تأمين بيت، اغتيال حياة
التاريخ: 
08/04/2025
المؤلف: 

كنت قد ذهبت إلى منزل أحد الجيران لمعالجة مشكلة وقعت بينهم وبين آخرين؛ إذ طلب مني زيارة منزلهم من أجل شرح المشكلة والحديث باستفاضة عنها، وفي سياق الحديث عن الضغط النفسي الهائل والأوضاع الاستثنائية للجوع والعطش، ونظراً إلى شح الماء وانعدام وجود الكهرباء وعدم توفر الطعام في الأسواق، أخبرني الشاب باستشهاد أبيه نتيجة حدث جلل، الأمر الذي استوقفني لأسمع حكاية جديدة من ملايين القصص التي يحملها كل مواطن في قطاع غزة خلال حرب الإبادة التي لا تزال مستمرة حتى اللحظة.  

يخبرني الشاب مهند محمود الغوطي، ذو الثلاثين عاماً، واقعة الاغتيال التي تعرّض لها بعض أفراد الأسرة، وكأنه يتحدث عن مقطع من فيلم أو مسلسل فاتتني حلقة جديدة منه، بلا دموع أو بكاء، وكأن الجسد تكلّس ولم يعد يهتم لموت أقرب الناس، إذ تبلّدت المشاعر وباتت تعيش صدمة أكبر من أن يتخيلها عقل، بينما تجلس الأمّ على قطعة فراش ممزق وهي تصدّق على كلام ابنها، وتزيد أحياناً في المعلومات بشأن واقعة القتل.

عند الساعة العاشرة صباحاً من يوم السبت27  كانون الثاني/يناير 2024، قرر محمود سليمان الغوطي (48 عاماً) أن يتوجه نحو بيت ابنته آلاء - المتزوجة من رجل ينحدر من عائلة أُخرى في منطقة أرض الغول - وذلك لتأمين البيت من السرقة، وعلى الرغم من أنه يدرك الأوضاع الصعبة التي لا تحتمل المجازفة، فإن قلب الأب الذي يخشى على أغراض ابنته العروس كان أقوى من الخوف، فقد نزحت ابنته إلى جنوب قطاع غزة برفقة زوجها، وتركت كل أغراضها في البيت، أملاً بالعودة بعد أسبوع أو اثنين.

خرج محمود الغوطي برفقة زوجته أم عمر وابنه مهند - الذي سبق أن أُصيب في بداية حرب الإبادة - نحو البيت/نحو الموت، وحين وصلوا إلى المنطقة المحاذية لنادي الصداقة (المعروف بنادي الجمعية الإسلامية)، كان الهدوء مخادعاً، إذ دخلوا وَهُم يسيرون مسرعين نحو المنزل، من دون أخذ الاحتياطات: كالسير ملاصقين للجدران، أو على طرف الشارع، اعتقاداً منهم بأنه لا يوجد أحد في المكان، لكن فجأة، دوى الرصاص من جهة الأبراج العالية في المنطقة، فلم يكن أحد يعلم بوجود قناصة للاحتلال الإسرائيلي تتمركز فوق أبراج الفيروز، وأمطر الجنود المكان بوابل من الرصاص، فحاول محمود خلال ذلك أن يحمي زوجته وابنه، لكن رصاصة استقرت في أمعائه وطرحته أرضاً، في الوقت الذي كانت تجره زوجته بكفها التي تمسك كفه المدماة، إلاّ إنها تعثرت لشدة الركام، ولم تستطع إنقاذه وسط كثافة النيران، فاضطرت إلى الهرب مع مهند نحو بيت ابنتها.

وبعد لحظات من إطلاق النار الكثيف، استطاعت الزوجة وابنها مهند تفادي طلقات أُخرى، إذ إن التلال الرملية تحجب الرؤية عن القناصة، هرباً في اتجاه شارع فرعي إلى مكان آخر بالقرب من مسجد آسيا، ثم وصولاً إلى شارع حميد المحاذي لأطراف مخيم الشاطئ من الجهة الشمالية، إلى أن استقروا في منطقة ميدان الشهداء، وهناك وجدوا القليل من الأمان، لكن الزوجة لم تحتمل فكرة ترك زوجها ملقى في الشارع وحيداً بين الحياة والموت، لذلك قررت العودة بعد أن وصلت بمهند إلى بر الأمان الموقت، وعلى الرغم من توسل الأخير إليها بعدم العودة إلى منطقة أرض الغول نظراً إلى خطورة الأمر، فقد عادت عن طريق ذلك الشارع الفرعي من دون خوف من الموت، ووقفت على تلة عالية تطل على المكان الذي أصيب فيه زوجها، وصرخت: "يا محمود، إذا كنت عايش رد عليّ أو ارفع إيدك." لكنه لم يجب، فكان الصمت القاتل هو الجواب الوحيد. ثم همست وسط الدمار والرصاص: "مع السلامة يا حبيبي، مع السلامة يا قلبي."

وفي أثناء عودتها إلى مخيم الشاطئ، صادفت شباناً يبحثون عن طعام بين الأزقة وداخل البيوت المهجورة، فتجرأت وطلبت منهم مساعدتها في إنقاذ زوجها، لكنهم صدموها بردهم قائلين: "كيف وصلتم إلى هناك أصلاً يا حجة؟ لا أحد ينجو من القناصة!"، ثم اضطروا إلى الانسحاب من دون مساعدتها.

في تلك الليلة، لم تنم أم عمر وهي تفكر في رفيق العمر وشريك الحياة، وهو يبيت بعيداً عنها الآن، ملقى على الأرض، بلا غطاء يدفئ جسده الميت، وربما أصابه العطش كما العادة كل ليلة، وربما يحتاج إليها وهو يبكي على مصير عائلته بعد موته. كيف لها أن تتركه هكذا بسهولة؟ أليس من الوفاء أن تموت معه؟ وكم كانت خشيتها من أن تنهش الكلاب الضالة المنتشرة بكثرة هناك جسده.

ظلت تبكي الزوجة طوال الليل حتى قرر زوج ابنتها، جمعة اللبّان (34 عاماً)، محاولة إعادة الجثمان إلى البيت ودفنه، لذلك خرج برفقة رفيق له في الليل، وحاول الاقتراب من الجثمان بعد وصوله إلى نقطة متقدمة في منطقة المشتل، لكنه تعرّض لإطلاق نار كثيف، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يهتم، وقرر الانتظار قليلاً ثم حمل الجثمان، لكن مجيء طائرة الكواد كابتر أفسد الخطة، فعادوا وهم ينكسون رؤوسهم.

لكن جمعة اللبّان لم يستسلم، إنما طلب من أصدقائه الذهاب معه مجدداً إلى المكان مع فجر اليوم التالي، لكن شيئاً طرأ على الحكاية، إذ خرج شبان في بداية العشرينيات من العمر مخاطرين بأنفسهم - ليسوا من أصدقاء جمعة أو مهند أو أي من أفراد العائلة - يبحثون عن طعام بين الركام والموت، فما وجدوا غير ذلك الجثمان، فحملوها ووضعوها في البيت القريب من الشارع الفرعي، ثم واصلوا مشوارهم نحو بيوت أُخرى تحتوي على طعام، وعند عودتهم إلى مخيم الشاطئ، أخبروا عمر ومهند أنهم قاموا بحمل الجثمان وتأمينه في بيت قريب من مسجد آسيا الذي سبقت الإشارة إليه.

وفي لحظتها، توجّه الابن البكر عمر محمود الغوطي (32 عاماً) على عجلة برفقة أقاربه إلى ذلك البيت، على الرغم من المخاطر، من أجل أخذ الجثمان، في رحلة محفوفة بالخوف العظيم، بما يشبه أفلام هوليوود، ووصلوا إلى هناك بشق الأنفس، في مغامرة لا تشبه أي مغامرة أُخرى بالنسبة إلى شبان لم يعتادوا هذا العناء.

وصلوا إلى مخيم الشاطئ، وتحديداً منطقة الصاوي القريبة من منطقة الموقف، مركز المخيم وعصب الحياة فيه؛ إذ كانت الحياة هناك تسري في العروق، ووضعوا الجثمان على الرصيف، فأقبل الجميع لإلقاء السلام الأخير على محمود سليمان الغوطي، ثم تحركوا بالجثمان على عربة يجرها حمار في اتجاه مستشفى الشفاء؛ ذلك المكان الذي تحوّل إلى مقبرة كبيرة تعج بالشهداء، ثم لاحقاً إلى مكان يكتظ بالمقابر الجماعية.

وربما كنت أظن أن حكاية محمود هي الحكاية الوحيدة المأساوية لتلك العائلة، لكنني صدِمت بمجموعة متواترة من القصص والحكايات التي لا تنتهي؛ فقبل أن يفقد الأب حياته، فقد ابنَه الشاب أنس ذا الـ 19 عاماً، وذلك يوم الأربعاء 20 كانون الأول/ديسمبر 2023، إذ خرج الأخير برفقة مجموعة من شبان المخيم للبحث عن أي طعام لعائلته، وفي محاولته الأولى، عاد ببعض السمك المملح "الفسيخ" من بيت مهجور نزح أصحابه إلى جنوب القطاع، وفي محاولته الثانية، كان الهدف أكثر إلحاحاً؛ كيساً من الطحين.

وللأسف، لم يعد أنس، إذ اغتالت طائرة استطلاع إسرائيلية أحلامه وطموحه وشغفه بالحياة، بينما كان يبحث عن كسرة خبز برفقة شبان آخرين تقطعت أجسادهم من دون أن يسمع أحد أناتهم أو صراخهم، فربما كانوا ينشدون النجاة في لحظاتهم الأخيرة، لكن أحداً لا يمكنه الوصول إلى المكان، وقد حاولوا الوصول إليه من أجل استعادة أخيهم ورفاقه، لكنهم لم يستطيعوا ذلك إلاّ في اليوم الرابع من استهدافه.

أنس الجميل، الشاب الذي كان يهتم بتصفيف شعره، والوقوف أمام المرآة لوقت طويل، ويضع أرقى أنواع العطور، ويحب الأنواع ذات الروائح الخفيفة كـ 212، وCK1، وسكلبتشر، وديزاير، لم يكن يهتم في أيامه الأخيرة إلاّ بالبحث عن الطعام لعائلته، ونسي المرآة والحياة.

تقول الأم خلال جلستنا المطولة في رثاء ابنها إنه كان يحمل الطحين ليطعم الأطفال في الحارة، وكانت ترجو أن يحفظ الله جسده من أجل الخير الذي فعله في شبابه، إلاّ إن جسده تمزق لشدة القصف، وجاءت الكلاب لتنهش ما تبقّى منه، ليتردد بين العائلة تساؤل موجع: "هل سيُبعث يوم القيامة كاملاً؟"

وما بين الأب والابن، يأتي الحديث عن الابنة التي فقدت زوجاً كان لها السند والحصن المتين، فقد تزوجت أبرار محمود الغوطي من الشاب جمعة اللبّان، وانتقلت إلى العيش معه في منطقة أرض بكر المحاذية لمخيم الشاطئ من الجهة الجنوبية، أو ما يُعرف بمنطقة الرمال الجنوبي، حيث ظلت برفقة زوجها خلال الحرب في تلك المنطقة، حتى في إبان اقتحام مستشفى الشفاء القريب جداً من المكان، وكان زوجها جمعة؛ ذلك الأسد الهصور، لا يخاف الموت، فيقتحم الأماكن الخطِرة من أجل إنقاذ المصابين ومعالجتهم أو حملهم وتقديم الخدمات إليهم، في مشاهد بطولية حقيقية تستحق الثناء، فخلال تلك الفترة، وبينما كان يحاول مساعدة بعض الجيران للهرب من قذائف الهاوتزر التي تلقي بها مدفعية الاحتلال بعشوائية على البيوت والشوارع، تم استهداف جمعة برفقة آخرين كانوا يجلسون عند ناصية "قهوة غبن"، فانتهت حياة شخص آخر وكأنه لم يكن، وظلت أبرار محمود الغوطي تتجرع مرارة الفقد، وتسأل: "كيف ستعيش ابنتنا بقية حياتها بلا أب؟!"

أمّا حكاية مهند، الابن الثاني لمحمود، فقد أُصيب في وقت سابق؛ في بداية تهجير سكان مخيم الشاطئ، وتحديداً في مساء  12تشرين الثاني/نوفمبر2023 ، حين ذهب الشاب برفقة زوجته للمبيت لدى عائلتها. وفي تلك الليلة، قام الاحتلال الإسرائيلي بضرب المنطقة بمجموعة صواريخ ضخمة، عبارة عن حزام ناري كثيف، فكُسرت يداه وأصيبت قدمه اليسرى بأذى بليغ. وفي إثر ذلك، نُقل إلى مستشفى الشفاء، لكن المستشفى للأسف لم يكن يعمل بصورة مناسبة جرّاء عدم وجود عدد من الأطباء الذين يستطيعون متابعة حالة المصابين، لذلك تم نقله إلى مستشفى المعمداني، على الرغم من شُح الدواء وقلة الإمكانات أيضاً، وهناك بالكاد تمكّن الأطباء من تركيب بلاتين لقدمه اليسرى ويده اليمنى.

يقول مهند، الذي لا ينسى أياً من تلك الأحداث، إن كل شيء لا يهم ولا يمثّل له سوى نقطة في بحر من وجع الآخرين، لأن هناك عائلات فقدت العشرات وخسرت البيوت والحكايات، لكن الشيء الوحيد الذي لا يفارقه هو عجزه وقلة حيلته حين عجز عن حمل أبيه أو الوصول إليه، وعدم قدرته على مشاركة الآخرين في حمل الجثمان ودفنه، وأنه لن يسامح العالم الذي يتفرج على أنهار الدم المتدفقة في شوارع قطاع غزة، بينما يحظى الاحتلال الإسرائيلي بكل أنواع الدعم الغربي من المال والسلاح.

إن قصة عائلة محمود الغوطي ليست استثناءً في غزة، لكنها إحدى تلك القصص التي تكشف كيف تتحول الحياة اليومية في هذه المدينة إلى اختبار قاسٍ بين الموت والحياة، وكيف تسقط العائلات فريسة للرصاص والقصف والجوع معاً.

عن المؤلف: 

يسري الغول: روائي فلسطيني يعيش في غزة.