طبول الحرب لم تصمت بعد
التاريخ: 
29/01/2025
المؤلف: 

مع مضي أكثر من 7 أيام على دخول الهدنة في قطاع غزة حيز التنفيذ، وإتمام جولتَي تبادُل أسرى بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ومع حالة الاستقرار والهدوء التي أرستها الهدنة، ولقطات تسليم الأسرى الإسرائيليين التي أكدت استمرار وجود المقاومة الفلسطينية على أرضها، بينما اعتُبر عجزاً إسرائيلياً عن تحقيق جميع أهداف الحرب، تعود جملة من الأولويات لتطفو على السطح وتفرض نفسها على الحيز الفلسطيني السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بعضها مرتبط بنتائج 471 يوماً من الإبادة والتطهير العرقي والتهجير، والبعض الآخر مرتبط بمستقبل الهدنة وآفاق استمرارها أو انحسارها، وجميعها في حاجة إلى اجتراح حلول خارج ما هو تقليدي ومستخدَم، وأكبر من الحيز الاعتيادي.

ما بعد الإبادة

على صعيد نتائج الحرب والإبادة على الجيل الجديد، هناك اليوم قرابة 38,000 طفل فقدوا أحد والديهم في الحرب، بينما فقد 1918 طفلاً كلَي أبويه،[1]  كما تركت الحرب آثارها في أجسادهم، فتجاوز عدد الجرحى من الأطفال حتى بداية السنة الحالية أكثر من 25,000 طفل.[2]

وهو ما دفع ليزا دوتن، المسؤولة في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، إلى التصريح بأن غزة اليوم أصبحت "موطناً لأكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث"، معززةً ذلك بتصريحات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" التي أكدت أن 10 أطفال فلسطينيين يفقدون يومياً إحدى الساقين أو كليهما تحت وطأة الإبادة، ولا يقتصر النزيف على الأطفال والجيل الجديد فقط، بل أيضاً يمتد إلى صفوف النساء الفلسطينيات اللواتي تركت الحرب آثارها عميقاً في أدوارهن الاجتماعية والاقتصادية نتيجة عمليات التهجير المتكرر وفقدان السكن والعمل، ونتيجة فقد 13,900 منهن لزوجها في الحرب.[3]

أرقام الحرب وتداعياتها التي تتعاظم باستمرار الوضع القائم تمتد إلى الجرحى الذين تركت الحرب آثارها فيهم موقعةً بهم إصابات غيرت وجه حياتهم إلى الأبد، ومن هذه الفئة هناك أكثر من 22,000 شخص، بينهم 4000 حالة بتر لأطراف أو فقدان لأعضاء.[4]

ومن البشر إلى الحجر والشجر، لم تدخر آلة الإبادة جهداً في التجريف والتدمير، في محاولة لتدفيع الوعي الفلسطيني ثمن سعيه نحو الحرية، فحتى نهاية كانون الأول/ديسمبر من السنة المنصرمة، وثّق مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية تدمير أكثر من 170,815 مبنى في القطاع، بواقع يتجاوز الـ 69% من مبانيه وعمرانه، وهو ما يعني أن أكثر من 1.9 مليون شخص يحتاجون حالياً إلى مأوى، بينما أحصت "اليونيسيف" تضرُر ما لا يقل عن 496 مدرسة، أي ما يوازي 88% من مدارس القطاع، وخسارة أكثر من 910 فلسطينيين من الكوادر الأكاديمية والتعليمية.[5]

شملت الإبادة أيضاً القطاع الزراعي الفلسطيني، فوفقاً لتقرير نشره مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التجارة والتنمية، فإن 68% من الأراضي الزراعية في القطاع تضررت بفعل الحرب، بينما دمر الاحتلال ما نسبته 80 - 96% من الأنظمة الزراعية والحيوانية حتى نهاية سنة 2024.[6]

هذه الأرقام التي تعكس عودة مستويات التنمية في القطاع إلى الخمسينيات من القرن الماضي لم تستقر حتى الآن، وذلك نتيجة استمرار غياب منظومة حكومية أو أممية ممنهجة ومتكاملة قادرة على التدقيق والإحصاء، ونتيجة حجم الأضرار المهول والمتشعب في مختلف أنماط الحياة، وهي ما يثبت في الوقت نفسه أن الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار، وأن آثارها ستمتد طويلاً، وربما لعقود بالنسبة إلى الفلسطينيين في قطاع غزة.

فقد قدرت الأمم المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر المنصرم حجم الركام الناتج من قصف الاحتلال وتدميره بأكثر من 42 مليون طن، وهو ما يجعل جهد إزالته مكلفاً زمنياً ومادياً، مقدّرة تكلفة إزالته بقرابة 1.2 مليار دولار، بينما يستغرق الانتهاء من إزالته قرابة 14 عاماً، وهذا يضاف إلى التكلفة الأساسية لإعادة الإعمار، والتي قدّرتها المنظمة الأممية في مطلع أيار/مايو المنصرم بحدود 30 - 40 مليار دولار.[7]

كما تثبت الأرقام ذاتها الحاجة الملحة إلى مساهمة عربية ودولية شاملة ترفع عن الفلسطينيين ركام 15 شهراً من النار والرصاص والقذائف، تتجاوز في مضمونها المساعدات المنقذة للحياة من قبيل المواد الغذائية والأدوية والملابس، إلى المعونة الباعثة على الاستقرار من قبيل إعمار المنازل والمدارس والجامعات والمستشفيات وتعبيد الطرق واستصلاح الأراضي الزراعية، بما يعين الناس على البقاء ويعزز من صمودهم.

وعلى الصعيد نفسه، تمثل هذه الأرقام عنصر ضغط كبيراً على منظومة المقاومة والسيطرة في قطاع غزة، والتي على الرغم من جهودها الأولية وبياناتها المتواترة للسكان لتنظيم شؤون الحياة وحركة النازحين بين مناطق القطاع، ونشْرها عناصر الشرطة المدنية في مختلف الأنحاء لبث مشاعر الاستقرار والأمان، وملاحقة قطّاع الطرق والمتلاعبين بالأسعار، وتوجيه السكان إلى الابتعاد عن الأجسام الخطِرة والمشبوهة، فإن أعباء الميدان أكبر من قدرتها.

وهذا يتطلب من جميع الأطراف الفلسطينية السعي لإخراج بند إعادة الإعمار من أي جدالات سياسية، وتركيزه في سياق انتزاع الحقوق والمطالب من الاحتلال، فمع هذا الكم من الحاجات، يغدو تعمير القطاع وإعادة بنائه معركة اقتصادية وسياسية لا تقل أهمية عن ميادين الحرب العسكرية التي أثبتت فيها المقاومة طول نَفَسِهَا وعزيمتها حتى اللحظة الأخيرة، كما أثبت جمهورها صمودهم وثباتهم في مواجهة الموت، بل أيضاً إن أهمية هذه المعركة تكمن فيما يمكن أن يُقْدِمَ الاحتلال عليه من استخدامها في ترسيخ واقع عملت المقاومة وشعبها على محاربته وتفاديه طوال الحرب، حين استطاعت تحدي التجويع والإفقار والحصار الدوائي والغذائي والإنساني، والنجاة - ولو موقتاً - من آثاره.

ويتزامن ذلك مع الحاجة إلى إعادة تنظيم العمل الإغاثي والإنساني وتغيير أنماطه التي سادت خلال الحرب من مبادرات إنسانية وحملات إغاثية، إلى جهد مؤسساتي رسمي أو دولي يتيح استقراراً أوسع في تنمية القطاع ومتابعة قانونية ورقابة رسمية في عمليات الإغاثة والعون، وهو ما يعزز من رؤية انتصار المقاومة في حربها، أو صمود شعبها على الأقل، ويكتمل ذلك بإرادة جمعية فلسطينية توحد الفلسطينيين في مختلف جغرافياتهم على معالجة تداعيات الحرب وفداحة خسائرها، من دون المبالغة في التجميل أو التهميش، إنما بإيمان واعٍ بأن الممكن والواجب هو العمل على الخروج الحقيقي من الحرب، وتدارُك آثارها بما يحولها إلى معالم في درب التجربة الفلسطينية، وليس ضريحاً لنهايتها.

آفاق الهدنة ومستقبلها

أمّا فيما يتعلق بمستقبل الهدنة وإمكان تطورها إلى وقف كامل للحرب، فإن استشرافه ضبابي نتيجة ارتباطه بعدة جوانب: كعدم وضوح معالم المرحلتين الثانية والثالثة، وهو ما يجعل التعثر والانتكاس مطروحاً بقوة، فالاحتلال يرفض تقديم ضمانات مكتوبة بينما ترفض المقاومة التفاوض فيهما وفق معايير المرحلة الأولى، بينما يتم الإشارة إلى المرحلة الأخيرة باعتبارها تتضمن ترتيبات طويلة الأجل، منها خطة إعادة إعمار طويلة المدى في القطاع،[8]  ونادراً ما أثمر "طول الأجل" انفراجاً على الصعيد الفلسطيني.

يُضاف إلى ذلك تذبذب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يتعهد حيناً بالاستمرار في الاتفاق حتى استعادة جميع الأسرى من أيدي المقاومة، لكنه في الوقت ذاته لا يتراجع عن تكرار عزمه القوي على إتمام أهداف الحرب والقضاء على حركة "حماس"، بل أيضاً العودة إلى القتال إذا ما لزم الأمر وفق قوله،[9]  ويرفق هذا التصميم بوعود لشركائه في التحالف الحكومي الحاكم، وخصوصاً ما قدّمه إلى سموتريتش بتعهدات العودة إلى القتال، وبتأكيدات على مَلْكِهِ رسائل من الإدارة الأمريكية تضمن حق إسرائيل في العودة إلى الحرب بعد المرحلة الأولى من الاتفاق،[10]  أو إذا خرقت "حماس" الاتفاق، وهو في ذلك يبيّت نية العودة إلى الحرب، ويظهرها منذ اليوم الأول.

وفي السياق نفسه، هناك اليوم التالي للحرب، والذي تحاول المقاومة الفلسطينية ترسيخه وفقاً لمعادلة سيطرتها على الميدان - والتي أظهرتها منذ الساعات الأولى من الهدنة - لكنها تظل هشة باستمرار حاجة الفلسطينيين في قطاع غزة إلى منظومة رسمية فلسطينية قادرة على تسيير أمورهم القانونية والحكومية، من معاملات ثبوتية وجوازات سفر وأوراق ملكية وغيرها، وحاجتهم إلى وجود رسمي لإدارة معبر رفح وفقاً لما تشترطه مصر، ناهيك بتجاربها في الحكم التي أفرزت مزيداً من الحصار للقطاع وسكانه، بينما لا يلوح أي توافق فلسطيني رسمي في الأفق.

ويقابل محاولات المقاومة في الوقت عينه جهد سياسي ودبلوماسي إسرائيلي وأميركي متواصل في هندسة اليوم التالي والتحضير له بما يتناسب مع أهداف الحرب على القطاع، بدءاً من الاقتراح الأميركي تأسيسَ جسم رسمي يقوم بإدارة موقتة للنواحي المدنية في القطاع، مكون من السلطة الفلسطينية، بالتشاور مع المجتمعات المحلية في قطاع غزة وبمساعدة من الشركاء الدوليين وإشراف من الأمم المتحدة، ومروراً بالرفض الإسرائيلي لأي وجود رسمي فلسطيني في مقابل الرضا عن وجود عربي بإشراف إسرائيلي. وعلى الرغم من عدم وضوح المشهد، فإن الإجماع على تحييد المقاومة الفلسطينية من المشهد الأخير يبقى سائداً.[11]

في الواقع، هناك كثير من المؤشرات التي تشي بأن اشتعال الحرب من جديد وارد وممكن، فهناك تصريحات نتنياهو بزيادة عدد القوات مستقبلاً في محور فيلادلفيا، والنأي العربي العام عن المساهمة الفاعلة في وعود إعادة الإعمار وجهوده.

وهناك الاختراقات الإسرائيلية الكثيرة لبنود الصفقة والتلاعب بأسماء الأسرى الفلسطينيين، وانخفاض عدد شاحنات المساعدات في الأيام الأخيرة، والبطء الشديد في إدخال معدات الإزالة الثقيلة من معبر رفح، والقيود المستجدة على إدخال البيوت الموقتة لإيواء النازحين واستبدالها بخيم.

وهذا في مقابل رفع الحظر عن نقل 1800 قنبلة تزن 2000 رطل من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، والوضع السياسي الإسرائيلي الداخلي الذي يجعل من العودة إلى الحرب بعد استعادة الأسرى منجاة لنتنياهو وصمغاً آخر للوحدة الداخلية الإسرائيلية الشعبية والحكومية الداعمة والمحفزة لمزيد من الانتقام.

مع كل هذه المؤشرات، ربما يكون هناك بصيص أمل في مكان ما؛ فربما تدفع الجدوى الاقتصادية للحرب بالنسبة إلى إدارة ترامب وإمكان إعاقتها الجزء الثاني من صفقة القرن إلى تحويل الهدنة إلى وقف مستدام للحرب، وربما المكاسب السياسية والاقتصادية ووعود التوسع الجيوستراتيجي الإسرائيلي تتفوق على الرغبة في مزيد من الانتقام والقتل، وربما شيء آخر جديد، فلطالما حفلت القضية الفلسطينية بالمستجدات المفاجئة.

في كل الأحوال، يدرك الغزيون بصورة خاصة، والفلسطينيون بصورة عامة، أن "السلام" طارئ في المنطقة العربية وغريب لا مكان له مع استمرار الاحتلال، وأن القليل من الهدوء والاستقرار ممكن لكنه لم يكن يوماً مستداماً، وأن الحروب جولات ليست هذه بأولها ولن تكون بآخرها، فسلام على أرض خُلقت للسلام ما رأت يوماً - لا هي ولا أهلها - أي سلام.

 

[1] Hosni Nadim, “Over 38000 Palestinian children orphaned by Israeli war on Gaza: Official”, AA, 23/1/2025.

[2] Edith M. Lederer, “Devastating toll for Gaza’s children: Over 13,000 killed and an estimated 25,000 injured, UN says”, APNews, 26/1/2025.

[3] Emma Graham-Harrison, “The devastating impact of 15 months of war on Gaza”, The Guardian, 15/1/2025. 

[4]The human toll of Israel's war on Gaza – by the numbers”, ALJAZEERA, 15/1/2025.

[5]  Daniele Palumbo, Abdelrahman Abutaleb, Paul Cusiac & Erwan Rivault, “At least half of Gaza's buildings damaged or destroyed”, BBC, 30/1/2024.

[6] op. cit.

[7]Humanitarian Situation Update #257 | Gaza Strip”, OCHA, 22/1/2025.

[8] محمد مهاوش، "ما هي المراحل الثلاث لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟"، "مدونات مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 15/1/2025.

[9] مجد ستوم، "هل انتصرت غزة؟!"، "مدونات مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 21/1/2025.

[10] عميت سيغل، "تعهدات بايدن وترامب لإسرائيل بشأن وقف إطلاق النار"، "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4541 (21 كانون الثاني/يناير 2025).

[11] عوفر غوتمان، "بعد الاتفاق على تحرير المخطوفين، ماذا سنفعل بقطاع غزة؟"، "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4542 (22 كانون الثاني/يناير 2025).

 

عن المؤلف: 

سجود عوايص: حاصلة على درجة الدكتوراة في الإعلام والاتصال عام 2020، عملت باحثة في جامعة العلوم الإسلامية الماليزية، لها عدة مؤلفات ودراسات منشورة في مجالات الإعلام التلفزيوني والإعلام الجديد، والقانون الدولي الإنساني، والشأن الفلسطيني.

أنقاض المباني المدمرة في بيت لاهيا، 15 مارس/آذار 2025، شمال قطاع غزة/فلسطين المحتلة. (تصوير سعيد جراس /الشرق الأوسط/ عبر Getty Images)
جواد العقاد