ترامب والجولان: نظرة من الأرض المحتلة
نبذة مختصرة: 

في 25 آذار / مارس 1981 أصدر أهالي الجولان السوريون المتبقون تحت الاحتلال وثيقة وطنية في خضمّ مواجهتهم مخطط فرض القانون الإسرائيلي على الأرض وتجنيسهم، أعلنوا فيها، أمام أنفسهم وأمام الرأي العام العالمي ومؤسسات الأمم المتحدة، تمسّكهم بهويتهم العربية السورية الأصيلة. وحين أقر الكنيست قانون الجولان في كانون الأول / ديسمبر من تلك السنة، دخلوا في مواجهة مع الاحتلال، رافضين التجنيس والصمت، فكيف ستتم مواجهة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف لإسرائيل بضمّها الجولان المحتل؟

النص الكامل: 

  في 25 آذار / مارس 1981 أصدر أهالي الجولان السوريون المتبقون تحت الاحتلال وثيقة وطنية في خضمّ مواجهتهم مخطط فرض القانون الإسرائيلي على الأرض وتجنيسهم، أعلنوا فيها، أمام أنفسهم وأمام الرأي العام العالمي ومؤسسات الأمم المتحدة، تمسّكهم بهويتهم العربية السورية الأصيلة.[1] وحين أقر الكنيست قانون الجولان في كانون الأول / ديسمبر من تلك السنة، دخلوا في مواجهة مع الاحتلال، رافضين التجنيس والصمت، فكيف ستتم مواجهة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف لإسرائيل بضمّها الجولان المحتل؟   في مصادفة غريبة، تزامن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 25 آذار / مارس 2019، بأن الولايات المتحدة تعتبر مرتفعات الجولان "جزءاً من إسرائيل" في الذكرى الـ 38 للوثيقة الوطنية لأهالي الجولان، والتي كانوا قد أكدوا فيها رفضهم تطبيق القانون الإسرائيلي على الهضبة المحتلة، وتمسّكهم بهويتهم العربية السورية. لقد لفت هذا التزامن في روزنامة المناسبات التاريخية ناشطين في حراك شبابي سوري في الجولان المحتل، فردّوا بروح من السخرية السياسية الظريفة، ونشروا صورة مزيفة لحفل التوقيع في البيت الأبيض يظهر فيها الرئيس الأميركي حاملاً الوثيقة الوطنية الجولانية بدلاً من قراره الساقط أخلاقياً وقانونياً. كانت رسالتهم واضحة ومباشرة: صوتنا سيعلو، ولن يكون لترامب أن ينفي التاريخ.   سقوط الجولان حتى 5 حزيران / يونيو 1967 كان يعيش في الجزء المحتل من الجولان (تبلغ مساحة هذا الجزء 1150 كم٢ بعد أن استعادت سورية نحو 100 كم٢ في اتفاقية الهدنة التي توسّط فيها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في إثر حرب تشرين الأول / أكتوبر ١٩٧٣)، أكثر من 130,000 شخص، في نحو 340 قرية ومزرعة، فضلاً عن القنيطرة عاصمة المحافظة، وكان جزء من هؤلاء من اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من بلدهم في سنة 1948. وبعد الاحتلال، لم يبقَ في مشهد الجولان الزاخر بالحياة، إلاّ خمس قرى تقع في أقصى الشمال على سفح جبل الشيخ، هي: مجدل شمس؛ مسعدة؛ عين قنية؛ الغجر؛ بقعاثا (علاوة على قرية سحيتا التي هُجّر أهلها بعد حرب 1973 إلى القرى الخمس الأُخرى). وكان عدد السكان في هذه القرى 6000 شخص في سنة 1967، واليوم يقرب عددهم من 22,000 نسمة. مع سقوط الجولان لجأ الأهالي في أغلبيتهم الساحقة شرقاً إلى المناطق الآمنة ونحو ضواحي العاصمة دمشق، وهكذا بدأت مأساة مستمرة ومتجددة تكتّم عنها الخطاب الرسمي السوري، بينما مُنع أهل الجولان من التعبير عن مأساتهم. وتحت وصاية امتزج فيها القصور بالقهر والجلف الأخلاقي المستشري، كاد ضحايا الحرب هؤلاء يصبحون في طي النسيان. وفعلاً، فإن الرأي العام العالمي لا يكاد يذكرهم، أو يعرّف بحقيقة وجودهم، ولم تظهر سوى محاولات متفرقة من بعض الجهات الأهلية لرفع الصوت والتوثيق وصون الذاكرة إزاء ما حدث.[2]   ترامبفيل (Trampville) بعد حزيران / يونيو سنة 1967، فرضت قوات الاحتلال إجراءات عسكرية صارمة ضد كل مَن حاول العودة، وشرعت، بعد مرور أشهر قليلة على الحرب، في تدمير القرى والمزارع وتغيير معالم المكان جذرياً، فزرعت أولى الوحدات الاستيطانية في قلب مدينة القنيطرة، وكان هذا فاتحة سلسلة لم تنتهِ من المستعمرات. وثمة اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على الاحتلال الإسرائيلي، 34 مستعمرة إسرائيلية، يقطنها أكثر من 20,000 مستوطن يحتلون الأرض والموارد الاقتصادية، من السياحة إلى الزراعة والمياه وصناعة النبيذ. وبعد إعلان ترامب بشأن الجولان، ردّ له بنيامين نتنياهو "المعروف" بإعلان تجديد إحدى المستعمرات، وإطلاق اسم ترامب عليها. ويبدو أن خلف هذه المبادلات الشخصية غنائم مادية، فشركة جيني إنيرجي الأميركية، التي توظف مسؤولين سابقين كباراً في إدارة ترامب، تنقّب منذ عدة أعوام عن ثروات نفطية كبيرة محتملة في باطن الجولان المحتل. وفي الأفق يرسم ترامب ونتنياهو خططهما لتحويل، أو تأبيد حال الشرق الأوسط على شاكلة "مزارع الموز" الأميركية. لقد وصف الأنثروبولوجي الراحل باتريك وولف الاستعمار الاستيطاني في أميركا وأستراليا وفلسطين وغيرها، بحركة "تصفية" لأبناء البلد الأصليين، تبدأ بإخراجهم من الأرض، وتكتمل بتدمير كينونتهم المعنوية عبر مسح هويتهم، لينقطعوا عمّا كانوا، فينحلّوا في كينونة المستوطنين ويذوبوا (وقد صنّف منظّر آخر، هو لورينزو فيرتشيني، نحو 35 شكلاً من أشكال النفي هذا سمّاها "ترانسفير"). لكن هذا الانحلال لا يكتمل طبعاً، ولا يمكن له أن يكتمل، ذلك بأن ثنائية المستعمِر والمستعمَر، تلك الثنائية التي تحدث عنها فرانس فانون، والتي تقوم على محددات يعتبرها المستعمِر طبيعية وفوق - تاريخية (اللون، والعرق، والدين الإثني)، تؤدي دوراً وظيفياً في حالة الاستعمار، يتمثل في خلق حدود فاصلة بين جماعتين بشريتين تسيطر إحداهما على الأُخرى، وبالتالي تولِّد المقاومة. فـ "الهنود الحمر" لم ينتفوا، ولم يذوبوا بالتمام مثلما افترض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في واحدة من تعبيراته السياسية. وقد ردّت أودرا سمبسون الأصلانية من البلد التي باتت تسمى كندا، والجامعية المرموقة في جامعة كولومبيا، في حديث لها في رام الله قبل عدة أعوام أمام جمعية الجغرافيين النقديين العالمية، على خطأ عرفات قائلة: "كلنا هنود حمر". ما قصدته سمبسون هو أن الجماعات الأصلانية لا تزال حية، ولا تزال تقاوم في أنحاء العالم كافة.   حدود الهيمنة وظّفت قوة الاحتلال الإسرائيلي مزيجاً مركباً من أدوات السيطرة والهيمنة الاستعمارية القديمة والجديدة، واستحضرت التقاليد المحلية والهوية الطائفية، لتطويع زعماء محليين تقليديين، كتابعين يؤدون مهمات الهيمنة: نشر الأفكار الملائمة للحكام بين المحكومين؛ إسكات تعبيرات الهوية الوطنية؛ إعلان الولاء ومحبة العيش بسلام والاهتمام بالمصالح الحياتية بعيداً عن المصالح السياسة. ثم أنتج نظام الاحتلال والدمج الاقتصادي والتربوي، أصواتاً تؤدي دور الوسيط في مهمات الهيمنة القديمة ذاتها. لقد عملت هذه الهيمنة من خلال أجهزة الحكم المتعددة، وعبر الخطاب الإعلامي، وكذلك من خلال العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة، وعزلة الأهالي واضطرارهم إلى العيش ضمن النظام الإسرائيلي، وبدا لصانعي السياسة الإسرائيلية في العقد الأول من الاحتلال، وعشية الضم، أن مشروع الهيمنة عبر الهوية الطائفية والدمج في الواقع الإسرائيلي قد اكتمل، وأن مفهوم "الأقلية الخاصة" تعمّق في وعي الذات المستعمَرة. لكن ما حدث هو نشوء قوة معاكسة، فاعلية ذاتية لم يتوقعها الاحتلال، إذ استطاع الأهالي على قلة عددهم وعزلتهم، أن يقولوا لا للضم، وأن يرفضوا هذا المشروع. لقد أدركوا الحدود السياسية لجبروت الاحتلال، وأدركوا كيف يستغلون ذلك، وكيف يخاطبون الرأي العام العالمي، وكيف يخوضون الإضراب الشامل، وكيف يواجهون في الشارع. خلال ثمانينيات القرن الماضي، تطورت مبادرات التواصل مع القوى السياسية الفلسطينية في القدس والناصرة وحيفا، وكذلك مع القوى السياسية التقدمية اليهودية المناهضة للصهيونية. وبادر إلى ذلك قوى شبابية جديدة تصبو إلى حداثة متحررة، وطنية، غير تابعة لإسرائيل، وكان زخم الموقف الشعبي الوطني وراءهم يشحنهم بالعزم والثبات. وتمخّض عن ذلك، وخصوصاً بواسطة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إرسال بعثات طلابية إلى الاتحاد السوفياتي، ثم دخلت سورية إلى الصورة وارتفع عدد تلك البعثات حتى انهيار الاتحاد السوفياتي. وبعد محادثات مدريد في سنة 1991، وكجزء من بادرات حسن نية متبادلة، فتحت إسرائيل معبر القنيطرة على مدار العقدين التاليين أمام طلبة الجولان الذين التحقوا بالمئات بمختلف كليات جامعة دمشق، وخصوصاً كليات الطب والهندسة وطب الأسنان والصيدلة والتربية وغيرها، الأمر الذي خفف من العزلة. ولم يقتصر الأمر على التعليم، بل شمل أيضاً زيارات دينية وعائلية للشام (وإن كانت متقطعة جداً)، وكذلك تصريف جزء مهم من منتوج التفاح الجولاني إلى دمشق، وهو ما ترك أثراً بالغاً في التكوين الاجتماعي وصيرورة الوعي الجولاني تحت الاحتلال.   لغز الهوية إن كل عملية تحديث تقوم طبعاً على تناقضات وصراعات جديدة، بسبب اختلاف المصالح والرؤى والتباينات داخل الثقافة والهوية ومصادر القوة. وإذا كان ثمة درس أساسي يمكننا أن نتعلمه من هذا السياق المحلي الدقيق، فهو أن ثنائية الحداثة الاستعمارية المشوهة والحداثة الوطنية النقية ليست سوى قناعة مثالية (دوغما)، إلاّ إن لا مجال هنا للخوض في هذه المسألة المعقدة. يكفينا القول إن التواصل المذكور، ولا سيما في التعليم العالي، أنتج بسرعة عجيبة طبقة وسطى لم يكن لها أن تنشأ لوحدها في ظل الاحتلال والتبعية والهيمنة الاقتصادية والتعليمية لإسرائيل. غير أن التعليم العالي الواسع لم يكن له أن ينتج الطبقة الوسطى بتلك السرعة في "الريف"، لولا الاندماج في اقتصاد الاحتلال الرأسمالي القوي (بفعل الإدماج المطّرد لهذا الريف منذ الثمانينيات في نظام العولمة، في مقصوراته العليا، وليس كحال مجتمعات جنوبية عديدة أُدمجت في المقصورات التحتية منه). ولا شك في أن لهذه المفارقة أثراً عميقاً في أشكال أو مسارات الوعي الجولاني، وتتوالد عنها مفارقات لا تنتهي. في ظل وضوح هذه المفارقة لا بد من أن يطرح المرء السؤال الصعب: ما هي الهوية.. وما هو سرها؟ وهل الهوية هي أن يكون المرء أو المجتمع موضوعياً، أم هي التعبيرات (المتناقضة) التي تنتجها الذات عن نفسها؟ وإذا كانت الهوية هي الذات الموضوعية، بكل ما فيها من علاقات وحالات طارئة وهجينة لا هوية أو جوهر ثابت لها (أن يحمل المرء بطاقة إسرائيلية من دون انتماء، وأن يدرس في سورية ويعمل في مشفى إسرائيلي أو في حقل زراعي في مستعمرة من دون التفكير كثيراً في التناقض؛ أن يدفع الضرائب الإسرائيلية ويستفيد من الوضع الاقتصادي والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي الإسرائيلي، كمجرد أمر عادي؛ أن يزرع أرضه ويبيع محصوله في تل أبيب؛ أن يستهلك البضائع الإسرائيلية من دون تمييز؛ أن يبني نفسه وهويته المقاومة بأدوات محتلة؛ إلخ)، فكيف يمكن أن تنشأ وحدة الذات، أو الهوية؟ على أي مستوى يحدث هذا؟ لماذا يتماهى الجولانيون تحت الاحتلال بشكل تلقائي مع أحداث سورية؟ لماذا كانوا من أوائل مَن انبرى إلى التحزب مع أو ضد الانتفاضة، مباشرة بعد انطلاقة الانتفاضة في آذار / مارس 2011؟ لماذا جازف الناس بقطيعة داخلية أحياناً داخل العائلة الواحدة، وبانقسام مجتمعي كاد يتطور إلى لحظات صدام عنيف، مع أنهم جسدياً أو موضوعياً بعيدون عن أحداث الوطن لأجل غير مسمى؟ هناك نظريات عميقة ومعقدة لتعريف ماهية الهوية، ولتفسير علاقاتها المعقدة بالواقع الموضوعي، غير أن التعبيرات العفوية والواعية للهوية، هي أمر حقيقي (بمعزل عن تفسيرها السببي)، والمرء يشعر بأهمية هذه التعبيرات كلما زادت تناقضات الواقع المعاش "الموضوعي" ومتغيراته في الضغط عليها والتأثير فيها في شتى الاتجاهات. وفي نهاية المطاف فإن تداعيات المأساة السورية، وتداعيات السياسة الإسرائيلية والأميركية (التي لا يُعدّ إعلان ترامب إلاّ عرضاً من أعراضها)، كلها مركبات من هذا الواقع الموضوعي الضاغط.   مركزية الوعي لقد ساهم الانقسام الأهلي بشأن الثورة والنظام في سورية – بما يحتويه من تناقض في المشاعر واللغة – في الكشف عن مدى قوة الضغوط الاجتماعية والسياسية الناجمة عن واقع الاحتلال. فثمة أولاً وقع صيرورة الدمج السوسيولوجي في الواقع الإسرائيلي (أي تلك التي تحدث بفعل التحولات الطبقية والمهنية، وانتشار القيم الفردية والاستهلاكية، والتعارض المطّرد بين المصالح الشخصية والمصالح الأهلية) على تعبيرات الهوية. فوفقاً لهذه التحولات الاجتماعية، وجرّاء الدمار السوري، بات من الأصعب على الشاب أو الشابة الجولانية أن يريا قيمة الوطن، وخصوصاً وسط ما يبدو فرصاً وواقع عيش أسهل وأكثر أمناً وتطوراً في ظل الواقع الإسرائيلي. وهذا مجرد مثال واحد بسيط من فيض. وثمة ثانياً وقع عملية دمج أو أسرلة سياسية ما برحت أجهزة الحكم الاحتلالي تعمل عليها، وقد زاد الاهتمام بها مؤخراً. ويكفي هنا تقديم بعض الأمثلة: الترويج الإعلامي وبث الشائعات عن ظاهرة توجه الشباب إلى حيازة الجنسية الإسرائيلية وتضخيم حجمها وتحميلها معاني لا تحملها؛ البرامج التربوية غير المنهجية الممولة من جهات صهيونية وحكومية، والتي تطبَّق في المدارس وتهدف إلى دمج الشباب في حركات صهيونية وفي الخدمة المدنية الإسرائيلية (وهي شبيهة بالخدمة العسكرية)؛ خطوات عديدة تستهدف جلب الحيز الثقافي والرياضي إلى مظلة التمويل الحكومي، وبالتالي إلى حقل الهيمنة الإسرائيلي؛ فرض انتخابات بلدية لأول مرة منذ سنة 1967. إن هذه التطورات تنذر بانزلاقات لها عواقب خطرة على الواقع الجولاني، لكن الإيجابي أن الأمر لا يسير من دون مقاومة، وثمة ما يبعث على الأمل. فبعد أعوام من القطيعة الداخلية، عاد ناشطون من معارضين وموالين إلى تحييد خلافاتهم، والتعاون في نشاطات لفضح سياسات الصهينة في المدارس، وهو ما حدث في الحملة الشعبية لمواجهة الانتخابات المحلية (والتي انعكس فشلها في مقاطعة الانتخابات التامة في قريتين، ووصول نسبة المشاركة إلى 1٪ و3٪ في قريتين أُخريين). والأمر نفسه يحدث في قضايا أُخرى عديدة تفرض إعادة ترتيب سلم الأولويات لدى الجولانيين. لا يعني هذا انتهاء الخلافات والصراعات، ولا يعني أن الأيام المقبلة لن تحمل مواجهات صعبة، فالتحولات الجارية والتحديات المذكورة – الاجتماعية والسياسية – تحتاج إلى أكثر من مجرد توافقات طارئة هنا وهناك. ثمة حاجة ماسّة إلى إعادة بناء آليات عمل شعبية ومنظمة كي تحيّد المجتمع عن مسار تدهور لا رجعة فيه، وهذا يبدأ من نقطة بديهية هي إعادة الاعتبار إلى مسألة الإدراك والموقف، من دون رهن ذلك بمسألة المصلحة اليومية والموقع اليومي الذي يفرض نفسه على الأفراد والمجتمع. إن نقطة الإدراك هي نقطة أرخميدس في السياسة الشعبية، وفي الثقافة والذاكرة والهوية، وعليها يتواتر الصراع دائماً. هذا في اعتقادي ما التقطه الحراك الشبابي في رده الساخر على ترامب.   الزمن المفتوح لا تقاس تداعيات السياسة الأميركية الجديدة في أثرها في السوريين في الجولان المحتل فحسب، بل إن قضية الجولان هي قضية جزء من شعب هُجّر من أرضه، وفقد مقومات الحياة والأمن في وطنه. هي قضية أمّة تعاني سياسات تدمير معنوي ووجودي على يد قوى طامعة في تمزيقها إلى مناطق نفوذ. إن إعلان ترامب هو الجزء الظاهر الفج، لكنه ليس الناب الوحيد الذي يمزق الجسد السوري، فما يمكن رصدّه من روح وطنية، ودفع ديمقراطي شعبي لمعالجة التحديات المحلية في الجولان المحتل، قد يحمل رسالة أمل إلى سائر الشعب السوري. إن حال الانتفاضة السورية تستدعي أسطورة صندوق باندورا الذي فتح أملاً بالكرامة والعدالة والحرية، فخرجت منه الكوابيس كلها، إلاّ الأمل. لكن ما هي العبرة من ذلك؟ ألاّ نجازف بشيء لأجل الأمل، أم إن العبرة هي أن نتأمل فيما يحل بأرض وشعب جرّاء الظلم والذل؟ علينا ألاّ نفقد الأمل، ففي أي شيء نفعله: في اللجوء أو في أي مكان، يكمن دائماً تحدّ أول هو: كيف نحترم كرامة الإنسان الذي فينا؟ من هنا ندرك أن السوريين يمتلكون كثيراً ممّا يمكن القيام به أمام الصعاب والمأساة. ربما يقدم الجولانيون تحت الاحتلال مثالاً واحداً بسيطاً للأمل بقدرة الناس على مواجهة التحديات، لكنهم هم أيضاً بأمسّ الحاجة إلى عودة الوطن إلى أهله وعودتهم إليه، وإلى طيّ صفحة الألم والدم والطغيان. المهمة طويلة وشاقة، لكن في حلكة الظلام يبدأ الإنسان من الحلم، من الرؤيا، أو قل من الإيمان في القلب والوجدان.     [1] انظر نص الوثيقة في موقع الأرشيف الاجتماعي الفلسطيني في الرابط الإلكتروني التالي: http://archive.palestine-studies.org/ar/node/1216 [2] انظر ملف "الجولان: شهادات نازحين عن أيام الحرب والحاضر"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 42 (ربيع 2000)، ص 119 – 149.