تحتاج التجربة الفلسطينية بمساراتها ومآلاتها، إلى أدوات مبتكرة لقياس انحناءاتها وقراءة نتائجها. وتقترح هذه المقالة إعمال أداة الفيزياء لمعرفة الحدث المؤسس للأنظمة الجيوسياسية الفلسطينية، وما نشأ عن "الانفجار الكبير" الفلسطيني من جغرافيات خلال 70 عاماً، ولمعرفة مصير هذه الجغرافيات.
تحتاج التجربة الفلسطينية بمساراتها ومآلاتها، إلى أدوات مبتكرة لقياس انحناءاتها وقراءة نتائجها. وتقترح هذه المقالة إعمال أداة الفيزياء لمعرفة الحدث المؤسس للأنظمة الجيوسياسية الفلسطينية، وما نشأ عن "الانفجار الكبير" الفلسطيني من جغرافيات خلال 70 عاماً، ولمعرفة مصير هذه الجغرافيات. في إحدى رسومات ناجي العلي الخالدة، تظهر ساعة عملاقة في خلفية سوداء، تطارد عقاربها التي رُسمت على شكل سيوف، الفلسطيني الطيب الذي يحاول مقاومة جريانها حافي القدمين، ناظراً على عجل إلى الخلف، إذ "الوقت سيف"، بلا استعارة. وفي الرسمة ذاتها، يبدو نابض الساعة كصاعق قنبلة مربوط بسلسلة حديدية تقيّد فلسطينياً طيباً آخر خارج الساعة، يشبه الفلسطيني الذي في داخلها، لكن تعلو وجهه لعنة انتظار ثقيل، إذ لا يبالغ في الحركة لئلا ينزع الصاعق. بينما يرقب حنظلة الذي أدار ظهره للعالم، داخلَ "الساعة ـ الموقوتة" وخارجها. في هذه الرسمة ما يختصر كثيراً في مقاربة الأزمنة الفلسطينية، في ظل التهافت العربي الرسمي على "إسرائيل"، والتواطؤ العالمي معها، إذ تفصح بسفور عن ثنائيات: فلسطين والعالم، والداخل والخارج، والوطن والمنفى… وتحيل الرسمة ـ التي اجتمع فيها الإنسان والمكان والزمان في تكثيف رهيف لعناصر الهوية: أرضاً وناساً وحكاية ـ إلى ثلاثة أسئلة تُمَحْور النظر في الزمن بصفته العنصر الأكثر حضوراً: سؤال الحساب ـ فاعلية الزمن في الفلسطيني؛ سؤال الفيزياء؛ سؤال الفلسفة ـ اختلاف الإحساس بالزمن من حيث انفعال الذهن بالمادة. ثم يبرز سؤال رابع: سؤال الأزمنة الفلسطينية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وعلاقتها بمسارات التحرير. ولمقاربة هذه الأسئلة، ربما يكون من الجدير إعادة الاعتبار إلى "التفكير بطريقة علمية"؛ إذ لم نعتد التفكير في الحساب والفيزياء عند تأمل فلسطين، هويةً وقضية، وإن صح ذلك بصورة أكبر على الفلسفة. وفي اعتقادي، فإن استخدام استعارة فيزيائية لفهم الزمن الفلسطيني، من شأنه أن يتيح لنا طرح أسئلة مولّدة، من نوع: ما الحدث المؤسس للأنظمة الجيوسياسية الفلسطينية؟ ما هي لحظة "الانفجار الكبير" الفلسطينية؟ وماذا نشأ عنها من جغرافيات؟ وما مصير هذه الجغرافيات بعد أكثر من سبعة عقود من الزمن؟ سؤال الحساب ـ الإنسان إن تأملاً سريعاً في تطور إدراك البشر للزمن، يفيد بفهمه كتقدّم مستمر للأحداث من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل على نحو يتعذر إلغاؤه، أو عكسه، اللهم إلاّ في اللاهوت الأسطوري للأمم التي اتخذت من الحرب رياضة قومية. وعلى الرغم من استعصاء الزمن نفسه على التعريف، فإنه أمكن حسابه بوحدات وقتية بصفته إعادة لظواهر طبيعية، كتوالي الليل والنهار، وتداور الفصول، وتساقط الذرات في ساعة الرمل، وتذبذب البندول… فصار الزمن مسافة من الوحدات المعادة، أي صار "منظِّماً للتغيير". لقد كان الزمن قائماً، دائماً، لكن الغائب كان حسابه. وحين حل الحساب، غابت الفيزياء. وقد وقع الفلسطينيون في المصيدة التي شهدها الفكر الإنساني في التعامل مع الزمن، إذ لا يزالون في مرحلة التفكير فيه حسابياً من دون تحويله إلى فيزياء. هنا، صار زمن الفلسطيني إحصاء للخسائر التي وقعت والتي ستقع، وما بينهما من رهانات الخسارة في اللحظة الحاضرة، فالخسائر وحدات الفلسطينيين الجديدة لقياس الزمن. وثمة مقطع في رائعة محمود درويش "حالة حصار"، يقبض على هذه الفكرة بوضوح: "خسائرُنا: من شهيدين حتى ثمانيةٍ كل يوم. وعشرةُ جرحى. وعشرون بيتاً. وخمسون زيتونةً… بالإضافة للخلل البُنْيوي الذي سيصيب القصيدةَ والمسرحية واللوحة الناقصةْ". في "هنا" الفلسطيني الواقعة أمام "فوهة الوقت" مثلما يفيد مطلع القصيدة، "تكون الحياة هي الوقتُ"، إذ "لا وقت للوقت" حيث "المكان يحملق في عبث الأزمنة" الفلسطينية التي يواجهها الفلسطيني: "كلّما جاءني الأمسُ، قلت له: ليس موعدُنا اليومَ، فلتبتعدْ. وتعالَ غداً!" في هذا الواقع، يبدو الفلسطيني موضوعاً للزمن، غير فاعل فيه. أو لعله يبدو موضوعاً لزمن "غيره" ـ الصهيوني، ذلك بأن علاقات القوة التي تحكم الجماعات على الأرض، سيادة وعبودية، يتم تذويتها على التحولات الفردية في علاقتها بالزمن. ثمة زمن للسادة هو "زمن سيّد"، وزمن للعبيد هو "زمن عبد" يعيش فيه العبد إكراهات سيده المفروض عليه في الغالب، وينضبط به. يتملك المستعمِر الزمن، ويحيله تاريخاً للانتصار الذي يضع شروطه بنفسه، بينما يعيش المستعمَر على هامش الزمن السياسي للمستعمِر، وإن كانت له أسبقية الوجود عليه أنطولوجياً. في تاريخ السيد المنتصر، يتم النظر إلى نهاية التاريخ كسَهْم زمني متجه إلى معنى خاص أنتجه هو، أمّا الآخرون من العبيد، فليسوا سوى وحدات وجودية متراصفة بلا فاعلية سياسية، وليس لهم إلاّ الانتظار حتى يلحق زمنُهم الأنطولوجي بزمن غيرهم السياسي الذي فاتهم صعود العربة الأولى من قطاره السريع. سؤال الفيزياء ـ المكان قبل "رقمنة" الحياة على نحو شبه كامل في العقدين الأخيرين، كانت أدراج الاستقبال في الفنادق وشركات السياحة والسفر تحتفظ على حيطانها، بعدد من الساعات التي تشير كل منها إلى وقت مختلف في واحدة من عواصم العالم الكبرى. وقد يكون لاستدعاء تلك الصورة ما يبرره عند الحديث عن الواقع المتغاير في أماكن وجود الفلسطينيين اليوم، في فلسطين التاريخية والشتات. ولو تخيل المرء نفسه أمام صفّين من الساعات، تشير إلى الوقت في رام الله، والقدس، وحيفا، وغزة، وبيروت، ولندن... لتساءل كيف سيفكر في زمن هذه الجغرافيات وما يتوالد فيها من حيزات تشبهها؟ تبدو هذه الجغرافيات كأنظمة حرارية معزولة، على الرغم من ارتباطها بماضي "الانفجار الفلسطيني الكبير" الذي ولّدها، وفي كل منها تنازع بين زمنين: زمن الفاعلية الاستعمارية الثابت في تدفّقه، وزمن المقاومة المتغير في قدرته على اللا ـ امتثال. وحصيلة الزمنين زمن موقوت، قابل للانفجار. في رام الله، المركز العاصمي للسلطة الرسمية الفلسطينية، بلاغة سياسية لا تكل ولا تمل من إعلان "عاصمة" لها في الأبد المقدسي، مع تصعيد ملحوظ في هذه النزعة بعد اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة للدولة الصهيونية ونقل سفارتها إليها. ثمة حضور لزمن كثيف وغياب لوحدات قياسه، حتى إن أشهر ميادين المدينة، "دوّار الساعة"، غدا بلا ساعة بعد أن أعيدت تسميته بـ "ميدان الشهيد ياسر عرفات" الذي تنتصب فيه سارية ضخمة ترفع علم فلسطين المستوحاة قاعدته من الكوفية الفلسطينية، وأمامه شبل فلسطيني يرفع العلم، في ترجمة لمقولة الرئيس الفلسطيني: "سيرفع شبل من أشبال فلسطين وزهرة من زهرات فلسطين علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس"، مثلما تفيد نبذة تنشرها البلدية في موقعها الإلكتروني. وربما يكفي المجاز المعماري لتقريب المسافة من القدس، غير أن سارية "دوّار الساعة" لا تزال تبدو للناظر، من أعلى، كمزولة عملاقة لا يرى أحد ظل وقتها. ومع ذلك، يتجادل في رام الله زمنان: زمن رسمي يعيش في إيفوريا "الإنجازات" على الصعيد الدولي، وتملأه بلاغة سياسية مجّها الناس، وتتخذ من صور وضع فيها المستوطنون الصهيونيون صورة الرئيس الفلسطيني على "مهداف الاغتيال" دلالة على وطنيته؛ أو تُعدّ ردوداً مطولة على تقرير إسرائيلي نشرته جريدة "يديعوت أحرنوت" بشأن قضاء الرئيس الفلسطيني ثلث السنة المنصرمة خارج البلاد، واصفة إياه بـ "الرحالة الفلسطيني"، الأمر الذي اضطر فضائية فلسطين الرسمية إلى إعداد فاصل دعائي خاص للدفاع عن قضاء الرئيس 109 أيام خارج البلد، عددت فيه الإنجازات الدبلوماسية التي تبدو نتاج عمل حركة المقاطعة العالمية، أكثر ممّا هي فعل سياسي للسلطة. وقبالة هذا الزمن الذي تعيش فيه، وبه، وعليه فواعل أوسلو، والذي لا تتعدى محصلته الإزاحية الصفر، ثمة زمن آخر، ثقيل، يرتطم به الناس في الشوارع: زمن تغوُّل الأمن الفلسطيني على الناس، وزمن الاقتحامات الصهيونية الوحشية المهينة، والاجتراء على الناس وأملاكهم وأراضيهم في ظل تغوُّل استيطاني غير مسبوق، وبُكْم فلسطيني رسمي مطبق. لكن هذا الزمن هو زمن المقاومة الذي لا ترغب الرسمية الفلسطينية في استثماره، لتعارضه الوظيفي مع وجودها. وفي القدس، ثمة زمن إسرائيلي ـ صهيوني ـ يهودي بامتياز يستوطن أزل المدينة المحتلة الكثيرة الأنبياء والقليلة الحظ، ويصنع أبَدها على عينه؛ بينما يلاحق الفلسطينيون في كل شيء: أرضهم ومائهم وهوائهم، في الجسد الآدمي والجسد المؤسساتي وجسد الهوية. يتوزع المقدسي بين زمنه الذي استعمره الصهيوني، وزمن فلسطيني تملأه البلاغة الرسمية، وأداءات الفرجة في "نصرة المقدسيين" التي لا تتجاوز حدود "التضامن". وحين يجتاز المقدسي أنقاض لفتا، والتي يلتف حولها "شارع بيغن" كشعاع انثنى حول ثقب أسود عالي الجاذبية، يجد نفسه أمام حاجز قلندية، عنق الزجاجة الذي ينغلق عليه زمن رام الله المستعمَري. لكن في القدس كذلك، زمن للمقاومة، مقاومة التهويد والصهينة والأسرلة، مقاومة البوابات الإلكترونية على المقدسات الإسلامية، والضرائب الإلكترونية على المقدسات المسيحية… مقاومة تصنع زمنها الخاص لأبَد عصيّ على التعريف والتملك. أمّا حيفا، ففيها زمن عاصميّ رمزي لفلسطين المحتلة في سنة 1948، إذ هي موئل الأنشطة الأوسع والأكثف للحركة الوطنية، ومركز التنوير الثقافي والأكاديمي الأول هناك. لكن زمن حيفا يتوزع على محورين ناهبين: زمن ملحق بسلطة رام الله الفلسطينية التي تستخدم فلسطينيي 48 كرصيد انتخابي، وتتعامل معهم كجزء من مسؤوليات "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"؛ وآخر ملحق بزمن النظام الاستعماري الصهيوني، عبر أحزاب تردد المقولات السياسية العبرية بلسان عربي، أو تندرج ضمن أحزاب صهيونية، أو تتواطأ مع نظامها الذي طردهم خارج زمن "دولة اليهود" و"قانون القومية". غير أن زمن حيفا الغالب هو زمن المقاومة اليومية للسياسات العنصرية الصهيونية التي لم تنجز مشروعها تماماً. إنه "الزمن الموازي" للغائبين ـ الحاضرين: في عين حوض والطنطورة وإقرث وبرعم، وزمن "باسل الأعرج" الذي يقتصّ من تسميات المكان الذي زُوّرت سحنته الفلسطينية صهيونياً، بعد أن تخلّت "الأمم المتحدة" عن شارعها الأهم في فلسطين فصار "شارع الصهيونية". زمن غزة هو نسيج نفسه، وليس كمثله زمن: العالم كله يتحرك، وغزة في مكانها، ثابتة محاصرة، بالكاد تخضع لقوانين الطبيعة لولا تداور الليل والنهار. في غزة زمن سياسي دامٍ يخيّم عليه انقسام "وطني"، وتتناهبه سيطرة جشعة على السلطة، تدار مالياً عن بعد، و"سيادياً" عن قرب، من طرفين أحلاهما مُر. لكن فيها زمن مقاومة فرضت توازن رعب لافت على "إسرائيل"، وحرمت ـ على رغم الحصار ـ دولة العدو من فرجوية القوة الجشعة التي تمارسها في بقية أنحاء فلسطين التاريخية. في غزة بلاغة سياسية رسمية تناغي خطاباً "ليس من هذا العالم"، يتوزع دينياً بين الوقف والإيقاف والتوقيف، بينما يتوزع الفعل الجماهيري دنيوياً، بين الإصرار على الحياة، وتنظيم مسيرات العودة الفعلية والرمزية: براً وجواً وبحراً، نحو فلسطين المحتلة في سنة 1948، على الرغم من خطابات شمشون، وثعالبه، وخياره النووي. ومع أن زمن غزة هو الزمن الأبطأ في العالم، إلاّ إنها "ثقب أبيض"، كتلتها بقدر حجمها... أو تزيد. لبيروت زمنها العاصمي الخاص، لكن فيها، وإلى جوارها عواصم أُخرى: مخيمات اللجوء الفلسطيني خارج فلسطين التاريخية. في بيروت مخيم عين الحلوة ـ "عاصمة الشتات الفلسطيني"، وفيها مقبرة شهداء الثورة، وفي المقبرة ضريح غسان كنفاني، وذكرى ساعته النابضة بدقات زمن الثورة الفلسطينية التي كانت بيروت إحدى أهم تجاربها المدينية؛ عاصمة صاغت وعي الثورة ومأساتها. في بيروت ودمشق وعمّان، زمنُ "مسار نكبوي" متجدد من اللجوء الأول والثاني والثالث، ولاجئون يربّون أمل العودة والتحرير، ويرفضون تحوّل نكبتهم إلى ذاكرة. وفي بيروت مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي لا تزال تصرّ على وحدة الزمن الفلسطيني، وتبحث عن مسارات تحريره من الأسطورة واللاهوت القومي والبلاغة الوطنية. في بيروت "خزّانات" لثورة حاضرة، وانتصار مأمول، وعودة مؤجلة. أمّا في لندن، مدينة الساعة الأشهر بتاريخها المسروق، فثمة زمن ليس كمثله شيء. زمن إرث استعماري ثقيل يمتد في محطات الاستعمار الكبرى التي أسست لكارثة الاستعمار الصهيوني: زمن وعد بلفور في سنة 1917؛ زمن الاستعمار الانتدابي في سنة 1922، كحاضنة استعمارية للدولة الصهيونية؛ زمن تقسيم فلسطين في سنة 1947؛ زمن العدوان الثلاثي في سنة 1956، وغيره من العدوانات على الفلسطينيين والشعوب العربية؛ زمن تأسيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1994؛ زمن تسليم قادة المقاومة لـ "إسرائيل" في سنة 2006؛ زمن التواطؤ مع نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين الذي لا بدء له ولا انتهاء... لكن في لندن، وعلى غرار عواصم الشتات الفلسطيني في العالم، مركز ذاكرة مقاومة: فيها ضريح ناجي العلي الذي تستلهم هذه المقالة واحدة من إبداعاته، وفيها "مركز العودة الفلسطيني" الذي يتحدى تحوّل النكبة إلى ذاكرة، ويعلّي خطاب الحقوق الوطنية على جميع خطابات الاستجداء والإغاثة. سؤال الفلسفة ـ الزمان ... أمّا بعد، فهل في وسع الفلسفة أن تقدّم حلولاً لتذرر نظام الزمن الفلسطيني؟ وهل في وسع بومة منيرفا أن تغيّر توقيت طيرانها واتجاهه؟ وهل في إمكان الفكر المحض إنقاذ عقلانية الفيزياء من نزق الحساب؟ الإجابة قد تكون مفتوحة على الإيجاب، إذ إن الجغرافيات التي تمثلها الأزمنة المدينية السابقة، والتي نتجت من الانفجار الفلسطيني الكبير في سنة 1948، تضع نظام الزمن الفلسطيني في ثلاثة مسارات قابلة للتحرير: الماضي العام، والحاضر الخاص، والمستقبل الموازي. وفي كل من هذه المسارات، ثمة إمكان لإنقاذ الزمن الفلسطيني من الارتهان للزمن الاستعماري، وهذا الإنقاذ لن يصل إلى درجة إحداث ما يُعرف في الفيزياء بـ "عملية عكوسية" (reversible process) لما قبل النكبة، لكنه سيتم عبر إدامة خاصية "الموقوتية" في هذا الزمن، الأمر الذي يضمن عدم استقرار الفلسطينيين في الأنظمة الجيوسياسية المغلقة التي يعيشون فيها من دون انتهاء مظلمتهم التاريخية... ومن أجل تأمّل هذه المسارات، لسنا بحاجة إلى يهوشواع فلسطيني لإيقاف الشمس، فكل ما نحتاج إليه هو شمس لنرى، وحسب. مسار الزمن العام: تحرير الماضي يعيش الفلسطينيون، كغيرهم، ضمن مسار عام للزمن العالمي أنتجت قوانينُه التاريخية للفلسطينيين نكبتهم (حتمية "الخطيئة الأولى")، وأمّلتهم بحقوق سياسية في إطار القانون الدولي (ممكن "الخلاص الأخير") في ظل فوات كبير على تطبيق أي من بنوده. لكن التاريخ، مثلما قال محمود درويش ذات مرة، "ليس عادلاً، ولا أنيقاً. التاريخ ليس قاضياً، بل موظَّفا". وعليه، فإن "سهم الزمن" لم يكن في مصلحة الفلسطينيين. في هذا السياق، يستلهم فيصل درّاج نموذجاً تفسيرياً ينزع الخصوصية عن عدم إسعاف "الزمن التقدمي" للفلسطينيين، ذلك بأنهم، وغيرهم ممّن انتموا إلى "ذاكرة المغلوبين" و"مربّي الأمل"، ما زالوا على هامش تاريخ المنتصرين. يقرأ درّاج إرثاً أوروبياً ثقيلاً، من مَعينَيْه الرأسمالي والماركسي، ليضيء على مظلومية الفلسطيني، فيميّز بين التقدم العلمي والتقدم الإنساني، ويعتقد بضرورة انطواء الأخير على قيم أخلاقية وسياسية وجمالية تخلّص المغلوبين من معاناتهم. بمعنى أن عاصفة "أيديولوجيا التقدم" التي يثيرها الغالبون في التاريخ، عادة ما تحول دون أن يطوي "ملاك التاريخ" جناحيه، لأنه مثقل بما يشتمل عليه زمن المنتصرين من آلام المغلوبين في أزمنة محذوفة من الكتابة والتحقق في مسيرة التقدم التي لا تنتج إلاّ الكوارث، ولا تسفر إلاّ عن "توسيع المقابر"، فيصير الزمن "أفيون المغلوبين" الذين ينشدون حقوقهم من "محكمة التاريخ العادلة التي لا تُعقد أبداً". وعلى الرغم من قسوة مسار التاريخ العام للعالم، فإن بعض من رَوْحَنُوا المادية التاريخية، كفالتر بنيامين، يرون أن ثمة زمناً خارج الزمن الشكلاني الرتيب الذي عادة ما يفضي إلى انتصار الغالبين. إنه الزمن المسكون بالتناقضات التي يفرضها المغلوبون كأسئلة ثقيلة على الراهن العالمي الذي يوحّدون فيه "أزمنة الضحايا". أسئلة الراهن هذه، هي أسئلة أخلاقية تختزل قدراً هائلاً من الأمل الذي يتقارب فيه درّاج مع بنيامين، في وصفه أنه "خُلق لمَن لا أمل لهم." ومثله، الذاكرة التي "خُلقت لمَن يحتاجون إلى ذاكرة". لكن الأمل والذاكرة يبشّران باستيلاد زمن للمغلوبين لا يؤبِّد سيادة المنتصرين عليهم، وذلك حين يحررون مسار الماضي من أحاديته باجتراح فسحة لكتابة تاريخ الضحايا المتجانس المظلومية، والموحَّد في النضال. لكن هذه الفسحة التي هي أمام الفلسطينيين، يجب أن تعلّمهم الدرس بلا أوهام؛ إذ "التاريخ الإنساني، رغم الانتفاضات الثورية التي قطعت استمراريته بشكل مؤقت، كان ولا يزال تاريخ المنتصرين. يكتب المنتصر تاريخه الذاتي، كما يشاء. ويكتب، كما يشاء، تاريخ ضحاياه، الذين منعهم عن الكتابة. [....] لا يحتاج المغلوبون إلى تاريخ، إلاّ إذا كانوا قادرين على استثماره في معارك لا تجدد هزائمهم. وحين يستمرون في القتال ولا يأتون بجديد، يبرهنون على اعتناقهم تاريخ خصومهم، الذين يرثون الأرض والكتابة وأحلام الذين فاتهم الانتصار" (فيصل درّاج، "فالتر بنيامين ولاهون التاريخ"، "الكرمل"، العدد 86، شتاء 2006، ص 170 ـ 171). مسار الزمن الخاص: تحرير الحاضر مع أن الفلسطينيين ما زالوا يدفعون كفّارة خطيئة لم يرتكبوها، من محاكم التفتيش الأوروبية حتى الهولوكوست، إلاّ إنهم مطالبون بتحرير حاضرهم من "التأويل" و"المقارنة" اللذين لا يفتآن يزجّانهم في مرآة "التاريخ العلائقي" (relational history) مع أعدائهم الصهيونيين. وقد أمضى إلياس خوري العقدين الأخيرين في تفكيك هذه المرآة المعتمة، منطلقاً من لحظة الانفجار الفلسطيني الكبير: نكبة 1948. ففي قراءته لمعنى النكبة، يتوسل خوري كتابات قسطنطين زريق وغسان كنفاني وإدوارد سعيد وغيرهم، ممّن رأوا في النكبة تبعة للتاريخ الاستعماري الممركز أوروبياً لفلسطين، والذي أدت فيه الحركة الصهيونية دوراً محورياً. وبالتركيز على "فكرة فلسطين" السعيدية، بصفتها صراعاً متواصلاً بين "الحضور والتأويل"، أي الحضور الفلسطيني والتأويل الصهيوني، يغدو سؤال النكبة المركزي: كيف يستطيع الحضور اكتساب حكايته وسردها، من أجل أن تنجح "شرعية الحضور والبقاء" في مقاومة "لا ـ شرعية التأويل والغياب"؟ بدءاً بهذا السؤال عُرّفت القضية الفلسطينية، وعُرفت، كصراع بين حركة التحرر الوطني الفلسطيني (ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية) ضد الحركة الصهيونية (ممثلة في دولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل). لكن الخلاصة الحالية لهذا الصراع للأسف، تفيد بأنه بينما نجحت الحركة الصهيونية في تحويل فكرتها إلى وجود فعلي تمثّل في إقامة دولة إسرائيل كدولة حصرية لليهود، وتحويل الأسطورة إلى تاريخ، فشلت الحركة الوطنية الفلسطينية في تحويل وجود الشعب الفلسطيني إلى فكرة، و"تحويل تاريخه إلى تاريخ." لكن هذا الفشل لم يكن فشلاً مؤسساتياً فحسب، بل كان فشلاً في النظر إلى النكبة أيضاً، وفيما يطلق عليه خوري "المسار النكبوي" الذي تتصادى فيه الهزائم منذ سنة 1948. وعلى الرغم من تنامي الاهتمام بمقولات الاستعمار الاستيطاني في الأكاديميا الفلسطينية مؤخراً، فإن خوري كان الأسبق في تشخيص النكبة، ليس كحدث تاريخي تحدَّد مرة وانطفأ، وإنما كبُنية مستمرة لحدث مفتوح. لذا، فالنكبة عنده هي حاضر فلسطين الذي يأخذ فيه جدل الحضور الفلسطيني والتأويل الصهيوني مساراً تصاعدياً، وليس ماضيها. يتميز المسار النكبوي بتواصل أربعة فقدانات كبرى، هي: الأرض، والمدينة، والأسماء، والحكاية. وقد أدى هذا الفقدان إلى فتح حدث النكبة على المستقبل، إذ استمرت إسرائيل في نهب الأرض، وطرد الناس، وتقويض الحكاية... من التطهير الكبير في سنة 1948 إلى الاستهداف المتواصل بالجدار والهدم والمستعمرات حتى اللحظة، الأمر الذي جعل مأساة الفلسطينيين "نكبة مستمرة". لكن السرد الشامل للمسار النكبوي ليس حدثاً ثقافياً ولا تاريخياً فحسب، بل هو محاولة لتحرير الحاضر أيضاً، عبر رصد تحولات نوعين من الوعي الفلسطيني قبل لحظة أوسلو وتأسيس السلطة في سنة 1994، وبعدها: وعي لجوئي (قديم)، نشأ بعد نكبة سنة 1948، وتعمّق بعد نكسة سنة 1967، وظهرت بسببه، وتمحورت حوله، منظمة التحرير الفلسطينية، وهو وعي ميّزته ثلاث سمات، هي: الاستعادة الرمزية لما قبل النكبة؛ الموقّت في البناء والسرد؛ الانتظار لتحقق العودة. الوعي الثاني هو وعي منفوي (جديد) ظهر بعد سنة 1994، ونشأت عنه السلطة الفلسطينية، وأرجأ فعل العودة، وميّزته ثلاث سمات أيضاً، هي: الكتابة محل الشفاهة؛ الوعي بالدائم بدل الموقّت؛ تحرر الصورة من الرمز. وبين هذين الوعيين، اندلعت الثورة خارج فلسطين القديمة بقيام منظمة التحرير الفلسطينية، وأُجهضت داخل فلسطين الجديدة بقيام السلطة الفلسطينية. ولعل الخلاصة الأكثر أهمية لهذه القراءة التنافذية العميقة لمسار الزمن الفلسطيني النكبوي، أن ثمة ضرورة ملحّة لإنقاذ الحاضر ـ بصفته ماضياً مستمراً ـ من غواية "التأويل" و"المقارنة". أمّا "التأويل"، فيحظر على الفلسطيني الرضى بما رُشق به من بُكْم في النتاجات الثقافية الصهيونية، والعربية أحياناً، ذلك أن "بُكم الأدب هو جزء من بُكم التاريخ." والبُكم جزء من عدم قدرة الضحية على كتابة الحكاية، وخصوصاً حين يكون فهم الآخر ـ النقيض للحكاية أنها ليست صراعاً بين "حضور وتأويل" مثلما اقترح إدوارد سعيد، وإنما بين "حق مطلق وحق مطلق" مثلما أعلن عاموس عوز مرة، قاصداً إدخال الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كعنصر تكويني في التراجيديا الفلسطينية. أمّا "المقارنة" بين النكبة والهولوكوست فمحظورة على الفلسطيني، وعلى غيره، وذلك بسبب مأسوية الحدثين المحضة، وتقاطع مصائر ضحاياهما الأفراد. ولعل الباعث الأكبر على التحرز ليس المغايرة التاريخية في الكم أو النوع، أو في السمة العنصرية للفاعل الذي أنتج هول الهولوكوست وهول النكبة، وإنما في أن الهولوكوست انتهى وتحول إلى ماضٍ، بينما النكبة ما زالت حاضرة. ولعل أكبر خدمة سياسية وأخلاقية وجمالية يمكن تقديمها للفلسطينيين، هو إنقاذ حاضر مسارهم النكبوي من تحوّله إلى ذاكرة، وذلك بإنهاء المظلمة التاريخية التي يختزنها هذا المسار، ولا يختزلها. مسار الزمن الموازي ـ تحرير المستقبل بين زمن العالم العام، وزمن فلسطين الخاص، ثمة زمن ثالث موازٍ للزمنين من دون التماهي التام مع أحدهما، أو كليهما. و"الزمن الموازي"، وإن صكّه وليد دقّة لتوصيف زمن السجن الصهيوني، إلاّ إنه يصدق على المعازل الفلسطينية، في كل من الجغرافيات الست التي جرى التمثيل عليها آنفاً بصفتها أنظمة جيوسياسية مغلقة، في فلسطين التاريخية والشتات. فعلى امتداد ثلاثة عقود ونصف عقد في الأسر، سعى دقّة لاستكناه مآلات الحركة الوطنية في فلسطين المحتلة في سنة 1948، من منظور أبنائها الذين انضموا إلى منظمة التحرير الفلسطينية كرأس مال نضالي قبل أوسلو، ليجدوا أنفسهم، بعدها، صَرْف عملة (فكّة) تفاوضية ليس إلاّ. "الزمن الموازي" ليس زمن أسرى الحركة الوطنية الفلسطينية من أبناء فلسطين المحتلة في سنة 1948 فحسب، بل زمن يصوغه وليد دقّة في منظومة مُحكمة تشكّل خطاطة "الوعي الموازي" للوعي الوطني الموحِّد والموحَّد، والذي دشّنته يوماً منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن تكفّ عن أداء مهمتها التاريخية للتحرير، وتغرق هي ووعيُها في مستنقع السلطة في منحى تراجيدي ناشىء عن سِفاح محارمٍ، قتل فيه الوليد والده وأبقى صورته معلقة على الجدار، لتنتقل المنظمة بذلك من استراتيجيا "الكفاح المسلح" إلى استراتيجيا "كفاح المسلح"… إنه زمن النكبة المستمرة، حدثاً وبُنية وتبعة، في مختلف فصولها وجغرافياتها. في السجن، امتلك الأسرى الفلسطينيون زمن الأسر الذي مكّنهم من مراقبة الواقع وتتبّعه وتحليله والمساهمة في تغييره، وهو ما لم تمتلكه الحركة الوطنية في الخارج. فقد تمكنوا عبر "برنامج الحياة المجدية"، من تأمّل الفارق بين "زمن السجن" داخل السجن الأصغر، و"الزمن الاجتماعي" في السجن الأكبر خارجه، ونجحوا في تشكيل "بنية مضادة" للسياسات الصهيونية الممارسة عليهم، وكانوا بوصلة للعمل الوطني خارج السجن، عبر "وثيقة الأسرى" وغيرها. السجن كفضاء بالنسبة إلى دقّة، لا ينقطع عن مفهومه للزمن، بل هو مولِّد لمفهوم الزمن، والذات هي محور الزمان والمكان حين يفصل برزخ السلك الشائك، أو الشبك، أو الزجاج، أو جسد الحارس… الأسيرَ عن العالم الخارجي. في اليوم الأول من عامه العشرين في الأسر (26 آذار / مارس 2010)، كتب دقّة رسالة صارت تُعرف لاحقاً بنص "الزمن الموازي" الذي يشكّل مرآة قاسية للزمن خارج السجن على مستوى: البدايات، والوحدات، والإحداثيات، والتقاطعات، والنهايات. يربط دقّة بين موقعيّة الأسرى وموقعية ذويهم في الزمن، مؤكداً توقّف الزمن لأسير قابع في زمن لا ولادة فيه إلاّ لـ "تربية الأمل"، انتظاراً للزيارة التي يتقاطع فيها الزمنان. وإذا كان الزمن هو الوجه المتحرك للمادة التي يشكّل المكان وجهها الثابت، فإن الأسرى أصبحوا هم وحدات الزمن وإحداثياته، يقيسونه بأجسادهم: أسراً، وتنقلاً، وتحرراً، ذلك بأن وحدات الزمن خارج السجن غير مستخدمة لديهم، إلاّ حين يستعيرونها للحديث عن المستقبل الذي يعتبرونه "الزمن الحقيقي"، زمن الأمل الذي لا تقيسه وحدات الزمن الموازي، بل تتخيله فحسب. يتأمل دقّة ثبات الأسرى في زمنهم الموازي، وتغيّر العالم بالحديث عن الاختراعات والأحداث التي مرت على الزمن ومرّ عليها، ويحيلها إلى مجازات سياسية: من إطار السيارة ذاتي الإصلاح، حتى الهاتف الذكي. وإذا كان الراحل حسين البرغوثي قد أسس لـ "انفصام شخصية المكان" لحظة عبور جسر "أللنبي" بين فلسطين والأردن، فإن دقّة يدشّن "انفصام شخصية الزمان" عند لحظة عدم عبور الحاجز الزجاجي، وسابقاً شَبَك الأسر خلال زيارة الأهالي للأسرى. هناك، يتحول التاريخ في السجن إلى ماضٍ مستمر لم ينتهِ، فالأسرى قابعون في "الزمن الموازي"، والأحداث الكبرى، فلسطينياً وعالمياً، تمر عليهم وهم هناك، جزء من هذا الماضي المستمر الذي يكافحون بدأب لئلا يتحول إلى مستقبل دائم. إنهم يناضلون من أجل تحرير أنفسهم، و"تحرير أقدم أسير عربي، وهو المستقبل"، مثلما تفيد خاتمة "حكاية سرّ الزيت". في "الزمن الموازي" ثمة أمل موقوت، وزمن الأمل الخارجي هو معيار البقاء والصمود في خضم زمن الألم الداخلي في السجن... لكن وصول ألم الأسرى وأملهم إلى حالة الاتزان، ما زال مرهوناً بإمكانات "تحرير المستقبل". فلسطين الزمن الموقوت بعد عقد ونصف عقد على نشر رسمة ناجي العلي، كتب الشاعر الإسرائيلي يهودا عاميخاي قصيدة بنى عليها ديوانه الأخير: "مفتوح، مغلق، مفتوح". صاغ قصيدته بصورتين: افتتاحية بعنوان "حجر آمين"، وخاتمة بعنوان "القنبلة اليهودية الموقوتة". في الأولى، يفتتح عاميخاي الديوان بقصة "حجر آمين" المثلث الشكل، والذي هو جزء متبقّ من شاهدة في مقبرة يهودية مدمرة… بعد أن يستفيض عاميخاي في وصف هذا الحجر، ويتكهن بمصير المئات من أمثاله، وتشظّي سَكينة الراحلين الذين لم يرقدوا بسلام من دون لملمة ركام شواهد قبورهم، يسخر من قدرة جامعي هذا الركام على جعله إحالة متحفية. أمّا في الأُخرى، فيختتم عاميخاي ديوانه الذي أتى على تواريخ اليهود من التيه حتى الهولوكوست، بأن يؤكد مرة أُخرى أن هذه الشظايا "تملأ الآن القنبلة اليهودية الموقوتة حتى آخر الزمان." ويواصل السخرية من صناعة الهولوكوست، لكنه يختتمها بالقول: "على الرغم من ذلك كله، فإن الحجر الذي على المكتب يمنح إحساساً بالسلام، إذ هو حجر المحك الذي لا يحكّه أحد، الأكثر فلسفة من أي حجر للفلاسفة، وقداسة من أي مقدّس." وبينما يستبطن عاميخاي في قصيدته التي انشطرت بين فاتحة الديوان وخاتمته، فهماً قَبَلاتيَّاً للزمن بصفته "مفارقة" و"وهماً"، و"ماضياً ومستقبلاً اجتمعا في حجر الحاضر"، في إشارة ساخرة إلى حكمة القديس أوغسطين… نستبطن رسمة ناجي العلي، ونعرف أنها تبعث على كثير من الأسئلة المؤلمة، لكنها تُشعرنا بالأمل في الزمن الفلسطيني الموقوت، الأمل كلحظة تاريخية واجبة التحقق. لم يكن ناجي العلي سياسياً، فهو بالكاد يفهم في الحساب، وإنما كان رساماً يعرف الحساب والفيزياء والفلسفة، وقد فهم الدرس، ورسمه لنا، لكننا لم نلتقطه إلاّ لماماً: فزمننا يمضي، وزمنه ما له طرفان.