قراءة في نتائج الانتخابات الإسرائيلية
نبذة مختصرة: 

كيف أمكن لزعيم حزب الليكود واليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يضرب بقوة في الانتخابات الأخيرة للكنيست، على الرغم من شبهات الفساد كلها التي تحوم حوله؟ بل كيف تمكن من تحجيم جميع منافسيه في اليمين، وقاد أجنحة هذا اليمين كلها من الوسط حتى التطرف فبات نبيّه الجديد؟ أكثر من ذلك، ما هو السر في هذا الرجل الذي تمكّن من ليّ ذراع جنرالات الجيش الإسرائيلي المتقاعدين الذين تكتلوا في قائمة أزرق – أبيض، فتجاوزهم مسجلاً سابقة في هذا المجال؟ أمّا الصوت العربي المتبعثر وقوائمه التي سجلت تراجعاً، فله حكاية أُخرى تسعى هذه المقالة للإجابة عنها، وعن الأسئلة المطروحة بشأن ما بعد انتخابات الكنيست الأخيرة.

النص الكامل: 

  كيف أمكن لزعيم حزب الليكود واليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يضرب بقوة في الانتخابات الأخيرة للكنيست، على الرغم من شبهات الفساد كلها التي تحوم حوله؟ بل كيف تمكن من تحجيم جميع منافسيه في اليمين، وقاد أجنحة هذا اليمين كلها من الوسط حتى التطرف فبات نبيّه الجديد؟ أكثر من ذلك، ما هو السر في هذا الرجل الذي تمكّن من ليّ ذراع جنرالات الجيش الإسرائيلي المتقاعدين الذين تكتلوا في قائمة أزرق – أبيض، فتجاوزهم مسجلاً سابقة في هذا المجال؟ أمّا الصوت العربي المتبعثر وقوائمه التي سجلت تراجعاً، فله حكاية أُخرى تسعى هذه المقالة للإجابة عنها، وعن الأسئلة المطروحة بشأن ما بعد انتخابات الكنيست الأخيرة.   انتهت الانتخابات الإسرائيلية، في 9 نيسان / أبريل 2019، بفوز مزدوج لبنيامين نتنياهو حصل حزبه بموجبهما على 35 مقعداً، بزيادة 5 مقاعد عن انتخابات 2015، كما حصل معسكر اليمين الداعم له على 65 مقعداً، من مجموع 120 في الكنيست. هذه النتيجة هي مؤشر واضح إلى استمرار هيمنة قوى اليمين الشعبوي المتطرف، وترسيخها في المجتمع الإسرائيلي، ورسالة بأن المجتمع السياسي الإسرائيلي ليس ناضجاً لتسوية سياسية من أي نوع، وأنه عاجز عن الوصول ذاتياً إلى مثل هذا النضوج. فالقوى المهيمنة في المجتمع السياسي الإسرائيلي لم تعد مهتمة بلعبة "العملية السلمية" التي تعتقد أنها تبطّىء بعض مشاريعها، ولا باستمرار نهج إدارة الصراع وتحقيق مكاسب متراكمة عبر ذلك، إذ إنها قررت ضرورة حسم الصراع، واتخاذ خطوات عملية، في مقدمها ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها إلى إسرائيل، وفرض نزع السلاح على "حماس"، واتخاذ خطوات عملية لإغلاق ملفات اللاجئين والقدس والجولان. رأت قوى اليمين المهيمنة أن نتائج الانتخابات هي تفويض لها، ليس لحسم الصراع فحسب، بل لإجراء تغييرات جوهرية أيضاً في الدولة العميقة، وفيما يسمى نظام "دولة يهودية وديمقراطية"، من أجل جعلها أكثر يهودية وأقل ديمقراطية، وكذلك لتأسيس الجمهورية الإسرائيلية الثانية بوثيقتها المركزية "قانون القومية" الذي جاء ليحل مكان "وثيقة استقلال إسرائيل"، بعد شطب أي ذكر لقرار التقسيم، ولمبدأ المساواة، ولحقوق المواطنين العرب، وللديمقراطية. هذه الجمهورية الإسرائيلية الجديدة تعتبر نفسها دولة يهودية في الجوهر والفحوى، وديمقراطية في بعض جوانب المظهر.   نتائج الانتخابات يبلغ عدد أصحاب حق الاقتراع في سجل الناخبين للكنيست 6,34 ملايين، منهم قرابة نصف مليون موجودين في الخارج. وقد صوّت في الانتخابات 4,34 ملايين، لتصل نسبة التصويت إلى 68,5%، في مقابل 72,3% في الانتخابات السابقة. أمّا نسبة أصحاب حق الاقتراع العرب، والتي تصل إلى قرابة 930,000 صوت داخل البلد، أي ما نسبته 16%، فانخفضت عندهم من 64% في المرة السابقة، إلى 50% هذه المرة. حصل تحالف قوى اليمين الإسرائيلي في الانتخابات على 65 نائباً، في مقابل 67 في الانتخابات التي سبقتها. وزاد عدد نواب الليكود عن الانتخابات السابقة 5 نواب ليصل إلى 35 نائباً، بينما ارتفع عدد نواب شاس من 7 إلى 8 نواب، وكذلك يهدوت هتوراه من 6 نواب إلى 8، في حين انخفض تمثيل حزب كولانو من 10 نواب إلى 4 فقط، وحصل تحالف أحزاب اليمين على 5 مقاعد في مقابل 8 كانت للبيت اليهودي (تشمل 3 نواب انشقوا عنه ولم يعبروا نسبة الحسم)، وحصل حزب أفيغدور ليبرمان على 5 مقاعد، في مقابل 6 في الانتخابات السابقة. وفي المقابل حصل معسكر الأحزاب الصهيونية المناهض لنتنياهو على 45 مقعداً، بزيادة 5 مقاعد عن تلك التي حصل عليها في الانتخابات السابقة، وكان نصيب قائمة الجنرالات أزرق - أبيض 35 مقعداً، بما فيها مقاعد حزب يوجد مستقبل، الذي كان له في الانتخابات السابقة 11 عضواً في الكنيست. أمّا حزب العمل فانهار عدد مقاعده من 24 مقعداً كانت للمعسكر الصهيوني (تحالف العمل مع ليفني) إلى 6 مقاعد فقط، وتراجعت ميرتس من 5 إلى 4 مقاعد. أمّا الأحزاب العربية فانخفض تمثيلها من 13 مقعداً كانت للقائمة المشتركة (تحالف الجبهة الديمقراطية، والحركة الإسلامية/القائمة الموحدة، والتجمع الوطني الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير) في الانتخابات السابقة، إلى 10 مقاعد، منها 6 لقائمة الجبهة والعربية للتغيير، و4 لتحالف الموحدة والتجمع. هناك 3 قوائم لم تعبر نسبة الحسم (3,25%) وهي اليمين الجديد بقيادة نفتالي بينت الذي حصل على 3,22% من الأصوات، وحزب زهوت الذي يتزعمه اليميني المتطرف موشيه فيجلين، والذي حصل على 2,79%، وقائمة جيشير بقيادة أورلي أبو قسيس الذي حصل على 1,7% من الأصوات، كما كان هناك عشرات القوائم الصغيرة التي لم تحصل سوى على بضعة آلاف، أو بضع مئات من الأصوات. لقد حصل معسكر اليمين على عدد أقل من المقاعد من نسبة تمثيله الحقيقية في المجتمع الإسرائيلي، وذلك لعدم عبور بعض الأحزاب اليمينية نسبة الحسم. وتتضح الصورة أكثر حين ننظر إلى النتائج بالنسب المئوية، وليس فقط بعدد المقاعد. فمعسكر اليمين حصل على نسبة تقارب 57% من الأصوات، وهي النسبة نفسها التي حصل عليها في انتخابات 2015. أمّا معسكر الأحزاب الصهيونية المناهضة لنتنياهو فحصل هذه المرة على نحو 35% من الأصوات مقارنة بنسبة 32% التي حازها في الانتخابات السابقة. وكانت الضربة الكبرى في الانتخابات من نصيب الأحزاب العربية التي انخفضت من 11% حازتها القائمة المشتركة في انتخابات 2015، إلى 8% للقائمتين العربيتين في الانتخابات الأخيرة. من المهم الإشارة إلى أن 5 من أعضاء الكنيست في قائمة أزرق - أبيض تابعون لحزب تيليم الذي يتزعمه الجنرال المتقاعد موشيه يعلون، وهم يعرّفون عن أنفسهم بأنهم "يمين"، ومن أنصار أرض إسرائيل الكاملة، ويقولون أنهم انضموا إلى أزرق - أبيض في إطار الحملة ضد نتنياهو المتورط في ملفات الفساد، ولحماية الدولة من سوء إدارته.   اصطفاف القوى وصراع الكتل أقدم بنيامين نتنياهو، في كانون الأول / ديسمبر 2018، على تبكير موعد الانتخابات، محدداً موعدها في 9 نيسان / أبريل 2019، بدلاً من موعدها الأصلي في تشرين الأول / أكتوبر. وكانت تلك خطوة استباقية لعرقلة تقديم ملف شبهات، ولائحة اتهام ضده في قضايا الفساد الثلاث التي يواجهها. واستند التبرير الرسمي المعلن لهذه الخطوة إلى فشل الائتلاف الحكومي في تمرير "قانون التجنيد" الذي أعدّه الجيش الإسرائيلي لتنظيم تجنيد اليهود الحريديم، ولإيجاد توازن بين الشباب الذين يقضون وقتهم في دراسة التوراة في المعاهد الدينية، وبين الخدمة الإجبارية في الجيش. وسبق ذلك استقالة أفيغدور ليبرمان من الحكومة، في تشرين الثاني / نوفمبر 2018، على خلفية أحداث غزة، واتهامه نتنياهو بالتهاون في مواجهة "حماس"، الأمر الذي أدى إلى تقليص الائتلاف من 67 إلى 61 عضواً، وبالتالي إضعافه. وعلى الرغم من أن تبكير موعد الانتخابات لم يكن مفاجئاً لأحد، فإنه أدخل الأحزاب في حراك مستعجل، فهي لم تكن مستعدة لذلك، ودخلت بسرعة ودفعة واحدة إلى دوامة ترتيب الاصطفاف وتكوين التحالفات الجديدة وفك التحالفات السابقة. وجاءت نتيجة الانتخابات كمحصلة لهذا الحراك الانتخابي الذي توقّع البعض أن يفضي إلى إسقاط نتنياهو، لكن الأخير استطاع أن ينجو بنفسه في ظروف في غاية الصعوبة، وخصوصاً بعد أن قدم المستشار القضائي الإسرائيلي، عشية الانتخابات، ملف الشبهات في ثلاثة ملفات فساد تتعلق بنتنياهو، وبعد أن تم تشكيل تحالف أزرق - أبيض الذي جمع عدداً من الجنرالات والسياسيين، وشكّل تحدياً كبيراً لحكم نتنياهو.   نتنياهو والليكود لا شك في أن اللاعب المركزي بلا منازع في الانتخابات الإسرائيلية كان بنيامين نتنياهو الذي دارت الانتخابات كلها حوله وحول شخصيته ومشاريعه وملفاته. ففي هذه الانتخابات، كان الليكود هو نتنياهو، ونتنياهو هو الليكود، فهو الذي أدار المعركة الانتخابية وقادها، ولم يكن هناك دور لقيادات هذا الحزب إلاّ في ترديد ما يقوله، أو ما يمليه عليها نتنياهو. دخل نتنياهو الانتخابات كزعيم أوحد لحزب الليكود ومعسكر اليمين عامة، بعد أن أقصى كل منافس محتمل. وأعلنت أحزاب معسكر اليمين كلها، دعمها ترشيحه لرئاسة الحكومة، بل أعلن كثيرون من قيادات هذه الأحزاب أنهم سيمررون قوانين في الكنيست تساعده في الإفلات من المحاكمة بسبب ملفات الفساد. استفاد نتنياهو من ظروف مواتية ساعدته كثيراً في الفوز في الانتخابات، وفي مقدمها وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض ودعمه غير المحدود لمواقف اليمين الإسرائيلي ولنتنياهو شخصياً. ومثّل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وقطع الدعم المالي عن الأونروا، ووقف المساعدات للسلطة الفلسطينية، كذلك إعلان ترامب - عشية الانتخابات - الاعتراف بضم الجولان السوري المحتل إلى إسرائيل، خطوات سُجلت جميعاً كنجاح لنتنياهو. أمّا روسيا فسهّلت على إسرائيل استهداف مرافق في سورية عبر الاتفاق على التنسيق قبل كل قصف، كما أنها سلّمتها جثمان الجندي المفقود في معركة "السلطان يعقوب"، زخاريا باومل. وهكذا ظهر نتنياهو كشخص ذي علاقة جيدة ومتميزة مع كل من ترامب وبوتين، علاوة على علاقات خاصة بقيادات يمينية شعبوية في الهند وبولندا والمجر وغيرها. لم تؤثّر السياسات اليمينية المتطرفة في علاقات نتنياهو مع الدول العربية، وقد جرى استقباله في مسقط، واجتمعت معه قيادات عربية كثيرة سراً وعلانية. ويعود ذلك إلى تلاقي مصالح، وإلى تهميش القضية الفلسطينية، ليس دولياً فحسب، بل عربياً أيضاً. وقد استغل نتنياهو هذه العلاقات للترويج بأنه سياسي ناجح وقادر على إقامة حلف عربي - إسرائيلي في مواجهة إيران. لقد جرى تسويق نتنياهو على أنه "قصة نجاح"، ولا سيما أن الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل تحسنت في الفترة الأخيرة، وارتفع مستوى المعيشة لدى فئات كثيرة، كما أن الأوضاع الأمنية كانت "تحت السيطرة". إذا أضفنا إلى هذه العوامل، الخطاب اليميني الشعبوي التحريضي، وإدارة الحملة الانتخابية بدهاء ونجاعة، يمكننا أن نفهم كيف استطاع نتنياهو أن يصمد ويبقى في الحكم على الرغم من تهم الرشوة والفساد، ومن تحالف الجنرالات ضده. شكّل تحالف الجنرالات في قائمة أزرق - أبيض التحدي الأكبر لنتنياهو، وكانت استطلاعات الرأي قد توقعت أن تفوز هذه القائمة بأكثر من 35 عضو كنيست، في مقابل 30 عضواً فقط أو أقل لليكود، مع أنها كلها أعطت معسكر أحزاب اليمين ما يتراوح بين 3 و5 مقاعد. وعلى الرغم من الحملة المسعورة التي قام بها نتنياهو ضد غانتس متهماً إياه بالاستعداد لإقامة تحالف مع النواب العرب، فإن قائمة أزرق - أبيض ظلت متفوقة على الليكود في الاستطلاعات، حتى قبل أسبوع من الانتخابات. وخشي نتنياهو أن يخسر الحكم، وأن يقوم عدوه اللدود رئيس الدولة روبي ريفلين، بتكليف غانتس بتشكيل الحكومة. هنا قرر نتنياهو أن يشن حملة لاستقطاب أصوات اليمين إلى حزبه على حساب أحزاب اليمين الصغيرة، داعياً إلى التصويت مباشرة لليكود وليس لحلفائه في اليمين، مبرراً ذلك بأن ما يضمن بقاء معسكر اليمين في الحكم ليس حجم معسكر اليمين فحسب، بل أن يكون الليكود أيضاً، الحزب الأكبر في مقابل أزرق - أبيض. كانت تلك مغامرة اللحظة الأخيرة التي نجحت في احتفاظ معسكر اليمين بكتلة من 65 عضواً في الكنيست، كافية لتشكيل حكومة، ولم يخسر هذا المعسكر سوى سقوط حزبين صغيرين، و5 مقاعد لا تؤثر في الأغلبية التي حازها. نورد هذه التفصيلات هنا لأن حملة اللحظة الأخيرة التي قام بها نتنياهو مرتبطة بقضية سياسية مركزية، هي وعد بضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، بعد أن امتنع وقتاً طويلاً من تقديم التزام علني بذلك، وبذلك فاز بولاية خامسة، ولولا فشله في تشكيل الحكومة لكان سيصل في ولايته الجديدة إلى أطول فترة رئاسة حكومة بعد بن - غوريون.   تشكيل قائمة "سوبرماركت" أزرق - أبيض كان تشكيل قائمة أزرق - أبيض أهم حراك سياسي عشية الانتخابات، وهي نتاج دمج ثلاثة أحزاب في قائمة واحدة، وقد حصلت على 35 عضو كنيست لتصبح الكتلة الأكبر في الكنيست إلى جانب الليكود الذي حصل على 35 بعد أن أدرج في قائمته مرشح اتحاد أحزاب اليمين وفق صفقة عُقدت عشية الانتخابات، وأكبر كتلة منافسة لنتنياهو منذ فوزه في انتخابات 2009. شكّل الجنرال بيني غانتس رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق حزب حصانة لإسرائيل، جامعاً معه عدداً من الشخصيات الأمنية والإعلامية والسياسية والنقابية، وسارع فور ذلك إلى التحالف مع حزب تيليم اليميني الذي أسسه رئيس الأركان ووزير الأمن الإسرائيلي الأسبق الجنرال موشيه يعلون. وبعد مفاوضات مضنية، توصل غانتس إلى اتفاق مع يئير لبيد، زعيم حزب يوجد مستقبل، يقضي بالتناوب على رئاسة الحكومة. وانضم إلى هذا التحالف رئيس الأركان السابق الجنرال غابي أشكنازي، وجرى إعلان اسم القائمة أزرق - أبيض، على نسق ألوان العلم الإسرائيلي. أثار تشكيل قائمة الجنرالات أزرق - أبيض تفاؤلاً في أوساط المعسكر المناهض لنتنياهو، ولا سيما أن الليكود خسر الانتخابات مرتين فقط منذ تولى السلطة في سنة 1977، مرة لمصلحة رئيس الأركان السابق يتسحاق رابين، ومرة ثانية أمام رئيس الأركان السابق إيهود براك. وبُني هذا التفاؤل على فكرة أن ثقل "المجد العسكري"، والخبرة الأمنية، يمكن أن يتفوّقا على وزن التطرف الشوفيني في المجتمع الإسرائيلي، والذي يغذيه نتنياهو ويستفيد منه. لكن الانتخابات أثبتت أن هذا ليس كافياً، وأن سحر الرتب العسكرية أثّر في أوساط مصوّتي اليسار والوسط، فصوتوا بأغلبيتهم الساحقة لقائمة الجنرالات. أمّا مصوتو اليمين، فلم ينتقلوا من موقعهم، وصوتوا، في معظمهم، لحزب الليكود الذي خاض الانتخابات بلا جنرالات مرموقين أصحاب شعبية. صحيح أن قائمة أزرق - أبيض لم تحقق المرجو منها، إلاّ إن وجودها مهم لعدة أسباب: فهي تمثل مواقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية (الجيش والاستخبارات والشرطة) المتحفظة على نتنياهو، والتي تخشى من سلوكه وما يمكن أن يقدم عليه؛ وهي حزب المعارضة الأكبر، والذي يمكن أن يؤدي دوراً مهماً في إسقاط نتيناهو في حال غرق في ملفات الفساد، وكذلك في إفشال أو دعم قرارات بشأن ضم الضفة الغربية، والموقف من صفقة القرن والاستيطان وغيرها. خاضت قائمة أزرق - أبيض الانتخابات على أساس برنامج من أربعين صفحة، لكن من الصعب العثور فيه على مواقف واضحة من أي قضية، والسبب هو أن هذه القائمة هي "سوبرماركت" يشمل حزب تيليم المتشدد في موقفه الداعم لمبدأ "أرض إسرائيل الكاملة" من جهة، ونواباً يدعمون مبدأ حل الدولتين من جهة أُخرى. ومن هنا، لم يرد في هذا البرنامج أي ذكر لأي انسحاب من المناطق المحتلة منذ سنة 1967، ولا لدولة فلسطينية، وإنما جرى التشديد فيه على مبدأي الانفصال والأمن: "تعميق عملية الانفصال عن الفلسطينيين.. مع المحافظة على حرية العمل للجيش الإسرائيلي في كل مكان." وأكد البرنامج أيضاً، ضم القدس والجولان، وإبقاء الكتل الاستيطانية وغور الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية، وكذلك فكرة عقد مؤتمر إقليمي، والتعاون مع الدول العربية المعتدلة، وضرب "حماس" في غزة عبر دق إسفين بينها وبين الناس. اعتمدت حملة أزرق - أبيض على مهاجمة نتنياهو شخصياً، وتجنّب انتقاد حزب الليكود، بل على العكس أعلن غانتس أن أقرب حزب ممكن أن يتحالف معه هو الليكود من دون نتنياهو، وذلك تحضيراً لمرحلة ما بعد نتنياهو، واحتمال أن يلتقي يمين قائمة أزرق - أبيض مع اليمين الليكودي في حكومة واحدة.   حزب العمل وتفكيك المعسكر الصهيوني حصل تحالف المعسكر الصهيوني الذي تكوّن من حزب العمل وحزب تسيبي ليفني، على 24 مقعداً في انتخابات 2015، فكان الحزب الثاني في الكنيست والمنافس الأبرز لليكود. وعشية الانتخابات الأخيرة، قوّض رئيس حزب العمل آفي غباي التحالف مع ليفني التي تتميز بأجندتها السياسية الداعية إلى حل الدولتين، معتقداً أن ذلك سيزيد في شعبية حزبه الذي فضّل التركيز على القضايا الداخلية. لكن النتيجة كانت انهياراً كاملاً تقريباً بحصوله على 6 مقاعد فقط، بعد أن كان على مر عقود كاملة حزب السلطة المركزي في إسرائيل، وهو الذي أسس الدولة وهندس بنيانها. لقد ابتلع تحالف أزرق - أبيض أصوات حزب العمل، والتي من الممكن أن تعود إليه مستقبلاً إذا لم تجد مَن يبتلعها. وعليه فإن مصير حزب العمل يتعلق ببقاء أزرق – أبيض أو فنائه، فكثيرون يعتقدون أنه بُني كحزب سلطة، وسينهار في المعارضة بسبب عدم التجانس، الأمر الذي يتيح له العودة إلى الحياة ليرث مَن ورثوه.   الصوت العربي ينقذ ميرتس خسرت حركة ميرتس في الانتخابات قسماً كبيراً من جمهورها التقليدي، والذي ذهب في اتجاه أزرق - أبيض بهدف دعمه للتفوق على الليكود ونتنياهو. إن نجاح هذه الحركة في الحصول على 4 مقاعد سببه تصويت قرابة 40,000 عربي لها، في مقابل 12,000 صوت في الانتخابات السابقة، وقد مكّنتها هذه الأصوات من عبور نسبة الحسم. ويعترف قادة ميرتس بأن تفكيك القائمة المشتركة حذب إليها مزيداً من أصوات الناخبين العرب.   يهدوت هتوراه والعامل الديموغرافي حصل حزب يهدوت هتوراه، وهو حزب توراتي أشكينازي، على 8 مقاعد، بزيادة مقعدين عن المرة السابقة. وتعود هذه الزيادة أساساً إلى العامل الديموغرافي، فنسبة الحريديم في المجتمع الإسرائيلي ارتفعت من 3,7% في سنة 1977، إلى 11% عشية الانتخابات الأخيرة. وصبّت هذه الزيادة في مصلحة معسكر اليمين الذي حصل على 3 مقاعد إضافية. والأمر الذي يزيد في قوة هذه الأحزاب هو نسبة التصويت المرتفعة التي تحوزها وتصل إلى 80%، وهي أعلى كثيراً من المعدل العام. كما أن القاعدة الجماهيرية لهذه الأحزاب ثابتة وتصوت لها فقط. أكثر ما يهم حزب يهدوت هتوراه هو جمهوره ومصالحه، وخصوصاً قضية الميزانيات للمعاهد والمؤسسات الدينية التابعة لها، وموضوع التجنيد وكل ما يتعلق بالدين والدولة في إسرائيل. أمّا من الناحية السياسية، فهذا الحزب داعم لنتنياهو في كل ما يفعل، فهو لا يدعو إلى الحرب لكنه لا يعارضها، وهو لا ينادي بالضم لكنه لا يقف ضده. وحتى في موضوع قانون القومية، وعلى الرغم من تحفّظه على القانون لأنه يشدد على الجانب القومي على حساب الديني، فإن نواب يهدوت هتوراه دعموا القانون للمحافظة على حكومة نتنياهو، وللحصول على مزيد من المكاسب منها.   شاس تلتصق بنتنياهو لعل من مؤشرات قوة نتنياهو أن الدعاية الانتخابية لحركة شاس اعتمدت على صورة مشتركة لزعيمها أرييه درعي ونتنياهو، يعلوها شعار "نتنياهو بحاجة إلى أرييه (أسد) قوي". وعنى هذا الشعار أن التصويت لشاس يقوّي نتنياهو. لم يتنبأ أي استطلاع للرأي العام بأن شاس ستزيد في قوتها، لكن النتائج أظهرت أنها تمكنت من زيادة عدد مقاعدها من 7 إلى 8 مقاعد، وذلك بالاستفادة من العامل الديموغرافي، والزيادة المتواصلة في نسبة اليهود الحريديم. كما أن شاس تستقطب عدداً لا يستهان من أصوات اليهود الشرقيين غير المتدينين، الذين يصوتون لها تعبيراً عن انتمائهم الطائفي.   كولانو وشعار "يمين عقلاني" انشق موشيه كحلون، زعيم حزب كولانو، عن الليكود في سنة 2013، بعد خلاف مع بنيامين نتنياهو الذي خشي من التأييد الواسع للأول في الحزب، فعمد إلى التضييق عليه وإخراجه. وفي انتخابات 2015، تمكّن حزب كحلون من حصد 10 مقاعد، الأمر الذي مكّنه من دخول الحكومة وزيراً للمال. وفي الانتخابات الأخيرة انهار حزب كولانو فلم يحصل سوى على 4 مقاعد، ولم تفلح محاولات كحلون في إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر شعار "يمين عقلاني" ورفع صورة مناحم بيغن، وذهبت أصوات حزبه في معظمها إلى الليكود، وقسم منها إلى أزرق - أبيض. كان كحلون قد أعلن أكثر من مرة أنه لن يسمح بالمسّ بالمحكمة العليا وبالجهاز القضائي، وأنه لن يكون في حكومة يواجه رئيسها لائحة اتهامات واحتمال محاكمته. لكن بعد الانتخابات برزت مؤشرات إلى أن كحلون لم يعد يتمسك بهذه المواقف، وأنه يبحث عن سلم للنزول عن الشجرة، وبالتالي عَقَد صفقة لإعادته إلى الليكود.   ليبرمان يركب موجة العلمانية يستند حزب إسرائيل بيتنا، الذي يتزعمه أفيغدور ليبرمان، إلى قاعدة اليهود الروس الذين يشكلون مع الحريديم والشرقيين والمستوطنين قاعدة شعبية لكتلة اليمين الإسرائيلي. وكانت هجرة اليهود الروس في تسعينيات القرن الماضي من العوامل التي أثرت في التوازنات السياسية في إسرائيل. لقد ساد في الماضي اعتقاد بأن هؤلاء المهاجرين أشكيناز، ويمكن أن يشكلوا مخزون أصوات لليسار والوسط في إسرائيل، لكن حدث عكس ذلك، وصار اليهود الروس من الكتل الصلبة الداعمة لليمين الإسرائيلي. ويبدو أن السبب في ذلك هو أنهم يريدون إثبات ولائهم لإسرائيل والصهيونية عبر العداء للعرب، ولا سيما أن قسماً كبيراً منهم ليسوا يهوداً أصلاً. رفع ليبرمان لواء العلمانية والعداء للأحزاب الدينية المتزمتة في محاولة للمحافظة على دعم اليهود الروس الذين هم، في معظمهم، علمانيون، ويواجه قسم كبير منهم مشكلات في الزواج وفي الامتيازات كونهم ليسوا يهوداً.   اتحاد أحزاب اليمين وشرعنة كاهانا أقيم هذا التحالف بضغط من بنيامين نتنياهو الذي خشي أن يؤدي خوض عدة أحزاب يمينية دينية إلى عدم عبورها نسبة الحسم. ويشمل هذا الاتحاد ثلاثة أحزاب يمينية دينية متطرفة هي: البيت اليهودي المتطرف، والاتحاد القومي الأكثر تطرفاً وهو عملياً حزب المستوطنين، وحزب قوة يهودية الذي يجاهر بالعنصرية، وهو حزب أنصار كاهانا دعاة الترانسفير وتدمير المسجد الأقصى وإقامة الهيكل. وكي يسهّل نتنياهو هذا التحالف قبل بضم أحد مرشحيه إلى قائمة الليكود. ولعل أهم ما قام به هذا التحالف هو عقد صفقة مع نتنياهو تشمل دعم خطوات تمنع تقديمه إلى المحاكمة، وخصوصاً منحه الحصانة البرلمانية. وفي المقابل التزم نتنياهو بتمرير قوانين ضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، وقوانين أُخرى تحدّ من صلاحيات المحكمة العليا.   الأحزاب العربية وتفكيك المشتركة انخفضت نسبة التصويت لدى الفلسطينيين في الانتخابات الأخيرة، ولوحظ زيادة في نسبة تصويتهم للأحزاب الصهيونية، فتراجع تمثيل الأحزاب العربية من 13 نائباً إلى 10 نواب. ويعود السبب الرئيسي في هذا الانخفاض إلى تفكيك القائمة المشتركة، وما نجم عنه من تفاعلات وهزات ارتدادية. لقد كان تشكيل القائمة المشتركة في مطلع سنة 2015، سبباً في ارتفاع نسبة التصويت العربي، وفي حصول الأحزاب العربية على عدد من الأصوات يوازي 13.6 نائباً في مقابل 11 نائباً في انتخابات 2013. وأثار تشكيل المشتركة حماسة الناس للمشاركة في التصويت، ولا سيما أنها كانت مطلباً للأغلبية الساحقة في المجتمع الفلسطيني في الداخل، فارتفعت نسبة التصويت من 56% في سنة 2013، إلى 64% في سنة 2015. وشارك في إنجاح القائمة المشتركة التي ضمت الجبهة والإسلامية والتجمع والتغيير، عدد كبير من الناشطين غير المنتمين إلى أي حزب، منهم أعضاء ورؤساء سلطات محلية وشخصيات اعتبارية وموظفون ومعلمون وطلاب وغيرهم. كانت إقامة المشتركة خطوة مهمة في تنظيم فلسطينيي الداخل، وبناء قيادة مكونة من ثلاث هيئات مركزية: أولاً، من لجنة المتابعة العليا التي تشمل ممثلي السلطات المحلية وجميع الأحزاب، الممثلة وغير الممثلة في الكنيست، وهي الهيئة العليا لفلسطينيي الداخل وتمثلهم بأطيافهم كافة؛ ثانياً اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، وينضوي تحتها جميع رؤساء السلطات المحلية العربية؛ ثالثاً القائمة المشتركة التي مثلت فلسطينيي الداخل في الإطار البرلماني بعد أن حصلت على قرابة 85% من أصواتهم. غير أن تفكيك القائمة المشتركة سبّب تصدعاً في هذا البنيان، علاوة على أضرار أُخرى سيكون من الصعب تجاوزها والتغلب عليها. لقد حظيت القائمة المشتركة بدعم غير مسبوق من فلسطينيي الداخل، ودلّت الاستطلاعات كلها عشية الانتخابات الأخيرة أيضاً، على أن الأغلبية الساحقة تريد استمرار المشتركة، حتى لو كان هناك ملاحظات سلبية على أدائها. ولعل أهم سبب لانخفاض نسبة التصويت هذه المرة هو تفكيك القائمة المشتركة، وغضب الناس من ذلك، ومعاقبتهم للأحزاب بعدم التصويت، وكذلك الاستياء العام من أزمة التناوب التي عصفت بالمشتركة لأكثر من عام، وظهر كأن الصراع في المشتركة هو على الكراسي لا غير. كانت الخطوة الأولى في تفكيك القائمة المشتركة قيام أحمد الطيبي بتقديم طلب رسمي للكنيست للانشقاق عن القائمة، وصادق الكنيست على هذا الطلب ليصبح الانشقاق رسمياً في 9 كانون الثاني / يناير 2019. ولحق ذلك محاولات حثيثة من الحركة العربية للتغيير بقيادة الطيبي لإقامة قائمة منافسة للمشتركة، وهذه خطوة أثارت استنكاراً واسعاً من الأحزاب الأُخرى ومن أوساط غير حزبية، غير أن الطيبي رفض العودة إلى المشتركة إلاّ إذا اعتُمدت استطلاعات الرأي العام لتشكيل القائمة، الأمر الذي يعني حصوله على نصف مقاعد المشتركة، بعد أن كان للعربية للتغيير عضو أو عضوان من مجموع 13 عضواً. لقد ردت الأحزاب الأُخرى على هذا الطلب بالقول إن العربية للتغيير بقيادة الطيبي لم تخض الانتخابات وحدها في يوم من الأيام، وإن الاستطلاعات شيء والانتخاب الفعلي في الصندوق شيء آخر. وفي نهاية المطاف حصلت العربية للتغيير على مقعدين من خلال التحالف مع الجبهة، وهي نتيجة كان في إمكانها أن تحقق أكثر منها في إطار القائمة المشتركة. لقد قام كاتب هذه السطور بجهود كبيرة من أجل المحافظة على القائمة المشتركة التي عمل على إقامتها، ويعتبرها من أهم الإنجازات التي حققها في عمله السياسي. وعلى الرغم من تقديم اقتراحات متوازنة ومنصفة للجميع، ومن أن الفرصة كانت مواتية للحفاظ على الوحدة وعلى التمثيل العربي، فإن حسابات فئوية وشخصية ضيقة حالت دون استمرار المشتركة. بالنتيجة، خاضت الأحزاب العربية الانتخابات بقائمتين: قائمة الجبهة والعربية للتغيير وحصلت على 6 مقاعد، منها 4 للجبهة و2 للعربية للتغيير، وتحالف الموحدة والتجمع وحصل على 4 مقاعد، 2 للموحدة (الحركة الإسلامية)، و2 للتجمع الوطني الديمقراطي. وقد انخفضت نسبة تصويت العرب للكنيست لتصل إلى 50% فقط، وهي أقل نسبة منذ 70 عاماً، لكن الأمر الأهم هو أن الفرق بين نسبة تصويت العرب والنسبة القُطرية وصل إلى أعلى معدل له وهو 18.5%، كما أن التصويت للأحزاب العربية انخفض من 85% في سنة 2015، إلى 71% في سنة 2019، وفي المقابل ارتفع بشكل موازٍ التصويت للأحزاب الصهيونية. لقد أدى خوض الانتخابات في سنة 2019، في إطار القائمة المشتركة، إلى رفع نسبة التصويت لدى فلسطينيي الداخل لتصل إلى 64%، لكنها عادت وانخفضت في سنة 2015 بـ 14% (انظر الجدول)، وهو ما يعادل خسارة نحو 130.000 صوت وأربعة مقاعد.     السنة نسبة العرب النسبة العامة الفرق 1949 79 86,9 -7,9 1951 86 75,1 +10,9 1955 90 82,2 +7,2 1959 85 81,6 +3,4 1961 83 83 0 1965 82 83 -1 1969 80 81,7 -1,7 1973 73 78,6 -5,6 1977 74 79,2 -5,2 1981 68 78,5 -10,5 1984 72 78,8 -6,8 1988 74 89,9 -5,7 1992 70 77,4 -7,4 1996 77 79,3 -2,3 1999 75 78,7 -3,7 2003 62 68,9 -6,9 2006 56 63,5 -7,5 2009 53 64,7 -11,7 2013 56 67,8 -11,8 2015 64 72,3 -8,3 2019 50 68,5 -18,5     إن السبب المركزي لتراجع التمثيل العربي هو تفكيك القائمة المشتركة، إذ أدى ذلك إلى فقدان الناس رغبتهم وحماستهم للتصويت، كما أنه فسح المجال أمام تزايد حملات مقاطعة الانتخابات، بعد أن كانت خافتة في ظل وجود القائمة المشتركة في الانتخابات السابقة. وفي المقابل، استفادت الأحزاب الصهيونية من تفكيك المشتركة، فارتفعت نسبة التصويت لها، فحصل حزب ميرتس مثلاً على 40.000 صوت عربي، كما حصلت قائمة أزرق - أبيض على 35.000 صوت، وأحزاب كولانو وشاس والعمل على قرابة 10.000 صوت لكل منها. طبعاً هناك أسباب أُخرى لتراجع التمثيل العربي ونسبة التصويت المنخفضة، منها: ضعف وتراجع الأحزاب والتنظيم الحزبي؛ عزوف الناس عن السياسة؛ حالة الإحباط واليأس التي تبثها الحالة الفلسطينية والحالة العربية؛ قانون القومية والرد الضعيف عليه؛ الإحساس بعدم الجدوى وعدم التأثير، ولا سيما أن البديل من نتنياهو لا يختلف عنه في الأمور المهمة. يُظهر الجدول أيضاً أن نسبة تصويت العرب هي أقل من النسبة القُطرية منذ سنة 1965، ومنذ ذلك الوقت يزداد بالمجمل الفرق بين تصويت العرب وتصويت اليهود، الأمر الذي يجعل التمثيل البرلماني العربي أضعف من وزن العرب بين الناخبين. لقد كان الانخفاض في نسبة التصويت هذه المرة كبيراً، وهناك حاجة إلى أن تقوم الأحزاب بمراجعة نفسها، ونقد ذاتها لتحسين الأداء، والعمل والانطلاق بقوة أكبر في مواجهة التحديات التي تزداد حدتها عاماً بعد عام. إن ذلك يؤكد الحاجة الملحة إلى إعادة لمّ الشمل وبناء القائمة المشتركة من جديد، لكن على أسس سليمة ومتينة لضمان الاستمرار ومنع التفكك ثانية، وضمان النهوض بالعمل الوطني، وهذا أمر ممكن إذا توفرت النيات الحسنة، وفهم الجميع أنه مع المشتركة أقوى.   الضم واستراتيجيا حسم الصراع مثلت الانتخابات الأخيرة دعماً قوياً لاستراتيجيا الحسم التي تبنّاها اليمين الإسرائيلي كخطة عمل وليس كفكرة عامة، وفي هذا الصدد، فإن من أهم خطوات قانون القومية هو ترسيخ مرجعية تحمل فكره ومبادئه، وحسم طبيعة وهوية الدولة والنظام. وتدل نتيجة الانتخابات على أن الجمهور الإسرائيلي يدعم هذا الاتجاه، ويريد أو على الأقل يرضى بالمزيد. والمزيد هنا هو ضم مناطق من الضفة الغربية، والقيام بتصعيد ضد غزة، ومنع إيران من التموضع في سورية. أمّا على الصعيد الداخلي، فإن أحزاب اليمين كلها أعلنت أنها تريد تقليص صلاحيات المحكمة العليا، وسنّ قوانين كولونيالية وعنصرية جديدة، وتنفيذ مخططات التهجير والمصادرة في النقب. ولعل الخطة الأبرز لليمين الإسرائيلي هي مشروع الضم، وقد ظهر ذلك خلال المعركة الانتخابية التي أكدت أن ضم مناطق من الضفة الغربية باتت مسألة مركزية في النقاش السياسي الذي أخذ بُعداً عملياً، بعد أن حظي مبدأ الضم بدعم أميركي عبر الاعتراف بضم الجولان رسمياً. ولأجل ذلك اخترع نتنياهو مبدأً جديداً في العلاقات الدولية هو أنه يمكن ضم مناطق محتلة، إذا جرى احتلالها في حروب دفاعية. لقد أفشل نتنياهو في الماضي، ولأسباب تكتيكية وخلافاً لقناعاته، مبادرات لضم المنطقة "ج"، ومنع طرح قانون ضم مستعمرة معاليه أدوميم، على طريق القدس - أريحا، وسدّ الطريق على محاولات ضم مناطق أُخرى في الضفة الغربية. وكان تبرير ذلك الموقف عدم الإضرار بعلاقات إسرائيل الدولية، لكن عقب التطورات الأخيرة تغير الموقف وصار نتنياهو ينادي علناً بالضم، داعياً فقط إلى الانتظار قليلاً، وعدم استباق صفقة القرن الأميركية. لا بد من القول إن لا أساس من الصحة لادعاء قلة الحيلة، فالعالم العربي يستطيع، إذا توفرت الإرادة، أن يمنع الضم وأن يحافظ، أقله، على الوضع القائم، وهو الآن على المحك. بعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وفي الظروف التي جرت فيها، وجب الكفّ عن الأوهام، وعن انتظار أي تغيير داخلي في إسرائيل، فهو لن يحدث إلاّ عبر حركة في اتجاهين: ضغط فلسطيني عبر تفعيل نضال جدي ضد الاحتلال، وضغط دولي عبر حشد يستثمر السطوة الأخلاقية للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وحرية وقضية آخر احتلال في العالم. وبموازاة ذلك، يجب العمل الجدي على إنهاء الانقسام، ولا سيما أن نتنياهو يعتبر المحافظة على الانقسام وترسيخه حجر الزاوية في سعيه لتهميش قضية فلسطين، وتهشيم الحركة الوطنية الفلسطينية بتياراتها كافة. وفي ظل غياب أي أفق لحل سياسي، وتحطيم حل الدولتين، وشيطنة القيادة الفلسطينية باعتبارها عائقاً أمام السلام، لم يعد الإسرائيليون يؤمنون بإمكان التوصل إلى تسوية سياسية، وهكذا أصبح الظرف الإسرائيلي الداخلي مواتياً للشروع في ضم مناطق واسعة في الضفة الغربية، سواء دفعة واحدة، أو على دفعات. تتمثل استراتيجيا اليمين الإسرائيلي في الإبادة السياسية للفلسطينيين، وتحويل القضية إلى مسألة اقتصادية وإنسانية لا غير. فقانون القومية والمخططات الجديدة يستهدفان الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كلها، والرد الفلسطيني يجب أن يكون موحداً، بداية بإنهاء الانقسام بين "حماس" و"فتح" وبين غزة والضفة، وبحراك فلسطيني يشمل جميع أجزاء الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الضفة وغزة والشتات. وإذا أرادت إسرائيل أن تعيد الصراع إلى المربع الأول، وإلى صراع وجود، فالرد العربي والفلسطيني لا يفيد إلاّ إذا انطلق وبقوة من المربع الأول، مربع الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني كله، والنضال الموحد لهذا الشعب في أماكن وجوده كافة.