رهان الثقافة العربية على الديمقراطية وصيرورة التغيير
النص الكامل: 

  لا جدال في أن الثقافة تشكل عنصراً لاحماً في الفضاء العربي منذ عصور، وتعكس أصداء الانشغالات والأسئلة التي تخترق صفوة المثقفين والمبدعين مشرقاً ومغرباً، من خلال اللغة المشتركة والبنيات السياسية والمجتمعية المتقاربة، والتراث العربي الإسلامي ذي الظلال الوارفة... وأفضل مثال لهذا التلاحم الثقافي في الفضاء العربي، مسار فلسطين منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، والذي اضطلعت الثقافة فيه بدور أساسي في الانفتاح على فكر "الآخر"، ثم بدور المقاومة لمشاريع التهويد والأسرلة بعد الاحتلال الصهيوني. والظاهرة نفسها تطالعنا في الأقطار المغاربية عند مقاومتها لمخطط الفرنسة... لذلك، تظل الثقافة العربية طوال القرن الماضي وإلى اليوم، مجالاً ناصعاً للاقتراب من الإشكاليات والتحولات الجوهرية التي شغلت الفضاء العربي، سلباً أو إيجاباً، وأثّرت في سيرورته السياسية والاجتماعية، وأصبحت مدخلاً كاشفاً للمعضلات والحلول المحتملة كلما تعلق الأمر بمحاولة التفكير في مأساة احتلال فلسطين، وفي واقع الانهزام وسياق التفكك الجاثمَين على الفضاء العربي. سأميز في هذه المقاربة بين "الثقافي" و"السياسي"، جاعلاً من الأول الرحم الفكري والنظري الذي يحدد أهداف الثقافة وغائيتها الفلسفية والحضارية، ومعتبراً الثاني التصور الجوهري لمضمون السياسة التي تختارها الدولة لتحقيق شكل العلاقات والمصالح والحقوق وتحديد مواقفها الخارجية من صراعات العالم... والعلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي هي التي تبلور القيم الرابطة بين المواطنين داخل المجتمع، كما توجه التضامن والتحالف خارجياً. على هذا الأساس، يمكن أن نعتبر اكتشاف جمال عبد الناصر لمسألة الأسلحة الفاسدة في سنة 1948، لحظة اختلال بين السياسي والثقافي في مصر آنذاك، لأن تواطؤ القصر مع القوى الأجنبية كان معاكساً لتوجهات الشعوب العربية المساندة لتحرير فلسطين ومقاومة الاحتلال. وهذا الاختلال هو الذي دفع عبد الناصر ورفاقه إلى تحضير الانقلاب لتصحيح الاختلال بين السياسي والثقافي داخل مصر، قبل التفكير في تحرير فلسطين. وعند انطلاق الثورة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، تبددت وصاية الأنظمة العربية على القضية الفلسطينية، لأن أبناءها خلقوا بؤرة ثورية لتقليب التربة وربط الثقافي بالسياسي في أفق مقاومة إسرائيل وحلفائها الإمبرياليين، وإنشاء دولة فلسطينية لائكية تعتمد النهج الديمقراطي الذي انبنت عليه منظمات المقاومة. ومن أجل ذلك، سرعان ما أصبحت الثورة الفلسطينية مركز إشعاع وأمل يساند مشروع التحرر في مجموع الفضاء العربي، ويحثّ على معاودة النهوض في اتجاه تصفية النفوذ الأجنبي ومعانقة تطلعات شعوب العالم الثالث، آنذاك، نحو التحرر وتصفية الاستعمار. من هذه الإشارة إلى حدثين بارزين: التجربة الناصرية وقيام الثورة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، يستوقفنا عنصر مهم يسعفنا على تحليل العلاقة الجدلية بين فلسطين ومجمل الإشكاليات التي يفرزها الواقع العربي طوال ما ينيف على نصف قرن من التعثر والإجهاض والخضوع لأنظمة استبدادية أوتوقراطية. ففي تجربة عبد الناصر، جرى الاعتماد على الفصائل العسكرية والحزب الواحد والقائد الملهَم، الأمر الذي أدى، في سنة 1967، إلى هزيمته ومعه جيوش عربية أُخرى، أمام الجيش الإسرائيلي. حينئذ، ظهر جلياً أن خرافة الثورة من فوق، والتوسل بالانقلابات العسكرية، لا يمكن أن يفيدا في تكوين كيانات عربية قادرة على تجسيد دول تستجيب للمطامح التي ناضلت من أجلها الشعوب طوال عقود للحصول على الاستقلال. أمّا بالنسبة إلى الثورة الفلسطينية، فإن هزيمة الجيوش العربية كان لها آثار سلبية كثيرة، لأن الأنظمة الديكتاتورية صارت أكثر شراسة بعد فشلها، وأكثر حرصاً على البقاء في الحكم ضد إرادة شعوبها. وكانت تجد في قيام الثورة الفلسطينية عنصراً يعرّي نيّاتها التسلطية الكاتمة للأنفاس، وخصوصاً أن الفصائل الفلسطينية، في الداخل وفي المنافي والشتات، تفكر بصوت مرتفع، ولا تتردد في الجهر بالانتقاد وإعادة صوغ الأسئلة من منظور جريء يتصادى مع ما يفكر فيه الشباب في أرجاء الفضاء العربي وفي العالم. بات واضحاً، منذئذ، أن القضية الفلسطينية أضحت عنصر تثوير وتحفيز على النقد وتعميق الفكر السياسي، وهو ما دفع الأنظمة وأجهزتها إلى تضييق الخناق على فصائل الثورة وأنصارها، وإلى التآمر عليها للحدّ من إشعاعها. عندما أعيدُ عرض شريط هذه الأحداث التي عايشتها، محاولاً تحديد الموقع الذي أتكلم منه الآن، لا أتردد في أن أعتبر نفسي مثقفاً عربياً مهزوماً، لأنني انخدعت بشعارات وحدة عربية فوقية، وظننت أن تحرير فلسطين قريب، وأن ذلك سيقود إلى إنجاز "الثورة" في بقية أقطار الفضاء العربي... انْسقتُ إلى التدثر بخطابات أيديولوجية "ثوروية" جعلتني أتوهم أن انتصار الثورة الفلسطينية سيؤدي لا محالة إلى إنجاز التغيير المرجو في سائر الأقطار، لكنني سرعان ما استفقت من دوخة هذا الوعي المغلوط فيه، عندما حلّت هزيمة حزيران / يونيو 1967، لأنها حررتني من تضليلات الشعارات ومزاعم الأنظمة التي كانت تتخفى وراء ادعاءات الحرص على تحرير فلسطين. بعبارة ثانية، حملت الهزيمة في ثناياها عنصراً إيجابياً، إذ نبهتني والعديد من المثقفين والمبدعين، إلى أن زمن "المتخيل الوطني" الذي تبلور خلال فترة الكفاح، محققاً نوعاً من الإجماع حول دولة ما بعد الاستقلال، قد تلاشى عقب الهزيمة، مفسحاً المجال لنشوء "متخيل اجتماعي" يتطلع إلى تحرير الوطن من الاستبداد والفكر الماضوي عبر الصراع الديمقراطي... على هذا النحو، عرف الإبداع العربي طريقه إلى "الانشقاق" كي يتخلص من هيمنة "الدولة الوطنية"، ومن الخطابات الأيديولوجية التي طرزت الأكاذيب وسوّقت الوعود، وأغدقت البترو دولار لتزييف الثقافة... استطاع الإبداع والثقافة المنشقان عن الأنظمة المنهزمة، أن يرسما ملامح جديدة لعلاقة الثقافي بالسياسي، وأن يجهرا بما سعت دول القمع والتسلط لطمسه. ويمكن القول إن الأدب والفنون والفكر والممارسة الثقافية غدت هي واجهة المقاومة في الفضاء العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، على الرغم من الرقابة والمحاصرة وتشجيع الأنظمة لثقافة الكيتش واستجلاب "مجتمع الفرجة". لكن، يجب الإشارة إلى أنه على الرغم من محاصرة الأنظمة للمجتمعات المدنية وخنق أنفاس المواطن، فإن سيرورة المثاقفة عالمياً، دخلت منذ سبعينيات القرن العشرين في دورة جديدة محمولة على أجنحة العولمة والتطورات التقنية المذهلة التي كانت تستشرف الإنترنت والرقمية وتحطيم حواجز التقوقع... ثم وجدت الثقافة وممارستها داخل الفضاء العربي، طرائق ووسائط تصلهما بالمدار الكوني وأسئلته المستقبلية، وتشجعهما على مناهضة الموروث الجامد، وخوض غمار الإبداع، والتفكير بجسارة ونفاذ لا تستطيع أسوار الاستبداد أن تصدّ تيارهما. وهذا العامل هو ما جعل الإبداع والثقافة العربيين يبدوان بمثابة جزيرة مضيئة وسط هياكل قروسطوية يحيط بها حرّاس معابد فارغة. بالتوازي مع ذلك، ومنذ هزيمة 1967 إلى بداية انتفاضات "الربيع العربي"، تعرضت تجربة الثورة الفلسطينية لمناورات وضغط من الأنظمة المعتمِدة، أكثر فأكثر، على مساندة الولايات المتحدة المتحيزة إلى إسرائيل، والمجبرة على القبول بحلولها المجحفة لقضية فلسطين، وصولاً إلى مشروع "صفقة القرن". لكن، في الآن نفسه، عرفت الثورة الفلسطينية نوعاً من التآكل والعياء جرّاء الصراعات الجانبية بين الفصائل، وخصوصاً بعد مفاوضات أوسلو في سنة 1993، والقبول بسلطة خاضعة لرحمة إسرائيل الناكثة لوعود الاتفاق، والمتمادية في تعزيز الاحتلال والاستيطان. وهذه السلطة الوهمية أثارت الخلافات والتحارب في صفوف الفلسطينيين، بدلاً من أن تجعلهم يواصلون النضال صفاً واحداً، لاستكمال ما قامت الثورة من أجله. مع بداية تظاهرات "الربيع العربي" (2010 / 2011)، واكتساحها الفضاء على الرغم من حراسته من جنود لأجهزة وأنظمتها، بدأت الأزمة تكشف عمق الإشكالية التي تكمن وراء لعنة الإجهاض المصاحب لجميع محاولات النهوض العربي، ولبناء دول قادرة على حماية نفسها من الاندثار والابتلاع، ضامنة لشعوبها الحد الأدنى من شروط البقاء في عالم تقوده المصالح وحيازة المعرفة المتقدمة... كانت انتفاضات الربيع تقول، قبل أي شيء، إنه لم يعد ممكناً الاستمرار في حجز 400 مليون نسمة يسكنون هذا الفضاء، داخل أسيجة من تقاليد بالية وقيم مزيفة تفرضها أنظمة تنهب الثروات، وتحمي التفاوت والامتيازات، وتتحالف مع قوى أجنبية تساهم في تأبيد الاحتلال والتخلف... أصبح واضحاً، بعد انفجارات الربيع، أن معضلة الفضاء العربي لا تنفع معها لا الانقلابات العسكرية، ولا رُقيَة المستبد العادل، ولا البرلمانات المزيفة، ولا دولة الإرهاب الديني، ذلك بأن لبّ الإشكال يتمثل في غياب ممارسة السياسة بمعناها العميق الذي أثبت صلاحيته في تنظيم المجتمعات الحديثة وتدبير وسائل رقيّها. والسياسة بهذا المعنى، ترتكز على تخصيص حيز للتفكير في مسار مستقبل المجتمع، وربط ممارسة التدبير بذلك التفكير مع تعديله على ضوء الممارسة، وما تفرزه معطيات الواقع المتغير. ومن أجل تحقيق ذلك، تحتل الديمقراطية وضعاً مركزياً في الفكر السياسي. واضح، إذاً، من خلال هذا التذكير بأهم مصادر إجهاض النهوض في الفضاء العربي، أن الأفق الممكن المتبقي أمام المجتمعات العربية هو أفق الديمقراطية الكفيل بتحقيق الشروط الضرورية، مثل العدالة والمساواة وحرية المواطن، للخروج من شرنقة الاستبداد والديكتاتورية والتبعية... وهذا الأفق مشترك بين دول الفضاء العربي والمجتمع الفلسطيني الخاضع للاحتلال والاستيطان، لأن عنصر الديمقراطية أساس لتحقيق التوافق بين أفراد المجتمع، سواء في ظل السلم، أو عند خوض الثورة، أو الحرب. غير أن الأفق الديمقراطي الذي يفرض نفسه وسيلة للخروج من التعثر والتفكك والاستبداد والاحتلال، يقترن بأسئلة واختيارات تقتضي التوضيح. ذلك بأن مفهوم الديمقراطية ذا التاريخ المديد، والممارسات العديدة، أفرز عيوباً وثغرات تقتضي التوقف عندها وأخذها في الاعتبار عند صوغ تفصيلات هذا الأفق. وإذا كان المجال لا يسمح بالتوسع في بسط هذه المسألة، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى إفرازين سلبيين للديمقراطية توقّف عندهما كثير من المهتمين بالفكر السياسي: أولاً، ظاهرة الكُليانية (التوتاليتارية) التي حولت التصويت إلى عملية لمصادرة حقوق الشعب في الحوار والاقتراح، موهمة إياه بأن شخصية الزعيم والحزب الوحيد، يضمنان تنفيذ إرادته؛ على نحو ما سجله التاريخ السياسي في تجارب الاتحاد السوفياتي والثورة الثقافية في الصين وكمبوديا. ثانياً، الإفراز المنحرف، وهو ما يسمى الشعبوية التي يعتبرها البعض، خطأً، بمثابة انبثاق لأقصى اليمين، بينما هي لحظة ديمقراطية منحرفة (مثل الكُليانية)، تقوم على تجسيد إرادة الشعب في "ذات حاكمة" (égocrate) تُمنح لها الوكالة عبر صناديق الاقتراع كي تتولى تنفيذ مطالب الشعب... وهذا "التشخيص" للذات الحاكمة التي تفرّخ الشعبوية هو الذي جعل فيلسوفاً مثل كلود لوفور يقترح أن تكون الديمقراطية "مكاناً فارغاً للسلطة" لا يتمثل في شخص بعينه، وإنما يكون خاضعاً للتداول والانتقاد والتصحيح. هذه الملاحظات تقودني إلى الإلحاح على ضرورة الطرح الشمولي لإشكالية الديمقراطية، بدلاً من اللجوء إلى الطرح المجزأ والمتدرج، والذي سيقود إلى تكرار الأخطاء نفسها عند الممارسة. لذلك، عندما ألحّ على الأفق الديمقراطي وسيلة للخروج من سطوة الاستبداد والظلم والتفاوت والانهزام، أربط ذلك بتجاوز اعتبار الديمقراطية شكلاً انتخابياً يقوم على التمثيل العددي وكسب الأصوات، مصرّاً على إبراز أبعادها الثقافية والسياسية العميقة، المتمثلة في الجانب التشاركي القائم على الحوار المستمر بين المجتمع المدني والدولة، وعلى استهداف بناء "مجتمع المتساوين" (بحسب تعبير بيار روزانفالون)، حيث تأخذ المساواة شكل علاقة اجتماعية، بدلاً من حصرها في الجانب الاقتصادي. ولا شك في أن هذا الطرح لاختيار الديمقراطي أفقاً، يستتبع توفير استجلاء للأوضاع الراهنة في الفضاء العربي، وخصوصاً إعادة تحليل واقع الفئات والتصنيفات الاجتماعية وعلائقها ومواقعها في خريطة الإنتاج وتوزيع الثروة... كذلك، يقتضي اختيار الديمقراطية كأفق، بالمعنى الذي رسمنا بعض ملامحه، ألاّ توضع مقاييس مسبقة، أيديولوجية وإقصائية، بل يُفسَح المجال أمام جميع المواطنين، بغضّ النظر عن الديانة أو الإثنية، جاعلين الأسبقية لتنظيم الصراع الديمقراطي الحواري الهادف إلى إرساء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية. وبالنسبة إلى قضية فلسطين التي تمر بفترة جزر متزايد يغري الأنظمة "الشقيقة" بعقد الصفقات على حسابها، لا مناص من وقف سيرورة الصراع بشأن سلطة فلسطينية لا تزال مرتهنة لدى قوى الاحتلال. ولا بد من ضرورة العودة إلى الحوار الديمقراطي بين الفصائل وبينها وبين الشعب الفلسطيني، لإعادة تحديد سبل النضال لتحرير فلسطين من الاحتلال والاستيطان ضمن صراع ديمقراطي يفرض نفسه أفقاً للخروج من واقع الانهزام واستبداد الحكام والقيادات. إن ما يُزكّي رهان الثقافة العربية على الديمقراطية بصفتها أفقاً للتغيير، هو أن الفضاء العربي هو حالياً أمام صيرورتين: صيرورة ماضوية ترتد إلى الوراء باحثة عن ترهات وتأويلات تسمح لها بالاستمرار على الرغم من الخراب والهزائم؛ وصيرورة تغييرية تتجاوب مع مطالب المجتمع المدني في اللحاق بمنطق العصر عبر ما تفرزه الحضارة الرقمية وحضارة الذكاء الاصطناعي، من أجل إعادة الاعتبار إلى الفرد وتحريره من سطوة الاستبداد ووطأة التفاوت. ومن هذا المنظور، تكون القوى المجتمعية المناصرة للتغيير هي مناط الأمل لاحتضان مشروع الصراع الديمقراطي، الحواري، للخروج من دائرة الهزائم، ومذلة الاحتلال، وعسف الاستبداد والأوتوقراطية.