والسلام والتبادل الثقافي والرياضي، وحتى المصلحة الجغرافية ـ السياسية المشتركة. فهناك فعلاً مصلحة بل رؤية مشتركة تجمع النخب الحاكمة والأنظمة الفاسدة بإسرائيل وما تمثّله، وهي في رأيي، تتعدى المحاور الإقليمية والصراع مع إيران، لأنها تشترك مع إسرائيل، في فسادها، وعنصريتها، وتغوّلها، وحروبها الشرسة، واحتمائها بالمظلة الأميركية وتحالفها مع الإمبراطور الأخرق. يواجه العالم بأكمله في هذه اللحظة أزمات قاتلة معظمها أعراض واضحة وديون مستحقة لفساد منظومة الحداثة الرأسمالية، كما أن الاستعمار، بمعناه الأوسع، جزء أساسي في هذه المنظومة. وما أعنيه هنا هو استعمار الكوكب وكل ما فيه وعليه، لمصلحة أقليات (تؤمن بتفوق ما، يشرعنه نصّ مقدس، قد يكون دستوراً أو أيديولوجيا، أو...)، وذلك كله تحت شعار التقدم، لكنه التقدم الذي يخلّف وراءه جبلاً من الضحايا والركام. أمّا الاستعمار الاستيطاني، فهو النموذج الأكثر بشاعة وبربرية، لما يصنعه بالبشر والأرض والطبيعة، وإسرائيل هي دولة الاستعمار الاستيطاني بامتياز. أذكر هذا لأشير إلى أنني أؤمن بأن الموقف الأخلاقي البديهي لأي إنسان في العالم هو الوقوف ضد الصهيونية والاستعمار الاستيطاني. فكيف بالذي ولد ويعيش في المشرق العربي، ويُفترض أن يعرف، أكثر من غيره، معنى النكبة وهو يرى، عن كثب، نزيف الجرح الفلسطيني؟ لم تكن فلسطين يوماً، بالنسبة إليّ، مقولة فحسب، أو فكرة مجردة، بل كانت حقيقة حيّة حتى قبل أن تكون قضية أفهم تاريخها وأبعادها: من إسماعيل، صديق والدي الذي جُرح في أثناء اشتراكه في حرب فلسطين في سنة ١٩٤٨، إلى غسّان، صديق الطفولة الذي لجأ أهله إلى العراق، والذي سمعت منه كثيراً عن معنى النكبة، وذلك كله قبل أن أقرأ حبيبي وكنفاني ودرويش، وقبل أن أسمع، مئات المرات، مظفّر النواب يقول: "بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة". ثم قادتني بوصلة القلب إلى حب امرأة فلسطينية، تزوجتها وأصبحت أقرب من ذي قبل إلى أهلي في فلسطين. لقد عصف كثير بفلسطين وبالمنطقة منذ سنة ١٩٤٨ فتغيرت أمور، وبقيت أمور، كتحالف الأنظمة العربية، بغضّ النظر عن مواقفها المعلنة، مع دولة الاستعمار الاستيطاني، واستمرار النكبة. الفلسطينيون ما زالوا يدافعون عن وجودهم وأرضهم بجميع السبل؛ لا تخونوهم، بل شدوا على أياديهم، أو التزموا الصمت، لأن فلسطين ستبقى فلسطين.