ما الذي تراه المنظومة الاستعمارية في المنشور الورقي ولا نراه؟
التاريخ: 
27/03/2025
المؤلف: 

يقول عقيد مخضرم في جيش الاحتلال، وكان قد عمل في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان): "تغيير الإدراك لا يمكن تحقيقه باستخدام القوة العسكرية فقط، بل أيضاً يتطلب تقديم خيار آخر إلى الطرف الآخر يعتبره أهون الشرور." وتلك المقولة تعطينا إجابة أولية عن سبب استمرار إلقاء الاحتلال الإسرائيلي المنشورات الورقية على قطاع غزة والضفة الغربية، في الوقت الذي يواصل فيه سياسات الإبادة والمحو بحق الفلسطينيين. 

وفي هذا المقال، نسعى لتتبع المنشورات الورقية التي يلقيها جيش الاحتلال على قطاع غزة والضفة الغربية منذ اندلاع معركة "طوفان الأقصى" صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب إبادة مفتوحة على الفلسطينيين. 

  • كيف بدأ المنشور الاستعماري؟ 

يعود تاريخ المنشورات الورقية إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، إذ لجأت إليها الجيوش والدول بغرض الانتصار في الحروب والمعارك من دون تحقيق القتال، وكانت الأطراف تلقيها ضد بعضها الآخر على أمل إلحاق الهزيمة النفسية بصفوف الخصم عبر السيطرة على وعيه، وإشعاره بأنه لا جدوى من القتال، وأنه مهزوم لا محالة. 

ومنذ دنّس الاستعمار هذه البلاد، استعان بالمنشورات الورقية لقمع الفلسطينيين مزاوجاً بين القوة العسكرية والحرب النفسية بالمنشور، إذ استخدمها الجيش البريطاني لقمع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936،[1]  وبالنهج نفسه، واصلت العصابات الصهيونية، كالهاغاناه، توزيع منشورات وإلقائها على القرى والمدن الفلسطينية محذرةً إياها من مقاومتها. وواصل الاستعمار الصهيوني استخدام المنشورات الورقية في حرب حزيران/يونيو 1967.[2] 

ولم يَفُتِ النضال الفلسطيني أن يتنبه إلى أهمية المنشورات الورقية وإلى دورها في تمتين الصف في مواجهة سياسة التوهين والتخويف، فلجأ الفلسطينيون إلى المنشورات خلال الانتفاضة الأولى، والتي سُميت بـ "البيانات الموحدة"، وكانت تصدرها القيادة الوطنية الموحدة، إذ عملت على توجيه الفعاليات والتظاهرات. كما عمل الاحتلال على كسر هذه السيطرة عبر إصدار بيانات منشورات مزيفة، وتوزيعها بهدف زعزعة الثقة بين الفلسطينيين وقيادتهم، وزرع إسفين بين الفصائل عبر استخدام الأسلوب نفسه.[3] 

وحين نتتبع تاريخ الحركة الاستعمارية في فلسطين، نجد حرصها على إلقاء المنشورات الورقية وتوزيعها كأداة وسلاح لإخضاع الفلسطينيين، بل أيضاً كثفت هذه الحركة هذه الظاهرة وركّزت دورها بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عبر قيامها، سنة 2005، بإنشاء "مركز تشكل الوعي" بهدف "استغلال الانقسامات في المجتمع الفلسطيني، وتغيير الطريقة التي يفهم بها المجتمع الفلسطيني عمليات جيش الاحتلال."[4]  وبدأ المركز عمله بتصميم المنشورات الورقية في الحرب على لبنان سنة 2006، ثم الحرب على غزة سنة 2008، والتي تُعتبر أول حرب تتم بخطة حرب نفسية معدة سابقاً أعدها مركز "مالات". 

 ومع بداية سنة 2011، أعلن الاحتلال اقتحامه منصات التواصل الاجتماعي عبر تأسيس صفحة "إسرائيل بالعربية" على "فيسبوك"، ثم أنشأ صفحات لضباط الاستخبارات سنة 2018، وبدأ كل ضابط "كابتن" يتواصل مع المنطقة التي تقع تحت مسؤولياته عبر تلك الصفحة، وبدأ كذلك يوقع المنشورات الورقية التي توزَع على المنطقة باسمه ورقمه على "واتساب" وحسابه على "فيسبوك"، في محاولة للمزاوجة في عمليات السيطرة على المجال العام المادي والافتراضي للفلسطينيين.[5]

 

 منشور ألقته طائرات تابعة لعصابات الهاجاناه الصهيونية سنة 1948 (أرشيف دولة الاحتلال)

 

  • المنشورات الورقية بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر.. ماذا تقول لنا؟ 

بعد حَدَثِ العبور في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، رأينا السياسة العسكرية الاستعمارية في الإبادة الجذرية، فقد ألقت الطائرات أطنان المتفجرات على غزة، وتكثف القصف الجوي والمدفعي والاستهداف المباشر، والحال شبيه ولا يخفى في الضفة الغربية. وقد رافق ذلك حرب على مستوى الوعي، حيث كثف الاحتلال من منشوراته، وتكررت المنشورات التي تحمل رسائل تهديد شديدة اللهجة، والتي فحواها أن الاقتراب من "حماس" والجهاد الإسلامي لن يتم التسامح معه. وألقى الاحتلال كذلك منشورات تطالب أهالي غزة بالتبليغ عن مكان الأسرى الإسرائيليين الذين أسرتهم المقاومة. 

وقد زاد الاحتلال موضوعات المنشورات ومضامينها منذ اندلعت الحرب، ومما رصده كاتب المقال أنه جرى توزيع وإلقاء أكثر من 50 منشوراً (هنا نتحدث عن النوعية والمضمون المختلف وليس عن الكمية والعدد)، وهذا الرقم يُعتبر، مقارنةً بالحروب السابقة، لافتاً ومثيراً، ولا سيما في ظل التطور الرقمي الكبير وانتشار حسابات تابعة للاحتلال على شتى مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي يترتب علينا فحص محتوى هذه المنشورات، والسياق الذي وُزع فيها، لعله يعطينا مؤشراً يمكننا عن طريقه تفسير سر هذا الاستمرار وحالة التكثيف. 

لقد عمد الاحتلال إلى إلقاء المنشورات التي تُعرف بـ "أوامر الإخلاء"، وطالب بها الناس بمغادرة "المناطق الخطِرة غير الآمنة"، ودفعهم إلى الذهاب إلى "مناطق آمنة" كما هو الحال مع شمال غزة، فضلاً عما لحق ذلك من إجراءات طالت رفح والجنوب. وفي منشورات أُخرى ألقاها جيش الاحتلال، طلب من أهالي غزة مساعدته في العثور على الأسرى في مقابل مبالغ مالية، ورصد مبالغ مالية أيضاً لمن يبلّغ عن قادة المقاومة، إذ اعتبر القضاء على المقاومة هدفاً للحرب. 

وقد سعى الاحتلال لاستغلال حدث السابع من تشرين الأول/أكتوبر لطرح سيناريو التهجير وطرد الفلسطينيين وترهيبهم، ففي نهاية تشرين الأول/أكتوبر من السنة نفسها، ألقى الاحتلال منشورات على مناطق متفرقة من الضفة الغربية جاء فيها: "أردتم الحرب فانتظروا النكبة الكبرى، إلى أهالي العدو في الضفة الغربية، احملوا حملكم فوراً وارحلوا من حيث أتيتم." وفي كانون الأول/ديسمبر 2023، وزع الاحتلال منشوراً على أهالي مخيم بلاطة يطلب فيه منهم التبليغ عن المقاومين الذين يزرعون العبوات الناسفة، ومن الأشياء التي جاءت فيه: "من أجل أمنكم أبلغوا"، ووُقّع المنشور باسم كابتن أبو سلطان، مسؤول مخيم بلاطة، وتم وضْع رقم هاتفه.

 

 منشور وزعه الاحتلال في قرى ومدن شمال الضفة جرى رصده في قلقيلية في 2/11/2023

 

منشور ألقاه الاحتلال على مخيم بلاطة 7/12/2023

 

  • آيات قرآنية وأحاديث نبوية.. كيف وظف الاحتلال الخطاب الديني في المنشورات؟ 

 تصبّغ حدث السابع من تشرين الأول/أكتوبر بصبغة إسلامية من حيث التسمية والخطاب الذي أعلنت فيه المقاومة انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، إذ استحضرت "الطوفان" لما للمفردة من إرث إسلامي متعلق بقصة سيدنا نوح (عليه السلام) في القرآن الكريم. ويعي الاحتلال جيداً أن هذه السردية تحتاج، إذا أراد هدمها، أن تكون سرديته مستندة إلى المنطق ذاته، وسيتناول هذا الجزء منشورات الاحتلال التي جاء فيها الخطاب الإسلامي المضاد لخطاب المقاومة. 

وألقى الاحتلال في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 منشوراً على قطاع غزة جاء فيه بالعنوان حديث شريف:

"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام مسؤول عن رعيته. الطاعة للحاكم حسب الشريعة هي بالمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ’حماس‘ خانت الأمانة تجاه الرعية في غزة وهي قصّرت في واجبها أمام أهالي قطاع غزة، ولذلك اختلت الموازين وتفشى الفساد. ’حماس‘ قدمت المصلحة الحزبية الضيقة على المصلحة العامة الواسعة. يا أهل غزة، هاشم ’حماس‘ انتهكت الميثاق بين الحاكم والمحكومين، فلا طاعة لكم لهذا النظام الغاشم. قادة ’حماس‘ وكتائب عز الدين القسام سرقوا الطعام والمياه من أفواه الجوعان والعطشان لصالح خططهم العسكرية الشيطانية والانتحارية." واختُتم المنشور بآية قرآنية: "فأخذهم الطوفان وهم ظالمون." 

 

 

منشور ألقي على غزة في 2/11/2023 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

وتتجسد في المنشور نية الاحتلال مواجهة خطاب المقاومة والسعي لتوظيف أحاديث شريفة وآيات من القرآن لكسر الحاضنة الشعبية للمقاومة. وفي مناسبة أُخرى، ألقى الجيش منشوراً يحوي فقط الآية "فأخذهم الطوفان وهم ظالمون" باللون الأحمر مع النجمة السداسية التي تمثل رمز دولة الاحتلال.

 

منشور أُلقي على قطاع غزة بتاريخ 6/12/2023 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

ولقد وجّه الاحتلال الخطاب الديني نفسه إلى أهالي الضفة الغربية في منشور وُزع على مخيم الدهيشة بعد اقتحامها، وفي ذيل المنشور شعار "فيسبوك" إلى جانبه "كابتن نادر، مسؤول منطقة مخيمات بيت لحم" ورقم هاتفه على "واتساب"، وافتُتح المنشور بآية من القرآن: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وجاء أيضاً في المنشور إعلان تولّي "كابتن نادر" مسؤولية المخيمات، ودعا إلى فتح صفحة وعهد جديد، مؤكداً أن "حالة الحرب" تتطلب "مسؤولية وعدم التهور"، وأنه "كضباط شاباك" لن يتهاون كونه المسؤول. وإذا تغاضينا عن فهم الاحتلال المغلوط للآية، فالجوهر يتناقض مع فكرة "الموعظة الحسنة" كونه استخدم أسلوب التهديد والوعيد في عبارة "قد أعذر من أنذر".

 

منشور وزعه الاحتلال على أهالي مخيم دهيشة ببيت لحم في 12-2023 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

في مناسبة أُخرى، ألقى جيش الاحتلال منشوراً، في آذار/مارس 2024، على غزة بدأ بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم." ويتوجه المنشور إلى أهالي شمال غزة، يدعوهم إلى فسح الطريق للمساعدات الإنسانية، والامتناع عن النهب والسرقة وأعمال الفوضى ليصل الطعام إلى الفقراء والمحتاجين في المنطقة. وينتهي المنشور الموقّع باسم "جيش الدفاع الإسرائيلي" بحديث شريف: "كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه."

 

 

منشور ألقته الطائرات على أهالي شمال غزة في آذار/مارس 2024 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

وفي الخامس من آب/أغسطس 2024، ملأت جدرانَ بلدة بيت كاحل قضاء الخليل منشوراتٌ موقعة من "كابتن زيدان – [الاستخبارات] الإسرائيلية"، وبدأ المنشور بعبارة "لا تأخذوا العلم من صُحفي، ولا القرآن من مُصحفي" وكُتبت العبارات باللون الأحمر والأصفر، وجاءت كذلك في وسط المنشور عبارة "لا تأخذوا العلم عن حمساوي، ولا القرآن من إرهابي."

 

منشور وزعه الاحتلال على جدران بلدة بيت كاحل في 5/12/2024 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

وجاء هذا في سياق تعليق هذه المنشورات بحسب ما جاء في تدوينة على حساب في "فيسبوك" هو "كابتن زيدان - مخابرات إسرائيلية - مسؤول مناطق أذنا، دير سامت وبيت كاحل"، وجاءت في التدوينة صورة المنشورات الورقية معلقة على الجدران، وكذلك صورة لعدد من الفلسطينيين وَهُم معصوبو العينين ومقيدو اليدين، وجاء أن "المعتقلين كانوا من نشطاء ’حماس‘ والجهاد الإسلامي، علماً بأن بعضهم بعطوا دروس القرآن الكريم لأطفالكم في المساجد المختلفة." كما جاء: "إن دولة إسرائيل ترى أنه من واجبها محاسبة كل من يسمّم أرواح أطفالكم و’يربّيهم‘ على عقيدة الجهاد و’الإرهاب‘، بمعنى إنه مش رح نخلّي أبداً أي شخص كهذا يعيش بينا"، واختُتم المنشور بتهديد صريح ومضمونه: "ما عليكم، السجن بيوسع للجميع! بالتالي رسالتي إلكم كالآتي: لا تودّوا أطفالكم لدروس القرآن الكريم إلاّ عند ولاد حلال! إبعدوا عن الإرهابيين!"[6] 

ولم يتوانَ الاحتلال عن محاولاته إضفاء صبغة إسلامية وشرعية في عدوانه على المقاومة، بالاستحضار الدائم للآيات والأحاديث والمقولات الدينية التي يؤوّلها لِتَتسق مع خطابه، إلاّ إنه يبدو وكأنه يوجه خطابه إلى مجتمع آخر، ففي منشور ألقاه في 9/10/2024 على أهالي قطاع غزة، بدأه بالآية القرآنية "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"، وتضمّن المنشور صورة لساعة رملية على طاولة عليها عَلَم شعار جيش الاحتلال، وفي داخل الساعة الرملية صورة للشهيد يحيى السنوار داخل الساعة في الجزء العلوي منها، وفي الجزء السفلي صور لعدد من شهداء المقاومة، ومنهم حسن نصر الله. وعلى الرغم من كون سياق الآية الكريمة لا يخدمه في تهديده وإصراره على الوصول إلى قادة المقاومة، فإنه أرفقه في منشوره.

 

منشور ألقي على غزة في 8/12/2024 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

والجدير بالذكر أن ما أوردناه في هذا الجزء ما هو إلاّ نذر يسير من المنشورات التي احتوت الخطاب الديني. وقد أردنا القول من استعراضنا إياها إن المنظومة الاستعمارية الصهيونية تعي أنه في الحرب النفسية عليها أن توظف الخطاب الديني في خطابها.  

  • مجلات الاحتلال الأسبوعية 

في شباط/فبراير 2024، ألقى الاحتلال على أهالي قطاع غزة منشورات عديدة عن تلك التي كان يلقيها أو يوزعها سابقاً، لكن هذه المرة لم يكن يلقي ورقة واحدة، إنما عدة أوراق على شكل "مجلة"، أو صحيفة أسبوعية في غزة، وكانت قد أُعطيت اسم "الواقع". ويحمل الاسم دلالة مهمة تثير الانتباه وحالة الحرب وكثافة الموت والقصف التي تُشعر الإنسان بأنه فَقَدَ اتصاله بالواقع، لذلك حرص جيش الاحتلال على هذه التسمية. 

وافتتح الاحتلال حساباً على تطبيق "تيليغرام" و"إكس" في آذار/مارس من السنة نفسها، وبدأ يتيح مواد "الصحيفة" للعامة، بتدوينه مجموعة من الصور، يظهر فيها الناس في غزة يقرأون ويوزعون المجلة، وربما يكونون قد أُجبروا على ذلك في أثناء نزوحهم من الشمال والجنوب، وبعد مرورهم بحاجز "نتساريم" الذي كان يفصل في ذلك الوقت شمال غزة عن جنوبها.[7] 

وتظهر "الصحيفة" جادة، وتعلوها إشارة إلى أنها ليست للبيع، وتسخَر الموادُ المتضمَنة داخلها من المقاومة الفلسطينية وكوادر المقاومة وحركة "حماس"، وذلك عبر استعراض رسوم كاريكاتيرية مسيئة، أو نص رديء على شكل مقالة صحافية تسخر من المقاومة وحركة "حماس" أو أخبار اقتصادية وسياسية واجتماعية فيها سخرية من فعل المقاومة والإشارة إلى أنه عبثي وغير مجدٍ. كما يسعى الاحتلال عن طريق المجلة لجر الفلسطيني في غزة إلى التواصل مع الاحتلال، إذ تتناثر الأرقام في الصحيفة من كل حدب وصوب، في إشارة إلى رغبة الاحتلال في فتح قنوات تواصل مع الفلسطينيين في غزة، في محاولة من أجل اختراق المجتمع وإسقاطه، ومحاولة استقاء معلومات بشأن الأسرى الذين هم في قبضة المقاومة. 

وفي وقت سابق، وجد الفلسطينيون في مدينة قلقيلية شمالي الضفة الغربية، صباح 13 كانون الأول/ديسمبر 2023، منشورات اتخذت شكل مجلة واتخذت اسم "الصحيح"، وجاء في وصف أسفل العنوان "معلومات حقيقية من الميدان ورسائل خاصة"، ويحمل اسم "الصحيح" دلالة متعلقة بجعل الناس يعتقدون أن من يملك "الصحيح" و"الواقع" و"الحقيقة" هو الاحتلال، وجدير بالذكر هنا أن هناك صفحة تتبع لاستخبارات الاحتلال؛ "الحقيقة تحكي". وتستقي المنظومة الأمنية للاحتلال من المعجم الكلمات ذات الدلالات المتصلة بلفت الانتباه والجدية "الحقيقة، والواقع، والصحيح".

 

 منشور مجلة "الصحيح" أُلقي على قرية حبلة في قلقيلية في 1/1/2024 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

أمّا مواد المجلة، فقد حملت رسائل للفلسطينيين في قلقيلية بضرورة التوقف عن المقاومة عبر استحضار حالة غزة، وفي العدد الذي ألقاه الاحتلال جاء في الصفحة الأولى: "صباح الخير قلقيلية.. انتبهوا! سكان قلقيلية فوجئوا برؤية جنود الجيش الإسرائيلي في شوارع المدينة." وفي خبر آخر فيه جانب من السخرية أو ربما الاستهتار بعقلية الفلسطيني جاء: "أثر حرب غزة على أسعار الخضار في الضفة الغربية." ولم تخلُ المجلة من التهديدات وإثارة الرهبة في نفوس الفلسطينيين في قلقيلية، ولا سيما الشبان الذين يعملون على مقاومة الاحتلال؛ ففي إحدى صفحات "المجلة" جاء، استكمالاً للخبر الوارد في الصفحة الأولى، أن "قوات الجيش الإسرائيلي تعمل على ملاحقة ’الإرهاب‘ و’الإرهابيين‘" في الضفة الغربية، وأنها اعتقلت "خلية" من قلقيلية وجرى استعراض أسمائهم وصورهم، واستغلت هذا الإعلان لتوجه رسالة تهديد إلى الناس في قلقيلية بأنه في حال واصلت المدينة على هذا النهج، فستلقى مصير طولكرم وجنين وحتى غزة. 

 

 

منشورات صحيفة "الصحيح" في 13/12/2023 (المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي)

 

ختاماً، ترى هذه المقالة في المنشورات الورقية شيئاً آخر أبعد من محتواها الذي يجري تضمينه بوسائل عديدة ومتشعبة، ولعل أبرزها وسائل الاتصال الرقمي التي يتواجد فيها الاحتلال بكثافة، لكن تمسّك منظومة الاحتلال بالمنشور الورقي مردّه - كما تفترض المقالة - البُعد المادي للمنشور الذي يعطيه القدرة على تمكين الدولة الاستعمارية في سياقات الاستعمار الاستيطاني من الضبط والأمن، والسيطرة على المستعمَرين وأراضيهم، فهي تسعى لإعادة إنتاج المساحات والأماكن، كما ترى الأكاديمية نادرة شلهوب. لذا تعطي مادية المنشور الورقي قدرة على اختراق المجال العام للفلسطينيين، وبالتالي السيطرة عليه بهدف إعادة تشكيله بحيث يصبح تحت السطوة الاستعمارية، وهو ما تسعى له المنظومة الاستعمارية باستمرارها في نثر المنشورات الورقية في الفضاء المادي. واستمرار الاستعمار في هذه السياسة يقول لنا إن ساحة المعركة في المجال العام لا تزال مفتوحة، ولم يحسمها الاحتلال كما لم يحسم أي ساحة أُخرى.

 

 

[1] عيسى السفري، "فلسطين العربية، بين الانتداب والصهيونية" (رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، سلسلة القراءة للجميع؛ 16، ط 3 ، 2001).

[2] بلال شلش، "شيء عابر: نابلس تحت الاحتلال (حزيران/يونيو 1967 - آذار/مارس 1969): مذكرات ووثائق حمدي طاهر كنعان" (عمّان: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023).

[3] صالح عبد الجواد، "حرب البيانات الإسرائيلية المزورة" (عمان: مركز القدس للدراسات الإنمائية، 1991).

[4]  ساعر رُوَّه، سردية تأسيس مركز عمليات الوعي في الجيش الإسرائيلي، في الحملة على الوعي: جوانب استراتيجية واستخباراتية، تحرير يوسي كوبرفاسر ودودي سيمانتوف (تل أبيب: معهد دراسات الأمن القومي، 2019). 

[5] هيلل كوهين، "تسويق الاحتلال للفلسطينيين في الضفة الغربية: صفحات جهاز الشاباك على موقع ’فيسبوك‘ في سياق تاريخي"، مجلة "قضايا إسرائيلية"، العدد85، ص 90 – 106، 16/5/2022. 

[6] "كابتين زيدان - مخابرات اسرائيلية - مسؤول مناطق اذنا، دير سامت وبيت كاحل"، منشور على "فيسبوك"، 5/8/2024. 

[7] منشور لصحيفة "الواقع" عبر "تيليغرام"، 10/7/2024.

 

عن المؤلف: 

مؤيد طنينة: صحافي فلسطيني.