"الأسوأ من هذا كله أن تصبح تلك التقييدات أمراً واقعاً كما حدث مع أهلنا في غزة.." هذا لسان حال فلسطينيي الضفة الغربية تعقيباً على فرض الاحتلال الإسرائيلي تقييدات غير مسبوقة على دخولهم القدس في شهر رمضان للعام الثاني على التوالي، تذرعاً بحالة الحرب بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
ومنذ عقود، ينظر فلسطينيو الضفة الغربية إلى شهر رمضان المبارك بصفته الفرصة الذهبية لدخول القدس، وذلك بسبب منع الاحتلال أغلبهم من دخولها على مدار العام بسبب حملهم الهوية الفلسطينية الخضراء، باستثناء شروط محددة تُحصر في التصاريح والبطاقات الممغنطة، وتكتنفها شروط لا تتأتى للأغلبية: كتصاريح العمل والتجارة والعلاج وزيارة الأقارب وغيرها، والتي لا تعطى إلاّ بعد فحص أمني صارم.
وفي رمضان، كان الاحتلال يعلن تقديم تسهيلات مزعومة، تتضمن فتح الحواجز العسكرية أيام الجُمَع أمام النساء من الأعمار كافة، والأطفال، والرجال فوق عمر معين، أمّا الشباب، فكانوا يبذلون قصارى جهدهم لدخول القدس عبر ما يُسمى "التهريب"، وأبرز طرقه القفز من فوق جدار الفصل العنصري، أو الدخول عبر فتحات، أو مركبات ذات لوحة إسرائيلية يُسمح لها بالمرور من الحواجز، وكل تلك الطرق تنضوي على مخاطرة عالية وتكلفة مالية، وربما تؤدي أحياناً إلى الموت أو الاعتقال أو الإصابة الجسدية.
لم يكن يوماً معبّداً بالورود
إذن، فإن الطريق إلى القدس لم يكن معبّداً بالورود، لكن رمضانَي 2024 و2025 شهدا تقييدات غير مسبوقة تمثلت في تحديد أعداد داخلي القدس بعشرة آلاف أسبوعياً، ويوم الجمعة فقط، مع اشتراط حيازة تصريح وبطاقة ممغنطة سارية المفعول -التي لا تصدر بسهولة- والخروج من القدس قبل حلول المساء –وهو ما يعني فوات التراويح والقيام- وتحديد الأعمار بأكبر من 55 عاماً للرجال، وأكبر من 50 عاماً للنساء، وأقل من 12 عاماً للأطفال شرطَ وجود مرافق.
وفي إثر هذا المنع على أعداد المصلين في المسجد الأقصى، وعلى الحركة الشرائية في القدس التي تنتظر رمضان لإنعاشها، وعلى إنجاح الاعتكاف الليلي في العشر الأواخر وما قبلها، وعلى صعيد أعداد روّاد صلاة الجمعة، التي من المفترض سنوياً أن تشهد تضخماً في أعداد المصلين، فقد شهدت الجمعة الثانية من رمضان الجاري حضور 80,000 مصلٍ، بينما شهدت سنة 2023، قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر حضور 250,000.
ولأول مرة منذ سنة 2014، منع الاحتلال اعتكاف المصلين في المسجد الأقصى ليلتَي الجمعة والسبت، وطرد بالقوة المعتكفين القلة الذين حاولوا الاعتكاف داخل المصلى القبلي بعد صلاة التراويح، ويعزو مراقبون نجاح الاحتلال غير المسبوق في إفشال الاعتكاف إلى قلة الأعداد، وخلوّها من سوادها الأعظم، الذي كان سابقاً يرفد، من شبان الضفة الغربية وشاباتها ممن نجحوا بصعوبة في الوصول إلى المسجد، الأمر الذي انتفى في رمضان الماضي، والحالي بنسبة أعلى.
انتهاكات لأول مرة
جرى تقييد جديد غير مسبوق أيضاً ساهم في تفريغ المسجد الأقصى من فلسطينيي الضفة، وهو تواجُد عناصر من شرطة الاحتلال على مدار الساعة داخل المسجد، وتحديداً خلال صلوات الفجر والقيام والتراويح والجمعة، وقد كانت سابقاً تتواجد برفقة المستوطنين خلال ساعات الاقتحام فقط، لكنها كانت أمست تتجول بين المصلين، وتقتحم المصلَيات المسقوفة، وتفتش خيام الاعتكاف بحثاً عن أي مصلٍ يحمل بطاقة الهوية الفلسطينية، ودخل القدس ومسجدها بلا تصريح!
وبالإضافة إلى كل تلك العوامل الطاردة، فقد غُيّب شبان من الضفة الغربية عن المسجد الأقصى في رمضان، وذلك بسبب استشهادهم برصاص الاحتلال خلال الأشهر الماضية، من محافظات الشمال والوسط والجنوب، أو بسبب استمرار اعتقالهم الإدراي داخل سجون الاحتلال.
وبمناسبة ذِكر السجون، فقد أدى تردّي وضعها منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتنكيل الشديد بالأسرى داخلها، إلى تجنُب الشبان محاولة دخول القدس خشية اعتقالهم ودخولهم دوامة من التنكيل والإهانة والأَسر، إذ كان بعضهم سابقاً يتعرض للاعتقال الوجيز والتحرر بشرط الكفالة، أو التعهد بعدم الدخول مرة أُخرى.
حياة أو موت
مؤخراً، تجاوَز الخطر الاعتقال أو الضرب والتنكيل، ليُستشهد فلسطينيان من الضفة الغربية ويصاب ثالث خلال الأسبوع الماضي، وذلك بسبب دخولهم أو محاولتهم دخول القدس، فاستشهد في 16 آذار/مارس الجاري العامل ماهر صرصور (59 عاماً) من قرية سرطة غربي سلفيت، وذلك في إثر ملاحقة قوات الاحتلال عدداً من العمال قرب جدار الفصل العنصري في بلدة الرام شمالي القدس، كما استُشهد قبله بأربعة أيام (12 آذار/مارس) العامل رأفت حمّاد (35 عاماً) من بلدة سلواد شرقي رام الله في إثر سقوطه من علو خلال اقتحام الاحتلال ورشة بناء في القدس.
وتكمن خطورة تمرير هذا المنع المتواصل في تطبيع سلخ فلسطينيي الضفة الغربية عن القدس المحتلة، التي لا تبعد عن معظمهم سوى كيلومترات معدودة، كسكان قرى شمال غرب القدس، وقرى بيت لحم، وسط خشية من اعتياد المنع، واستمراء التعدي على حرّية التنقل والعبادة، وتضليل الحقيقة الدامغة أن القدس مدينة محتلة، حتى في نظر القانون الدولي، وأن دخولها من جانب أهلها الفلسطينيين هو حق لا مكرمة من محتليها.