أزقة مخيم جنين... احتضنتنا كحضن الأم لصغيرها
التاريخ: 
11/03/2025
المؤلف: 

يشهد مخيم جنين أحداثاً ذات وتيرة متصاعدة تكاد لا تتوقف، سواء في حرب غزة أو قبلها أو حتى بعد الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وقد تجلّت تلك الأمور بوضوح، ولا سيما بعد قيام قوات الاحتلال بالعدوان العسكري الإسرائيلي الذي نفذته في 21/1/2025، إذ أطبقت حصارها بالكامل على المخيم، وهو ما اضطر الأهالي إلى مغادرته قسراً، ونجح قسم من الأهالي في الخروج منه تحت وطأة الرصاص الحي الذي استهدف السكان في أثناء محاولتهم الخروج، بينما ارتقى في الساعات الأولى من العدوان 9 شهداء من الأهالي في أثناء محاولة خروجهم من المخيم برفقة عائلاتهم، ناهيك بإصابة العشرات من المواطنين.

كما خرج قسم آخر من الأهالي في اليوم التالي سيراً على الأقدام من عمق المخيم في اتجاه المدخل الغربي له (دوار العودة)، حيث واجه الناس صعوبة بالغة وخطورة شديدة في عملية النزوح، وبعد المشي لمئات الأمتار، كانت أرتال من الآليات العسكرية في انتظارهم رفقة جنود المشاة الذين تمركزوا أمام سكان المخيم.

وقد قام الجيش فور وصولهم إلى المدخل الغربي بتقسيم الناس إلى 5 أفراد؛ كل 5 أشخاص على حِدة: قسم يتقدم بضعة أمتار في اتجاه الجنود ويتم تصويره عبر طائرات درون مسيّرة، وآخر يتم اعتقاله، ومَن لم يتم اعتقاله يكمل النزوح سيراً على الأقدام.

ولم تتوقف اللحظات العصيبة للسكان عند هذا الحد، فقد خرج الناس فقط بالملابس التي كانوا يرتدونها، وأكملوا النزوح سيراً على الأقدام، تاركين وراءهم منازلهم وذكرياتهم وكل ما يملكون، وبعد الخروج من المخيم، وجدوا أنفسهم إمّا في كونتينرات حديدية، وإمّا في منازل أناس غير معروفين لديهم سابقاً، وإمّا في مراكز إيواء عددها محدود.

وقد أصبح ما يقارب 15,000 نسمة بلا مأوى أو سكن، تاركين وراءهم كل ما يملكون في أوضاع أقل ما يقال عنها إنها مؤلمة، فخرجوا والدموع تغمر أعينهم، والآن يعيشون أوضاعاً إنسانية قاهرة، إذ إن البرد يأكل من أجسام الأطفال والنساء والشيوخ.

ويتحدث عماد عمّا شاهده من أوضاع النزوح قائلاً: "إحنا أهل مخيم جنين عزيزين نفس، لوين وصل فينا الحال، مبارح عيوني دمّعوا لما شفت ختيارة إجت لعندي والدموع بعيونها وبتحكيلي ما في عندي حرامات يا ستي متت من البرد، وفي كمان ختيار طلّعوه الجيش من بيتو، وإجا لعنا عمكان السكن ما معو حرامات وصوبة، ورغم هيك اضطر أحد النازحين معنا يعطيه الصوبة الي بتْدفى عليها هو وعيلتو، آثر الختيار على نفسو وعيلتو، الحلو عنا شباب المخيم كلها لبعض بتساعد بعض، أغلب المساعدات كلها بشكل شخصي وجمعيات قدمت بشكل خجول، مش عارفين لوين رايحة فينا الأمور."

وفي السياق نفسه، صدَر في 2 شباط/فبراير 2025 تصريح لرولاند فردريك، مدير شؤون الأونروا في الضفة الغربية، يقول فيه: في جزء من الثانية اليوم، وفي سلسلة من التفجيرات التي نفذتها القوات الإسرائيلية، تم تدمير مساحات كبيرة من مخيم جنين بالكامل. لقد تحمّل سكان المخيم المستحيل، فواجهوا ما يقارب شهرين من العنف المتواصل والمتصاعد في الأشهُر الأخيرة، كما تحوّل مخيم جنين إلى مدينة أشباح. وأدت العمليات التي نفذتها القوات الإسرائيلية وقوات الأمن الفلسطينية إلى النزوح القسري لآلاف سكان المخيم، ولن يكون لدى العديد منهم الآن مكان يعودون إليه. إن أبسط مقومات الحياة لم تعد موجودة، ففي يوم كان من المفترض أن يمثّل بداية الفصل الدراسي الجديد لآلاف الأطفال، لا تزال 13 مدرسة في شمال الضفة الغربية مغلقة، أيضاً، لم تتمكن الأونروا من تقديم خدماتها داخل مخيم جنين منذ شهرين، والمشاهد المروعة اليوم في الضفة الغربية تقوّض وقف إطلاق النار الهش الذي تم التوصل إليه في غزة، الأمر الذي يعرض تصعيداً جديداً للخطر. بالإضافة إلى ذلك، فلم تتلقَ الأونروا أي تحذير مسبق بشأن الانفجارات، إذ إن الاتصال لم يعد مسموحاً بين الموظفين والسلطات الإسرائيلية، وهو ما يعرّض حياة المدنيين للخطر.

وما زال السكان يواجهون الصعوبات البليغة، ولا توجد أي استراتيجيا حقيقية وفاعلة حتى الآن من أجل استيعاب موضوع النازحين، سواء أكان ذلك من الجهات الرسمية أم غير الرسمية، كما يعاني الناس جرّاء نقص في متطلبات الحياة الأساسية، من غذاء وأدوية وما شابه ذلك، وإن كان هناك بعض المبادرات الشبابية التي قدّمت العون بصورة خجولة على قدر استطاعتها.

ومن الأمور الصعبة التي يعيشها سكان المخيم في الوقت الحالي، تبرز مشكلات عديدة: مشكلة فرص العمل المعدومة، وشلل الحياة التعليمية، وانعدام فرص العمل والحياة الاقتصادية، ومشكلة استئجار المنازل، والتكاليف الباهظة التي تُفرض عليهم، ولا سيما أن سكان المخيم يعيشون أوضاعاً كارثية منذ حرب غزة، وتحديداً منذ نحو شهرين.

فهُم يواجهون أوضاعاً إنسانية قاهرة؛ إذ لا يستطيعون دفع إيجارات البيوت، ولا حتى دفع فواتير المياه أو الكهرباء، والناس يشتكون ارتفاع أسعار الشقق المعروضة للإيجار.

واللافت هذه الأيام أن العدوان الإسرائيلي بلا سقف زمني، إذ حاول الأهالي قبل أيام قليلة الدخول بعد تنسيق تم عبر الارتباط المدني الفلسطيني، وفور سماع الأهالي الخبر، تجمهر آلاف السكان على المدخل الشرقي حيث المكان المسموح بالتنسيق، وما كان من جنود الاحتلال إلاّ أن قاموا بطردهم مرة أُخرى، وجعلهم نازحين مجدداً.

تشتَت النازحون مرة أُخرى تحت تهديد السلاح، أمّا جنود الاحتلال فهُم مَن عادوا إلى عمق المخيم مجدداً. والمخيف في هذا العدوان هو شق الطرق على أنقاض المنازل والأزقة، وقيام قوات الاحتلال بوضع نقاط ارتكاز عسكرية على الجهة الجنوبية لمخيم جنين، فَهُمْ يريدون محو الأزقة والمنازل، ويحاولون إخراج مخيم جنين من الجغرافيا، لكن مهما يحاولون، فإن المخيم بالتأكيد لن يخرج من الجغرافيا ولا من التاريخ.

وفي نهاية المطاف، يقول أهالي المخيم طفلاً وشيخاً: "اتركوها لنا ضيقة كما هي، فهذه الأزقة احتضنتنا كحضن الأم لصغيرها، وتحمّلتنا بكل مآسينا وأوجاعنا، اتركوها لنا كما هي ضيقة تسعنا جميعاً، فوالله ضاقت علينا الأرض بما رحبت، ووسعتنا تلك المنازل والأزقة الضيقة. جميل ذلك المخيم في أعيننا على الرغم من تآمر الجميع عليه، وتلك المنازل والأزقة الضيقة مملوءة بالحب والكرامة والشموخ."

عن المؤلف: 

أحمد حواشين: باحث ميداني من مخيم جنين.