قراءة مغايرة للتاريخ العثماني
في ذكرى
النص الكامل: 

يجذب الأرشيف العثماني عدداً كبيراً من الباحثين في التاريخ العثماني. وقد تكونت، مع مرور الزمن، مجموعات من المهتمين بهذا التاريخ لما حمله من أثر في مجمل تاريخ منطقة الشرق الأوسط عامة، والأقاليم العربية فيها خاصة. ويوفر الأرشيف العثماني كمية هائلة من الوثائق التي تساعد الباحث في اكتشاف سير عجلة الحياة في الدولة العثمانية من عدة نواحٍ. ويهتم بهذا الأرشيف عدد من الباحثين الفلسطينيين المختصين بالتأريخ بهدف إماطة اللثام عن تاريخ وطنهم وجواره، ومساهمة هؤلاء في هذا المجال مشهود لها في أوساط عربية ودولية. وبين هذه المساهمات تلك التي تولاها الأستاذ الدكتور بطرس أبو منّة. في الخامس والعشرين من كانون الأول / ديسمبر 2018، رحل هذا المؤرخ عن 86 عاماً أمضاها في التنقيب والبحث والتأليف في التاريخ العثماني، وخصوصاً في القرن التاسع عشر. ولد بطرس أبو منّة في مدينة الرملة في سنة 1932، وجرّاء ظروف عائلية اضطر إلى الانتقال إلى مدينة اللد المجاورة، حيث درس الابتدائية، ثم التحق بالكلية العربية في القدس وتابع في المدرسة العامرية بيافا. إلاّ إن احتلال فلسطين على يد المنظمات العسكرية الصهيونية في سنة 1948 حال دون إتمامه الثانوية، فاضطر إلى استكمال دراسته بنفسه. عمل لاحقاً في قطاع التعليم مدة من الزمن، والتحق في الوقت نفسه بالجامعة العبرية حيث نال الدرجتين الأولى (البكالوريوس)، والثانية (الماجستير)، في تاريخ الشرق الأوسط، أمّا الدرجة الثالثة (الدكتوراه) فنالها من جامعة أوكسفورد تحت إشراف المؤرخ الكبير ألبرت حوراني. وأظهر خلال إعداده رسالة الدكتوراه اهتماماً بتاريخ ولاية سورية في فترة التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر. التحق بطرس أبو منّة في سنة 1971 بجامعة حيفا محاضراً في قسم تاريخ الشرق الأوسط، وتولى رئاسة القسم عدة مرات خلال عمله، إلى أن تقاعد في سنة 2000. انشغل أبو منّة بدراسة التحولات السياسية والإدارية والاجتماعية في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، وتأثير أجهزة الدولة والإصلاحات فيها في المقاطعات العربية عامة، وسورية خاصة (ومن ضمنها الجزء الجنوبي منها ـ فلسطين). وقدّم في هذا السياق، سلسلة من الأبحاث الرصينة والمحكمة جيداً، والتي جعلته يتبوأ مكانة مرموقة في مصاف الباحثين العالميين في تاريخ الدولة العثمانية في حقبة منتصف القرن التاسع عشر، ذات الأهمية الكبيرة. ركّز أبو منّة جهوده البحثية في كتابة دراسات تداخل فيها التاريخ العربي والإسلامي والعثماني فأنتج مجموعة من المقالات تطرقت إلى مناقشة دواعي اندفاع السلطنة العثمانية إلى تبنّي "التنظيمات" في مختلف أجهزتها. وبينما كان الرأي السائد ـ وهو الذي طرحته المدارس البحثية الغربية وقلدتها فيه مدارس عثمانية وعربية واسلامية ـ أن "التغرب" هو الدافع إلى تبنّي السلطة العثمانية "التنظيمات"، فإن أبو منّة طرح رأياً مغايراً، وهو أن هناك عوامل ودواعي داخلية كانت المحرك لإصدار السلطان عبد المجيد الأول في 3 تشرين الثاني / نوفمبر 1839، فرمان "شريف كلخانه" الذي بدأت في إثره حركة الإصلاحات الواسعة. ويربط أبو منّة ذلك بدور علماء الدين وأصحاب الطرق الصوفية، وفي مقدمها الطريقة النقشبندية ـ المجددية ـ الخالدية (نسبة إلى خالد النقشبندي المتوفى في سنة 1826). فهذه الطريقة أثرت في السلطان محمود الثاني المتمسك بأحكام الشريعة الإسلامية، والمعروف بـ "مجدد قوانين الإسلام". وبهذا بيّن المؤرخ الفلسطيني الفذ، أن أسس السنّة تظهر بوضوح في معايير الإصلاحات - "التنظيمات" التي تبنّاها السلطان محمود الثاني. ولمّا انتقلت الهيمنة السياسية إلى المصلحين "المتغربين"، فإن آثار الطريقة الخالدية النقشبندية وجدت بصماتها في الحركة المعارضة "العثمانيون الجدد". ثم سُمح بوجود طريقة صوفية أُخرى، هي البكتاشية التي كانت محظورة في زمن محمود الثاني، غير أن السلطان عبد الحميد الثاني تبنّى الطريقة الصوفية الرفاعية التي ساهمت في تحقيق بعض أغراض السلطان السيادية. بهذا التجديد البحثي، وضع بطرس أبو منّة، حداً للافتراض أن الغرب هو المؤثر الواحد والوحيد في اندفاع السلاطين العثمانيين إلى القيام بإصلاحات في الدولة العثمانية. وهكذا لم يعد مذهب "التغرب" وحيداً في ساحة التاريخ العثماني، واضطر كثيرون ممّن تمسكوا بعامل "التغرب" إلى هجره وتبنّي مذهب الدافع الداخلي، وتحديداً الإسلامي. ولم ينسَ أبو منّة أثر الإصلاحات العثمانية في الأقاليم العربية في الإمبراطورية، فبيّن كيفية انتشار الطريقة الخالدية في بغداد في بواكير القرن التاسع عشر، كردّ على انتشار الحركة الوهابية السلفية، مبيّناً في هذا السياق، أن ردة فعل الدولة لمواجهة السلفية لم تكن فقط عبر اللجوء إلى الحلول العسكرية، بل بنشر فكر يواجه الوهابية السلفية أيضاً. لهذا، فإن انتشار الحركات الصوفية، ومنها النقشبندية في بغداد، كان له دور ساهم في التخفيف من حدة توسع دوائر الانتشار الوهابي في تلك المناطق. وبيّن أبو منّة كيف أن الإصلاحات في الدولة العثمانية (أي التنظيمات)، عززت من انتشار الطرق الصوفية وهيمنتها، والتي تبنّاها السلطان عبد الحميد الثاني. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن السلطان عبد الحميد كان من أتباع الطريقة الصوفية الرفاعية، وتأثر بشيخها أبو الهدى الصيادي (المتوفى في سنة 1909). وسرعان ما أضحى الصيادي صاحب تأثير ونفوذ في البلاد العثمانية، فأيد حق السلطان عبد الحميد في الخلافة التي كان يتمسك بها أشراف مكة المكرمة، بادعاء أنهم من سلالة الرسول محمد. وانتشرت الطرق الصوفية سواء الرفاعية، أو غيرها في مواقع متعددة من البلاد العربية. وبحسب أبو منّة، فإن أحد أسباب تأخر ظهور الحركة القومية العربية حتى قبيل الحرب العالمية الأولى يعود إلى سرعة انتشار "الإسلام الشعبي" (القصد هنا الطرق الصوفية المتنوعة) في أوساط المسلمين في الدولة العثمانية كافة. وكان لأبو الهدى الصيادي دور بارز في مطالبة العرب في الولايات العربية بقبول حكم السلطان عبد الحميد وبكونه خليفة، وأيضاً ربط السلطان عبد الحميد بنسب يعود إلى الرسول محمد. أمّا دراسات أبو منّة عن إقليم سورية، وتركيزه على دور المسيحيين العرب في الحركة القومية، فكانا من خلال تعمّقه بدراسة أفكار بطرس البستاني الذي كوّن معادلة تدمج بين "العثمانية" و"القومية". وهذه النهضة الثقافية العربية التي افتتحها البستاني ورفاق له في بيروت في أعقاب نشر فرمان "شريف همايون" في سنة 1856، تميزت بطابع الشعور الوطني (القومي) السوري مع الإبقاء على الانتماء العثماني، إذ إن البستاني اعترف بأن الفكرة العثمانية تحوي في طياتها حفاظاً أو ضمانة للحقوق المدنية. وكثّف أبو منّة جهوده البحثية في دراسة تاريخ فلسطين في هذه الحقبة، مبيّناً أن استقلالية سنجق القدس، في عهد التنظيمات، حوّل المدينة إلى مركز إداري وسياسي مهم، الأمر الذي ساعد في ظهور طبقة الأعيان على حساب الزعماء القرويين والعشائريين في ضواحي القدس. كما بيّن أن العائلات المقدسية ذات المكانة الاجتماعية والسياسية المرموقة، كـ "الحسيني"، علا شأنها وازداد تأثيرها في الحيز العام، وخصوصاً في عهد السلطان عبد الحميد، فقوي نفوذها في القدس، وفي مناطق أُخرى في فلسطين. وليس مصادفة أن تتبوأ هذه العائلة لاحقـاً مناصب دينية (الإفتاء) وسياسية في زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين. ورأى أبو منّة أن تطبيق التنظيمات العثمانية في فلسطين زاد في خضوع سنجق القدس لإدارة إستنابول مباشرة، بعيداً عن التأثير المصري الذي انكوت منه الدولة العثمانية في زمن حكم إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا، لسورية. بمعنى آخر، فإن الدولة العثمانية، بسلخها القدس إدارياً عن ولاية سورية، وإلحاقها بإدارة مباشرة لإستانبول، كفَلَت مركزية حكمها على هذه المنطقة لتحمي سائر المناطق السورية من احتمال عودة الحكم المصري بشكل أو بآخر. وهكذا، نلحظ أن مساهمة أبو منّة كانت في تقديم طرح جديد لتأثير داخلي، أو بكلمات أُخرى، محرك داخلي في الدولة العثمانية للقيام بمشاريع إصلاحات في أجهزة الدولة، وليس مثلما كان سائداً، من أن المؤثرات الغربية هي الدافع الأول والأساسي. لا شك في أن مساهمات أبو منّة لم تكن في حدود طرح تفسير لأحداث تاريخية في فترة زمنية محددة (هي فترة التنظيمات في الدولة العثمانية)، بشأن ضعف حالة الدولة وتدهورها، وإنما في كيفية معالجة الدولة بنفسها وبأدواتها عملية نهوضها والوقوف في وجه التحديات التي واجهتها من الداخل ومن الخارج على حد سواء. أضف إلى ذلك، أن أبو منّة ينتصر، نوعـاً ما، للدولة العثمانية، فهو لم يسر في ركاب جلادي الدولة، بل بيّن بوضوح مسعى السلاطين لإجراء الإصلاحات التي نجحوا أحيانا في بعضها، وفشلوا في أحيان أُخرى، لأسباب داخلية وخارجية. نشر أبو منّة كتاباً واحداً يحتوي على دراسات في الإسلام وتاريخ الدولة العثمانية بعنوان: "دراسات في الإسلام والإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، 1826 ـ 1876" (Studies on Islam and the Ottoman Empire in the 19th century, 1826-1876, Istanbul: Isis Press, 2001)، وحرر بالمشاركة مع كاتب هذه المقالة كتاباً بعنوان: "زيتونة من الجليل: أبحاث ومقالات مقدمة للأديب والشاعر حنا أبو حنا" (حيفا: مكتبة كل شيء، 2005). أمّا مقالاته فتزيد على الثلاثين، وهي منشورة في عدد من الدوريات الاختصاصية في دراسات تاريخ العرب والإسلام والدولة العثمانية. وقد نشرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في سنة 2011 كتاب تكريم لبطرس أبو منّة حرره تلاميذه، وهم كاتب هذه المقالة وعطالله قبطي ومصطفى العباسي بعنوان: "مقالات تاريخية تكريماً للأستاذ الدكتور بطرس أبو منة". وجدير بالذكر هنا أن بطرس أبو منّة لم يمكث طوال حياته في البرج العاجي للجامعة والأبحاث الأكاديمية، وإنما كان مساهماً وناشطاً في عدة أطر ثقافية واجتماعية وتعليمية، كلجنة المعارف الأرثوذكسية في حيفا المشرِفة على الكلية الأرثوذكسية العربية، وهي واحدة من أبرز المدارس وأهمها في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل. وكان عضواً في مجموعة مبادرة لإقامة مدرسة ثانوية تكنولوجية عربية، وتميز باستعداده الدائم لمساعدة طلابه في تلمّس طريقهم العلمي والبحثي، وتوجيههم نحو الطريق الصحيح. وكان من المدافعين بقوة عن الأوقاف الأرثوذكسية وعدم التفريط بها، وأشد المنادين بتنصيب بطريرك عربي على البطريركية الأرثوذكسية الأورشليمية، ووضع حد نهائي للهيمنة اليونانية فيها. زوجته نائلة نقارة ـ أبو منّة ابنة المحامي الشهير حنا نقارة، ولهما ولدان: رائد وهو محامٍ متخصص بالشركات العالمية، وبشير وهو محاضر في مجال الأدب، والاثنان مقيمان في لندن. وتقيم عائلة أبو منّة في حيفا، ولها امتداد في يافا واللد والرملة والاغتراب.

السيرة الشخصية: 

جوني منصور: مؤرخ ومحاضر من حيفا.