ماذا ينتظر الفلسطينيون من الانتخابات الإسرائيلية؟ يبدو السؤال غريباً، في ظل واقع سياسي فلسطيني نسي ماذا تعني الانتخابات التشريعية في مناطق السلطتين الفلسطينيتين، فالانقسام المدمر حوّل الانتخابات إلى ذكرى قديمة، وأسس لنظامَين سياسيين يشبهان في سماتهما النظام العربي السائد. نتحدث عن الانتخابات في واقع فلسطيني مصاب بالعقم السياسي، في الوقت الذي تدور معركة شعبية في الجزائر ضد "العهدة" الخامسة، للرئيس المريض عبد العزيز بو تفليقة الذي فقد القدرة على الحكم، متحولاً من عنوان لحل أزمة التسعينيات الدموية، إلى عنوان لأزمة جديدة كبرى. حضور الجزائر ليس طارئاً في تاريخ الثورة الفلسطينية، فأول مكتب رسمي لـ "فتح" تأسس في الجزائر، كما أن جبهة التحرير الوطني الجزائرية كانت هي النموذج الثوري الأول الذي تبنّته الحركة الوطنية الفلسطينية في انطلاقتها الجديدة، مع بدايات العمل الفدائي. المقارنة بين المسارين شيّقة، على الرغم من الفوارق الكبيرة بين الجزائر التي نالت استقلالها وفككت الاستيطان الكولونيالي الفرنسي، وبين فلسطين التي لا تزال تحت الاحتلال. "العشرية السوداء" التي مرت بها الجزائر بعد فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات التشريعية، يمكن أن تُقرأ كنموذج لمسار الانقسام الذي هيمن على الحياة الفلسطينية بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية. والحرب الأهلية القصيرة التي دارت في غزة وأدت إلى الهيمنة العسكرية الحمساوية على القطاع، تشبه ولو من بعيد، العشرية الدموية التي قادت إلى هزيمة الجهاديين الأصوليين في الجزائر. هنا في فلسطين وهناك في الجزائر نعيش أزمة الديمقراطية، مع الفوارق الكبيرة بين وطن محتل اسمه فلسطين، وبين جزائر منتفضة تعيش على حافة الاحتمالات التي بلورتها الثورة المضادة في مواجهة "الربيع العربي"، ووعوده المغدورة. الانتخابات الوحيدة المتاح لنا قراءة احتمالاتها هي الانتخابات الإسرائيلية. فعلى الرغم من الفوارق الكبيرة بين الواقعين السياسيين العربي والإسرائيلي، فإن ما يجمعهما في العمق هو غياب الديمقراطية. وربما كان هذا الغياب هو المفتاح لتفسير الارتماء العربي في الحضن الإسرائيلي. غياب الديمقراطية الإسرائيلية لا يعني أن يهود إسرائيل لا يتمتعون بحرية الاختيار؛ فقد شهدت إسرائيل منذ سبعينيات القرن الماضي تغييرات بنيوية أدت إلى انحسار حزب العمل، وهو الحزب المؤسس للدولة، وصعود اليمين القومي والديني الذي نجح في السيطرة على الحياة السياسية. غياب الديمقراطية يعود إلى مجموعة من العوامل أهمها أن الدولة العبرية تعيش في نظامين سياسيين: نظام لليهود يوفر لهم حرية التعبير والممارسة، ويحمي الاستيطان الوحشي ويشجعه من جهة؛ نظام للفلسطينيين يتفرع إلى نظامَين: نظام التهميش داخل الخط الأخضر، ونظام القمع والحصار والحشر داخل غيتوات في القدس والضفة وغزة. نظام الأبارتهايد الإسرائيلي نظام استبدادي مقنّع بالديمقراطية، لذلك لا ينتظر الفلسطينيون أن تشكل الانتخابات نقطة تحوّل في البنية الكولونيالية الإسرائيلية التي تحتل بلادهم وتضطهدهم. الصراع كما يدور الآن، هو صراع بين يمينين، لذا تبدو الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية كأن لها عنواناً واحداً اسمه نتنياهو. والسؤال هو: هل يستطيع نتنياهو الحفاظ على موقعه في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، أم إن نجم قائد التحالف اليميني في إسرائيل أفل، وسينتهي به المطاف في السجن بتهمة الفساد؟ تبدو الشخصنة الكاملة التي تسم الانتخابات الإسرائيلية كأنها جزء من زمن ما بعد الحداثة، والذي تتشخصن فيه الأزمات الاقتصادية والسياسية، وتغيب عنه البدائل. فاللائحة التي تنافس نتنياهو على الزعامة تضم خليطاً عجيباً من الجنرالات السابقين والسياسيين، وهي لا تقدم للناخب الإسرائيلي أي برنامج حكم يتجاوز نقطة إسقاط رجل يقوم بتدمير مؤسسات الدولة، كما أنها لا تقدم جواباً عن المسألة المركزية في إسرائيل، أي مصير الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وهل هناك أفق لحل، أم إن الاتفاق العام الإسرائيلي يقوم على تجاهل المسألة عبر تحويلها إلى واقع دائم، بحيث يستمر الإبحار في اتجاه بناء دولة تمييز عنصري؟ هذه القوى السياسية الإسرائيلية كلها تتجاهل هذا السؤال، محولة مأزق الاحتلال إلى واقع، وبنية الدولة العنصرية إلى بنية ممأسسة، بصرف النظر عن الخلافات التفصيلية في داخلها. لا يوجد ما يضمن بقاء تحالف "أزرق أبيض" الذي يقوده غانس ولبيد متماسكاً سواء فاز في الانتخابات أم لم يفز. فهذا تحالف يفتقر إلى رؤية سياسية موحّدة، ولا بد من أن يجد نفسه، سواء تماسك أم تشظى، في أسر لغة اليمين المهيمنة، والتي نمت في إطار موجة اليمين التي تجتاح السياسة العالمية، ووجدت في الواقع العربي الذي انهارت ضوابطه كلها، الظرف الملائم من أجل تأكيد المشروع الإسرائيلي الأصلي بضرورة محو الوجود الفلسطيني. وسط هذا الواقع السياسي الإسرائيلي لا نستطيع سوى أن نشعر بالأسى ونحن نرى كيف تشظت القائمة المشتركة في قائمتين، وكيف انتقل مرض الانقسام إلى النخبة السياسية الفلسطينية خلف الخط الأخضر. القائمة المشتركة فشلت في استثمار إنجازها الانتخابي السابق عبر التحول إلى أداة نضالية، وإلى بنية ممأسسة لتمثيل الفلسطينيين، وبناء مشروع سياسي يكون إطاراً جامعاً. لكن هذا الفشل لا يبرر تغليب المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، بحيث يفقد داخل الداخل دوره في بناء لحمة وطنية فلسطينية تواجه الانقسام وتقاوم الاحتلال في آن معاً. أسئلة الانتخابات وأسئلة واقعنا السياسي الذي يدور في شبه حلقة مفرغة، ليست الأسئلة كافة. ربما علينا أن نبحث عن فكرة فلسطين في مكان آخر، كمقدمة للعثور عليها في حياة سياسية وعمل نضالي جديدين. فلسطين كغيرها من قضايانا العربية، بحاجة إلى رؤى فكرية، وإلى البحث في البنى الثقافية والاجتماعية عن آفاق مفتوحة، وهذا ما نحاوله في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، لذا فإن عددنا الجديد، علاوة على أسئلة الواقع السياسي، يقارب المسائل الفكرية والثقافية بحيث تشكل هذه المقاربة مساهمة في إعادة صوغ فكرة فلسطين كأفق تحرري ديمقراطي مقاوم.