الأفق الفلسطيني
النص الكامل: 

  I   ستواجه الأنظمة العربية صعوبات كثيرة كي لا أقول خطرة، وهي تحاول مقاومة شعوبها بإسرائيل بصفتها صديقاً، بعد تاريخ طويل وكثيف من كبح طموحات هذه الشعوب ومصادرة حقوقها، بإسرائيل بصفتها عدواً. هذا المنعطف الجذري هو الذي تحاول السلطات العربية تحقيقه في ظروف غاية في التعقيد. فليس متوقعاً من الأنظمة العربية التي تتخبط في العديد من الأزمات المتقاطع بعضها مع بعض، أن تنجح في الخضوع القسري للشروط الدولية التي تفرضها القوى العالمية. هذه القوى التي لم تعد تكترث بالحقوق الإنسانية المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ولا بأزمة الأنظمة العربية المريضة بشعوبها. II عندما قلت مرة، إن فلسطين كانت الدرس السياسي الأول بالنسبة إلى جيلنا، كنت أعني أن تأسيس وعينا النضالي نشأ على مفهوم للعدالة يرى في حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه نموذجاً لمواجهة الظلم العالمي الذي يتوجب عدم تجاوزه أو تفاديه. ولعل ما أعتبره الدرس السياسي الأول في حياتي، ربما يُعتبر صالحاً ليكون درساً أول في حقل حقوق الإنسان والعدالة على المستوى الكوني. علينا أن نتذكر دائماً، ولا سيما بعد التطورات التي شهدتها المنطقة العربية في الأعوام الأخيرة، الفرق الواضح بين الموقف السياسي الرسمي للحكومات العربية، وموقف الشعوب العربية، وخصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. أصبح واضحاً التحول النوعي لدى الأنظمة العربية (المعلن منها والمستتر) نحو إعادة النظر في الموقف من إسرائيل، من دون الكلام عن الشأن الفلسطيني، في محاولة واضحة للفصل بين الحق الفلسطيني والعلاقة مع الدولة الإسرائيلية. وهو فصل يسعى للتمهيد السياسي من أجل فتح الجسور مع الدولة العبرية. إن التململ الشعبي في الأعوام الأخيرة، ومن أكثر مظاهره سطوعاً ما يسمى "الربيع العربي"، جعل الأنظمة العربية تضاعف حكمها الحديدي بقوانين أكثر تعسفاً، متضرعة إلى الدول الكبرى من أجل حمايتها، وعارضة عليها مزيداً من ضمان حاجاتها من ثروات الطاقة في المنطقة. ومن المشاريع التي يجري ترتيبها، مشروع الصفقات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والذي يضع الحق الإسرائيلي في مستوى الحق الفلسطيني. وبات علينا اعتياد هذا التعبير، ونحن نشهد الترتيبات اليومية، بإيقاع المتثائب (بلا يأس)، الهادف إلى تجاوز القضية الفلسطينية، وحلّها عن طريق تحويل إسرائيل إلى حليف في ضوء منظورات سياسية مستحدثة. وإذا وضعنا في اعتبارنا تمسّك الشعوب العربية بالحق الفلسطيني، فإنه لا بد من الانتباه إلى آلة السياسة العربية التي تخلخل الموقف الفلسطيني بالروافع الدينية نفسها، التي تستشري في الجسد العربي، عاملة على تحويله إلى جثمان. فالمرض الديني قادر يومياً على تفتيت الموقف العربي (وضمنه الفلسطيني)، تجاه مجمل القضايا السياسية، الأمر الذي يجعل القوى العالمية تسهر على تشغيل أدوات البطش بالأنظمة والشعب العربيين. لستُ من المعجبين في المطلق بالأنظمة العربية، ولا أرى في الوقوف مع أي من الحكومات العربية قاطبة أمراً مشرفاً. وأكثر من هذا، فإنني أرى أن الأخطر في هذا المشهد العربي والعالمي الآن، هو الإعجاب بأي من الأحزاب والمعارضات العربية برمّتها، مهما تكن شعاراتها أو مشروعاتها الوطنية والنضالية، فليس أسوأ من الأنظمة العربية إلاّ المعارضات العربية. وأعتقد أن على المثقف العربي أن يكون حراً في اتخاذ الموقف المختلف ضد جميع المنظومات السياسية، وهي تمارس يومياً التغرير والعسف بالمواطن العربي، وتضليله نحو أكثر المواقف إذلالاً وجهلاً. يجب عدم الغفلة عمّا يعانيه الفلسطيني جرّاء انشقاقات بنيوية في واقعه الاجتماعي والنضالي. وعندما قلت مرة، إن أحداً لا يستطيع أن يكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين، قصدت أن تدخّل العرب في المسألة الفلسطينية أدى إلى التعثرات التي لا تُحصى، وجعل القوى الفلسطينية مرشحة دوماً لمزيد من الخسارات المتوالية، على الرغم من التضحيات الأسطورية التي لم تتوقف منذ النكبة حتى الآن. والاتجار السياسي بالقضية الفلسطينية لم يتوقف طوال الوقت من طرف جميع الأنظمة والحكومات العربية، وكذلك الأحزاب والمعارضات العربية، وأعتقد أن على المثقف العربي أن ينتبه للتدخل السلبي السافر للعرب في القضية الفلسطينية، ويسعى لوقف هذا التدخل، وينتبه لضرورة تفادي المزيد منه. لنرَ لمرة واحدة على الأقل، بعد هذا العمر الطويل، الفلسطينيين يبادرون إلى اتخاذ قراراتهم وحدهم، بأنفسهم، بمعزل عن الأنظمة والسلطات العربية التي ستلجأ إلى استخدام أجهزتها وأدواتها الاستخباراتية بالدرجة الأولى. سألجأ إلى رأي إدوارد سعيد الذي تحدّث عن الحقوق التاريخية لليهود والمسلمين في فلسطين، مع رفض الكلام عن أن يُخرج واحد منهما الآخر من الأرض. ربما في هذا ما يتيح لنا جانباً من تفادي مزيد من التضحيات الجديدة. على الأقل، لئلا يأتي علينا يوم نسمّي فيه شهداءنا ضحايا مجانية، لكن من دون تفادي مواجهة الجناية التاريخية التي ارتكبتها الصهيونية، باسم اليهود. تلك وجهة نظر تصدر عن حقيقة الرغبة الكونية في الخروج من دائرة الدم بالدم. تُرى، هل يمكننا النظر في إمكان تصعيد السجال من أجل حل لا يعالج الجريمة بالخطأ؟ ذلك ما يتعرض له المثقف ليبدو لنا شخصاً يحاول رسم ظلال أشجار الغابة في عاصفة وتحت القصف. ومثلما لا أستطيع أن أكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين، أظن أن مثقفاً مثل إدوارد سعيد يمكن أن يساعدنا على التبصر في المشهد الفلسطيني، وهو عاش ودرس المسألة بالشكل الذي يؤهله لأن يقول رأياً، حتى لو اختلف معه بعضنا، إلاّ إن الخلاف سيكون "معه"، وليس ضده. فربما يريد سعيد تفادي وطن "يزداد سوءاً كل يوم"، بحسب تعبير محمود درويش. ثمة اليأس الذي يتوجب علينا تفاديه، لكن، لا بد من استدراك ما نخسره يوماً بعد يوم: الأرض. لقد أخذ الإسرائيليون الأرض شلواً شلواً (بعد أن اغتصبوا اللغة والعمل)، ويعملون منذ أعوام، على سرقة التاريخ، ويحاولون اختزال ما يخسره الفلسطينيون، وما أصبحوا يحلمون به الآن. فهل يذهب الفلسطينيون إلى حل الدولتين بحسب إشارة إعلان الدولة الفلسطينية أيام ياسر عرفات، أم إلى حل الدولة الديمقراطية (المستحيلة) الواحدة؟ هنا يتوجب تأمل الفوارق الجهنمية (التي نعانيها): بين حلم الشاعر الجذري، ونضالات السياسي المشروعة. الأديب العربي ليس في مكان الرأي الحاسم، بدلاً من الفلسطيني، فنحن أصحاب أحلام لا تقبل التنازل، بينما المناضلون هم أصحاب العمل المباشر. غير أن المفارقة الجارحة هي أن إسرائيل لا تتوقف عن القتل، ولا يتوقف الفلسطينيون عن الأمل. وفي هذا محاولة للاحتفاظ بقناديل الروح، لئلا تنطفىء أو تترمّد، بفعل ما يحاك حولها من "مؤتمرات". يصحّ لنا أن نسأل: متى، وكيف يتمكن الفلسطيني من تجاوز حالة الانقسام المتوترة؟ فالعدو قد أحسن عملية تفتيت الجسم الفلسطيني، في السياق المتدهور الذي يتعرض له الجسد العربي برمّته. وما إن يقبل الفلسطينيون بـ "رائحة" أرضهم، حتى تقفز "كناغر" متبرعة بالحلول الجاهزة، بغية الإجهاز على بقية الحلم. ويصح لنا أيضاً أن نسأل: كيف يمكننا تفويت الفرصة على مَنْ يعمل ويستعد لاقتناص فلسطين من أجل وضعها في "خرجه" الديني، وتحديداً من الجهة الطائفية؟ فحين تنجو فلسطين من "الخرج" الديني، لا نريد لها الوقوع في "الخرج" الطائفي، لئلا تفقد حريتها واستقلالها السياسي، ودلالاتها الإنسانية التاريخية. نحن ـ عندما تلقّينا الدرس الفلسطيني نضالياً ـ لم يكن الشأن الديني (فضلاً عن الطائفي)، وارداً في برنامجنا الفكري، بل إننا بدأنا مبكراً، تفادي الكلام عن فلسطين من شرفة الدين، حين انتبهنا لضرورة التفريق بين "اليهود" و"الصهيونية". فليس هناك مَن يملك الاستعداد لتكريس دينية الحرب لتشويه النضال وحرفه عن طريقه الإنساني، مثل التعصب الديني. وهذا أمر يروق للطرف الآخر، من أجل توظيف النضال الوطني ووضعه في مهبّ الخسارات. هنا بالذات يكمن المقتل الذي يتهدد نضالنا الإنساني، لأنه يساوي القتيل بالقاتل. فحتى لو كانت إسرائيل دولة عنصرية وتقوم على تنشيط الروافع الدينية، في محاولة لجعل المسألة دينية، فإن إسرائيل ليست قدوة لنا، أو يجب ألاّ تكون كذلك. مَنْ يُرِد حقه الحضاري، يتوجب عليه اعتماد الرؤية والأدوات الحضارية. إسرائيل بمكوناتها الصهيونية، تتفنن في جعل الخلاف دينياً، وبالتالي الحرب كلها دينية. وفي هذا استمرار لانفجار المشاعر والتعصبات الدينية التي أخذت في التفاقم في المجتمع العربي. الهرطقة عنصر مكوّن للتعصب الديني. وإذا كان هذا مرذولاً رسمياً عند المسلمين (على الرغم من تفشّيه الآن)، فهو في اليهودية الصهيونية جزء من دعايتها السياسية. وأظن أن الإعلان الإسرائيلي الأخير الذي أطلقه بنيامين نتنياهو، يصبّ في التوجه الصهيوني نفسه نحو تكريس الدين في الخلاف، وتحشيد الموقف الصهيوني، لجعل اليهودية علامة قومية في المجتمع الإسرائيلي. وكان سبق للحاخام الألماني موشيه هيرش، أحد أبرز الباحثين الدينيين اليهود في القرن التاسع عشر، أن ذكر أن الصهيونية تريد "إظهار الشعب اليهودي حول العالم على أنه قومية موحدة، وفي ذلك هرطقة فاضحة."   III   عندما بدأتْ خطواتنا الأولى في معرفة الحياة واختباراتها، كانت فلسطين هي الدرس السياسي الأول، وهو الدرس الإنساني بامتياز، وربما هو الدرس الذي منح انهماكنا في النضال طابعه الإنساني العميق. بهذا الشكل أستطيع وصف علاقتي بفلسطين، عندما بدأت أتعلم المعنى الجوهري للنضال. فعلى الرغم من ارتباطنا بالعنصر القومي لمفاهيم العمل السياسي في "حركة القوميين العرب" (وحدة؛ تحرر؛ ثأر)، فإن الدرس الفلسطيني ظل امتيازنا الثوري في الأفق الأكثر رحابة، وهو ما جعلنا ـ مع التحولات الفكرية / التنظيمية ـ على استعداد لأن نرى في النضال العالمي أفقاً رفيقاً لنضالات الشعوب كافة. وإذا بفلسطين ترافق تجربتي في نصوص كثيرة، فاعتززت بأنني أتعلم، ولا أزال، من الدلالات التي لا تُحصى في هذا الدرس. ولم يعنِ ذلك أن يكون لوجود فلسطين في قصائدي، حكم قيمة فنياً (أو موضوعياً)؛ فالشعر يجب أن يكون شعراً قبل أي شيء، وبعده. ولعل من المفارقات التي لا تخلو من دلالة، أن هذا الدرس الفلسطيني ظل يرافق جميع مراحل حياتنا، بل يعبر الأجيال معنا، من دون أن ينال الشعب الفلسطيني حقه في أرضه، ومن دون أن تأخذ الشعوب العربية هذا الدرس مأخذ المعنى التراكمي للتجربة. فبينما يواصل الشعب الفلسطيني خساراته في معاركه مع العدو الإسرائيلي، تواصل الشعوب العربية فقدها مجرد الأمل في نجاح نضالاتها، ونيل حرياتها. والأنكى من هذا كله، أن السلطات العربية بشتى أنواع أنظمتها (بما فيها بعض الدول التي حدث فيها التغيير "السياسي" بفعل الانقلابات العسكرية)، زادت فيها ضراوة الظلم والبطش والتخلف. وهي ضربت لنا مثلاً ضارياً لبشاعة الأنظمة (الوطنية)، إلى الدرجة التي ستدفعني إلى الشعور بفداحة ما ورثناه من "حركة التحرر الوطني" التي بذلنا في سبيلها حياة أكثر من جيل، حتى نوشك على القول إن حركة التحرر الوطني كانت بمثابة "الخطأ"، لفرط ضراوة الحكم الوطني الذي جاءت به. كلما تواصل النضال الفلسطيني مردوفاً بظهيره العربي، تضاعفت خساراتنا في حلم العودة الفلسطيني. حتى إن طعم مصطلحَي "جيل النكبة" و"جيل النكسة" صارا يزدادان مرارة وفقداً ومآسي. وإذا تأملتُ الآن ما نتخبط فيه من خيبة وخذلان وتراجع مستمر، فسأقول إن الاستغلال البشع وغير الأخلاقي الذي مارسته الأنظمة العربية، منذ منتصف أربعينيات القرن العشرين حتى الآن، ساهم في مواصلة الفقد الفلسطيني العربي، وتكريس الوجود الإسرائيلي بصفاقة المحتل. أعتبر نفسي من الجيل المخضرم الذي عاش تجربتين في غاية الوحشية، في ظل سلطات عربية كانت تحارب أحلامنا في التحرر من إسرائيل بصفتها "العدو"، ثم صارت السلطات العربية ذاتها، تحاربنا الآن بإسرائيل بصفتها "الصديق". هذا كله يحدث مرهوناً بالتصاعد الفجّ لحروب المصالح السلطوية العربية مستقوية بالنظام العالمي، من دون أن يرفّ لها جفن.