قلب الضفة.. استيطان ينبض بالخراب
التاريخ: 
05/03/2025
المؤلف: 

"إنها تدق في رأسي وقلبي، لا في الأرض."[1] بهذه الكلمات قبل ثلاثة أعوام وصف لي المزارع عبد الرحمن الديك، من بلدة كفر الديك غربي سلفيت، مشهد الجرافات الإسرائيلية وهي تجرف أرض بلدته وتسويها لبناء وحدات استيطانية، بينما يشعر المزارع شاكر فتاش من مدينة سلفيت بحنين دائم إلى زيتونه المزروع قبل أن تنشأ آرائيل، التي ستقضم الأرض وتحيطها بالأسلاك الشائكة وببوابة حديدية تفتح مرتين لساعات قليلة في العام الواحد، وهي لحظات يصفها فتاش قائلاً: "لا تكفي لأقول لِـ 180 شجرة زيتون: مرحباً"،[2] بينما ينظر عبد المالك تيسير بصورة شبه يومية خلال تنقله من قرية اللبن الشرقية جنوبي نابلس إلى عمله في مدينة رام الله، عبر نافذة سيارة الأجرة، إلى مئات أشجار الزيتون التي تملكها عائلته، والتي تشكل واجهة جبل كاملة وراء محطة مستعمرة "عيلي" على الطريق الواصل بين نابلس ورام الله، ويرى حَبّ الزيتون بعينه من دون أن يتمكن من قطفه. قبل عدة أعوام، كانوا ينتقلون من حَبَلَة إلى حَبلة " أي من قطعة أرض إلى أخرى" كـ "هبوب الريح" في وصفه لقطاف ما يمكن قطفه خلال الأيام المعدودات التي يُسمح فيها لهم بالوصول إلى الأرض، بينما بقيت أجزاء كبيرة من سهلَي سنجل و"ترمسعيا" الصيف الماضي من دون زراعة، وغاب باعة الفقوس الذين كانوا يفترشون جنبات الطريق طوال شهرَيْ حزيران/يونيو وتموز/يوليو، من أجل عرض منتوجاتهم الزراعية، بعد أن مُنعوا من الوصول إلى الأرض، أو استخدام مداخل بلداتهم لتسويق زرعهم.

وهذا من الأحداث الصغيرة لجزء صغير من مشهد الأرض وسط الضفة وحاله، حيث أخذت فيها المستعمرات الإسرائيلية تترابط على شكل تكتلات استيطانية كبيرة، بواسطة بناء بؤر استيطانية، زراعية ورعوية وسكنية، في الجبال والتلال التي تفصل تلك المستعمرات بعضها عن بعض، كما أن شق الطرق لا يتوقف، من أجل توفير بنى تحتية جاذبة للمستوطنين إلى تلك المستعمرات، بينما تُشاهد الكتل الأسمنتية والبوابات الحديدية والمتاريس الترابية وهي تغلق مداخل البلدات والقرى الفلسطينية، وحتى الطرق الفرعية الوعرة.

وأبرز ما في هذا المشهد هو "منع الوصول"، وهو الانتهاك الأقل حضوراً في الصحافة، نظراً إلى ما تشكله انتهاكات أُخرى من صورة حية ومباشرة، بينما يمر منع الوصول – أو عدم القدرة على الوصول - أو "الإجبار على مغادرة الأرض" مروراً عابراً في الإحصاءات أو تناوُل مخاطر وأضرار الاستيطان، على الرغم من أهميته، فتكاد لا تخلو منه قرية أو بلدة أو مدينة في الضفة، وخصوصاً المناطق "ج" التي تشهد في الآونة الأخيرة تزايداً هائلاً في حجم الهجمة الاستيطانية، فهذه الهجمة لم تكن وليدة 7 تشرين الأول/أكتوبر، إنما تضاعفت منذ تلك اللحظة المفصلية في تاريخ القضية من جهة التغول الاستيطاني في الأرض الفلسطينية، تزامناً مع قتل وإعدامات وهدم بيوت ومنشآت، واعتقالات وإبعادات، وتخريب بنىً تحتية وتجريفات، واقتلاع مزروعات وأملاك، ونزوح قسري لعشرات الآلاف في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس والفارعة، في سلسلة متصلة من تكثيف الاحتلال لحربه على الضفة الغربية، وخصوصاً في الشمال.

وقد شهدت سنة 2024 أكبر عملية استيلاء تحت مسمى "أراضي الدولة" منذ أعوام طويلة تصل إلى ثلاثة عقود، فقد بلغت المساحات التي استولى عليها الاحتلال تحت هذا المسمى ما يقدّر بِـ 24,579  دونماً،[3] في ظل حكومة احتلالية تُعد "الأشد يمينية وتطرفاً وفاشية، وقد رفعت، منذ اللحظة الأولى [...] عنواناً وحيداً وهو الاستيطان بلا توقف والسيطرة بلا رقابة، فقد اندفعت وإزاء ذلك، وبلا كوابح نحو محاولات العبث بالجغرافيا الفلسطينية، لتصادر خلال العام 2024 ما مجموعه 46597 دونماً تحت مسميات مختلفة (إعلان محميات طبيعية، أوامر استملاك، أوامر وضع يد، إعلانات أراضي الدولة)، مقسمة كالتالي، 20 ألف دونم تم مصادرتها من خلال 6 أوامر تعديل حدود محميات طبيعة. و803 دونماً من خلال 5 أوامر استملاك، و1073 دونماً من خلال 35 أمر وضع يد لأغراض عسكرية ترتب عليها إنشاء 12 منطقة عازلة حول المستعمرات ومجموعة من المواقع والأسيجة والطرق الأمنية والعسكرية، و24597 دونماً تم إعلانها كأراضي دولة."[4] بينما بلغ عدد الشهداء برصاص المستعمرين في الضفة خلال سنة 2024 10 شهداء، 7 منهم من محافظتَي نابلس ورام الله. كما أنه "في عام 2023 الذي تزامن موسم الزيتون فيه مع بدء العدوان على قطاع غزة، لم يتمكن المزارعون من قطف نحو 60 ألف دونم خلف جدار الفصل والتوسع العنصري وفي محيط المستعمرات، ما شكّل خسارة بنحو 10% من كامل الإنتاج، ومع تصاعد إجراءات الاحتلال وهجمات المستعمرين، تتوقع وزارة الزراعة عدم تمكن المزارعين من الوصول إلى 80 ألف دونم من المساحة المزروعة بالزيتون، ما قد يترتب عليه فقدان نحو 15% من الإنتاج."[5]

إن المنطقة الواصلة بين شمال رام الله وجنوب نابلس وغرب وشرق سلفيت، ساحة حراك استيطاني لا تهدأ منذ أواسط ونهايات السبعينيات، فما إن يبدأ موسم زراعي، حتى يتحول أولئك الفلاحون البسطاء، كبار السن في معظمهم، إلى "مطلوبين" يطارَدون في محيط أراضيهم، يطلَق عليهم الرصاص وتخرَب أملاكهم الزراعية كي لا يعودوا، لكنهم يعودون في كل مرة، وينتظرون ساعات طويلة أمام البوابات الحديدية والأسلاك الشائكة التي تسجن أرضهم، وهم يعتبرون كل ضربة فأس في الأرض حرية للتربة وفك قيد عن شجرة.

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، تَسَارَعَ ما يُسمى بـ "فرض الوقائع" عبر ضم الأراضي التي لا يستطيع أصحابها الوصول إليها منذ نهايات السبعينيات والثمانينيات، كما تَسَارَعَ تهجير التجمعات البدوية شرق رام الله، وتشكيل تكتل شيلو كرابط بين مستعمرات شمال رام الله وجنوب نابلس، ومنع التواصل الجغرافي الفلسطيني في هذه المنطقة، وضخ عدد كبير من الاستثمارات في هذه البؤر من أجل جذب المستوطنين عبر حوافز: كالقروض المخفضة، والضرائب المخفضة، وأسعار الوحدات السكنية المخفضة، وتوفير بنية تحتية جاذبة. فالجدار الذي بدأ الاحتلال في إنشائه سيعزل في محيط سنجل أكثر من "خمسة آلاف دونم"[6] زراعي تابع للبلدة، كما أن المخطط يشمل بلدة ترمسعيا المجاورة، وسيبتلع بدوره آلاف الدونمات من سهلها الزراعي.

ومنذ سنة 1967، يمنع المستعمرون أصحاب 489,000 دونم في الضفة من الوصول إليها، منها أكثر من 100 دونم منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.[7]

إن المار بين مدينتَي نابلس ورام الله وقرى وبلدات سلفيت سيرى أن مشهد الأرض يختلف يوماً بعد يوم، إذ تنهض بؤر زراعية ورعوية في جبال لا يستطيع أصحاب الأرض فيها الوصول إليها، وتربط طرق ترابية هذه البؤر بالمستعمرات القريبة، كما يحدث هذه الأيام في محيط مستعمرتَي شيلو شمالي رام الله، و"عيلي" جنوبي نابلس، ومعسكر الجيش الإسرائيلي الملاصق لهما، فقد جرى منذ أشهُر قليلة "ضم بؤرة ’عميحاي‘ إلى مستعمرة ’شيلو‘، بينما ضُمت بؤرة أُخرى حديثة إلى مستعمرة ’عيلي‘، فقد وصل عدد البؤر في هذه المنطقة إلى 15 بؤرة استيطانية، أغلبيتها بؤر زراعية رعوية"،[8] وقد امتدت مزارع العنب بتوسع هائل في السنوات والأشهُر الأخيرة على أراضي سنجل، والتي يذهب منتوجها إلى معاصر النبيذ في مستعمرة شيلو، وزرِعت حقول جديدة من العنب والزيتون على طريق نابلس ورام الله على أراضي اللبن الشرقية وقريوت.

ويستمر شق الطرق الاستيطانية والبناء في مستعمرة غرب آرائيل المولودة من المستعمرة الأم آرائيل في محافظة سلفيت، وفي المستعمرات الجاثمة على أراضي كفر الديك ودير استيا وقراوة بني حسان غربي سلفيت؛ هذه المستوطنات التي في الأغلب تبدأ ببضع بيوت متنقلة (كرفانات) لتمتد مع الأعوام إلى مساحة مدينة، أو تكتلٍ استيطاني ضخم، عازلة ليس فقط التجمعات السكانية الفلسطينية بعضها عن البعض الآخر، بل أيضاً المواطن في قريته عن أرضه، والتي في الأغلب تبعد عن بيته عشرات الأمتار، وأبعدها مئات الأمتار. وبالإضافة إلى خسارة العشرات من المواقع الأثرية والتاريخية والأديرة وينابيع المياه، كتل سيلون التابع لقرية قريوت جنوبي نابلس، والذي أصبح جزءاً من مستعمرة شيلو، ودير سمعان التابع لبلدة كفر الديك لمصلحة مستعمرة ليشم، وخربة قرقش التابعة لقرية بروقين لمصلحة آرائيل وبروخين، ودير قلعة التابع لبلدة دير بلوط غربي سلفيت لمصلحة بدوئيل وليشم، تمتد مقبرة مستعمرة عيلي على أراضي اللبن الشرقية، بدلاً من كروم العنب واللوزيات التي كانت قائمة حتى سنة 1984. وعلى مختلف الأماكن المخصصة للوقوف والانتظار، والمسماة بالعبرية "تحناه" على مداخل المستعمرات أو المفارق الموصِلة إليها، تُلاحَظ دائماً حجارة مهيئة لرشق المركبات العربية المارة، وفي أغلب الشوارع الرئيسية في الضفة يافطات إعلانات تسويقية لوحدات استيطانية ومنتوجات زراعية، كما تُنبِه إعلانات إلى وجود ممشى طبيعي في المنطقة.

إن الأخبار بصورة شبه يومية، ومخططات بناء وحدات استيطانية، والتجريف، والاستيلاء، ووضع اليد، وغيرها من صيغ التحرير الصحافية، كلها أمور تؤدي في محصلتها النهائية إلى خسران المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتبدو هذه المخططات الاستعمارية جلية في حدود أكثر من 80 قرية وبلدة في جنوب وشرق نابلس وشمال وشرق رام الله ومحافظة سلفيت، وهي وسط الضفة النابض بخراب المستعمرين. ومعظم هذه القرى والبلدات لا يتمكن أهلها حتى من المشي والتنزه في برّيتها، فتكاد لا توجد مستعمرة لم تزحف أكثر تجاه ما لم تنهشه سابقاً، وإن لم توضع اليد على أراضٍ كثيرة في الأطراف والمناطق البعيدة قليلاً عن التجمعات السكانية، فإن أبراج المراقبة العسكرية وأمن المستوطنات والحراس يراقبون عن كثب أي تحرك على الأرض، وبلا تردد يفتحون النار، بينما تُفتتح للمستعمرين مسارات تجوال من أجل السير على الأقدام أو عبر الدراجات العادية والرباعية، كما هو الحال في منطقة واد قانا الجاثمة على أراضي عدة قرى وبلدات في قلقيلية وسلفيت، وخصوصاً دير استيا.

"ومنذ مطلع العام 2024، تمت دراسة ما مجموعه 111 مخططاً هيكلياً (مصادقة وإيداع) لصالح مستعمرات الضفة"، وكان نصيب القدس منها 21 مخططاً هيكلياً و"تأتي بالدرجة الثانية من حيث عدد المخططات محافظة سلفيت بِـ 18 مخططاً هيكلياً"،[9] بهدف بناء مستعمرات جديدة أو تحويل بؤر إلى مستعمرات، وبناء وحدات استيطانية مكثفة في عدة مستعمرات وعزل التجمعات السكانية الفلسطينية.

كما شهدت سنة 2024 اتساعاً لافتاً في إنشاء البؤر الزراعية الرعوية، بواقع 51 بؤرة جديدة، بينما شهدت سنة 2023 إنشاء 18 بؤرة، وسنة 2022 12 بؤرة، وفي المجمل يوجد اليوم في الضفة والقدس 256 بؤرة استيطانية، منها 136 بؤرة زراعية، و180 مستعمرة، يستوطنها أكثر من 770,420 مستعمِر.[10]

 

المراجع:

* مقابلة شخصية مع المزارع عبد الرحمن الديك.

* مقابلة هاتفية مع المزارع شاكر فتاش.

* "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان"، التقرير السنوي 2024. ص12.

* صدقة، جعفر. "الزيتون 2024 .. موسم وفير تتهدده إجراءات الاحتلال وهجمات المستعمرين". وكالة "وفا". 14/9/2024.

* غفري، محمد. "الاحتلال يبدأ إجراءات عزل سنجل بجدار إسمنتي لخدمة المستوطنين". "ألترا فلسطين". 7/3/2024.

* مقابلة هاتفية مع أمير داود في 19/2/2024.

 

[1] مقابلة شخصية مع المزارع عبد الرحمن الديك.

[2] مقابلة هاتفية مع المزارع شاكر فتاش.

[3] التقرير السنوي 2024: "ملخص لأبرز انتهاكات جيش الاحتلال والمستعمرين في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال العام 2024"، هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، ص12.

[4] المصدر السابق نفسه.

[5] جعفر صدقة، "الزيتون 2024 .. موسم وفير تتهدده إجراءات الاحتلال وهجمات المستعمرين"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 14/9/2024.

[6] محمد غفري، "الاحتلال يبدأ إجراءات عزل سنجل بجدار اسمنتي لخدمة المستوطنين"، "ألترا فلسطين"، 7/3/2024.

[7] أمير داود، مقابلة هاتفية، 19/2/2024.

[8] أمير داود، المصدر نفسه.

[9] هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، مصدر سبق ذكره، ص31-34-35.

[10] المصدر نفسه، ص9.

عن المؤلف: 

يامن نوباني: باحث وصحافي فلسطيني، وطالب ماجستير "دراسات ثقافية نقدية" في جامعة بيرزيت.