شهادة طبيبة نسائية بشأن الأمهات الحوامل في أثناء الإبادة
التاريخ: 
28/01/2025
المؤلف: 

في قلب الحرب التي اجتاحت غزة، كانت معاناة الحوامل والمواليد الجدد من أكثر المشاهد ألماً ومرارة. وفي ظل القصف العنيف، والحصار المستمر، ونقص الإمكانات الطبية، وغياب الأمان، أصبح حلم الأم؛ أن تلد طفلها في أمان، أشبه بمعجزة. وتحت أوضاع الحرب المدمرة، تكبدت الأمهات العديد من الصعوبات: من عدم توفر الرعاية الصحية اللازمة، إلى مواجهة القصف الذي يهدد حياتهن وحياة أطفالهن. وكان المواليد الجدد يواجهون خطر الموت منذ لحظة ولادتهم، إذ تكاد المستشفيات لا توفر الرعاية الكافية بسبب تدمير البنية التحتية ونقص المعدات. وإن معاناة الحوامل في غزة هي شهادة حية على قوة الإرادة والصبر في مواجهة أكثر الأوضاع قسوة، لكن الأمل في الحياة لا يزال حاضراً بين جروح الأمومة وجروح الحرب.

في فترة الحرب، كانت هناك 60,000 امرأة حامل في حاجة إلى الرعاية، وكانت حالات الولادة بمعدل 5000 حالة شهرياً. وبسبب الأوضاع الصعبة، فقد كنَّ يفتقرن للعناية، وحدثت مضاعفات كثيرة للأمهات، وخصوصاً اللواتي يعانين جرّاء مضاعفات طبية أو أمراض مزمنة، كالسكري، وارتفاع ضغط الدم، إذ لا تتوفر لهم الأدوية اللازمة. وفي ظل انقطاع الكهرباء ونقص الإمدادات الطبية، أصبحت عمليات الولادة أكثر تعقيداً وعرضة للمخاطر. وتروي أمهات عديدات قصصاً حزينة بشأن فقدانهن أطفالهن، إمّا بسبب الإجهاضات الناتجة من القصف، وإمّا بسبب إصابات خطِرة في أجسادهن في أثناء حملهن. أمّا الأطفال المولدون في ظل هذه الأوضاع، فقد عانوا جرّاء مشكلات صحية خطِرة بسبب نقص الرعاية والعناية الطبية، وبعضهم فقد حياته بسبب الأوضاع الصعبة المحيطة.

أنقل إليكم شهادة حية من طبيبة النساء والتوليد فادية مرحيس في مستشفى الشفاء، وهي أخصائية النساء والتوليد، وإحدى الأطباء الذين شهدوا آلام الشعب الفلسطيني وأحزانه خلال الحرب. وقد عملت في مستشفى الشفاء منذ أول أيام الحرب حتى شهر نيسان/أبريل، إلى أن نزحت بعد تدمير المستشفى للمرة الثالثة. وكانت تواصل عملها بشجاعة على الرغم من التحديات والأوضاع القاسية، ليس فقط من أجل توفير الرعاية الطبية، بل أيضاً من أجل المحافظة على حياة الأمل في قلوب الناس.

منذ بداية الحرب، توجهت الدكتورة فادية إلى العمل في مستشفى الشفاء يومياً، إذ كان هذا المكان ملاذاً لآلاف النازحين، وكان مكتظاً بنحو 50,000 نازح، وكانت تصل إليها حالات أطفال تعرضوا للتهديد تحت القصف. وتروي الدكتورة فادية مشهداً لا يمكن نسيانه: "أتى طفل رضيع جديد، كانت عائلته قد استشهدت بالكامل، ومن قوة القصف، طار فوقع فوق شجرة. لا يمكن لأي أحد أن يتخيل كم هو صعب أن ترى حالاً كهذا."

ومع استمرار الحصار، كانت الأمور تزداد صعوبة، فحتى الحياة البسيطة التي كانت تتمثل في نافذة تطل على الشارع، تحولت إلى صراع من أجل البقاء. وفي ظل الأوضاع المأساوية التي عاشتها، فقد أُجبرت على العيش في غرفة صغيرة في مستشفى الشفاء بعد اقتحام المستشفى لأول مرة، إذ تقاسمت مع عائلتها مساحة ضيقة جداً لا تتسع سوى لعشرة أفراد، لكن على الرغم من ضيق المكان، فإنها لم تتوقف عن أداء واجبها المهني، حتى في غرفة صغيرة ضمت أدواتها البسيطة، فكانت تُجري عمليات ولادة لأمهات في حالات خطِرة.

وتروي مرحيس: "من أصعب اللحظات التي عشتها كانت تلك التي شهدتُ فيها حالة امرأة حامل في الشهر التاسع، تعرضت للقصف في أثناء محاولتها الوصول إلى المستشفى، فاستشهد زوجها وسلفها، وتُركت مصابة بجروح شديدة، ونُقلت بالإسعاف إلى المستشفى، وأخبروني أنها كانت تتكلم معهم وتوفيت. علمتُ أنه لم يمر أكثر من 8 دقائق على وفاتها، وفي إمكاني إنقاذ الجنين، فوضعناها على الأرض؛ إذ لم يكن هناك سرير، فأمسكت بمشرط، وأخرجتُ الجنين، وحاولنا إنعاشه لمدة نصف ساعة، والتقط أنفاسه الأولى، ثم تفاجئتُ بانتفاخ في بطنه. لم ينجُ الطفل، فقد أصابته شظايا مميتة اخترقت بطن أمه وجسده. لم أستطع تمالُك نفسي، فجلست على الأرض أبكي لأكثر من ساعة بعد هذا الحادث المفجع."

كانت هناك حالات أُخرى عديدة أثرت فيها؛ كتلك الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن داخل بطونهن بسبب القصف، أو أمهات حوامل تعرضن لإصابات شديدة، وكان الجنين هو آخر أملهن. وتضيف: "كنت أعمل على إنقاذ الأجنة في بعض الحالات، لكن كثيراً منهم استشهد في بطن أمه."

أمّا عن عملية ولادة ابنتها، فتذكر الدكتورة فادية أنها كانت في موقف لم تتخيله يوماً؛ إذ كان المستشفى شبه مدمر، ولم تتوفر الأساسيات اللازمة للعملية، فاضطرت إلى الذهاب إلى مستشفى آخر، هو مستشفى الصحابة، للحصول على العلاج، وكانت لديها كميات قليلة من المخدر لا تكفي لإجراء العملية بالكامل. وعلى الرغم من التحديات، فقد أتمت العملية بنجاح.

وعندما تم اقتحام مستشفى الشفاء للمرة الثالثة، أجهشت في البكاء، فقد أمضت في هذا المكان 24 عاماً من حياتها، مملوءة بالذكريات والعلاقات الإنسانية الطيبة مع زملائها ومرضاها. وكان مشهد الأطفال المصابين جرّاء القصف المروع مؤلماً للغاية. تقول: "كان لدينا في قسم الحضانة ثلاث طبقات ملأى بالأطفال الخدج، وكان العديد منهم قد فقد أهله، وحالتهم كانت تتطلب رعاية كبيرة جداً. كان الافتقار إلى الأدوية والكهرباء يزيد من معاناتهم."

وتضيف: "الأطفال الخدج لهم معاناة كبيرة جداً، فقد كان عددهم كبيراً، وكان هناك نقص كبير في العلاجات، وهم محتاجون إلى عناية كبيرة جداً، والإمكانات قليلة، وجزء كبير منهم استشهد أهله، وليس لهم أحد. وقد أدى انقطاع الكهرباء إلى موت جزء كبير منهم، والبرد قارص، والمشفى محاصَر، وقد حاولنا كثيراً أن ننقذ أكبر عدد منهم. أذكر في حصار مستشفى الرنتيسي عندما أجبر الجنود الجميع على إخلاء المستشفى، ومنعوهم من إخراج الأطفال الخدج، وأخبروهم أنهم سيخرجونهم بأنفسهم، لكن بعد فترة، رجع الناس إلى المستشفى ليجدوا الرضع جثثاً متحللة في مكانها. لقد حرموا أهاليهم منهم، ومنعوهم من إنقاذهم."

وتقول: "أحياناً، كانت تصل حالات أمهات حوامل وإصابتهن حرجة، وفي غيبوبة، وكان الزوج يعرف أنها ستُتوفى، وكان يقول: ’أنقذوا لي الجنين على الأقل.‘ هذه مواقف صعبة جداً. كنا نتمكن من إنقاذ بعضهم، ومنهم مَن كان يموت. ومن الحالات الصعبة أمّ من دار عياد كانت حاملاً بطفل أنابيب، وعندما أصابها طلق الولادة، حولناها إلى مستشفى الصحابة، فولدت بنتاً بعد حرمان 12 عاماً، لكن مع الأسف، بسبب قلة العلاج والبرد، استشهدت الطفلة في أحضان أمها، ولا أنسى ملامح الحزن على وجوه والديها."

وتؤكد الدكتورة فادية أن الاحتلال كان يستخدم أسلحة فتاكة تسببت بجروح غريبة ومؤلمة، ولم يسبق لها أن شهدت مثلها في حياتها، بدءاً من استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، كالفسفور والقنابل التي تتسبب بحروق وتشوهات، وصولاً إلى استهداف المستشفيات وحرمان المرضى من الرعاية الأساسية. لكن على الرغم من كل الصعوبات والمآسي التي مرت بها، فإن الدكتورة فادية بقيت صامدة في رسالتها الإنسانية: "الحرب أثرت بصورة كبيرة في الأطفال والحوامل، وكانوا عرضة لخطر الموت في أي لحظة. ما زلنا نواجه الخطر، ولا يزال الأمل في النصر موجوداً على الرغم من كل الآلام."

كثيراً ما أُجبرت الأمهات على الولادة في أوضاع قاسية، بعيداً عن المستشفيات التي دُمِّرت أو تمت محاصرتها. ويعاني العديد منهن جرّاء نقص الرعاية الصحية الأساسية، بسبب قلة الأدوية والمعدات الطبية، وهو ما يعرض حياتهن وحياة أجنتهن للخطر.

وفي ظل هذه المعاناة المستمرة، يبقى الأمل لدى الأمهات في غزة متمثلاً في البقاء على قيد الحياة ورؤية أطفالهن يكبرون في عالم مملوء بالصعاب. لكن الحقيقة أن الأم في غزة لا تكافح فقط من أجل حياتها، بل أيضاً من أجل حياة أطفالها، وتحاول في كل لحظة أن تكون درعاً يحميهم من هذا الواقع المرير.

عن المؤلف: 

رفقة حجازي: كاتبة من قطاع غزة.

أنقاض المباني المدمرة في بيت لاهيا، 15 مارس/آذار 2025، شمال قطاع غزة/فلسطين المحتلة. (تصوير سعيد جراس /الشرق الأوسط/ عبر Getty Images)
جواد العقاد