التعليم، معركة في حرب الإبادة
التاريخ: 
02/05/2025

دخلت الجامعة للمرة الأولى قبل أن أبدأ الدراسة فيها لأحضر حفل تخرج دفعة 2019، فأُعجبت بهذه الجامعة وانتسبت إليها طالباً في كلية الصيدلة في السنة نفسها. وكنت في كل مرة أشاهد فيها حفلات التخرج البهيجة، وفرحة ذوي الخريجين بتخرجهم، أتشوق لهفة إلى تلك اللحظة التي أصبح فيها خريجاً فتفرح بي أسرتي وأحبائي. ولم أكن أعلم حينها أنني سأقف على أعتاب التخرج وستكون الجامعة وقتئذ كومة من الركام، ولن يبقى منها شيء. جامعتي هي جامعة فلسطين التي دمرها الاحتلال في حرب الإبادة على غزة.

التعليم في غزة، نضال لا يتوقف

في مخيمات اللاجئين، نشأ في أغلب العائلات اللاجئة نمطان من الإخوة: الأخ الكبير الذي يحمل هموم أسرته على عاتقه ويكدّ ليل نهار من أجل أن يضمن لهم لقمة عيشهم، والأخ الصغير الذي تُعقد عليه الآمال في تجاوز سوء الحال، وذلك عبر تعليمه وما عليه من شيء سوى التعلم، وسيتكفل الأخ الأكبر بكل ما يلزمه لذلك.

وهكذا، آمن اللاجئون بأن الاستثمار في العلم هو الخيل الذي لن يخيب الرهان عليه في تجاوز الفقر والحاجة وبؤس الخيام، ورأوا فيه رفعة وعزاً بعد أن ذاقوا طعم المهانة في تشريدهم من ديارهم، فما إن يظهر في العائلة ولد لها وقد تفوق في دراسته، حتى تعانق رؤوس أسرته السماء، بعد أن حاول الاحتلال إحناءها.

وبذلك، تولّدت طبقة جديدة بين اللاجئين الفلسطينيين ما فتئت تنمو يوماً بعد يوم؛ وهي طبقة المتعلمين الذين أصبح لديهم الوعي السياسي والنضالي بقضيتهم، وأضحى العلم وسيلة لمواجهة المحتل ومقاومته، وللوقوف في وجه تهويد فلسطين وطمس هويتها، وهكذا رأينا الجامعات والكليات في الانتفاضة وقد أصبحت معاقل للمقاومة، ومصانع للأفكار والتحليل السياسي، ومراكز لبلورة الرؤى الوطنية. وستنطبع تلك الإرادة في مواصلة التعليم مهما تبلغ قسوة الأوضاع في مورِّثاتهم، وستنتقل إلى الأجيال، جيلاً وراء جيل.

عام دراسي كامل خلال حرب الإبادة

في أول يوم للحرب، حين كنت أعتزم الذهاب إلى الجامعة، نشرت الجامعة على صفحتها أن اليوم عطلة نظراً إلى الأوضاع الأمنية، وستظل الجامعة في عطلة. وفي أيام الحرب الأولى لم يكن التعليم الجامعي أولويتنا، لكن بعد أن مرت أشهُر على الحرب، وبعد أن هدم الاحتلال جامعتي، شعرتُ بأن حلمي أخذ ينساب من بين يدي. وكانت المفاجأة أن الجامعة تنوي استكمال التعليم إلكترونياً (عن بُعد)، فأصبح استكمال التعليم معركة، وعليَّ أن أخوضها، ولا أدري لحظتها: أتحمست لذلك أم أُحبِطت؟ وكيف سأوفر مستلزمات التعليم الإلكتروني وعلى رأسها الإنترنت، والكهرباء، والأهم من ذلك المكان الذي يصلح للدراسة والاختبارات في ظل التكدس غير المسبوق؟

لم يكن الوصول إلى الإنترنت أمراً ممكناً في منزلي، فقد كنتُ أنزح منه أكثر مما أمكث فيه. ولم يكن لديّ مكان مناسب من أجل الدراسة، ولا كهرباء تكفيني لتشغيل الأجهزة، ولا إنترنت يُتيح لي حضور المحاضرات. ومع ذلك، فلم يكن خيار التوقف وارداً.

اتخذت القرار؛ بأنني لن أضيّع هذه الفرصة، وفي كل الأحوال، وتحت أي وضع سأكملُ تعليمي. وكان التحدي الأكبر في الوصول إلى الإنترنت. عند دوار السوق في مخيم المغازي، وعلى الرصيف سوف أكمل عامي الدراسي الخامس. هناك كنت أحمّل المحاضرات والواجبات وأتقدم للاختبارات، فكان الشارع بالنسبة إليّ قاعة درس واختبار، وقد استكمل الآلاف غيري من الطلبة تعليمهم وهم مبعدون عن منازلهم، بلا أمانٍ، أو مكتب، أو كراسٍ إسفنجية، أو أقلام ملونة أو دفاتر مزركشة، إذ أكملوا تعليمهم تحت القصف، في مراكز الإيواء، وفي المساجد، والمستشفيات.

ومَن كان يتوفر لديه الإنترنت بسرعة جيدة، كان يحمّل المحاضرات وينقلها إلى ذاكرة خارجية (فلاشة) ثم يضعها في مكان ما وبعدها نتناقلها فيما بيننا.

وفي زاوية في مستشفى شهداء الأقصى كانت إحدى زميلاتي، حيث أُصيب أخوها جرّاء القصف، تُذاكر محاضراتها، والمستشفى مملوء بالجرحى وذويهم. فقد خاضت زميلتي وآلاف الطالبات المعركة من دون عبء بالمستحيل، إذ كنت أندهش من التزامهن ومواظبتهن على المحاضرات والواجبات، والكثير منهن كنّ ممن ينزحن في خيمة لا تزيد مساحتها على 20 متراً مربعاً.

وكنا أنا وبعض أصدقائي الذين تصادفت مواعيد اختباراتهم مع موعد اختباري نتناوب على جهاز اللابتوب الوحيد. ولم يكن أساتذتنا في وضع أحسن من حالنا، فقد كان أغلبهم نازح وكثير منهم فقَد بيته، لكنه جادَ بكل ما يمكنه، ليتمم العملية التعليمية بأفضل ما يمكن، جزاهم الله خيراً.

وفي كثير من الأحيان، وأنا في غمرة هذا، كنت أتساءل عن جدوى ما أفعله، ففي كل يومٍ نُفجع بعشرات الشهداء، كانت لهم أحلام وأمنيات، فحالي كحالهم، وربما كانوا أمس قد تقدموا إلى تقديم اختبار ما، كآلاف الطلبة غيري، فقُتِلوا هم وأحلامهم، وأنا لست في مأمن أكثر منهم!

لكني لم أكن لأستكين لهذه الأفكار، فانتفضت مرة أُخرى وقد امتلأت حماسةً من أجل إتمام دراستي بأي وسيلة ممكنة.

بحث تخرّج في مقهى على البحر

لم تكن الصعوبات التي واجهناها خلال الحرب مقصورة على متابعة المحاضرات وأداء الاختبارات فقط، بل أيضاً امتدت إلى بحث التخرج، الذي كان يفترض أن يُنجز في بيئة أكاديمية ملائمة، لكنه أصبح تحدياً بحد ذاته.

ومع استمرار انقطاع الكهرباء وانعدام الإنترنت في معظم المناطق، كنا نبحث عن أي مكان تتوفر فيه شبكة إنترنت مستقرة لنتمكن من العمل. فلم يكن أمامنا سوى المقاهي القليلة التي ما زالت تعمل قرب شاطئ البحر، حيث يجتمع الطلبة من أماكن متفرقة؛ فبعضهم قادم من مناطق نزوح، وبعضهم الآخر قطع مسافات طويلة فقط ليكون له اتصال بالعالم الافتراضي الذي أصبح نافذتنا الوحيدة من أجل إنجاز البحث.

إذ كنا نجلس متقاربين حول طاولة صغيرة، نوزّع الأدوار، ونناقش الفرضيات، ونكتب ونراجع، بينما تحيط بنا أصوات الأمواج وأحاديث روّاد المقهى. ولم تكن تلك البيئة المثالية التي تخيلناها من أجل إنجاز بحث التخرج، لكنها كانت أفضل ما لدينا، وكانت كافية لنثبت لأنفسنا قبل غيرنا أن البحث العلمي لا يتوقف حتى تحت القصف.

وفي النهاية، جاء يوم المناقشة، لكن ليس في قاعة جامعية كما كنا نحلم، إنما في المقهى ذاته، إذ جلسنا في دائرة وأمامنا الحواسيب المحمولة، نعرض نتائجنا فيما بيننا وكأننا في قاعة رسمية؛ فنجيب عن الأسئلة، ونناقش الأفكار، وننهي آخر خطوة في مسيرتنا الجامعية في مكان لم يكن يخطر في بالنا أبداً بأنه سيكون شاهداً على تخرجنا. واستطعت إتمام عامي الدراسي الخامس، الذي بدأته في الحرب وأنهيته فيها.

أشعر بعد هذه التجربة بأنني أقوى، إذ خرجت منها وقد امتلأت ثقةً وفخراً، وإن لم تكن هذه الحياة الجامعية التي كنت أتخيلها وأريدها، لكنها صنعت مني إنساناً أكثر إصراراً، إنساناً بات يدرك أنه لا يحدّ الطموح والحلم والإرادة إلاّ الموت، الموت فحسب. وأدركت أن التعليم بالنسبة إلى الفلسطيني ليس مجرد مرحلة، بل أيضاً هو فعل من أفعال المقاومة.

عن المؤلف: 

أسامة أبو سعيد: طالب في كلية الصيدلة قسم الصيدلة السريرية في جامعة فلسطين.