
13/05/2025 عربي

09/05/2025 عربي

08/05/2025 عربي

06/05/2025 عربي

05/05/2025 عربي

02/05/2025 عربي

29/04/2025 عربي

29/04/2025 إنكليزي
![An Israeli tank blocks the path of a car carrying Dr. Alia Kattan and colleagues as they leave Gaza after their mission. Dr. Kattan says, "[During] our exit, we were held up by an Israeli tank pointing at us for three hours despite us being doctors working through the WHO." An Israeli tank blocks the path of a car carrying Dr. Alia Kattan and colleagues as they leave Gaza after their mission. Dr. Kattan says, "[During] our exit, we were held up by an Israeli tank pointing at us for three hours despite us being doctors working through the WHO."](https://www.palestine-studies.org/sites/default/files/styles/test_blog/public/images/blog/WhatsApp%20Image%202025-04-21%20at%201.49.27%20PM%20%282%29_0.jpeg?itok=PoQNcL78&c=aaeb9ab0a4a711306c047f753fd65d5d)
انتهت الهدنة مع غزة بضربة مفاجئة وعادت الحرب كي تلتهم البيوت والسكان، لكن مع عودة النازحين إلى شمال القطاع باتت ملامح المكان مختلفة عن السابق، إذ تغير وجه غزة ألف مرة، وفي كل مرة تبرِز خطوط جبهة الوطن العريضة هزال الجسد والنحول في الشريط المحاذي للبحر، إلى درجة بات فيها وجه الوطن يشبه وجه النازحين الذين تغيرت هيئاتهم وباتت تشبه الزومبي، وتشبه وجوهاً غارقة في التيه، مشحبرة نتيجة إشعال البلاستيك لإنضاج الطعام، عوضاً عن الحطب، فلا غابات في غزة ولا جبال أو أنهار. كل ما في هذا القطاع مجرد ساحل محاصر، لا يمكن لأصحابه نزول البحر فيه، ولا يمكنهم إلاّ مشاهدة الدبور (سفينة حربية إسرائيلية صغيرة) وهي ترفع في وجوههم أعتى أنواع الأسلحة.
وأنت تيمم شطر الميناء التي صارت صديقة القذائف والصواريخ، انطلاقاً من بيتك الذي في جوار فندق الموفمبيك، ذلك المكان الذي دمرت طائرات الاحتلال معظم الطبقات فيه، ثم جاء اللصوص ليتمموا مشهد اللوحة، بعد أن سرقوا كل شيء. وتطالعك الحياة بشكلها البشع، القميء، إذ لم تكن غزة يوماً تشبه حالها بهذه الصورة المشوهة.
انطلاقاً من هناك، مشياً على الأقدام، حيث لا تتوفر مواصلات في الشارع الأهم في هذه البلدة، تسير نحو هدفك في آخر الدنيا، وأمامك البحر برائحته النتنة - بعد نجاح مشروع تحويل مياه بركة حي الشيخ رضوان إليه، إذ إن غزة لا تعرف معنى تدوير الأشياء واستثمار الصرف الصحي ليصير غازاً من الميثان - تجد الخيام مترامية الأطراف، ولم تكن بهذا الشكل المخيف قبل عودة النازحين من الجنوب، فقد انتقلت تلك الخيام الملونة بالأزرق والبرتقالي والأبيض من الجنوب إلى مدينة غزة، بأعداد وأنواع متعددة؛ فهذه خيمة قطرية، وتلك إماراتية، وهذه باكستانية، وتلك سعودية أو فرنسية، هذه الخيمة تتسع لخمسة أفراد، وتلك لسبعة مجانين غارقين في الخيبة، وفي الخيمة على الجهة الشرقية لشارع الرشيد تجلس امرأة عجوز تقرأ القرآن على كرسي متهالك وتضع نظارات مغبرة، وفي جوارها امرأة أُخرى تصنع العجين داخل خيمة ملاصقة وتنظر غرباً حيث البحر الغارق في الصمت، والملابس مُعلّقة على ركام البيوت تنجو بأعجوبة وتعود مع النازحين الهاربين من الموت إلى غزة بعد استهداف بيت حانون وبيت لاهيا والشجاعية والتفاح والزيتون.
وإلى الأمام قليلاً، وأنت تطالع الوجوه، تضحك لأنك وجدت شيئاً جميلاً في هذه اللوحة السمجة؛ رجل وزوجته يجلسان على ما تبقّى من بيتهما المقابل للبحر، وفي جوارهما طفل صغير، يشربان كأساً من الشاي ويبتسمان كأن الحرب ليست موجودة عندهم، يستمعان لأغنية لا تستوضحها أذناي، لكنها بالتأكيد بصوت فيروز الذي تعشقه غزّة.
والأطفال لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يعرفون طريقاً إلى مخيم الشاطئ حيث تتواجد عشرات المدارس، فقد تم اعتقال الروح، وسيطر النزوح، إذ إنه السجن الجديد للنازحين، فلا أحد يتحرك، والجميع بانتظار الصاروخ الذي صار يستهدف الخيام، فالعجز طال عين الشمس، والأمة نائمة.
إن الأطفال وحدهم هم مَن يلهثون وراء سيارات ضخمة تحمل المياه الحلوة، إذ يحملون جالونات بأوزان أكبر مما تحتمله أجسادهم، لكنهم على الرغم من ذلك لا يأبهون للوجع، ويتصارعون من أجل وضع الجالونات في أول الدور.. ويقوم آخرون بتعديل الحديد الصلب، بأدوات بسيطة ربما من أجل بناء جدار أو من أجل بيعها، في ظل عدم توفر سيولة نقدية أو مصارف في القطاع.
وعلى الجهة الغربية، وتحديداً على التبة (اسم يُطلق على منطقة الشاطئ الشمالي من الغرب) حيث كنا نلهث في ذلك المكان قبل الهدنة الأخيرة من أجل الحصول على طرد غذائي، عندما كانت تأتي طائرات المساعدات الإماراتية والمصرية والأردنية، وتلقي بحمولتها من أعلى إلى الجوعى الذين يشبهون الأشباح، يجلس بعض الرجال يتسامرون، وفي جوارهم لوح طاقة مكسّر، يشحنون عليه هواتفهم وبطاريتهم. وإلى الأمام قليلاً يفتتح أحد النازحين محلاً من أجل إصلاح حوافر الدواب، فقد أصبحت الحيوانات وسيلة المواصلات الوحيدة في ظل تدمير الاحتلال للشوارع والسيارات، وفي ظل انعدام توفر الوقود وغاز الطهي.
وأنت تواصل سيرك نحو الجنوب، ستجد بيوتاً فقدت الأسوار والضحكة وصار وجهها المطلّ على البحر كئيباً، وفي جوار تلك البيوت مستنقعات من المياه الملوثة والصرف الصحي، بالإضافة إلى جبال من القمامة تنتصب كشاهد على تدمير كل شيء، كما تقف معلبات الطعام كهرم موازٍ إلى جانب أهرام القمامة، ومعلبات محترقة بسبب النار، تلك المعلبات التي جاءت إلى غزة في إبّان المجاعة، فالطعام غير صحي لأن كل تلك المعلبات لا تعني شيئاً أمام قطعة لحم طازجة أو حبة تفاح، لكن غزة بلا خضرة أو فاكهة أو حتى لحوم، غزة التي كانت تستهلك كل أنواع الطعام، باتت جائعة ولا تجد إلاّ القليل من تلك المعلبات.
بالإضافة إلى ذلك، تجد جبالاً أُخرى من الحديد وبقايا الصواريخ المتفجرة، تلك الصواريخ التي دفعت السكان إلى النزوح في إبّان الشهر الأول من الحرب، تاركين وراءهم بيوتهم وأحلامهم، ليعودوا لاحقاً وقد انتهى كل شيء، لكن لم يبقَ سوى خيمة.
فالخيام أسفل البيوت، في مشهد سوريالي مجنون؛ فهل للقارئ أن يتخيل كيف يمكن أن تُوضع خيمة أسفل سقف متهالك لأحد البيوت المدمرة، وربما يسقط على أصحابه في أي لحظة، وذلك نظراً إلى ضيق الأمكنة، وانعدام توفر مساحة من أجل نصب الخيام. هذا ما يحدث الآن، وهذا ما يمكن للعين أن تبصره في أثناء السير في ذلك الشارع المغبر. أمّا الحمامات، فتفتح أبوابها للبحر، والرائحة نتنة، وبيوت الخلاء بين الخيام. فكيف يمكن للمرأة أن تخرج في الليل إن شعرت بضرورة قضاء الحاجة؟ كيف لها أن تلبّي نداء الجسد وتلك الحمامات بين الخيام؟ ألن تشعر بالخجل؟ لقد انتهك الاحتلال الإسرائيلي خصوصيتنا حتى في أدق تفاصيل الحياة، والمعضلة الأكبر أن ورق التواليت لم يعد موجوداً، وكذلك الفوط الصحية للنساء والبامبرز أيضاً. فكيف السبيل؟ وأين الحل؟ ماذا يتوجب على المرأة أن تفعل تجاه نفسها في حال جاءتها الدورة الشهرية؟ وماذا يتوجب عليها فعله من أجل حماية طفلها الذي لا يتوفر من أجله أي نوع من البامبرز؟ وكيف عليها أن تتطهر وتنظف نفسها في مكان لا خصوصية فيه؟ أمام كل تلك الأسئلة التي تراودك في أثناء الطريق، تقوم أمّ بصناعة طائرة ورقية لطفلها، تبتسم والطفل يجري بين الركام ليأخذ بتلك الطائرة إلى الأعلى، كأنه يريدها أن تحاصر طائرة الاستطلاع التي أتخمنا نعيقها وكادت الأجساد أن تنفجر.
كما تقف الفتيات بملابس الصلاة وهن ينظرن في اتجاه الطفل، ويبتسمن في أثناء مرور شاب جميل يضع عطراً فرنسياً يلفت أنظارهن، فتبتسم واحدة وتضحك أُخرى، فينتشي الشاب لفرط السعادة، كأنه نسي أننا في أتون الحرب، وكأنهم يعلنون الحب على الرغم من أنف الموت.
وفي الشارع الممتد، يقود رجل دراجته الهوائية، بينما تجلس ابنته في الخلف، يحاول السير ببطء لأن يده اليمنى مصابة، فمسامير البلاتين (التي لا أعرف اسمها الطبي) تظهر كشاهد على استهداف المدنيين، ويدور في حلقة مفرغة ربما لأن الطفلة تشعر بالممل، وربما لأن الأم تريد الحصول على مساحة من الفراغ لإتمام مهمة تنظيف الجسد أو الاغتسال في خيمة تفضح مَن فيها، بالصوت والظل وصهد الشمس الحارقة.
وخلال كل ذلك، تنظر في اتجاه البحر مجدداً، فتحدّق في المسافة الموجودة بين الأمواج وسواد الشاطئ بفعل مياه الصرف الصحي وفي ظل وجود الدبور (قارب حربي إسرائيلي) تكتشف أن الفلسطيني عنيد، لا يتوقف عن الدفاع عن حقه في الحصول على الطعام، وترى شابيْن يصعدان على قارب صغير فيُلقيان بشبكة صيد في مكان قريب، ويحاولان الحصول على أي نوع من السمك، بينما يتقدم الدبور في اتجاه الشاطئ لأن المدينة فقدت هيبتها، وصارت تدفع ثمن انكسار الروح والجسد.
وتجد أطفالاً آخرين لا يتوقفون عن الخروج من الشوارع، كل منهم يمارس مهاماً مختلفة عن غيره، يحملون بطاريات كهربائية من أجل شحنها عبر ألواح الطاقة المنتشرة على شاطئ البحر، إذ لا تتوفر الكهرباء في القطاع كله، ولا بد من شحن بطارية سيارة أو بطارية صغيرة بعدة شواقل من أجل إنارة الخيمة أو الغرف المدمرة.
أمّا النساء اللواتي أبصرن الهزيمة، فتحمل كل واحدة منهن مسبحة، ويستغفرن الله من ضيق الأمكنة وسوء الحال وصمت الأمة، كما يرتّلن ما تيسّر من الذكر، بلوحة تثير الحزن. هل كان على العالم أن يجعل نساءً كهؤلاء يمارسن طقوس الفتيات الصغار بحمل الأواني وجالونات المياه أو حمل بطاريات أو أشياء منزلية لعدم توفر أي منها في البيوت أو استشهاد رفاق الخيمة؟ هذا ما يمكنك رؤيته بين الفينة والأُخرى، فقد تساوت المرأة مع الرجل في الوجع والمصير.
أمّا الأطفال، فيلعبون بفرح وحولهم النوارس، إذ يتجه النورس شمالاً، لا يعبأ بالحصار، ولا يخاف الطائرات أو حتى الدبور، ويحلّق في الأعالي عند السماء، ولا يهتم لجيرانه من الرجال الذين يرفعون جالونات المياه بحبل إلى الطبقة الثالثة من عمارة لا تزال صامدة بين دمار هائل.
وكي تكتمل اللوحة أكثر، يصطفّ الأطفال مجدداً، من أجل الحصول على طعام من إحدى التكايا، وبالتأكيد لن يكون طعامها جيداً إذ إن هناك جيوشاً من الشبان التي لا تمتلك الخبرة من أجل صنع الطعام، ولا يوجد توابل أو بهارات أو حتى ثوم أوبصل أوطحينية لإنضاج العدس على سبيل المثال، لكن الحاجة تدفع الجميع إلى تناول أي نوع من الطعام، بل وتتصارع من أجل الحصول على صحن من العدس أو الأرُز.
وإلى الأمام قليلاً، في اتجاه الغرب من الشارع الفاصل بين عالمين، يطالعك نادي الشاطئ الذي تحوّل إلى مخيم كبير، بينه المقابر وأكياس القمامة والبشر. كيف تحوّل ذلك المكان إلى هذا الشكل البذيء، بعد أن كان ملعباً ضخماً لأهل المخيم، علماً بأنه ظل ملعباً للشبان يمارسون على ترابه رياضتهم بعد هدمه، فقد كانت المنطقة تتجهز لمشروع كبير قبيل الحرب، لكن المقتلة أبطلت كل شيء، وتغير الحديث بشأن عنق الزجاجة (ويقصد بهاتين الكلمتين تلك المنطقة) إلى عنق الزجاجة التي سرقت الأرواح حين بلغت القلوب الحناجر، فدُمّر مشروع شارع الرشيد إلى الأبد.
وإلى الأمام قليلاً أيضاً، محلات قدورة التي توزع المساعدات على سكان المخيم مغلقة، فالحصار منع إدخال أي نوع من الطعام أو الشراب إلى هذه القطعة الصغيرة من الكوكب، قدورة وجميع المحلات مغلقة، لا تعرف غير الرقص مع انبعاث ضوء برتقالي عند كل صلاة لشيطان الصواريخ والقذائف والقنابل.
وقد اكتظت مقبرة بكر بالشهداء، ومسجد أبو حصيرة دُمِّر بالكامل، والمآذن في غزة كلها بلا أذان، بينما تصدح مآذن الوطن العربي الكبير بصوتها الباهت الضعيف أمام صراخ الأطفال في المشافي والقبور.
توجد مقاهٍ كثيرة، وفنادق، ومطاعم، وجراند بالاس، وأديرة، وروتس، كلها مدمرة، وحولها اللغة العبرية تهدد وتتوعد البسطاء من الحصول على حفنة حياة. فالجنود المدججين بالكراهية للعربي كتبوا لغتهم على جدراننا، يشتمون ويتوعدون الجميع، وقد نسي هؤلاء أن لغتهم خليط من حروف وكلمات جاءت من معين اللغات الأُخرى.
وعند ميناء غزة المدمر، تفتح الأبواب يديها للهواء، وتعانق المنكسرين الباحثين عن قطعة خشب أو بلاستيك.. فالميناء الذي يرتاده بعض البحّارة، في مشهد سريالي آخر يشبه مسلسل نهاية رجل شجاع، وأمامهم نصب تذكاري لمقاوم يحمل البندقية وغواص مسلح سقط في تفجير النصب وصار الرأس على الأرض، بينما بندقية الكلاشنكوف معلّقة في اتجاه السماء، يوحي بالصمود والبقاء.
إن الميناء لا تعرف الطريق إلى البحر، والقوارب لا تفقه لغة النوارس، وحدهم أهل غزة مَن يعرفون كل شيء، ويفقهون المستقبل، لكن الموت إليهم أسرع.