الكلمة الافتتاحية لمنتدى فلسطين بدورته الثالثة 2025
النص الكامل: 

أصحاب السعادة

أيها الأصدقاء

كلمتي مقتضبة أود فيها أن أشكر حضوركم، وأن أرحّب بكم باسم "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الشريكَين في تنظيم هذا المنتدى.

للمرة الثالثة يلتئم عقدنا للحوار والتفكّر والتأليف بين البحث العلمي الرصين وبين تحمّل المسؤولية المعنوية والسياسية الجسيمة التي تقع على عاتق كثيرين من الفلسطينيين وسائر العرب وأصدقائهم.

نلتقي بعد اتفاق وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى والمحتجزين في غزة، وهو الاتفاق الذي ثابرت في السعي له، من دون كلل، دولة قطر الشقيقة. غير أننا في الوقت ذاته ندرك أن المخاوف لمّا تتبدد، لا في غزة ولا في الضفة، وأن العدوانية الإسرائيلية لم تنحسر، أياً يكن من أمر بعض الارتياح ومظاهره عند أهل غزة وبين عائلات الأسرى المفرج عنهم.

ونرى أن من حقنا الخشية من أن يكون ما انتزعه الرئيس الأميركي من الحكومة الإسرائيلية بيد، سيُعطى لها ويُزاد باليد الأُخرى. فإذا كان الضغط الأميركي ساهم في موافقة إسرائيل على مقترحات عمرها 9 أشهر، أو أكثر، فإننا لا نرى أي ضغط يمارَس لوقف ما تقوم به قوات الاحتلال في الضفة الغربية. بل بخلاف ذلك، يظهر الميل الصريح إلى إطلاق يدها في الاستيطان، وإخضاع أهل الضفة بالحديد والنار.

لقد سمحت الولايات المتحدة بالتطهير العرقي في غزة، وها هي تغضّ الطرف عنه في الضفة، ولعلنا أمام مواصلة حرب الإبادة بوسائل أُخرى، وفي أماكن أُخرى.

وأمام هذا كله، لم تقم الدول الغربية وسواها بجهود جادة ومؤثرة لوقف ما سمّته "محكمة العدل الدولية"، مخاطر الإبادة. لكن مهما يكن، فإنه لم يعد مستطاعاً، مثلما هي الحال في السابق، حجب الشعب الفلسطيني عن حقل رؤية العالم، كما أنه لم يعد ممكناً أن يُنظر إلى قضيته على أنها نزاع محلي يروق للحكام أن يتجاهلوه، أو يشيروا إليه في ترداد لازمة عقيمة عن حل الدولتين، لا تغير في الواقع شيئاً.

لم يعد الغزيّون وأهل الضفة مجرد أرقام كبيرة تدعو إلى استهجان البعض، ويحيط بها تشكيك البعض الآخر، بينما الإسرائيليون أشخاص لهم أسماء وصور وقصص وشهادات وخبرة معاناة. بل إن غزة باتت تروي قصة إبادتها بوضوح لا نظير له، مثلما جاء في عنوان اخترناه في مؤسسة الدراسات الفلسطينية لكتاب صدر منذ أشهر، [1] ويحتوي على قصص كُتبت خلال الحرب، وهي قصص لا نريدها أن تبقى حبيسة الجدران المهدمة وخيم النزوح، لأنها شهادات عن الألم وتحمّله، وعن الثبات والصمود، وكذلك عن الصبر على المحن والشجاعة الفائقة. وفيما يتعدى هذه الشهادات الشخصية، فإن المؤسسة عملت وتواصل العمل على توثيق مجريات حرب الإبادة من جميع جوانبها، في ميادين التعليم والصحة والثقافة والزراعة، وتوفر لهذا التوثيق مختلف طرائق الاتصال والمخاطبة، على أن تستجيب لضرورات إظهار الحقيقة، وتعلن تأكيدها لحقّ لا يموت. وهذا العمل التوثيقي بات في متناول المهتمين والمتابعين، كي يزوّدهم بقدرة أفضل على مواجهة كبيرة دُعينا إليها جميعاً، وهي مواجهة أخلاقية ومعرفية وقانونية وسياسية، لا في العالم الغربي حيث صار لفلسطين حضور غير مسبوق فحسب، بل في الوطن العربي أيضاً، حيث الناس في الأعمّ الأغلب معنيّون بدرجة كبيرة بالتضامن مع شعب فلسطين، وواعون لترابط المصائر بين شعوبهم وشعب فلسطين. ولا يخفى على أحد أن التمييز بين الشعوب في بعض الحالات وحكّامهم صار أكثر جلاء من الماضي، ولا سيما من حيث توجس القوى الحية في المجتمعات العربية من الصفقات الإبراهيمية المزعومة.

قد تكون المهمة الأصعب والأخطر، هي العمل على تحويل الرصيد المعنوي لفلسطين في الوطن العربي والعالم، إلى فعل سياسي. عسى أن يساهم منتدانا، وإن بصورة غير مباشرة، في تحقيق ذلك.

والسلام عليكم.

 

* أقيم هذا المنتدى في الدوحة – قطر في 25 كانون الثاني / يناير 2025، واستمر ثلاثة أيام.

 

[1] يُنظر: أكرم مسلّم وعبد الرحمن أبو شمالة (محرران)،"غزة تروي إبادتها: قصص وشهادات" (بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024)، 289 صفحة.

وقد صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية، وسيصدر قريباً باللغة الإنجليزية.

 

السيرة الشخصية: 

طارق متري: رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية.