حمّالة التحولات
النص الكامل: 

تبدلت صورة فلسطين عبر مختلف أطوار الوعي الذاتي، وتحولت جزئياً أو جذرياً كما ينبغي لأي فكرة عليا وقصوى، إلى خسران جمعي ـ إذا جاز لي أن أقول ـ يتجاوز المحلي والوطني إلى الأُطر الأعم والحدود الكونية. في سورية تفتّح وعينا على فلسطين "الحبيبة" و"السليبة"، على نحو كان أشد غوصاً في الوجدان من حالتنا مع لواء الإسكندرون الذي هو سليب بدوره، وكانت تلك السيرورة تشتغل على أصعدة تربوية شتى، تبدأ من نصوص الكتاب المدرسي، وتمر بالمذياع المنزلي قبل شيوع التلفزة، ولا تنتهي عند التلقين العائلي. بالنسبة إليّ، شهدتْ صورة فلسطين ثلاثة تبدلات تأسيسية، مثلما أسميها، صارت فيما بعد مهاداً لانقلابات الصورة التكوينية الابتدائية: التبدل الأول كان اكتشافي لما سُمي في حينه "شعر المقاومة الفلسطينية"، وقصائد محمود درويش بصفة خاصة، إذ لست أنسى تلك البرهة الاستثنائية من اتّقاد الحسّ الفلسطيني، وارتقاء الذائقة الجمالية في الآن ذاته، حين قرأت قصيدة "يوميات جرح فلسطيني"، وفيها يقول درويش: "لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمام / ولذا لم يتفتت حبّنا بين السلاسل / نحن يا أختاه من عشرين عام / نحن لا نكتب أشعاراً ولكنّا نقاتل". التبدل الثاني اتخذ صفة سياسية ونظرية وتنظيمية أيضاً، حين انقلبت "المسألة الفلسطينية" إلى واحدة من قضايا الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري ـ الذي انتميت إليه ـ بين الخط البكداشي الذي كان سوفياتياً أيضاً، وخطّ "المكتب السياسي" الذي انضويت في صفوفه وكان يتبنّى قراءة تجديدية وأكثر انحيازاً إلى الحق الفلسطيني. أمّا التبدل الثالث فصنعه تحوّل حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى مؤسسة / دويلة، وامّحاء صفتها النضالية على نحو متدرج بلغ ذروة غير مسبوقة مع اتفاق أوسلو وتشكيل "السلطة الوطنية" على أراضٍ محتلة ومطوقة بعشرات المستعمرات في قطاع غزة والضفة الغربية. في محطات الوعي اللاحقة أدركت حدود تعبير "شعر المقاومة الفلسطينية"، وربما سذاجة استخدامه في سياقات تعميمية وتصنيفية، ولهذا كان مبهجاً للغاية أن درويش نفسه سرعان ما انخرط في برامج تطوير شعرية متعاقبة تذهب بقصيدته نحو مصافٍّ كونية أعمق تمثيلاً لعناصر فلسطينية كبرى، مثل الاقتلاع والاحتلال والاستيطان والمنفى والصمود والبقاء، وبالتالي أرقى تعبيراً عن جماليات قضية جديرة باحتلال موقع إنساني وكَوْني فسيح. صحيح أن ضغط الشروط الموضوعية ألزم درويش بدفع برنامجه الجمالي إلى الصف الثاني، والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصف الأول، خلال مراحل محددة وأولى من تجربته الشعرية، لكن صحيح أيضاً أنه أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، وخصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية، حين استقرت كثيراً معادلات أكثر هدوءاً للعلاقة التبادلية بين تطوير جمالياته الشعرية، وتطور نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي. وهذه، في رأيي، حال تتجاوز مثال درويش إلى علاقة القضية الفلسطينية بالإبداع العربي عامة. وفي الشريط الوثائقي الذي أنجزه المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي عن الكاتب والمسرحي السوري سعد الله ونّوس، يطلق الأخير عبارة وجيزة صاعقة: "فلسطين قتلتني"! من الإنصاف القول إنه "قَتْل" بالإرادة، بمعنى أن انخراط ونوس وأمثاله من آلاف المثقفين والكتّاب العرب، في الهمّ الفلسطيني حتى النخاع، كان خياراً طوعياً؛ بل كان، على نحو أو آخر، ذاتياً وموضوعياً في آن معاً. وفي المقابل، ليس أقلّ إنصافاً التذكير بأن ذلك الانخراط اتخذ وجهة قصوى لمستويات الالتزام والانحياز والوفاء؛ وبالتالي كان "قاتلاً" بالمعنى الذي قصده ونّوس: قتل لرفاه الكتابة المتخففة من أعباء التاريخ، وقتل لرفاه الفنّ الذي يترفع عن الآني واليومي والطارىء، وقتل لرفاه المكوث في أبراج عاجية عالية من أي نوع... وضمن النقاش السوري، أو العربي إجمالاً، الذي سعى لتطوير الماركسية في ميادين نظرية أو تنظيمية، لم تكن حصة فلسطين قد تجاوزت تلك المساهمات المعمقة التي اقترحها المفكر السوري الكبير الراحل الياس مرقص، وخصوصاً في عمله الرائد "عفوية النظرية في العمل الفدائي" الذي صدر في سنة 1970. مجموعة "المكتب السياسي" إياها، حتى بعد أن صارت حزباً مستقلاً وعقدت ثلاثة مؤتمرات وبدلت اسمها إلى "حزب الشعب الديمقراطي"، عجزت عن تطوير الأجنّات الأولى لتفكير ثوري وتجديدي بشأن القضية الفلسطينية؛ ربما بتأثير انقلاب القضية ذاتها من "صراع عربي ـ إسرائيلي" إلى "عملية تفاوض" فلسطينية ـ إسرائيلية، وتحوّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى دويلة يمكن لأجهزتها أن تمارس التسلط والقمع والفساد على غرار النظام العربي المعياري المتماثل. كذلك كان تطوراً مريراً للغاية، وأبعد كثيراً من جَرْح النرجسية اليسارية، أو بالأحرى اليسراوية مثلما يتعين عليّ أن أقول، أن نجد "الحكيم" جورج حبش يقيم في دمشق، تحت سلطة استخبارات حافظ الأسد، في الوقت الذي كانت التنظيمات والأحزاب اللبنانية الحليفة للنظام السوري تخوض حرب المخيمات وتجويع الفلسطينيين بالطرائق الأشد وحشية وبربرية؛ وأن نتابع، في الآن ذاته، ياسر عرفات (الذي كنا نعدّه في صف "اليمين"، الديني تارة والقومجي طوراً!)، طريداً ومحاصراً من جانب الأسد وحلفائه. الاستكمال الأمرّ لهذه الحال تمثل في مواقف عدد غير قليل من المثقفين الفلسطينيين، ولندعْ جانباً سلطة محمود عباس وبعض قيادات حركة "فتح"، إزاء الانتفاضة الشعبية السورية وموالاة النظام إجمالاً، وخصوصاً حصار مخيم اليرموك وتدميره. في سنة 2000 منعتني سلطات الاحتلال الإسرائيلية من دخول فلسطين عبر الجسر، وكنت ضمن وفد أدبي وثقافي عربي توجّه إلى رام الله للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكانت ذريعة المنع أن بعض كتاباتي السياسية ضد الكيان الصهيوني جعلني شخصاً "غير مرغوب" في دخوله؛ فاتضحت أمامي حقائق أُخرى ميدانية كاشفة لمزيد من الأوهام، وربما الاستيهامات، بشأن أي "سلام" مع هذا الكيان الصهيوني. وفي سنة 2015، وكنت ضمن وفد عالمي يمثل "احتفالية فلسطين للأدب"، سمحت لي سلطات الاحتلال بالدخول، وبلّغني الضابط الإسرائيلي أنهم وافقوا هذه المرة على الرغم من كتاباتي (وبعضها يندرج ضمن العداء للسامية، مثلما أخبرني!)، لعلّي أبصر الفارق بين دولة الاحتلال ومجازر الأسد في سورية. ولو كان لديّ أدنى استعداد للانخراط معه في حديث من أي نوع، أو حتى في مجادلته، لكنت سردت له أوجه التطابق الكثيرة بين النظامين. وفي سنة 2018 دخلت إلى فلسطين للمرة الثانية، بدعوة من مؤسسة محمود درويش، كي أشارك في إحياء الذكرى العاشرة لغيابه؛ وهذه المرة كانت شركة علاقات عامة إسرائيلية هي التي تتولى حركة الجسر، وبات الدخول إجراء "تقنياً" تشرف عليه سلطات الاحتلال عن كثب. هذه ثلاث تجارب ميدانية شخصية لمواطن سوري شددتْ، أكثر من ذي قبل، على ما شرعتُ أقتنع به منذ أن اكتسبت فلسطين صورة الواقع، وليس فقط بلاد المجاز أو الحلم أو الفردوس الضائع أو القضية المقدسة أو "الأرض التي تمتص جلد الشهداء" بحسب تعبير درويش. وفي رام الله والقدس وبيت لحم والخليل ونابلس اتضحت، أكثر أيضاً، ضرورة أن يسترد الفلسطيني الحقّ في أن يكون إنساناً، لا مجرد اختزال أسطوري أو بطولي؛ وهذا ليس من دون اقتران هذه الخلاصة بالسؤال الرديف: لكن... هل يستطيع، حقاً؟ هل في وسع الفلسطيني أن يكون آدمياً عادياً، حتى إذا شاء؟ هل يمكنه هذا، متى وأينما وكيفما يرغب في ذلك؟ وماذا عن "ثقافة الاستشهاد" التي يسوقها البعض على سبيل التهمة ضد الفلسطيني؟ هل يمتلك أي فلسطيني رفاه الزعم بأنه بعيد عن، أو مستبعَد من، احتمال الشهادة؟ وفي باطن هذه الأسئلة، وربما ذروتها، هل في وسعي كمواطن سوري أن أتحرر من أسطَرَة فلسطين، والفلسطيني؟ وأن أنفكّ عن حال الارتباط العالقة مع فكرة عليا وقصوى، هي التجسيد الأشد تعبيراً عن خسران جمعي لم يفارق الوجدان منذ أن تفتّح الوعي؟ بين أعمال إدوارد سعيد، غير المشهورة كثيراً في العالم العربي، ثمة كتاب بعنوان "بعد السماء الأخيرة"، تضمّن كثيراً من صور جان موهر الفوتوغرافي السويسري من أصل ألماني، قرأ فيه سعيد التاريخ الفعلي، البشري والمادي القائم في الزمان والمكان، لسلسلة نماذج فلسطينية. وابتدأ من افتراض طريف، لكنه عميق الدلالة: على الرغم من وجود أدبيات كثيرة تصف فلسطين والفلسطينيين، وخصوصاً تلك التي سطّرها الفلسطينيون أنفسهم، فإن الفلسطيني يظل مجهولاً نسبياً، بمعنى أنه لا ينتمي إلى شعب بقدر تمثيله لذريعة حرب وصراع ونزاع. يكتب سعيد: "منذ 1948 كان وجودنا من طراز أقل. عشنا الكثير الذي لم يُسجّل. قُتل منا الكثيرون، وأصابتنا ندوب، وأُخرسنا، دون أن نترك أثراً. والصورة التي تُستخدم في تمثيلنا لا تقوم إلاّ بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين لا يُرى الفلسطيني أساساً إلا في هيئة المقاتل أو الإرهابي أو المطارَد." أخال أنني لم أفلح يوماً في التخلص من إدمان الاستزادة من مقدار فلسطينيتي، والتزيّد فيها، ليس ردّاً على ذلك "الإنقاص" الذي يشير إليه سعيد، فحسب؛ بل كذلك لأن سلسلة عوامل تتعلق بإنضاج خيارات الوعي المتعددة ظلت تحثّ على هذا، في السياسة والاجتماع والثقافة. فعلى سبيل المثال، كنت في بداية انكبابي على دراسة النص الأدبي منحازاً إلى الرواية ضد الشعر، فأقامت قصيدة درويش الميزان الصحيح بينهما؛ وكان مزاجي اليساري، أو "الجدانوفي" على وجه أدقّ، لا يذهب بي إلى أبعد من لوكاش، حتى قادتني جاذبية إدوارد سعيد الفلسطيني إلى غرامشي! وهكذا، لا أراني قادراً على، أو حتى راغباً في، الانعتاق من حال "القتل" التي تحدث عنها ونّوس؛ ليس لأنها رياضة تستحثّ الإحياء والانبعاث والارتقاء فقط، بل لأن فلسطين هي أيضاً حمّالة التحولات و"أم البدايات"، سواء بسواء.