حتى لو هدموه ألف مرة... سيعزف معهد إدوارد سعيد في غزة مجدداً
التاريخ: 
08/05/2025

من قلب القصف والركام، وفي ظل النزوح والتدمير الذي لا يتوقف، تنبعث الموسيقى من غزة كأحد أشكال الحياة التي تأبى أن تُمحى، وهي ليست مجرد نغمة تُعزف أو آلة تُضبط، بل أيضاً هي مقاومة تُولد من بين الأنقاض، ودرس يومي في الصمود. لم يكن معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى – فرع غزة، مجرد مكان لتعليم الفن، بل أيضاً كان ملاذاً روحياً، ومساحة للكرامة، ومنبراً يعلو على أصوات القصف. وهذه الحكاية ليست عن موسيقى فقط، بل أيضاً عن إرادة لا تُقهر، وأمل لا يموت، ورسالة إنسانية لا تعرف الانكسار.

من مدرسة إلى معهد: الجذور والولادة

بدأت قصة تعليم الموسيقى في غزة عبر مؤسسة عبد المحسن قطان سنة 2008، عبر برنامج "مدرسة غزة للموسيقى"، وشكّل ذلك المشروع البذرة الأولى لتعليم الموسيقى بصورة مؤسساتية في قطاع غزة. واستمر البرنامج أربعة أعوام، إلى أن تم في عامه الأخير نقل المشروع بالكامل إلى معهد إدوارد سعيد الوطني، بما فيه من أدوات ومعدات وطلبة، لتبدأ مرحلة جديدة أكثر رسوخاً سنة 2012 بولادة الفرع الرسمي للمعهد في غزة.

 

مجموعة من الطلبة يتعلمون الموسيقى داخل معهد إدوارد سعيد "فرع غزة" قبل الحرب على غزة

المصدر: مديرة معهد إدوارد سعيد فرع غزة، منال عواد.

 

منذ البداية، حرص المعهد على توفير برامج موسيقية متنوعة تستهدف الفئات العمرية من 7 إلى 14 عاماً، موزعة على مستويات متعددة وصلت لاحقاً إلى عشرة مستويات، بالإضافة إلى دبلوم موسيقى، وشراكات مع مدارس الأونروا، وجمعيات محلية لتعليم الموسيقى للأطفال واليافعين.

الحملة الإبادية 2023: دمار كامل للمعهد

في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحولت منطقة تل الهوى في مدينة غزة إلى جحيم، وتلقّى المعهد الواقع في الطبقة الأرضية من مبنى الإسعاف التابع للهلال الأحمر قذيفة مدفعية مباشرة دمّرته بالكامل، وتحولت الآلات، والوثائق، والمعدات، وحتى الجدران التي احتضنت كثيراً من الأنغام، إلى ركام.

ولم يتمكن الفريق من زيارة المبنى إلاّ مرتين؛ الأولى كانت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023 خلال الهدنة الأولى في الحرب، والثانية خلال الهدنة الثانية في شهر كانون الثاني/يناير 2025، وكانت زيارات خاطفة قام بها أحد المدربين في المعهد، ليكتشف حجم الدمار الذي طال كل شيء، وخصوصاً في الزيارة الثانية، حيث منطقة تل الهوى جنوب غربي غزة التي يوجد فيها المعهد، فقد تعرضت لدمار كبير بعد نزوح السكان منها بحسب شهادة مديرة المعهد منال عواد.

إبرة في جبل: إعادة الحياة إلى الموسيقى

تقود منال عواد، مديرة معهد إدوارد سعيد في غزة، جهود إعادة النبض إلى المعهد كمن "يحرث جبلاً بإبرة خياطة"، خلال أشهر من العمل في أوضاع قاهرة، وقد تمكّن الفريق من استعادة بعض الآلات، إمّا عبر شرائها من شركة محلية نجت من القصف، وإمّا استعارتها من الأهالي، على الرغم من فقدان جزء منها خلال عمليات النزوح المتكررة.[1]

 

منال عواد، مديرة معهد إدوارد سعيد - فرع غزة

المصدر: مديرة معهد إدوارد سعيد فرع غزة، منال عواد.

 

لكن أين تُحفظ الآلات؟ تُحفظ في بيوت النازحين، وزوايا المدارس، أو حتى تحت أسِرّة الخيام، فهي آلات نادرة وغالية تُعامَل ككنوز، وفي هذا الصدد، تقول منال: "كل آلة تصل إلى أحد الزملاء في أثناء الحرب كانت كأنها كنز."

أنغام في قلب الحرب: البداية من مخيمات النزوح

في مخيم النصيرات، بعد الحرب، بدأ المشرف الأكاديمي ومدرب العود في المعهد محمد الهبّاش في تعليم الأطفال العزف على آلة العود والكورال بحسب ما تقول عواد. في البداية، كان الخوف من عدم تقبّل الأهالي الفكرة في زمن الدماء والحصار، لكن ما حدث كان عكس التوقعات، إذ تجمّع الأطفال والأهالي حول الموسيقى، وكأنهم وجدوا فيها لحظة تنفُّس بين الأنقاض ومخيمات النزوح.

وتصف منال مشهد اللقاء الأول كما قاله المدرب محمد الهباش لها: "على الرغم من الرعب، فإنني لم أجد وصفاً للمشهد. رأيت الفرح في عيون الأطفال، نسيت الحرب، وشعرت بأنني عدتُ إلى بيتي"، وهو ما دفع الفريق إلى توسيع نشاطاته على الرغم من المخاطر.

محمد وعبد الرحمن: موسيقى في مواجهة البتر[2]

في إحدى أكثر القصص وجعاً، يروي المعهد قصة الطفل محمد أبو عيدة (14 عاماً)، الذي نزح من جباليا إلى رفح، ثم إلى النصيرات. ففي 16 تموز/يوليو 2024، قصفت قوات الاحتلال مدرسة الإيواء التي لجأ إليها، فأُصيب محمد إصابة بليغة أدت إلى بتر يده اليمنى.

 

صورة الطفل محمد أبو عيدة وهو يتعلم عزف الموسيقى مع المدربة سما نجم

المصدر: معهد إدوارد سعيد فرع غزة، دعم برنامج تعليم الموسيقى للأطفال في غزة، 2024، ملف خاص بالطفلين محمد أبو عيدة، وعبد الرحمن النشاش.

 

وعلى الرغم من الكارثة، فقد عاد محمد بعد أسبوعين فقط من العلاج إلى جلسات تعليم الموسيقى. ومع استحالة العزف على العود، ابتكرت المدربة سما نجم وشاحاً خاصاً ثبّتت به ذراعه المبتورة على آلة الكمان، ليواصل العزف، ويواصل الحلم.

وإلى جانبه، عبد الرحمن النشاش (10 أعوام)، فَقَدَ قدمه اليسرى في المجزرة نفسها، وهو صديق محمد وشريكه في تعلُّم العود والكورال، وقد أصيب أيضاً، لكنه أصر على العودة إلى الغناء على الرغم من فقدان قدمه. وتقول والدته: "هو لا يزال يطلب قدَمه، يريد أن يعود كما كان." ولم يتوقف هو أو محمد عن الحلم، وكلاهما يأمل في تركيب أطراف صناعية تمكنهم من استكمال مشوارهم الموسيقي.

 

الطفل عبد الرحمن النشاش يتعلم الموسيقى على الرغم من فقدان قدمه

المصدر: معهد إدوارد سعيد فرع غزة، دعم برنامج تعليم الموسيقى للأطفال في غزة، 2024، ملف خاص بالطفلين محمد أبو عيدة، وعبد الرحمن النشاش.

 

عازفة الكمنجة: استشهاد لبنى عليان

في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، فقد المعهد إحدى ألمع طلبته، لبنى عليان (15 عاماً)، عازفة الكمنجة، التي استشهدت مع أكثر من 50 من أفراد عائلتها.[3] وكانت لبنى شعلة موسيقية، تحلم بالعزف في أوركسترات عالمية. وقبل يومين فقط من الحرب، سجلت نفسها برفقه عائلتها في المعهد بكل شغف،[4] وكأنها كانت تودّع الحلم الذي لن تراه.

 

صورة الطفلة الشهيدة لبنى عليان.. عازفة الكمنجة

المصدر: وزارة الثقافة الفلسطينية (2023-2024). التقرير الأولي الرابع حول أضرار القطاع الثقافي، ص 8.

 

فقدانٌ لا يُحصى، لكن العزيمة لا تموت

لا يوجد إحصاء دقيق لعدد الطلبة الذين فقدهم المعهد خلال الحرب، لكن المؤكد أن العديد ممن كانوا يستفيدون من النشاطات استشهدوا أو فُقدوا في أماكن النزوح. ومع ذلك، استمرت النشاطات، وأُعيد تنظيم الجوقات، حتى على الركام.

وقد قاد فؤاد خضر، منسق النشاطات في المعهد، "جوقة بنات غزة" لأداء أغنية من فوق الأنقاض، كرسالة للحياة. أمّا المدرب أحمد أبو عمشة، فانتقل أكثر من 25 مرة من مكان إلى آخر، لكنه لم يتوقف عن تعليم الأطفال على الرغم من محدودية اللقاءات.

رحلة البحث عن الإنترنت... والكرامة

في أوضاع لا تتوفر فيها كهرباء ولا مواصلات ولا سيولة نقدية، كان بعض المدربين يقطعون مسافات تزيد على ساعتين مشياً لحضور اجتماع عبر الإنترنت، ثم يعودون المسافة ذاتها. والبعض منهم خاطر بحياته فقط ليحمل آلة موسيقية إلى طفل ينتظر الأمل في مركز إيواء.

 

جانب من الدمار الذي تعرض له معهد إدوارد سعيد بعد قصف الاحتلال[5]

المصدر: مديرة معهد إدوارد سعيد فرع غزة، منال عواد.

 

في وسط غزة، لا تزال النشاطات الموسيقية مستمرة، حتى بعد استئناف الحرب. وفي خان يونس، تقل النشاطات بسبب الوضع الأمني، وعلى الرغم من محاولة الاحتلال "تفريغ غزة من كل شيء، حتى من الموسيقى"، كما تقول منال، فإن المعهد يصر على مواصلة العمل.

كلمات أخيرة... لا تكفي

لم يقتصر عمل المعهد على الداخل، فمع نزوح ما يقارب 7000 طفل من غزة إلى مصر، بدأ المعهد في تنظيم جوقات ومبادرات موسيقية مسائية داخل مدارس مصرية، في محاولة للمحافظة على الروح الموسيقية الغزية التي نشأوا عليها.

وتقول منال عواد، وعيناها تفيضان بالدموع في رسالتها الأخيرة: "كلما هدموا شيئاً في غزة، يهدمون شيئاً داخلي. لكننا مستمرون، وسنرمم المعهد، وسنواصل تعليم الموسيقى. هذه رسالتنا، وهذه مقاومتنا."

صالح جبر... العازف الذي أعاد الحياة إلى نغمها

بين أنقاض الحرب وآلات الدمار، يصرّ صالح جبر، الطالب في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى منذ سنة 2018، على أن يبقي صوته حياً عبر العود، الآلة التي أحبها منذ طفولته. وقد كان يحلم بأن يكون عازفاً معروفاً يسعد الناس بفنه، لكن في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تغيّر كل شيء؛ إذ دمّرت الحرب المعهد الذي كان يعتبره بيته الثاني، وغيّرت نغمة العود من فرح إلى وجع.

 

الطالب صالح جبر يُعلّم أحد الأطفال العزف على العود في مراكز النزوح في غزة

المصدر: مديرة معهد إدوارد سعيد فرع غزة، منال عواد.

 

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن إرادته لم تنكسر، وتحوّل دوره من طالب إلى مدرب، ينقل ما تعلّمه إلى الأطفال في مراكز الإيواء، ويساعدهم في تجاوُز لحظات الحرب بالموسيقى. بالنسبة إلى صالح، فالموسيقى ليست ترفاً، إنما وسيلة للبقاء. ويقول في هذا الصدد: "نحن لسنا أرقاماً، نحن بشر نحمل أحلاماً تستحق الحياة، وصوت العود هو طريقتي لمقاومة الخراب بزرع الأمل من جديد."[6]

 فؤاد خضر: العزف من تحت الركام... موسيقى الحياة في وجه الإبادة[7]

في لحظةٍ يتساوى فيها الموت والحياة، كان فؤاد خضر، منسق النشاطات في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، يصف لحظة وصوله إلى أحد مراكز الإيواء في شمال غزة قائلاً: "لم تكن هناك كراسٍ، ولا طاولات، فقط الأرض والتراب، والخوف على وجوه الأمهات، ودموع مكبوتة في أعين الأطفال. لكن ما إن بدأت الأنغام الأولى على العود حتى تغير كل شيء، وبدأ الأطفال يبتسمون، وتحرّكت أجسادهم الصغيرة على الإيقاع. كانت هذه أول مرة منذ أسابيع أشعر فيها بأنني لا أزال إنساناً".

ويقول فؤاد: "كل شيء انهار حولنا. فقدنا المبنى والأدوات، وفقدنا زملاء وأطفالاً كانوا معنا قبل أيام، لكن لم نفقد الإيمان بأن الموسيقى قادرة على أن تُحدث فارقاً، ولو بسيطاً، في قلوب هؤلاء الأطفال الذين سرقت الحرب طفولتهم".

 

صورة فؤاد خضر، مدرب موسيقى في معهد إدوارد سعيد الوطني - فرع غزة

المصدر، فؤاد خضر، منسق الأنشطة في معهد إدوارد سعيد.

 

وكان فؤاد، إلى جانب زملائه، من أوائل من بادروا إلى إقامة مخيمات موسيقية صيفية داخل مراكز الإيواء، على الرغم من ضيق الإمكانات وانعدام الأمان، ويقول في معرض الحديث هذا: "كانت كل جلسة موسيقية وكأنها عملية جراحية للروح. الموسيقى تحرر الأطفال من الخوف، والعجز، وتمنحهم إحساساً بأن الحياة ما زالت ممكنة. "

ويضيف بأسى ممزوج بالأمل: "كانت مشاهدتي الأطفال في أثناء العزف والغناء تحمل نظرة لا تُنسى: نظرة انتظار، وكأنهم ينتظرون شيئاً لا يعرفونه، أو ربما ينتظرون حياةً لم يعيشوها بعد. كنا نرى في أعينهم حاجة رهيبة إلى الفرح، والحنان، وإلى أي شيء يُشعرهم بأنهم بشر في هذا الجحيم. "

 

صور من التدريب على العزف على آلة الجيتار مع المدرب أ. محمد أبو مهادي في مركز الحياة التعليمي - غزة

لمصدر: صفحة الفيسبوك الخاصة بمعهد إدوارد سعيد "فرع غزة".

 

وقد تحدّث فؤاد عن إحدى المواقف التي لن ينساها: "في أحد الأيام، توقفت نشاطاتنا بسبب القصف الكثيف. في اليوم التالي، جاءني طفل صغير من المركز وقال: ’ما عزفتوش مبارح؟ كنا مستنيين الأغنية‘، ولم أجد إجابة، وقد أبكاني هذا السؤال أكثر من كل شيء. "

مع تدمير مبنى المعهد، وفقدان أغلب الآلات، تحوّلت النشاطات الموسيقية إلى فعل مقاومة. ويقول فؤاد في هذا الصدد: "المعهد لم يكن فقط مكاناً للتعليم، بل أيضاً بيتاً للفنانين في غزة. كل فنان في غزة مرّ أو نشأ هناك، لذا، فقد كان تدمير المعهد صدمة لنا جميعاً، لكن بدلاً من أن يكسرنا، فقد زادنا قناعة بأن ما نقدمه أهم من أي وقت مضى. "

الخاتمة:

على الرغم من الدمار، ووقوع خسائر لا يمكن إحصاؤها، فإن الموسيقى في غزة تبقى صوتاً عنيداً يرفض أن يصمت. ففي كل نغمة تُعزف، هناك طفل يسترد شيئاً من طفولته، ومعلم يؤمن بأن الفنّ أقوى من الحرب. إن معهد إدوارد سعيد في غزة ليس مجرد مؤسسة، بل أيضاً شاهد حيّ على كيف يصنع الفن من الموت حياة، ومن الرماد أملاً. ستُرمَم الجدران، وستعود الأنغام لتملأ المكان من جديد، لأن هناك في غزة مَن لا يزال مؤمناً بأن الغد ممكن، وأن الموسيقى، كما تقول منال عوض، هي رسالتنا... ومقاومتنا.

 

[1] منال عواد، مديرة معهد إدوارد سعيد - فرع غزة، تم إجراء مقابلة خاصة معها من أجل هذه المادة في 25 نيسان/أبريل 2025.

[2] دعم برنامج تعليم الموسيقى للأطفال في غزة، معهد إدوارد سعيد (2024).

[3] "التقرير الأولي الرابع حول أضرار القطاع الثقافي"، وزارة الثقافة الفلسطينية (2023-2024).

[4] مقابلة خاصة مع منال عواد.

[5] مقطع فيديو خاص لصالح هذه المادة يعرض جانب من الدمار الذي تعرض له معهد إدوارد سعيد بعد أن تعرض للقصف من جانب دبابات الاحتلال الاسرائيلي على حساب ثائر أبو عياش، "يوتيوب"، 6/5/2025.

[6] صالح جبر: طالب في معهد إدوارد سعيد الوطني - فرع غزة، أصبح بعد الحرب مدرباً في المعهد، وتمكنّا عن طريق مديرة المعهد منال عواد من الحصول على رسالة خاصة مكتوبة أرسلها من أجل هذه المادة.

[7] فؤاد خضر: منسق النشاطات في معهد إدوارد سعيد الوطني- فرع غزة، وتم إجراء مقابلة خاصة معه لهذه المادة، وتمكنّا من إجراء المقابلة في أوضاع صعبة نتعرض لها حاليا منطقة جباليا من تكثيف للقصف وعدم توفر للكهربا ومقومات الحياة الأساسية، وأرسل مؤخراً فؤاد المقابلة مكتوبة بصعوبة بالغة.

عن المؤلف: 

ثائر أبو عياش: أسير سابق في سجون الاحتلال، وكاتب، وباحث فلسطيني.