أين اختفت فلسطين؟!
النص الكامل: 

الخريطة الكاملة في سبعينيات القرن الماضي كنت مقبلاً على الجامعة، متحمساً لكتابة الشعر والقصة، ومقتنعاً بمشروع اليسار الذي كانت تختزله بنوع من العفوية والالتباس، عبارة مقاومة الاستبداد والانتصار للطبقات الكادحة. وبما أن الانتماء إلى اليسار كان شيئاً بديهياً في جيلنا، فقد وجدت نفسي، وأنا خارج للتو من بلدة صغيرة محافظة أبعد ما تكون عن غليان العالم، في لقاء مباشر مع مخلفات أيار / مايو 1968 في فرنسا، وانبثاق يسار جديد متمرد على أحزاب اليسار التقليدي، وصعود التيارات الفلسطينية الجديدة بلهجتها الثورية واجتهاداتها النظرية وزخمها الثقافي. كان تفاعل هذه العوالم وتصادمها يجعل منها مناخاً واحداً مشتركاً، وليس حقولاً متوازية. فأن تكون يسارياً مغربياً في تلك المرحلة، يعني أن تكون ضد استبداد السلطة: تنزل في التظاهرات الطلابية، وتتضامن مع العمال والفلاحين، وتفكّ أبجدية الماركسية، وتدافع عن الثقافة الحديثة، وتناضل من أجل تحرير فلسطين، فهذه كلها مرتبط بعضها ببعض، ولا يمكن أن تكون واحدة من دون الأُخرى. ولعل الصورة الأكثر تعبيراً عن هذا الوضع آنذاك هو ذلك الملصق الذي كنا نحصل عليه في المقار الحزبية ونضعه في غرف الطلبة، جنباً إلى جنب مع خريطة فلسطين كاملة، وصور غيفارا ولينين والمهدي بن بركة. كان الملصق يحمل صورة الشهيد أمزغار الذي سقط في ساحة المعركة مع الفدائيين من دون أن يكون فلسطينياً، ولا حتى عربياً بالمعنى العرقي للكلمة. كان أمازيغياً مثلما يبدو من اسمه، ونحن لم نكن ندقق في الأمر، كنا فقط نحتفي به شهيداً للقضية، هو الذي كان قبل ذلك مناضلاً مثلنا. وفي هذا التوازي "الرومانسي" ما يجعل الانخراط في العمل السياسي، حتى في صيغه الأكثر محلية، باباً مشرّعاً على قضية أكثر جوهرية، لأن خيوط التحرر كلها مشتبكة بها. فمصادرة الإرادة الشعبية واغتصاب الثروات الوطنية واغتيال تطلعات الانعتاق، أمور ما كانت لتصير ممكنة لولا اغتصاب فلسطين، وزرع كيان استعماري استيطاني يضمن استمرار هيمنتين متكاملتين: هيمنة العدو الإمبريالي، وهيمنة السلطة المستبدة. والتحرر من كليهما يمر عبر إفشال المشروع الصهيوني. وقد ظلت الأحزاب الوطنية الديمقراطية في المغرب، سياسياً وإعلامياً، ولأعوام طويلة، تعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضية وطنية تضعها ضمن أولوياتها الاستراتيجية: تحشد لها الدعم المادي والسياسي، وتخوض بشأنها معارك سياسية ودبلوماسية على مستوى المنظمات الحزبية والثقافية والحقوقية عربياً ودولياً؛ وعندما كان النظام ينخرط في سياسة دولية تهدف إلى "شرعنة" إسرائيل، فإن ذلك كان يواجَه بمقاومة سياسية شديدة مندرجة تماماً في سياق المعارضة العامة التي تقوم بها الأحزاب لسياسة الدولة، وتنشأ عنها فترات قمع وتنكيل تطول أو تقصر. والجدير بالذكر أن عدداً من المحاكمات السياسية عرفت ضحايا اتُّهمت بشكل مباشر أو غير مباشر بالارتباط القضية الفلسطينية، وعندما ظهرت تقارير دولية تفضح مساهمة الموساد في تدبير اختطاف الشهيد المهدي بن بركة واغتياله، استقرت لدى اليسار قناعة راسخة بأن النظام الذي فعل الكيان الصهيوني ذلك من أجله، كان عدواً لقضايا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية بالقدر نفسه الذي كان فيه عدواً للمقاومة الفلسطينية المسلحة. أشياء كثيرة حدثت بعد ذلك، بعضها نعرفه وبعضها لا نعرفه، بعضها نفهمه، وأكثرها لا نفهمه، لكن المثير في الأمر هو أن فلسطين لم تعد هنا، لم تعد في الحياة السياسية ولا في الصحافة ولا في الندوات والمحاضرات والقصائد. حتى تلك الخريطة الرشيقة لم تعد هنا، لا في غرف الطلبة ولا في أي مكان آخر، والأرض التي تسمى أرض السلطة الفلسطينية ليس لها خريطة، وليس لها مكان في وجدان خلقته على مدى عقود خريطة مستحيلة، لكن كاملة.   الترابط الملتبس كثيراً ما كنا نسمع في المغرب عن الأضرار الفادحة التي تمسّ القضية الفلسطينية جرّاء ذلك الترابط بينها وبين المصائر الوطنية والقومية، إلى درجة أنه أصبح لكل بلد عربي تنظيمه أو أنصاره داخل المجال الفلسطيني، يستعملهم في التأثير في القرار الفلسطيني، ويستعملهم في سياسته الداخلية، ولا يتورع عن إجبارهم على خوض حروب أخوية صغيرة بالوكالة. وكان هذا الوضع يثير غضب كثيرين من الديمقراطيين في المغرب ممّن كانوا يعتبرون هذا الإلحاق القسري للقضية الفلسطينية بحسابات الأنظمة واختياراتها الداخلية، اعتداء على استقلالية القرار الفلسطيني؛ وأكثر من ذلك، مصادرة حق الثورة في بناء حركة تحريرية قوية قادرة على مواجهة الكيان الصهيوني. وحتى عندما أُعلنت منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فإن هذا الترابط استمر في العمل، بطريقة مكشوفة أو متسترة، لتقويض فكرة "التحرير" المتضمنة بداهة في كل حركة لتصفية الاستعمار التي تنتهي باستعادة الأرض والسيادة وتقرير المصير، وما إلى ذلك من التوصيفات التي نحَتَها المجتمع الأممي لاستقبال الشعوب المنعتقة. والمفارقة المفجعة في حال فلسطين، هي أن الترابط بين الدول العربية والقضية قاد هذه الأخيرة إلى "الخجل من التحرير": ماذا؟! كيف؟! تريدون أن تلقوا بإسرائيل إلى البحر؟ هل يمكن اعتبار هذه الفعل الإبادي الذي يعيد إنتاج مشروع الإبادة النازية، مشروعاً وطنياً؟! وبينما كانت إسرائيل تراكم المذابح، وتُحكم الحصار على الفلسطينيين إلى حد إبعادهم جغرافياً عن "مسرح الجريمة الصهيونية"، ونفيهم إلى الشواطىء الآمنة لدول عربية، كان المصير التحرري لواحدة من أعدل الحركات التحريرية في العالم ينحو تحت تأثير الترابط بين القضية ودول المحيط، إلى اعتبار الحفاظ على الدولة الاستعمارية المغتصبة وضمان أمنها "أولوية من أولويات التحرر الوطني"! من الممكن توصيف ترسبات هذا الترابط في وعينا الجماعي كما يلي: الثورة تريد تحرير فلسطين، والسياسات العربية لا تريد فلسطين من دون إسرائيل. الشعوب العربية ليست حرة في اختيارها، وإلاّ لكانت مع اختيار الثورة.. إذاً، فإن الدولة المستبدة هي التي تربط وجودياً بين قهر شعوبها والحيلولة دون تحرير فلسطين. ما العمل؟ كانت ثمانينيات القرن الماضي في مجملها أعوام الاستيقاظ من الأوهام: أحلام "اليسار البوليفاري" تبخرت، والرومانسية الثورية سقطت، والدولة المستبدة التي كانت تبدو لنا جداراً متداعياً تكفي لمسة واحدة لتقويضه، صارت صرحاً متجذراً ـ بل أصبح استمرارها وسلامتها ضرورة للحفاظ على ما تبقّى من التماسك والاستقرار. ويتضح فجأة أن عبارة "مقاومة الاستبداد" كانت فضفاضة، ملتبسة، لأنها كانت تغذي ضمنياً حلماً ضبابياً بالإطاحة بالأنظمة، من دون تدقيق في البديل المأمول. وربما جُرّب لتحقيق هذا الحلم أشياء تذهب بشكل كاريكاتوري من "البلشفية" حتى "حرب العصابات".. لكن ذلك كله ممّا كان يعتبره "أنبياء الثورة" قناعة شعبية يمنعها الخوف من اكتساح العالم، لم يلبث أن أصبح من تلك المناجم الهائلة التي ندَّخرها لـ "النقد الذاتي". وتضافرت في جميع الدول العربية الجهود لقتل بؤر الرفض والمقاومة؛ سنوات من السجون والاقتلاع والتصفية والقمع ممّا اصطُلح على تسميته سنوات الرصاص، أو سنوات الجمر، أو سنوات الحرب الأهلية، لنصل إلى ما يشبه الإجماع على أن الديمقراطية هي الحل. وقد يستغرب كثيرون من تأخر الديمقراطية، بل استحالتها حتى الآن في الوطن العربي، لكن قليلاً ما ننتبه إلى أن الأعوام التي قضيناها في النضال من أجل دولة الحق، ومن أجل حقوق الإنسان، والمساواة بين النساء والرجال، والحريات الفردية، وحرية المعتقد، وحرية التعبير، والانتخابات النزيهة، ودولة المؤسسات، هي أقل كثيراً من الأعوام التي قضيناها في مصارعة طواحين الهواء! في أثناء ذلك جلست الثورة إلى طاولة المفاوضات في أوسلو، واندلع حريق الأرض في مقابل السلام، وحدثت مفارقة درويش الكبرى: ما أكبر الفكرة.. ما أضيق الدولة! وحدث أيضاً صعود الشارع الإسلامي من الإخوان إلى دولة الخلافة، فيما يشبه ظهور ورم حيث لا يتوقع أحد، في مجتمعات حوّلتها الآلة الوهابية / الأميركية عبر عقود من تخريب العقل ومصادرة الإرادة، إلى مجتمعات أشد تطرفاً ومحافظة من تياراتها المحافظة. وهذا الوضع تعهّدته الدول الكبرى بالعناية والرعاية، ثم بإعادة التوجيه والتفجير الاستباقي، والفوضى المنظمة وحروب الوكالة، إلى حد أصبحنا فيه نحن أيضاً مدعوين إلى طاولة المفاوضات كي نفاوض الدولة المستبدة على إصلاحات لتسكين الآلام: تأجيل الحرية في مقابل الاستقرار، إذ أليست هذه الدولة المستبدة بتكنوقراطييها وجيوشها وحداثتها المعطوبة أفضل كثيراً من عصابة ظلامية مشروعها الوحيد هو "حريم لكل مواطن"؟! مضت أعوام قليلة على الفترة التي كنا فيها نحلم بالدولة الديمقراطية الفلسطينية على مجموع تراب فلسطين، وعلى الدولة الديمقراطية العربية على الطريقة الكونية. منتهى حلمنا اليوم هو ألاّ يحدث لنا ما حدث لليبيا أو لسورية أو للعراق أو لليمن، وألاّ يحكمنا الطالبان أو المستبد النفطي، بل حتى الجزائر التي خرج شعبها بعد نضج كبير في حركة سلمية مدنية رائعة، سرعان ما لوّح لها الحاكمون "بكابوس السَّوْرنة"، كأن العقاب المُعدّ سلفاً لكل حراك من أجل الديمقراطية هو الوقوع في فخ الخراب. أمّا أفظع الكوابيس فتتويج الديكتاتورية منارة عظمى لمحاربة الظلامية والإرهاب.   استراتيجيا النسيان في أثناء حرب العراق، عندما حطت القوات الأميركية رحالها على أرض الحجاز، لاحظ أحد الباحثين المغاربة[1] الاختفاء الكامل لأسماء الأماكن المقدسة، ليس فقط من الأخبار والمراسلات الحربية وتقارير محطات التلفزة الأميركية، لكن حتى من الخرائط التي كانت تنشرها إدارة الدفاع الأميركية عن المنطقة التي توجد فيها قواتها، في نوع من الضربة الاستباقية الإعلامية لمحو كل شعور بالعار، وبالغضب الذي يستتبعه، من وجود الأماكن المقدسة، أماكن النبوءة والرسالة، في قلب الدولة التي تنطلق منها الحرب على أرض مسلمة. إن هذه الصورة شبيهة إلى حد بعيد باستراتيجيا المحو والنسيان التي طالت كلمة "فلسطين" إلى درجة لم يعد لها وجود يُذكر، لا في وسائل الإعلام، ولا في الحياة السياسية العربية والدولية، ولا حتى في بؤر الخراب التي حوّلت دولاً عربية بأكملها إلى مختبرات لإعادة إنتاج القبلية والعبودية والاضطهاد الديني والعرقي، وهو عمل لا علاقة له بالمصادفة، أو بالأضرار الجانبية لمشروع إنقاذ الشعوب من حكامها الدمويين، وإنما هو اختيار منظم وممنهج يهدف، فضلاً عن اغتصاب الثروات العربية، إلى الإبقاء على كيان واحد قوي ومُؤَمّن، أمامه الوقت كله لتثبيت دعائمه الاستيطانية، هو الكيان الصهيوني. لقد اختفت فلسطين من التداول الجماعي، فلا شيء يحدث بسببها، ولا شيء يحدث من أجلها: هل سقطت تلقائياً من جدول الأعمال؟! هل انسحبت موقتاً أمام زحف الحياة اليومية بإكراهاتها وتحدياتها؟! هل انشغل الناس بأوضاعهم السياسية والاجتماعية البائسة التي تجعل من العالم العربي عالماً خارج العصر في وقت تنهض ديمقراطيات حديثة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، أي في المعقل السابق للديكتاتورية العسكرية والأنظمة الفاشية؟! إذا كان هناك اليوم على امتداد الخريطة العربية حركات متفاوتة الأهمية للمطالبة بدمقرطة الدولة والمجتمع، وللدفاع عن قيم الحداثة والتقدم، فلماذا لم ينشأ ترابط جديد بين هذه الحركات والقضية الفلسطينية، مثلما حدث قبل برمجة هذا التفكك التاريخي؟ لقد نجحت القضية الفلسطينية خلال أعوام في أن تتحول إلى "فكرة إنسانية"؛ إلى فكرة أوسع من تحرير أرض من قبضة مغتصب استعماري؛ فكرة انتبهت بنوع من الذكاء التاريخي الحاد إلى خطورة الفكرة الصهيونية ليس على فلسطين وحدها، بل على الإنسان حيثما يكن أيضاً، لأنها فكرة توظف المتخيل الديني والشراسة العنصرية لتشيد نظاماً جديداً للظلم الإنساني، سيظل مهما تبلغ إسرائيل من التقدم والقوة "والديمقراطية" منتجاً لنمط متوحش من الاغتصاب والعنصرية واحتقار الآخر تدعمه الشرعية الدولية. إن قوة هذه الفكرة الإنسانية هي التي جعلت، مثلما لاحظ الكاتب والشاعر المغربي عبد الله صديق، عدداً هائلاً من الضمائر الحية يعتنق فلسطين ويعتبرها نوعاً من الدفاع عن جوهره الإنساني: "باتريك أوغريللو، تسويشي أوكادايرا، ياسو يوكي ياسودا، فرنسواز كيستمان، فيتوريو أريفوني، رفائيل تشيرللو، جيمس ميللر، توم هورندال، راشيل كوري.."[2] وآخرين جاؤوا من أنحاء العالم كله، من أجل قضية تعبّر عن أنبل وأعمق ما فيهم، قضية إذا خذلوها خذلوا إنسانيتهم. كيف يمكن استعادة قوة هذه الفكرة في مناخ مثل الذي نعيش فيه؟ هل يمكن للجيل الذي ولد بعد أوسلو ـ وهو يشكل اليوم أغلبية سكان المنطقة العربية، ونشأ في وضع عربي ودولي يعتبر إسرائيل "الممكن" الوحيد في المنطقة، وفلسطين مستحيلها الوحيد ـ أن يعتنق فلسطين، وأن يربط بين نضاله من أجل الديمقراطية، ونضاله من أجل فلسطين حرة مستقلة وعاصمتها القدس، مثلما تقول أدبيات ربما لا تعني شيئاً كثيراً لهذه الأجيال؟ هل يمكن أن يدرك هذا الجيل، في قلب معاركه ضد الاستبداد وضد الظلم الاجتماعي وضد الظلامية المهيمنة، أن بقاء الفكرة الصهيونية بجبروتها ويدها الطليقة هو أحد المعوقات الأساسية للبناء الديمقراطي في العالم العربي؟ إنها أسئلة تعمل استراتيجيا النسيان على إبعادها بشكل حاسم عن مجال اهتمامنا، ولذلك فإن إحدى الوسائل لإذكائها من جديد تكمن في تنظيم مقاومة منهجية لهذا النسيان المنظم. وهذه المقاومة تمر حتماً من نقد عميق لتجربتنا السياسية في علاقتها مع المشروع الديمقراطي، بما في ذلك تجربة الفلسطينيين أنفسهم على المساحة الضيقة الخانقة التي وجدوها كافية لإنشاء كيانين متضادَّين، وإعطاء الدليل مرة أُخرى على أن الأرض، صغيرة كانت أم كبيرة، لا تكفي لتحرير أي شيء إذا لم تنجح أولاً وقبل أي شيء في تحرير الإنسان.     [1] محمد الناصري، "أين اختفت الأماكن المقدسة؟"، "آفاق" (اتحاد كتّاب المغرب)، 1993. [2] عبد الله صديق، "أن تفكر في فلسطين" (ميلانو: منشورات المتوسط، 2019).