
06/02/2025 عربي

06/02/2025 عربي

05/02/2025 عربي
31/01/2025 عربي

29/01/2025 عربي

28/01/2025 عربي

27/01/2025 إنكليزي

يعود المتطوع في جهاز الدفاع المدني محمد طموس (21 عاماً) بذاكرته إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وتحديداً إلى اللحظة التي فقد فيها زميله محمد فرج الله في أثناء تلبيتهم نداء استغاثة لعائلة عالقة تحت الركام بعد أن استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي منزلهم في بيت لاهيا، قائلاً: "لم أكن أتوقع يوماً أن أترك زميلي تحت الأنقاض يصرخ ويستغيث وأعجز عن تقديم المساعدة إليه في الوقت الذي جئنا فيه لنُخرج عائلة تم استهدافها من تحت الركام." وفي الوقت الذي باشر فيه جهاز الدفاع المدني انتشالَ الشهداء والمصابين، قصفت طائرات الاحتلال منزلاً في جوارهم مكوناً من خمس طبقات، فانهار فوق المتواجدين حول المكان، وعلق أفراد الدفاع المدني تحت الركام ينتظرون مصيرهم.
ويقول طموس: "لأول مرة في حياتي أشعر بما يشعر به الناس تحت الركام، وأنتظر أن يمر أي شخص من جانب المكان ليسمع صوتي وينقذني من الموت، وأتأمل كل حركة وهمسة، ففي تلك اللحظات، تحسب أن صوتك غير مسموع مهما تصرخ، وتشعر بالموت وهو يقترب منك. لقد قضيتُ نصف ساعة من العذاب، وكل ثانية مرت كانت بمثابة يوم، وفي هذا الوقت، لا يرى المصاب إلاّ السواد، ويفقد إحساسه بجسده من ثقل الركام عليه، ولا يستطيع التنفس لأن دخان الصاروخ يملأ المكان ويحجب الهواء. إنها لحظات مريرة لا أستطيع وصفها مهما أتحدث."
جاءت سيارات الإسعاف والدفاع المدني بعد نصف ساعة إلى المكان المستهدَف، واستطاعت انتشال طموس وزملائه من تحت الركام، وعند خروجه، صُدم من هول المنظر وحجم الدمار الناتج من استهداف المبنى، لكن على الرغم من إصابته، فقد أبى إلاّ أن يقوم بدوره في إنقاذ زميله محمد فرج الله على الرغم من استحالة الوصول إليه بالمعدات البدائية التي يستخدمونها أمام ركام المبنى الجاثم فوقه، فلم يُثنِ ذلك طموس وزملاءه عن مواصلة عمليات الحفر ساعات طويلة حتى جاءت طائرة الكواد كابتر وصارت تلقي عليهم قنابل متفجرة، فاضطروا إلى الانسحاب من المكان، وبقي فرج الله يصرخ ويستغيث بهم. ويقول طموس: "في الوقت الذي أُلزمنا فيه الانسحاب لخطورة المكان وتأخُر الوقت، شعرتُ بالعجز الشديد، وبكيت بكاء مريراً على زميلي الذي تركته ورائي، وكانت صرخاته تلاحقني ولم أستطع إخراجها من رأسي، وبقيت أنتظر الصباح لكي أعود إليه. وفعلاً، عند تمام الساعة السادسة صباحاً، تحركت سيارات الدفاع المدني لإنقاذ زميلنا، وفور وصولنا، قصفتنا طائرة الاستطلاع بصاروخ أجبرنا على الرجوع مرة أُخرى."
كان تاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 اليوم الأول في الهدنة الأولى التي استمرت لمدة تسعة أيام في غزة، الأمر الذي أتاح لجهاز الدفاع المدني العمل في المناطق التي كانت توصَف بالخطِرة في وقت الحرب، وهو ما مكّنهم من العودة لإنقاذ فرج الله.
تحرك طاقم الإنقاذ للمرة الثالثة إلى المنطقة التي تُرك فيها زميلهم، وفور وصولهم إلى المكان، بدأوا المناداة عليه، لكنه لم يُجب، فرفعوا أصواتهم أكثر، لكنه لم يُجب أيضاً، وفعلوا ذلك مراراً وكانت النتيجة نفسها، وهذا يعني أن محمد فرج الله استشهد بعد 3 أيام من الصراخ والاستغاثة بزملائه إلى أن نفد صوته وخار جسده ورحل شهيداً. حاول الطاقم إخراج جثمانه ودفْنه، فلم يستطيعوا لأن الأدوات البسيطة التي يستخدمونها لا تفعل شيئاً أمام ثقل الركام الساقط فوقه، وبعد محاولات حثيثة، عادوا أدراجهم يجرون أذيال العجز والقهر، فَهُم الذين يفعلون كل ما في وسعهم لإنقاذ الناس من الموت؛ فكيف يتركون اليوم زميلهم؟ وبعد أن يسأل طموس نفسه هذا السؤال، يعود ليجيب نفسه: "لو أن الأمر في يدنا، لَمَا تركْناه لحظة"، وأردف قائلاً: "حين استشهد زميلي محمد فرج الله، وُلدت أنا من جديد، ووُلد معي قهر كبير زادني إصراراً على مواصلة عملي في إنقاذ الناس، والسير على درب زملائي الراحلين."
على الرغم من أن الموقف الذي ذكره طموس أعلاه كان الأكثر وجعاً في مسيرته على حد قوله، فإنه لم يكن الموقف الوحيد، فقد ذكر خلال حديثه أنه اضطر إلى بتْر قدم شخص ليتمكن من انتشاله من تحت الركام بأدوات حادة كان يستخدمها لقصّ الحديد، يطلَق عليها "المنشتر والمنشار".
وعن هذا الموقف يقول: "لم أتخيل يوماً أن أبتر قدم إنسان في حياتي، لكنني أُجبرت على ذلك حين رأيتُ الوضعية التي كان عليها؛ إذ نصف جسده محرَر والنصف الآخر مغطى بعامود أسمنت لم نستطع رفْعه أو قصّه، فهو يحتاج إلى أدوات ثقيلة غير متوفرة لدينا، وفي تلك اللحظات، كان ذلك الشخص لا يزال على قيد الحياة، فتركته وذهبت إلى ذويه أشاورهم في الحل الوحيد لإنقاذه وهو بتر القدم، فحصلتُ على موافقة منهم، وحين عدت إليه وجدته قد فارق الحياة، فبترتُ قدمه بعد تردُد وخوف كبيرين، وكانت كل قطعة أقصها وكأنها قطعة من جسدي. انتهيت من الأمر وعشرات الأسئلة تحوم في عقلي: ’كيف فعلت هذا؟ ولماذا؟ وهل يجب عليّ فعل ذلك؟‘ وغيرها الكثير."
لقد مر أفراد جهاز الدفاع المدني بكثير من المواقف الصعبة خلال الحرب على غزة، لكنهم لم يتوانوا لحظة عن تقديم خدماتهم الإنسانية والاستجابة إلى مناشدات المواطنين، على الرغم من المخاطر التي كانت تحيطهم، وحين أجبرهم جيش الاحتلال على ترْك عملهم في جباليا، كانت لحظات قاسية وحاسمة بالنسبة إليهم، لأن المواطنين في ذلك الوقت كانوا في أشد الحاجة إلى وجودهم.
وأردف طموس: "في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2024، أرسل جيش الاحتلال إلينا طائرة كواد كابتر تخبرنا بضرورة الإخلاء الفوري وتسليم أنفسنا حالاً عبر حاجز مستشفى الإندونيسي الذي أنشأه الجيش للفرز والاعتقال، ومَن لا يستجيب، فسيعرّض نفسه للخطر. في تلك اللحظات أصابتنا الحيرة والتردد، ولا نعلم ماذا نفعل؛ هل نستجيب أم نبقى من أجل المواطنين؟ وبينما نحن في هذه الحالة، ألقت طائرة الاستطلاع صاروخاً علينا دمر سيارة الإطفاء الأخيرة التي كانت في حيازتنا، وهذا كان يومنا الأخير في العمل في جباليا، فالتزمنا تعليمات الجيش، وفي أثناء سيرنا بحسب الاتجاه الذي رسمه لنا، ألقت طائرة الاستطلاع صاروخاً آخر علينا أدى إلى إصابة البعض منا، ولا نعلم مصيرهم إلى الآن، والبعض الآخر اعتُقل على الحاجز، وآخرون ثبتوا في جباليا، وبعضنا متواجد الآن في غرب غزة."
بقي طموس 62 يوماً في جباليا في أثناء اجتياحها الأخير، لكنه أُجبر بعدها على النزوح إلى مخيم الشاطئ غربي غزة. ويصف تلك الأيام التي قضاها محاصَراً في جباليا بأنها الأصعب في حياته، إذ كان يسمع أنين الأطفال وصرخات النساء تحت الركام، ولا يستطيع تقديم المساعدة إليهم، لأن كل مَن يقترب من المكان المستهدَف يُقصف.
وأكمل حديثه قائلاً: "كنت أسمع النساء تنادي: ’أنقِذونا يا أصحاب الضمائر الحية! يا ناس يا عالم حدا ييجي يطلعنا!‘ كلما أستذكر تلك اللحظات يتمزق قلبي، ومنذ ذلك الوقت لا أستطيع النوم، ولا أستطيع أن أُخرج هذه الأصوات من رأسي، لكن لم تكن في اليد حيلة، ولم أقدر على فعل شيء وحدي. حاولتُ كثيراً أن أساعدهم على الرغم من عدم وجود معدات ولا حتى مركبات إسعاف. المشاهد في جباليا مؤلمة؛ إذ ينزف المصاب حتى الموت، وهناك مئات الجثث ملقاة في الشوارع تأكلها القطط والكلاب."
لم ينسَ طموس تلك المواقف، ويَصعُب عليه أن يكون صاحب خدمة إنسانية ولا يستطيع تقديمها إلى من يستغيث به، فالمواطنون في جباليا يناشدون أياماً وساعات طويلة من أجل إنقاذهم من تحت الركام أو إسعافهم لكن لا مجيب لهم، ثم يموتون لأسباب متعددة، منها النزيف والخنق.
يُذكر أن جيش الاحتلال الإسرائيلي دمر خلال الحرب على غزة عدداً من العيادات الطبية والمستشفيات في غزة، وقام باستهداف عدد كبير من العاملين في الطواقم الطبية والخدمات الإنسانية واعتقالهم.