الهويّة والتجنيد في المجتمع الدرزي: بين التلاعب الإسرائيلي والصحوة الوطنيّة
التاريخ: 
20/02/2025

تبنّت إسرائيل، منذ نشأتها، سياسات تقوم على تفتيت المجتمعات الأصلية وإعادة هندستها بما يخدم مشروعها الاستيطاني، مستخدمة استراتيجيات متعددة لتفكيك الهويات الجماعية وتقويض تماسكها الداخلي. وقد كانت الأقلية الدرزية إحدى الفئات التي استهدفتها هذه السياسات، حيث سعت إسرائيل لإخراج الدروز من النسيج الوطني الفلسطيني عبر فرض تجنيدهم الإجباري في الجيش الإسرائيلي، وعزلهم عن امتدادهم العربي، وإعادة تعريفهم كطائفة منفصلة ذات "هوية خاصة"، وهو ما يشكّل أحد أكثر تطبيقات سياسة "فرّق تسُد" وضوحاً في التاريخ الفلسطيني المعاصر.

قبل سنة 1948، لم يكن هناك إشكال في انتماء الدروز إلى هويتهم العربية الفلسطينية، ولم يكن هناك أي نوع من الانفصال الثقافي أو السياسي بينهم وبين سائر أبناء شعبهم، فقد كانوا جزءاً فعالاً في الحركة الوطنية الفلسطينية، وانخرطوا في مقاومة الاحتلال البريطاني إلى جانب بقية المسلمين والمسيحيين، من دون أن يكون للمذهب أي دور في عزلهم أو تمييزهم عن غيرهم. ولم تكن "الهوية الدرزية" في ذلك الوقت إلاّ تعبيراً عن خصوصية دينية، شأنها شأن باقي الطوائف في النسيج الفلسطيني الواسع. لكن نكبة 1948، وما تبعها من تأسيس الكيان الصهيوني، جاءت بسياسات ممنهجة استهدفت تمزيق هذا الارتباط التاريخي، لتستخدم الدروز كورقة ضمن سياساتها التوسعية.

وقد كان فرض التجنيد الإجباري على الشبان الدروز إحدى أبرز هذه السياسات سنة 1957، في خطوة لم تشمل باقي الفلسطينيين في الداخل، وهو ما يعكس محاولة واضحة لتحويل الدروز إلى "أقلية موالية"، يتم توظيفها ضد أبناء شعبها. ولم يكن التجنيد مجرد أداة عسكرية فحسب، بل أيضاً أُرفِق بحزمة من الإجراءات القانونية والإدارية التي هدفت إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي لدى الدروز، كتغيير بند القومية في بطاقات الهوية من "عربي" إلى "درزي"، وإنشاء مجالس محلية منفصلة، وإدخال مناهج تعليمية خاصة لا تمتّ للهوية العربية الفلسطينية بصلة. ولم يكن هدف هذه السياسات تعزيز حقوق الدروز أو الاعتراف بخصوصيتهم، إنما العكس، فإنها كانت تهدف إلى إنشاء قطيعة بينهم وبين مجتمعهم الفلسطيني، عبر صناعة هوية مصطنعة تكون موالية للمؤسسة الصهيونية.

لكن على الرغم من هذه الجهود، فقد ظل هناك تيار مقاوم داخل المجتمع الدرزي يرفض هذه السياسات ويفضح زيف الادعاء الإسرائيلي وجود "هوية درزية منفصلة"، إذ واجهت المؤسسة الإسرائيلية، منذ البداية رفضاً واسعاً للتجنيد الإجباري، وظهرت شخصيات وقيادات دينية واجتماعية ناهضت هذا المشروع. وفي سبعينيات القرن الماضي، تأسست لجنة المبادرة العربية الدرزية، التي عملت على فضح التجنيد الإجباري، والتأكيد على الهوية العربية للدروز، ورفض أي محاولة لتوظيفهم في المشروع الصهيوني. كما بدأت تتزايد حالات الرفض الفردية للتجنيد، سواء أكان ذلك لأسباب وطنية أم بسبب تنامي الشعور بالتمييز والعنصرية داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إذ أدرك العديد من الشباب الدروز أنهم يُستخدمون كأداة، من دون أن تقدّم إليهم الدولة أي حقوق متساوية مع اليهود.

وقد كشفت التحولات السياسية الأخيرة بصورة أكبر فشل المخطط الإسرائيلي في احتواء الدروز، إذ تشير الإحصاءات إلى تراجع نسب التجنيد بين الشباب الدروز، على الرغم من المحاولات المستمرة للجيش الإسرائيلي لتجميل الصورة. ففي الوقت الذي تروج فيه المؤسسة العسكرية أن نسبة التجنيد تتجاوز 80%، تشير دراسات ميدانية إلى أن النسبة الحقيقية لا تتجاوز 50%، الأمر الذي يعكس تنامي الوعي بين الشباب بأن التجنيد ليس سوى فخ لربط مصيرهم بمصير المشروع الصهيوني.

وإلى جانب التراجع في نسبة التجنيد، شهد العقد الأخير عودة ملحوظة للهوية العربية في الوعي الدرزي، إذ بدأت الأصوات تتعالى رفضاً للتمييز الإسرائيلي، وساءت العلاقة بين الدروز والمؤسسة الإسرائيلية، وخصوصاً بعد قانون "يهودية الدولة" الذي أكد لهم أن إسرائيل لا تراهم إلاّ بمثابة أدوات لخدمة مشروعها الاستيطاني. كما أدت التطورات الإقليمية، وخصوصاً الحرب في سورية، دوراً في تعزيز هذا الوعي، فقد وجد الدروز في فلسطين أنفسهم أمام مفترق طرق بين ارتباطهم التاريخي والعروبي بإخوانهم في جبل العرب والجولان، وبين السياسات الإسرائيلية التي تمنعهم من هذا التواصل الطبيعي.

وكان من أبرز المظاهر التي عكست هذا التغير الجذري في الوعي، ظهور حراكات شبابية كـ "اُرفض، شعبك بيحميك"، فقد أعاد هذا الحراك، الذي تقوده أصوات شابة، فتح النقاش بشأن التجنيد الإجباري، وكسر حاجز الخوف، كما قدّم دعماً عملياً إلى الرافضين، قانونياً وإعلامياً، وهو ما ساهم في زعزعة السردية الإسرائيلية بشأن "الولاء الدرزي".

لم تكن السياسات الإسرائيلية تجاه الدروز سوى امتداد لنهجها العام في تفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل، وإعادة تشكيله بما يخدم استراتيجيتها الاستعمارية. فمنذ النكبة، حاولت إسرائيل استخدام الأقليات كورقة في لعبة السيطرة، سواء أكان ذلك عبر تشجيع التجنيد، أم استهداف المسيحيين بمشاريع مماثلة، أم عبر إغراق المجتمع العربي بالمخدرات والجريمة المنظمة لشل حراكه السياسي. لكن كما فشلت في طمس الهوية الفلسطينية لدى الفلسطينيين في أراضي 1948، فإنها تجد نفسها اليوم في مأزق جديد مع الدروز، الذين باتوا أكثر وعياً بتلاعبها، وأكثر استعداداً للتمرد على الدور الذي حاولت فرضه عليهم.

وفي ظل هذه التحولات، يصبح السؤال المركزي: "هل نحن أمام بداية تحوّل استراتيجي في علاقة الدروز بإسرائيل؟ وهل سنشهد في العقود القادمة موجة رفض جماعي للتجنيد الإجباري على غرار ما حدث في الجولان السوري المحتل؟" ما هو واضح أن جيل الشباب الدرزي اليوم لم يعد مستعداً لتقبّل الدور الذي صُمم له قسراً، وهو يعيد التفكير في موقعه داخل نضال الشعب الفلسطيني، بعيداً عن السردية الإسرائيلية التي حاولت احتواءه لعقود.

إن الأعوام القادمة ستكون حاسمة في تحديد المسار، لكن المؤشرات الحالية تطرح احتمالاً قوياً بأن سياسة "فرّق تسُد" الإسرائيلية بدأت تفقد فاعليتها أمام صحوة وطنية متزايدة، تتجاوز الخطوط الطائفية المصطنعة، وتعيد الدروز إلى امتدادهم الطبيعي في المشهد العربي والفلسطيني.

 

* مقال تلخيصي عن دراسة أجراها خالد فرّاج.

عن المؤلف: 

"أرفض، شعبك بيحميك": حراك شبابي لرفض التجنيد الاجباري المفروض على الشبان الفلسطينيين الدروز.